مقدمة طه حسين لترجمته لمسرحية سوفوكليس "أوديب ملكاً"
أوديب ..الأصل الذي اتخذ منه فرويد رمزاً لعقدة أوديب التي يعتبر أنها سبب غالبية الأمراض النفسية.
كما أن هذا الأصل الذي كتبه يوريبيدس، الكاتب المسرحي اليوناني منذ قرون قبل الميلاد، ثم كتبه الكاتب المسرحي الأشهر في تاريخ اليونان، إن لم يكن في تاريخ المسرح العالمي، ألا وهو سوفوكل أو صوفوكلِس، كان مُلهِماً لعشرات كبار الأدباء، أمثال فولتير وأندريه جيد وغيرهما، وذلك بعد حوالي ألفيّ سنة من صوفوكل..
مسرحية تستحق القراءة كما كل الأعمال الخالدة في تاريخ الأدب العالمي، وهنا تلخيص لهذه المسرحية بقلم عميد الأدب العربي طه حسين.. التي يجب أن تكون محفزاً لقراءة المسرحية بقدر ما تشكّل بديلاً عن قراءتها..
كما أن هذا الأصل الذي كتبه يوريبيدس، الكاتب المسرحي اليوناني منذ قرون قبل الميلاد، ثم كتبه الكاتب المسرحي الأشهر في تاريخ اليونان، إن لم يكن في تاريخ المسرح العالمي، ألا وهو سوفوكل أو صوفوكلِس، كان مُلهِماً لعشرات كبار الأدباء، أمثال فولتير وأندريه جيد وغيرهما، وذلك بعد حوالي ألفيّ سنة من صوفوكل..
مسرحية تستحق القراءة كما كل الأعمال الخالدة في تاريخ الأدب العالمي، وهنا تلخيص لهذه المسرحية بقلم عميد الأدب العربي طه حسين.. التي يجب أن تكون محفزاً لقراءة المسرحية بقدر ما تشكّل بديلاً عن قراءتها..
مع الملاحظة بأن طه حسين قد ترجم أيضاً وفي نفس الكتاب مسرحية "أوديب في كولونا" لنفس المؤلف المسرحي، إضافة إلى ترجمته لمسرحيّة أندريه جيد بعنوان "أوديب" أيضاً .. والتي يعتبرها من أهم الأعمال الأدبية التي حملت هذا الإسم.. وأظنه محقاً في ذلك، فمسرحيّة أندريه جيد من الأعمال الخالدة حقاً!
****أوديب ملكاً***
كان لايوس Laius منذ ارتقى إلى عرش طيبة Thèbes يحيا حياة سعيدة راضية مع زوجه جوكاست Jocaste ولم يكن يكدّر صفو هذه السعادة إلا شيء واحد، هو أن الزوجين لم يرزقا الولد. فخطر للملك أن يستشير أبولون Apollon في محنته هذه لعلّه يجد له منها مخرجا، وأن يُتمّ عليه نعمة المُلْك السعيد المجيد الذي لا يقتصر على شخص صاحب العرش، وإنما ينتقل منه إلى ذرّيته التي تتوارثه أجيالها إلى آخر الدهر.
فلم يكن لايوس قصير الأمل، ولا محدود الأمد. ولم يكن يريد أن يملك ليس غير، وإنما كان يريد أن يُنشئ أسرة مالكة. ولكن أبولون لم يكن سمحاً، ولا مواتياً، فأظهر للملك في شيء من الإلغاز ما خبّأه له القضاء. أعلن إليه أنه إن رُزِق الولدَ فسيقتله ابنُه! وعاد لايوس من معبد أبولون مهموماً، شديد الحزن، موزّع النفس بين الحرص على الحياة والرغبة في الولد الذي يرث المُلْك، ويخلّد الذِكْر. وقد شك طويلاً أو قصيراً بين هاتين العاطفتين، ولكنه آثر الحياة آخر الأمر على الولد، فرضيَ العقمَ بل رغب فيه وحرص عليه.
غير أن القضاء ماضٍ إلى غايته دائماً، فما هي إلا فترة حتى يرزق لايوس من زوجه جوكاست هذا الغلام الذي أنذره أبولون بأنه سيذيقه الموت!..
هناك استأثر الحرص على الحياة بنفس الملك، فأزمع أن يقتل ابنه قبل أن يقتله هذا الابن، وأسلم الطفلَ إلى راعٍ من رعاته، وكلّفه أن يلقيه على الجبل نهباً للسباع. ولكن الراعي لم يكن قاسيَ القلب ولا غليظ الطبع، فلم يلقِ الطفلَ على الجبل ولم يقتله، وإنما أسلمه إلى راعٍ آخر لملك كورنت Corinthe ـ في بعض الروايات ـ أو علّقه إلى شجرة من أشجار الجبل من رجليه اللتين شقهما، وجمع بينهما بحبل متين.
ومهما يكن من اختلاف الروايات، فإن الصبيّ لم يمت نهباً للسباع، ولا نهباً للجوع والبرد والجراح، وإنما تلقاه راعي كورنت فعطف عليه ورفِق به.
وكان ملك كورنت "بوليب" Polybe شقيّاً بعقم امرأته "ميروب" Mérope، فيدفع الراعي إليه هذا الصبي ويتبنّاه الملك وينشئه تنشئة أبناء الملوك.
وقد شبّ الصبي قويّ الجسم والنفس معاً، ماضي العزم، صارم الإرادة، معتدّاً بنفسه، جاهلاً لأصله، بعيد الأمل مع هذا كله عظيم الأطماع.
لكنه يرى من لُداته وأترابه ما يريبه، فهم يلمحون له بأنه ليس ابن الملك! وهو يضيق بهذه الريبة ويريد أن يعرف جليّة أمره، فيذهب إلى معبد أبولون ليتبيّن حقيقة الأمر في وحي الإله. والقضاء صارم حازم قاسٍ لا يعرف رِفقاً ولا ليناً، وإذا أبولون لا ينبئ الفتى بأصله، ولا يزيل من نفسه الريبة، وإنما يضيف شكّاً إلى شك وخوفاً إلى خوف، فينبئ الفتى بأنه سيقتل أباه، وسيتزوّج أمه، وسيقترف هاتين الخطيئتين المنكرتين!
وكان لايوس قد أراد أن يقاوم القضاء فيتخلّص من هذا الصبي الذي سيذيقه الموت، فانتصر القضاء على إرادة لايوس، وعاش الصبيّ ونما حتى أصبح قادراً على اصطناع السلاح.
وهذا الفتى ينبئه أبولون بأنه سيقتل أباه ويقترن بأمه، فيريد أن يقاوم القضاء، وهو لا يعرف لنفسه أباً غير "بوليب" ملك كورنت، ولا أمّاً غير "ميروب" ملكتها.
فليجتنب إذاً كورنت، وليأخذ طريقه إلى أيّ بلدٍ آخر بعيد عن هذه المدينة حتى لا يغرى بقتل أبيه أو اتخاذ أمه لنفسه زوجاً.
وإنه لفي بعض الطريق عند مكان شديد الضيق، وإذا عربةٌ تعترضه وتأخذ عليه سبيله، فيكون الخصام باللسان، ثم يكون الاقتتال، وإذا الفتى يقتل صاحب العربة، وقد تفرّق من كان معه من خدم وأنصار.
ويمضي الفتى لوجهه راضياً عن نفسه، مطمئناً لحسن بلائه، غير مقدّرٍ أنه قد أنفذ بعض ما كتب القضاءُ عليه، فقتل أباه، واقترف أحد الإثمين اللذين أنذره بهما أبولون!
وهو يمضي في طريقه حتى يدنو من مدينة طيبة، فيسمع بأن المدينة مروعة بخطرٍ داهم ونُكرٍ مبين. فهذا وحش غريب قد هبط عليها من السماء أو نَجَمَ لها من الأرض، جاءها من حيث لا تعلم على كلّ حال، واستقرّ غير بعيد من المدينة على صخرة مرتفعة يرصد من يمرّ به من الناس، فيلقي عليهم لغزه الغريب: "ما كائنٌ له صوت واحد، يمشي على أربع إذا أصبح، وعلى اثنتين إذا زالت الشمس، وعلى ثلاثٍ إذا أقبل المساء؟"..
وهذا الوحش الغريب الذي اتخذ جسم الأسد، ورأس المرأة، ووصل بجسمه جناحين، والذي يسمّيه اليونان سفنكس Sphinx، ويسمّيه المصريون القدماء "بو الهول"، أو "أبا الهول"، لا يعفي أحداً من الإجابة على هذا السؤال وحلِّ هذا اللغز.
والناس جميعاً يعجزون عن الاجابة ولا يجدون حلاً لهذا اللغز، وهو يعاقبهم بالموت على هذا العجز والاخفاق!..
وقد عظُم الكرب، وعمّ البلاء، وامتلأت قلوب أهل المدينة خوفاً ورعباً، حتى اضطُرَّ "كريون" Créon أخو الملِكة جوكاست والناهض بأعباء المُلْكِ بعد مقتل لايوس أن يذيع في أقطار الأرض أن من أراح المدينة من هذه المحنة فله تاجها وله الملكة زوجا!
وقد سمع الفتى بأنباء هذا الكائن الخطر، وبهذا الوعد الرائع الذي يُبذَل لمن ينقذ منه هذه المدينة البائسة، وهو قويّ الجسم والنفس، ذكيّ القلب، حديد الفؤاد، بعيد الأمل، شديد الطموح، فيُقبِل على أبي الهول يجرّب ذكاءه وقوّتَه، ويغامر بحياته في سبيل المجد والمُلْك. وأبو الهول يلقي عليه السؤال فيجيبه الفتى بأن الإنسان هو الذي يمشي على أربع إذا أصبح لأنه يحبو في الطفولة، ويمشي على اثنتين إذا انتصف النهار لأن قامته تعتدل وتستقيم إذا شب، ويمشي على ثلاث إذا أقبل المساء لأنه ينحني على العصا إذا أدركته الشيخوخة!..
وقد أُفحِم أبو الهول وألقى بنفسه من أعلى الصخرة فمات. وظفر الفتى بعرش طيبة، واتخذ الملكة له زوجا، واطمأن إلى أنه قد أفلت مما تنبأ له به وحي أبولون، فلم يقتل أباه، وأين أبوه من عابر السبيل ذاك الذي قتله! ولم يقترن بأمه، وأين هي من ملكة طيبة هذه التي تزوج منها!
لقد ترك أبويه في (كورنت) وأسّس لنفسه مُلْكاً جديداً، وقد رضي عن رعيّته ورضيت عنه رعيّتُه ورُزِق الولد. فله ابنان: "أتيوكل" Etéocle وبولينيس Polynice، وله ابنتان: "أنتيغون" Antigone و"إسمين" Ismène. وهو يرى نفسه سعيداً موفوراً رضيّ النفس رخيّ البال.
ولكن المدينة تُمتحَنُ ذات عام بوباء يفسد عليها أمرَها كلَّه فساداً عظيماً، فقد هلك الزرع وجفّ الضرع وأسرف الموتُ في كلّ حيّ، فالطير تساقط من السماء، والماشية تخرّ إلى جُنوبها، والناس يستبقون إلى القبور حتى تضيقَ بهم، وحتى يعجزَ بعضهم عن دفن بعض.. وقد عمّ البلاء وعظُم الكرْبُ واشتدت المحنة حتى بلغت أقصاها. وأهل المدينة يستعطفون الآلهة بالضحايا والقرابين، ويتوسّلون إليهم بالصلاة والدعاء، فلا يغني عنهم هذا كلّه شيئا! وهم قد هرعوا إلى ملكهم يفزعون إليه ويستعينونه، فيرسل الملك إلى معبد أبولون مَن يؤامر الإله ويستشيره في هذا البلاء العظيم. ويعود رسول الملك إليه يحمل جواب الإله واضحاً غامضاً ومعمى صريحاً، كما تعوّد أبولون أن يجيب دائماً: أجاب أبولون بأن الآلهة لن يكشفوا الضُرَّ عن هذه المدينة إلا إذا ثأرت لـ "لايوس" من قاتلِه!
ولم يكد الملك يتلقّى هذا الجواب حتى أعلن في حزم وصرامة أنه باحثٌ عن هذا القاتل ومُنزِلٌ به أشدّ العقاب، وأنه يطلب من أهل المدينة أن يعاونوه على ذلك في غير تردّد ولا ضعف مهما يكن هذا القاتل. ثم هو لا يكتفي بذلك بل يستنزل اللعنات وغضب الآلهة على هذا المجرم الذي قتل ملِكاً وعرّض المدينة لشرٍّ عظيم. ولكن الملك لا يكاد يبحث عن هذا المجرم حتى تتبيّن له الحقيقة منكرةً بشعة، فهو المجرم الذي قتل لايوس هناك في ذلك المكان الضيّق! وهو الآثم الذي اتخذ أمَّه له زوجاً وعاش معها في هذا القصر وأولَدها أبناءه الأربعة!
ليس في ذلك شك، واسمه نفسه يدلّه على ذلك دلالة قاطعة، فهو "أوديب" Œdipe ذو الرجل المتورّمة، ورجله متورّمة حقاً من أثر ذلك الثقب الذي عُلِّق به إلى الشجرة في طفولته الأولى على الجبل. يعرف ذلك من الراعي الذي كُلِّف قتلَه، ويعرف ذلك من الراعي الذي أنقذه من الموت وأسلمه إلى ملك كورنت.
هناك يتبيّن أوديب وتتبيّن جوكاست أن لا مردّ لما كتب القضاء. فلم يغنِ عن لايوس تخلّصه من الصبيّ، فقد عاش الصبيّ حتى قتله.
ولم يغنِ عن جوكاست تخلصها من الصبيّ فقد عاش الصبيّ حتى اقترن بها.
ولم يغنِ عن أوديب فراره من قصر كورنت وتجنّبه ملكها وملكتها هرباً من الإثم، فلم يكن من هذين الزوجين في شيء. وإنما هو ابن لايوس وقد قتل لايوس، وابن جوكاست وقد تزوّج من جوكاست.
والمهم أنه قد عرف القاتل الذي يجب أن يثأر منه لتخلص المدينة من هذا البلاء، فيجب أن يثأر من نفسه إذاً، فإن لم يفعل فستثأر منه المدينة التي لم تكن ترى فيه ملكاً فحسب، وإنما كانت ترى فيه شيئاً يشبه الإله.
فأما جوكاست فلم تكد تظهر على الحقيقة البشعة حتى خنقت نفسها. وأما أوديب ففقأ عينيه بيديه حتى لا يرى الضوء!
وتختلف الروايات بعد ذلك أو قل تختلف الروايات قبل ذلك، ويزيد في اختلافها فن شعراء الممثلين الذين اتخذوا هذه القصة موضوعاً للتمثيل: فقوم يرَوْن أن جوكاست لم تقتل نفسها، وإنما عاشت حتى رأت اختلاف ابنيها على العرش وتساقيهما الموت، ولم تقتل نفسها إلى بعد أن رأتهما صريعين.
وقوم يرَوْن أن أوديب قد نفى نفسه من الأرض بعد أن فقأ عينيه وهام غريباً تقوده ابنته "أنتيغون" حتى انتهى آخر الأمر إلى ضاحية من ضواحي أثينا فمات فيها.
وأخرون يرَون أنه لم ينفِ نفسه، وإنما نفاه ابناه بعد أن وُلّيا المُلك.
وآخرون يرَون أن ابنيه قد أمسكاه في القصر ولم ينفياه، وإنما نفاه "كريون" بعد أن مات ابناه، فلجأ إلى الضاحية الأثينية ومات فيها.
هذه هي القصة التي روتها الأساطير اليونانية منذ أبعد العصور، فقد تحدّثت بها الأوديسه L'Odyssée في نشيدها الحادي عشر، كما تحدّثت بها أقاصيص طيبة نفسها بعد ذلك.
(طه حسين)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق