الأربعاء، 2 أغسطس 2017

تكريمًا لكنط؟!؛ موسى وهبه.




تكريمًا لكنط؟!
أو كيف يمكن للعصر أن يكون عصرًا بلا روح؟

هذا النّص هو افتتاحيّة مجلة الفكر العربي، بقلم موسى وهبه، العدد ٤٨، المخصّص لكنط، والصادر في تشرين الأول من عام ١٩٨٧، بمناسبة الذكرى المئويّة الثّانية لنقد العقل المحض. وهذه الافتتاحيّة تتحدث عن تأثير كنط في التيارات الفلسفية المعاصرة وعن موت الميتافيزيقا.

د. جمال نعيم

تكريمًا لكنط؟!
بقلم موسى وهبه

طال المقام في نعي الفلسفة، وفي انتظار العودة. لكنَّ الفلسفة، لسوء حظِّنا، لم تمت ولا هي عادت مظفَّرةً. وسرعان ما تبيَّن أنَّ الجثَّة التي اسمها "ثقافة الماضي" ما زالت تسترعي الانتباه وتحظى بمزيدٍ من العناية، بدليل وفرة المعاهد الفلسفيّة وازدهار الأقوال في ردّها وفي الحاجة إليها. لكأنَّ موت الفلسفة نفسه بحاجة الى فلسفة، أو لكأنّه الاسم المجازيّ للسّبات الذي يحلّ عليها عندما يهرم العصرُ وتلوح في أفقه تباشير عصرٍ آخر، ينتظر أن يعلنه أوّلُ الصّاحين من سبات العصر. ويصاقب أن يكون الأوّل الصّاحي فيلسوفًا.
لكن ثمّة صحوةٌ وصحوة. فبين الصحوة من "السّبات الدُّغمائي" (كنط) والصّحوة من "السُّبات الإناسي" (فوكو) صحواتٌ كثيرةٌ وأشياء قد تغيَّرت: صار الفيلسوف ينكرُ لقبه. والقول الذي كان سيِّد نفسه لا مبشِّرًا بسواه (كنط)، والذي كان يحذر أن يكون واعظًا (هيغل) صار يعرض الخدمة كتابعٍ للعلم والعمل. وبدل أن يُعلن ولادة الفلسفة صار يكتفي بإعلان موت الميتافيزيقا، أو موت المثاليّة.. أو موت الإنسان.
فكيف أمكن لذلك أن يكون؟! كيف أمكن للرّوح الفلسفيّة أن تخبو؟ كيف أمكن للقول أن يصير نثرًا، وللعصر أن يصيرَ عصرًا بلا روح؟!!
قد تكون "القصّة" بدأت بكنط. ففي تصدير الطبعة الثّانية من نقد العقل المحض، أطلق كنط على محاولته تغيير طريقة التّفكير الغالبة اسم "الثورة الكوبرنيقيّة"، لأنّها تقوم على فرض أن تكون موضوعات المعرفة هي التي تنتظم وفقًا لمعرفتنا بها بدل سابق الفرض أن يكون العقل هو الذي ينتظم وفقًا لموضوعه. وكان من سوء التّدبير أن أقرّ في خاتمة ذلك التّصدير بأنّ أسلوب العرض ما زال يشكو سوء العبارة متمنّيًا على الذين أوتوا موهبة وضوح الأسلوب أن يحسنوا في العرض، لأنّ الخطر على النّقد "ليس أن يُناقض، بل أن لا يفهم". لا خوف من المناقضة لأنّ النّقد لا يسعى الى إثبات معرفة، بل الى توضيح العقل وصونه من الأخطاء، ولأنّه ليس مذهبًا، بل مهمّته، حصرًا، أن يبحث ما إذا كان المذهب ممكنًا، وكيف يكون ممكنًا.
لم يخطر ببال كنط أنّ المناقَضَة ستتذرَّع بإصلاح التَّعبير لإصلاح الفهم، فتحاول أن تفهم كنط أفضل ممَّا فهم هو نفسه: لقد قام كنط بالثَّورة الكوبرنيقيّة، إنَّما لم يسعْه أن يظلَّ أمينًا لها بفعل الإرث الفلسفيّ الكلاسيكيّ الذي أثقل تعبيره. يجب إذًا إزالة الزّوائد وتطوير "النّواة" لجعل النَّقديّة متسقة مع نفسها. بذلك يبدأ مسار تحويل المولود الجديد، سحب روحه. (ربَّ معترضٍ يحتجُّ على هذا الابتسار التّاريخي. الى هذا المعترض: يعجبني الرَّاوي، ولا يعجبني المؤرِّخ).
وعلى مرأى من كنط الذي كان يشيخ، بدأ مسار التّحويل بهدف الأمانة للفكرة طبعًا. وشاط فيشته بعيدًا: ما أنجزه كنط لم يكن سوى مجرّد تمهيدٍ لفلسفة العصر، "الفلسفة المجاوزة" [في الأصل الفلسفة الترسندالية كتعريب وتخفيف للفلسفة الترنسندنتاليّة]، والمطلوب إقامة البناء من المقدِّمات الموجودة في كنط الى جانب عناصر أخرى. فالثّورة الكوبرنيقيّة هي أساسًا ثورة على الدُّغمائيّة الفلسفيّة، يجب إذًا تطهير القول الكنطيّ من جميع عناصره الواقعيّة، بدءًا بهذا "الشّيء في ذاته" وانتهاءً بالأمر الأخلاقيّ، مرورًا بكل القراءات الأمپيريّة التي تحسب أنّ في موضوع المعرفة ما يمكن أن يصدر عن شيءٍ خارجٍ عن الأنا الأصليّ، أو التي تنظر الى العقل بوصفه كائنًا، أو تنطلق بالتّالي من النّظر الى العمل.
وتكون محصّلة التحويل الفيشتي: يجب الإنتقال من فلسفة الكائن الى فلسفة ما يجب أن يكون، أي الى قواميّة العمل على العقل النَّظريّ، لأنّ العقل هو مجرّد فعلٍ محضٍ، ولأنَّ الموضوع نفسه هو نتاج المخيِّلة بموجب هذا الفعل، أو قل إنّ هويّة الذّات والموضوع هوّيّة أصليّة، فهما لا يتمايزان الا في الاوتعاء [ الوعيان أو وعي الوعي أو وعي الذات أو وعي الذات لذاتها] الأمپيري، أي من حيث يطرح الأنا الأصليّ نفسه بوصفه لا-أنا، من حيث يُستلب ذاتيًّا، وتاريخيًّا، أي بهدف رفع الوعي الأمپيري الى الإوتعاء المحض، الى الذي لذاته...
يُلغى الشَّيء في ذاته إذًا. ويتحوّل الدّيالكتيك من منطق الغلط الى منطق التّأسيس والفعل القوّام على منطق الحقيقة بفعل قواميّة العمل على النّظر. لكن، في الوقت نفسه، يتحلَّل الأمرُ الأخلاقيُّ الكنطيُّ من "فرديّته"، وضرورة أن "تعامل الإنسانيّة في شخصك، وفي شخص كل إنسانٍ آخر، بوصفها غايةً في ذاتها دائمًا ومعًا، وليس مجرَّد وسيلةٍ قط، تُلحق بغايَةٍ أعلى؛ لأنّه اذا كان ثمّة أفرادٌ فلأنّ العقل والاوتعاء لا يمكن أن يتحقَّقا الا بالفرديّة، التي هي بالتّالي وسيلة لغاية كلّيّة، مثلما أن لا قوام للفرد الا بصدد المجتمع، وحتى يصل المجتمع الى غايته.
ولسوف يُحتفظ بهذه المحصلة رغم اختلاف المطلوب في النّشاط الفلسفيّ اللاحق. فيمعن هيغل في التّحويل. إلّا أنّ المطلوب لم يعد إصلاح كنط بل فهمه، استيعابه في القول الختم: كنط أخطأ حيث كان يجب أن يُخطىء، وظلَّ حبيس ذاتيّة الفاهمة التي لا يمكن أن ترى في الدّيالكتيك الا تناقضًا غير قابلٍ للحل، لتستطيع أن تحتفظَ بتناقضها الذاتيّ الذي تُدركه ولا تحلّه: في "الشّيء في ذاته"، بين ضرورة إثباته وعدّه في الوقت نفسه مجهولًا، وفي الأخلاق بين الطبيعة والوجب، أي بين الفاهمة المتناهية واللامتتاهية في الوقت نفسه.
وتتّضح الصورة: ليس "الشيء في ذاته" سوى مجموع ظاهراته، وليس ما يجب أن يكون سوى ما هو كائن بالنَّظر الى ما سيكون، وليست الحرّية سوى استيعاب ضرورة ما يصير ( في الاستعراض التّاريخي ).
هذا القول الختم يُنهي الفلسفة ليبدأ عصر النّثر، فلا يترك للخلف، يسارًا، سوى الانصراف الى فعل ما يجب أن يكون انطلاقًا ممّا هو كائن، وللخلف، يمينًا، سوى إعادة التّأكيد على صحة ما قال: فيقتسم "العقلُ السّياسيُّ" و"العقل الكلاميُّ"، بالتّعارض أو بالتّكامل، عالم القول الملتبس: ماتت الفلسفة أم لم تمت، العصر للعلوم الوضعيّة ولفلسفة التّاريخ. الارث الهيغلي والوضعيّة، ضد كنط أو معه: لا للميتافيزيقا.
لكن سرعان ما نسمع صيحات "العودة الى كنط" بهدف التّأسيس النّظري لمجمل المعارف العلميّة، فتُحوِّل "الكنطيّة الجديدة" النّقد الى نقديّة، أي الى مجرّد نظريّة في المعرفة، مهمِلةً كنط الأخلاقي والميتافيزيقي. وتحوِّل "الوضعيّة الجديدة" النّقديّة الى مجرّد نشاط ابستمولوجي ينحصر في فهم التجربة وتعيين شروط إمكانها. ويؤدّي هذا الاصلاح لكنط الى استبدال "الشيء في ذاته" ب"مجمل المعرفة العلميّة"، أو بحسبه مجرّد اختلاق فكريّ وراسب ميتافيزيقي شأنه شأن الواجب الأخلاقي.
وهكذا يكون إعلان موت الميتافيزيقا، مرّةً أخرى، إيذانًا بتحوُّل القول الفلسفيّ من قولٍ مؤسّس وبادىء الى قولٍ ملحق بالنّشاط العلمي الوضعيّ وتابع له.
وتختلج الرّوح الفلسفيّة بحنين العودة الى كنط من جديد، ضدّ الإلحاق الوضعيّ، وربما أيضًا، وأصلًا، ضدّ الإنهاء الهيغليّ. ويتابع هيدغر الوجوديّ، هوسرل الفينومينولوجي، ويقرأ الكنطيّة بوصفها تأسيسًا للميتافيزيقا وإعادة اعتبار للكائن.. لكنّه، في الوقت الذي يعلن فيه سيادة القول الفلسفيّ لا يجد له أساسًا سوى تأسيسه على تناهي الإنسان، في هذا الكائن-للموت، وتصبح الميتافيزيقا نوعًا من الإناسة النّظريّة، تبحث في ما هو الإنسان المنخرط في-العالم، ويضيع الفارق بين الذّاتيّة الأمپيريّة والذاتيّة الترسنداليّة [المجاوزة]، ويزمُّ "الشّيء في ذاته" الى "الشيء هدف القصد".
وهكذا يبدو كنط في أساس القول المعاصر، للعودة إليه أو لدحضه. لكن ثمّة إجماعًا بين المتنافسين والخصوم: يجب التّخلّص من هذا "الشيء في ذلته" المجهول. غير أنّ هذا المرذودل، الذي يتجدّد رذلُه بتجدّد النّزعات والميول، يجرّ معه، أيضًا وربما أصلًا، رذل إطلاقيّة الأمر الأخلاقيّ، واستبداله بقلق هشاشة الأمپيري أو ضرورة الواقع التّاريخي، أو الحساب المنفعيّ.
فهل في اقتسام عالم القول بين السّياسيّ والكلاميّ متّسعٌ لقول من نوعٍ آخر؟ ماذا يفعل القول السّياسيّ إذا كان عليه أن يصادف في المجتمع الإنسانيّ واقعة أمپيريّة تُعد غايةً في ذاتها؟! أليس شرط إمكانه أن يلحق موضوع الفعل بغاية أعلى؟ وماذا في وسع القول الكلاميّ أن يجتهد اذا كان ثمّة شيء في ذاته يخرج أصلًا عن دائرة اجتهاده؟! أليس شرط إمكانه أن يكون خبيرًا معرفيًّا؟!
ثمّ ألا تندرج الصّحوة من "السُّبات الإناسيّ" في ظل هذا الاقتسام عينه، عندما يكون شرطها أخذ العلم بموت موضوع الأشكال أصلًا!!
عصرنا بلا روح. ومع الاعتذار لكنط، ليس العصر عصر النّقد، بل هو، بخاصة عصر التّكريم، أي عصر بذل القول كرمى لغاية تتخطّاه، غاية الفعل في الواقع، أو الدّفاع عن رؤًى خارج القول نفسه. فهل أبذل القول كرمى لكنط، أم أزعم له الخروج من العصر؟
لا هذا ولا ذاك. وبالتّأكيد ليس يهدف قوليّ الى تغيير أي شيء، لأنّ القولَ لا يُغيِّر شيئًا؛ ولأنَّ لا شيء يتغيّر الا في القول. وليس يدعي أنّه القول البادىء لأنّ كل شيء قد سبق أن بدأ. قولي يكتفي بالرّواية، أو قل إنّه مجرّد تمرينٍ في إنشاء. قول: كيف يمكن للقول الفلسفيّ أن يكون؟

موسى وهبه


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق