الاثنين، 12 فبراير 2024

الفِرَق المسيحيّة حتى انعقاد مجمع نيقية عام 325. (نهاد خيّاطة)

 


الفِرَق والمذاهب المسيحية حتى انعقاد مجمع نيقية عام ٣٢٥م

مقدمة في الإشكالية المسيحية – فِرَق مسيحية توحيدية.

اليهودية المسيحية: الأبيونية – النصرانية – مجمع نيقية عام ٣٢٥م.

نهاد خيّاطة 


المسيحية ديانة باطنية طفَت على السطح لكي تصبح ديانةً ظاهرية. ونعني بالظاهرية ما عرَّفها به رينيه غينون (عبد الواحد يحيى): «ما لا غنى عنه لجميع الناس وفي متناولهم جميعًا في نفس الوقت ومن غير ما تمييز.»١ والفرق بين الباطنية ésotérisme والظاهرية exotérisme، تأسيسًا على التعريف المتقدم، أن الأولى تتوجه إلى النخبة، والثانية إلى عامة الناس، لكن المسيحية، على الرغم من باطنيتها، توجهت إلى العامة خلافًا لطبيعة الأشياء، فنشأ عن هذا التوجه مذاهب وفِرَق لا تكاد تقع تحت حصر منذ البدايات حتى عصرنا الحاضر؛ ذلك لأن المسائل التي أعلنتها على الملأ ليست من طبيعةٍ يمكن البرهنة عليها سلبًا أو إيجابًا، بسببٍ من إيغالها في الغيبية، وبسببٍ من غموضها الشديد حتى لَيتعذَّر صوغُها في لغة بشرية، مهما دقَّت واتسعت، تظلُّ مع ذلك عاجزةً عن الإحاطة بمضمون هو مطلق من الحدود والقيود كالألوهية ذاتًا وأسماءً وصفات.

فالمسيحية، إذَن، لا تتصف أبدًا بالصفات الطبيعية أو المعهودة التي تتصف بها ظاهرية قامت على هذا الأساس، بل تطرح نفسها على أساس أنها ظاهرية «واقع» لا ظاهرية «مبدأ». ثم إن الصفة الباطنية التي تتصف بها المسيحية نجدها دائمًا في دلالات معيَّنة ذات أهمية من الدرجة الأولى، حتى وإن لم نرجع من أجلها إلى فِقَر معيَّنة من «الكتاب المقدَّس»، من ذلك مثلًا عقيدة «التثليث»، وسرُّ الأفخارستيا ولا سيما استعمال النبيذ في هذا الطقس، وكذلك في مصطلحات باطنية صِرْف من مثل «ابن الله»، ولا سيما مصطلح «أم الله».٢

يقول ف. شيئون Schuon : إن ما اتصفت به الدغماطيق المسيحية من صفة باطنية، وما اشتملت عليه من أسرار، كان هو السبب العميق وراء الرجع (= رد الفعل) الإسلامي على المسيحية. فباعتبار أن هذه قد خلطت الحقيقة (الباطن) بالشريعة (الظاهر)، انطوت على مخاطر معيَّنة أدَّت إلى خلل في توازن «الحقيقة» على مدى القرون، وأسهمت بصورة غير مباشرة في الخراب الرهيب الذي عليه عالمنا اليوم، وفقًا لقول المسيح: «لا تطرحوا للكلاب ما هو قُدسي، ولا تُلقوا بدرركم قدَّام الخنازير لئلَّا تدوسها بأقدامها، وترتدَّ إليكم، وتمزقكم.»٣

هذا وقد كان لنشأة المسيحية في أجواء الحقبة الهلنستية التي سادت فيها الثقافة الإغريقية بلاد المشرق العربي، ومنها مصر، متفاعلةً مع ما استقر فيها من ثقافات موروثة، كان لكل ذلك أثر كبير في التفاعل بين الإيمان والفلسفة الذي طبع الديانة المسيحية بطابعه، فأخرجها من الإيمان البسيط إلى اللاهوت المعقد، فكان من جرَّاء ذلك أن تشعبت المذاهب، وتعددت الرؤى، وكانت كلها تنصبُّ على محاولة الإجابة على ما هي طبيعة العلاقة بين الله والمسيح، أو بين الآب والابن، وفي مرحلة تالية الإجابة على ما هي طبيعة العلاقة بين الآب والابن والروح القُدُس.

من ذلك مثلًا، ما ذهب إليه أسقف بُصرى من أن المسيح لم يكُن له لاهوت متميز قبل ولادته من مريم العذراء، بل كان له لاهوت الآب،٤ أيْ ليس بإله، بل إنسانٌ فانٍ.

وذهب نوئيتس، أسقف إزمير، إلى أن الآب هو الله نفسه، وهو واحدٌ لا ينقسم.٥

وهناك الغنوصيون الذين يتفق معظمهم على أن يسوع إنسانٌ فانٍ يُوحَى إليه، ولكنه ليس بإله. بعضهم يقول: لم يُصلب.٦

ثم هناك بولس السميصاتي، وكان بطريركًا على كنيسة أنطاكية. كان يقول إن المسيح مخلوق صالح، حمل في ذاته روح الله، فأصبح ابن الله بالتبنِّي فقط، لا بالطبيعة والجوهر. ومن هنا فإنه ليس بإله، وإنه وُلد إنسانًا فقط. ومن أفكار السميصاتي أن الابن والروح القُدُس وُجدا في الله كوجود العقل والقوة الفعالة في الإنسان، وأن المسيح وُلد إنسانًا فقط، ثم نزلت عليه الحكمة والعقل.٧

لقي السميصاتي تأييدًا من زنوبيا، ملكة تدمر، فيما ذهب إليه، لكن المجمع الأسقفي الذي انعقد في أنطاكية في العام ٢٦٤م، ثم في العام ٢٦٨م، أصدر الحرمان بحقِّ السميصاتي وخلعه. وفي العام ٢٧١م، طرده الإمبراطور الروماني أورليانوس من أنطاكية، إثر انتصاره على زنوبيا، ونفاه إلى «الليريكوم»، وأجبر أتباعه فيما بعدُ على أن يسلِّموا بقانون نيقية الذي انعقد في العام ٣٢٥م، وفيه تم ترسيخ عقيدة أن المسيح «إله من إله».٨

(١) اليهودية المسيحية

يبدو أن معظم المواقف والرؤى التي تقدَّم ذكرُها ترتدُّ إلى ما عُرف في العهود المسيحية الأولى التي يقدم عنها تعريف ملخص لها نقلًا عن الكاردينال دانييلو Daniélou. في هذا التعريف يبين لنا الكاردينال أن مجموعة التلاميذ الصغيرة التي بقيت بعد المسيح كوَّنت طائفةً يهوديةً تمارس ديانة المعبد، وتحفظ تعاليمها، وكانت عندما ينضمُّ إليها وثنيُّون أو من غير العبرانيين تقترح عليهم نظامًا يحلُّهم بموجبه مجمع القدس (٤٩م)، من شرط الختان ومن تطبيق الأركان اليهودية.٩

رفض كثيرٌ من اليهود المسيحيين هذا التنازل، وانفصلوا عن بولس، بل أكثر من هذا، فقد اصطدم بولس مع اليهود-المسيحيين بسبب الذين دخلوا المسيحية من غير اليهود (أحداث أنطاكية عام ٤٩م). فالختان، ومراعاة السبت وديانة المعبد، كانت أمورًا باليةً في نظر بولس.١٠

أمَّا اليهود-المسيحيون، الذين ظلُّوا «يهودًا مخلصين»، فقد اعتبروا بولس خائنًا، وتصفه وثائق يهودية-مسيحية «بالعدو»، وتتهمه «بالرياء». وكانت اليهودية-المسيحية تمثل، حتى العام ٧٠م، غالبية الكنيسة، وكان بولس معزولًا في ذلك الوقت. وكان رئيس الجماعة يومئذٍ يعقوب أخو الرب، وكان معه في البداية بطرس، ثم يوحنا. ويمكن اعتبار يعقوب، أخي الرب، عمود اليهودية المسيحية الذي ظلَّ ملتزمًا خطَّ اليهودية في مواجهة المسيحية البولسية. وكانت أُسرة المسيح تحتلُّ مكانةً كبيرةً في هذه الكنيسة اليهودية-المسيحية بالقدس. وقد خلق يعقوب على هذه الكنيسة سمعان ابن كاليوبا ابن عمِّ يسوع.١١

ويذكر الكاردينال دانييلو في مقاله الموسوم ﺑ «رؤية جديدة للأصول المسيحية، اليهودية-المسيحية»، يذكر النصوص اليهودية-المسيحية التي تعرض نظرة هذه الجماعة إلى المسيح، وهي الجماعة التي تكونت أولًا حول التلاميذ، وهذه النصوص هي «إنجيل العبريين» الذي يعود إلى جماعة يهودية مسيحية مصرية، و«مؤثرات إكليمنضوس»، و«التحقيقات الإكليمنضية»، و«إنجيل توما». وكما يبدو، فإن من الواجب أن نعزو إلى هؤلاء اليهود-المسيحيين أقدم مخطوطات الأدب المسيحي التي يشير إليها الكاردينال دانييلو بالتفصيل، فيقول: «لم تكُن اليهودية-المسيحية سائدةً في القدس وفلسطين وحدها طوال القرن الأول المسيحي، بل انتشرت، فيما يبدو، في كل مكان قبل الدعوة البولسية.» كان اليهود-المسيحيون هم الأعداء الذين قابلهم بولس حيثما ذهب في غلاطية وكورنتة وكولوس وروما وأنطاكية. ويذهب الكاردينال إلى أن أول تبشير بالأناجيل في أفريقيا كان يهوديًّا-مسيحيًّا.١٢

إلى أين آل مصير اليهود-المسيحيين؟

عن هذا السؤال يجيب الكاردينال دانيلو ﺑ «انقطاع اليهود-المسيحيين عن الكنيسة الكبرى التي تحررت تدريجيًّا من روابط اليهودية، سرعان ما تبدَّدوا في الغرب ولم يعد لهم من وجود فعلي، ولكن يمكن اقتفاء آثارِهم ابتداءً من القرن الثالث إلى القرن الرابع في الشرق، وخاصةً في فلسطين والجزيرة العربية وما وراء الأردن وسورية وما بين النهرين، وقد امتصَّ الإسلام بعضهم، وهو، جزئيًّا، وارث لهم. وتحالف بعضهم مع أرثوذكسية الكنيسة الكبرى مع الاحتفاظ بخلفية ثقافية سامية. وهناك شيءٌ منهم ما زال متشبثًا بالكنيستين الأثيوبية والكلدانية.»١٣

(٢) الأبيونية

يندرج تحت عنوان اليهودية-المسيحية جماعة الأبيونية، وهم قسمان؛ أولاهما تعتبر يسوع مجرد إنسان عادي بلغ إلى مرتبة الصلاح بفضل تنامي شخصيته. وُلد من مريم وزوجها مثل أيِّ مولود آخر. ألحَّ على التمسك التام بأحكام الشريعة. وهذه الجماعة لم تكُن تؤمن بالخلاص بواسطة المسيح وحده، أو الاقتداء به.١٤

والثانية تؤمن بأن يسوع المسيح وُلد من عذراء والروح القُدُس، لكنهم لم يؤمنوا بأن له وجودًا سابقًا، وهو — بالتالي — ليس إلهًا، وليس هو الكلمة والحكمة. يتمسكون بحرفية الشريعة، ويرفضون رسائل بولس، ويعتبرونه مرتدًّا عن الشريعة، والإنجيل الذي يعتمدونه هو «إنجيل العبرانيين». يراعون السبت وبقية الطقوس اليهودية، لكنهم يحتفلون بقيامة المسيح من بين الأموات.١٥

(٣) النصارى

الاسم مستمدٌّ من مكان اسمه ناصرة، وهم ظلُّوا يهودًا بصفة عامة، لأنهم لا يعتمدون «العهد الجديد» وحده، بل «العهد القديم» أيضًا. وهم لا يرفضون الشريعة والأنبياء والنصوص التي يسميها اليهود «الكتاب المقدَّس». لا يهتمون بشيء سوى العيش على وفق التعاليم التي تقضي بها الشريعة. لا شيء يفرِّقهم عن اليهود سوى أنهم يؤمنون بالمسيح، وأنهم يؤمنون بقيامة الموتى وأن لكل شيء أصله عند الله، يؤمنون بالإله الواحد وبابنه يسوع المسيح.١٦

يختلف النصارى عن اليهود من حيث أنهم يؤمنون بالمسيح، وعن الأبيونية، في كلتا مجموعتيهم، من حيث قبولهم برسائل بولس.١٧

ملاك القول إن النصارى مسيحيون من كل وجه، ويزيدون عليهم أنهم يتمسكون بالشريعة ويراعون السبت وطقس الختان.

(٤) الدوكيتية Docetism

الغنوصيُّون، الذين عُرفوا باسم الدوكيتية، ذهبوا إلى الطرف النقيض من الأبيونية، ونفوا البشرية عن المسيح، فيما أكدوا على طبيعته الإلهية. تعلَّموا في مدرسة أفلاطون، وتعوَّدوا على سمو فكرة اللوغوس (العقل أو الكلمة)، وهذا ما أعدَّهم لأن يفهموا أن سطوح الإيون Aeon، أو انبثاق الألوهية Emanation of The Deity، قد يتخذ شكلًا خارجيًّا ومظاهر مرئية لكائنٍ فانٍ. وزعموا أن عيوب المادة تتنافى مع طهارة الجوهر السماوي، فيما ظلَّ دم المسيح يسيل فوق جبل الجلجثة.

اخترع أصحاب هذا المذهب تلك الفرضية التي تتصف بالغلو القائلة بأن المسيح، بدلًا من أن يُولد من رحم العذراء، نزل على ضفاف الأردن في هيئة إنسان كامل، وأدركته حواسُّ أعدائه وتلاميذه، وأن أعوان بيلاطس بدَّدوا غضبهم العاجز على شبح هوائي، الذي بدا، وكأنه مات على الصليب، وبعد ثلاثة أيام قام من بين الموتى.١٨

(٥) المرقيونية

تُنسب هذه النِّحلة إلى مرقيون أحد أبرز مسيحيِّي القرن الثاني الميلادي، الذين حاولوا التوفيق بين الغنوصية (الخلاص عن طريق المعرفة) والمسيحية، فأسَّس كنيسةً بديلةً للكنيسة الرسمية، استمرت مدَّةً طويلة بعد وفاة مؤسسها، خصوصًا في الأطراف الشرقية لمنطلق انتشار المسيحية مثل أرمينيا، وكانت وراء تعجيل الكنيسة في إقرار الأناجيل الأربعة، وتثبيت المعتقد المسيحي الرسمي في صيغته النهائية.١٩

يُعتبر مرقيون أكثر الغنوصيين إيمانًا بالمسيحية، فهو برغم اتفاقه مع الغنوصية في كل طروحاتها الرئيسية، إلا أنه يؤكد في النهاية على عنصر الإيمان المسيحي، ويُعليه فوق العرفان الغنوصي، فالخلاص عنده يأتي بالإيمان عن طريق يسوع المسيح بالذات، ابن الله العلي، لا ابن يهوده «اليهودي». وهذا استتبع عنده نكران الطبيعة الواحدة التي تجمع بين روح الإنسان وروح الله، فالإنسان نتاج صنعة الإله الخالق لا الإله المتعالي، ولكن الإله المتعالي أحبَّ الإنسان، وأشفق عليه، فمدَّ إليه يد الخلاص.٢٠

ينطلق مرقيون في تفكيره من مبدأ الفصل التام بين مسيحية مستقلة عن التوراة تقوم على إنجيل وحده في شكله المشذَّب والمختصر من قبله، وعلى رسائل بولس الرسول، ذلك أن بولس، في رأي مرقيون، هو الذي فهم الإنجيل حقَّ الفهم من دون بقية الرُّسل، بعد أن تجلَّى له المسيح على طريق دمشق، وأوكل إليه مهمة التبشير بالإنجيل الحقيقي، فعارض منذ البداية المسيحية-اليهودية التي كان بطرس وزملاؤه يدعون إليها.٢١

يرى مرقيون أن هذا العالم المادي الناقص والمليء بالشرور هو من صنع الإله يهوه، وأن إله «العهد القديم» هذا هو الذي خلق الإنسان، وفرض عليه الشريعة التي كانت بمثابة لعنة على حدِّ تعبير بولس. ولكن يهوه هذا، ليس هو الإله الأعلى، على رغم أن جهله قد جعله في البداية يعتقد بوحدانيته، فلم يعلم بوجود قوة شمولية عظمى تتمثل في الله الخفي، الأب الأعلى، إله المحبة. ولقد شعر الأب الأعلى بالشفقة نحو الإنسان، فأرسل ابنه المسيح في هيئة يسوع الناصري ليخلَّص البشرية، ورآه الناس فجأةً بينهم، وهو يعلِّم ويبشِّر بملكوت الروح، فظنَّه بعض اليهود المسيح المنتظر، كما أن الحواريين أنفسهم لم يفهموا المغزى الحقيقي لرسالته، ونظرًا لجهل يهوه بقيمة المخلِّص دُفع إلى الصَّلْب، وهو لا يدري أن عمله هذا سوف يجلب عليه سوء المصير، لأن ابن الله قد حرَّر بموته الناس من سُلطة يهوه ومن لعنة الناموس.٢٢

(٦) الأريوسية أو الأريانية

يُنسب هذا المذهب إلى آريوس الليبي، وكان مسئولًا عن إحدى كنائس الإسكندرية، هي كنيسة بوكاليس. تتلمذ على لوقيانوس الأنطاكي، الذي كان يرفض ألوهية المسيح، فكان أن استُشهد دون عقيدته التي تُناقض تعاليم القدِّيس بولس.٢٣

يُعتبر آريوس، من وجهة نظر مسيحية أرثوذكسية، هرطقيًّا أو زنديقًا، شكَّل خطرًا على العقيدة المسيحية طوال عشرة القرون الأولى من تاريخ المسيحية. يقوم خلاف آريوس مع الكنيسة على أطروحة واحدة، هي أن يسوع كائنٌ فانٍ ليس إلهيًّا بأيِّ معنى، وليس بأيِّ معنًى شيئًا آخر سوى مُعلِّم يُوحَى إليه.٢٤

يمكن إيجاز مذهب آريوس في أن الله واحد فرد، غير مولود، لا يشاركه شيءٌ في ذاته تعالى … فكل ما كان خارجًا عن الله الأحد إنما هو مخلوق من لا شيء وبإرادة الله ومشيئته. أمَّا الكلمة فهو وسط بين الله والعالم، كان، ولم يكُن زمان، لكنه غير أزلي ولا قديم، بل كانت مدَّة لم يكُن فيها الكلمة موجودًا، فالكلمة مخلوق، بل مصنوع، وإذا قِيل بأنه مولود، فبمعنى أن الله تبنَّاه. ومؤدَّى ذلك أن الكلمة غير معصوم طبعًا، ولكن استقامته حفظته من كل خطأ وزلل، فهو دون الله مقامًا، ولو كان معجزة الأكوان خلقًا، بلغ من الكمال ما يستحيل معه خلق شيء أكمل منه رتبةً وحالًا. بكلمة واحدة، ليس في المسيح لاهوت، بل هو إنسان محض مهما كان عظيمًا.٢٥

لم يكُن آريوس بِدْعًا في هذا التوجه الذي يصر على بشرية المسيح، فقد سبقه إلى ذلك بطريرك أنطاكية بولس السميصاتي كما تقدَّم معنا. فقد عُرفت مدرسة أنطاكية، التي أسسها لوقيانوس الأنطاكي، بميولها النقدية التي كانت تنظر إلى المسيح لا باعتباره إلهًا، بل باعتباره مخلوقًا أُنعم عليه بقوًى إلهية. وكانت هذه المدرسة هي الأساس الفكري والعقدي الذي استمدَّ منه آريوس أطروحته.٢٦

ويبدو أن آريوس ينحو منحى أهل المستطيقا (التصوف) في فهمه للعلاقة بين الإنسان والله عمومًا، وبين المسيح والله خصوصًا. فالمسيح، بحسب هذه الرؤية، متواحدٌ جوانيًّا تواحدًا وثيقًا بالإرادة الإلهية، أدَّى بالله إلى اتخاذه ابنًا له.٢٧

لقيت هذه العقيدة أنصارًا كثيرين في الإسكندرية لدى أوساط الطبقات الدنيا وخارجها، وبين الأساقفة ورجال الكنيسة؛ كان منهم أوسيبيوس القيصري (فلسطين)، مؤرخ الكنيسة الشهير، وأوسيبيوس النيقوميدي من مدرسة أنطاكية.

إذا استثنينا الأباطرة، لم نجد أحدًا أسهم في نشر هذه العقيدة أكثر من هذَين اللاهوتيَّين.٢٨ أمَّا لماذا أسهم الأباطرة في نشر هذه العقيدة، فيرجع إلى أن فكرة آريوس عن الإله العلي تلقَى قبولًا عندهم، إذ هم يميلون إلى التواحد مع هذا الإله أكثر من ميلهم إلى التواحد مع إله ضعيف سلبي، يخضع بدون مقاومة إلى الشهادة، ويتجنب الاتصال بالعالم.٢٩

والحقُّ أن الإمبراطور قسطنطين، راعي مجمع نيقية الذي طرد آريوس من الكنيسة، كان ميَّالًا إلى هذا الأخير، وقد ظلَّ كذلك حتى نهاية حياته، ولمَّا خلفه على العرش ابنه قسطنطيوس أعلن نفسه آريوسيًّا جهارًا نهارًا. ومع مجيء العام ٣٦٠م، حلَّت الآريوسية محلَّ المسيحية الرومانية.

وعلى الرغم من شجب الآريوسية مرةً ثانيةً في مجمع القسطنطينية عام ٣٨١م، ظلَّت هذه العقيدة بالانتشار، وتكسب لها أنصارًا، حتى إذا كان القرن الخامس، كانت كل أسقفية في العالم المسيحي إمَّا آريوسية أو شاغرة.٣٠

(٧) مجمع نيقية عام ٣٢٥م

عندما أخفق أوسيوس القرطبي، وكان موضع ثقة الإمبراطور قسطنطين، في محاولات التوفيق بين آريوس والأسقف إسكندر [برفقة الشماس أثناسيوس]، وكان أسقفًا على الإسكندرية، وذلك في العام ٣٢٤م، قام الإمبراطور بالدعوة إلى انعقاد مجمع مسكوني في نيقية، بآسيا الصغرى، في العام ٣٢٥م. كان أوسيوس، وهو ممثل الإمبراطور في المجمع، يدير، ويوجه المناقشات لكي تنتهي إلى القول بأن «المسيح إله من إله، نور من نور، إله حقٌّ من إله حق، مولود غير مخلوق، من نفس جوهر الآب (هومو أوسيوس Homoousious)» وإلى إقصاء آريوس عن الكنيسة.٣١

لكن اللافت في الأمر أن أوسيوس هذا، على الرغم من أنه كان أول الموقِّعين على دستور نيقية، عاد في العام ٣٥٧م، ليوقِّع على تصريح سيرميوم في إيريللي (على الدانوب)، وينضمَّ إلى الآريوسية متنكرًا لكل ماضيه.٣٢

وفي مجمع نيقية، تقرر أيضًا اعتبار يوم العطلة المسيحي يوم الأحد (يوم الشمس Sunday)، واعتبار يوم مولد إله الشمس، وهو يوم الخامس والعشرين من كانون الأول (ديسمبر) يوم ميلاد المسيح، واستعارة الصليب، وهو رمز إله الشمس، رمزًا للمسيحية. ومع أن تمثال يسوع حلَّ محلَّ صنم إله الشمس، قرر المجتمعون دمج جميع المراسم التي كانت تجري في احتفالات عيد ميلاد إله الشمس، واتخاذها احتفالاتٍ ومراسمَ وطقوسًا للمسيحية.٣٣

وفي مجمع نيقية أيضًا، تقرر أن توضَع جميع الأناجيل المختلفة تحت طاولة في قاعة المجمع. ثم غادر المجتمعون القاعة، وأُقفل بابها، ثم طُلب إلى الأساقفة أن يصلُّوا طوال الليل من أجل أن ترتفع النسخة الصحيحة من الإنجيل إلى أعلى الطاولة. وفي الصباح وُجدت الأناجيل المقبولة لدى أثناسيوس، ممثل أسقف الإسكندرية، مُرتَّبةً بنظام فوق الطاولة. وعندئذٍ تقرر إتلاف جميع الأناجيل حرقًا، وهي التي بقيت تحت الطاولة. ولا يوجد ما يشير إلى الشخص الذي احتفظ بالمفاتيح في تلك الليلة.٣٤

(٨) الرجوع عن عقيدة نيقية

بعد أن نقل الإمبراطور عاصمته من روما إلى بيزنطة في العام ٣٣٠م، قرر العفو عن آريوس، وسمح له بتناول العشاء الربَّاني في القُدَّاس، كما قرر إلغاء مقررات مجمع نيقية المختصَّة بالمسيح، وذلك بعد انعقاد مجمعَي صور سنة ٣٣٤م أو ٣٣٥م، والقسطنطينية سنة ٣٣٦م، اللذَين أكدا على الروحية الشرقية المناهضة لكنيسة روما.٣٥

(٩) تحذير لا بدَّ منه!

قد يغرينا آريوس، إذ نفى الألوهية عن المسيح، بأن يذهب بنا الظنُّ إلى أن النظرة الآريوسية تتفق مع النظرة القرآنية إلى السيد المسيح (ع)، كما فهم ذلك خطأً أصحاب «الدم المقدَّس والكأس المقدَّس» (ص٣٤٦). نقول: إن النظرة الآريوسية، فيما تنفي أن يكون يسوع ابن الله، أو أن يكون الله أبًا ليسوع، لا تنفي أن يكون الله قد «تبنَّاه» أو «اتخذه ولدًا»، على حدِّ التعبير القرآني. إن القرآن يرفض هذه النظرة رفضًا قاطعًا في عدد من الآيات، مُصنِّفًا إياها في جملة العقائد المنحرفة عن الدين القويم الذي شرعه الله لعباده.٣٦

١  ف. شيئون، الإيمان والإسلام والإحسان، ترجمة نهاد خياطة، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت ١٤١٦ﻫ/١٩٩٦م، ص٩٠. انظر أيضًا بالفرنسية: Frithjof Schuon, De l’unité Eranscendante des religions, Paris, 1979, p. 156.

٢  المرجع السابق نفسه، والصفحة نفسها. انظر أيضًا الأصل الفرنسي المُشار إليه برقم (١)، والصفحة نفسها.

٣  المرجع السابق نفسه، ص٩١-٩٢. انظر أيضًا الأصل الفرنسي، ص١٥٨.

٤  أديب نصر الدين، الينابيع في المسيحية والإسلام، بيروت ١٩٩٤م، ص١٥٧.

٥  أديب نصر الدين، الينابيع، ص١٥٧.

٦  د. م، ك. م، ص٣٤٤.

٧  نصر الدين، الينابيع، ص١٥٨.

٨  المرجع نفسه، والصفحة نفسها.

٩  بوكاي، ع: ص٧١، ف: ص٦٢.

١٠  المرجع نفسه، والصفحة نفسها.

١١  المرجع نفسه، والصفحة نفسها.

١٢  بوكاي ع: ص٧٢، ف: ص٦٢-٦٣.

١٣  بوكاي ع: ص٧٤، ف: ص٦٤. اعتمد بوكاي في هذه «التذكرة التاريخية» — كما يسميها — على مقالٍ نشره الكاردينال دانيلو Daniélou في كانون الأول (ديسمبر) من عام ١٩٦٧م، في مجلة Etudes بعنوان:
Une Vision nouvelle des origines chrétiennes, Judéo-Christianisme.

١٤  فياض ومنصوري، النصارى، دار أسامة، دمشق ١٩٩٨م، ص٣١.

١٥  فياض ومنصوري، النصارى، ص٤٧.

١٦  فياض ومنصوري، النصارى، ص٤٧.

١٧  المرجع نفسه، ص١٧٣-١٧٤.

١٨  Edward Gibbon, The Decline and Fall of the Roman Empire, Vol, 1, The Modern Library, New York, pp. 678-679.

١٩  فراس السواح، الرحمن والشيطان، دمشق عام ٢٠٠٠م، ص٢٠٦.

٢٠  المرجع السابق نفسه، ص٢٠٦-٢٠٧.

٢١  المرجع السابق نفسه، ص٢٠٧.

٢٢  فراس السواح، الرحمن والشيطان، ص٢٠٧. من أجل مرقيون، انظر أيضًا: بييركانيفييه، المسيحية في سورية من البدايات حتى الإسلام، ترجمة موسى ديب الخوري، دار أبجدية، دمشق ١٩٩٩م، ص٥٦-٥٧، حيث يشير المؤلِّف إلى انتشار المرقيونية في سورية الشمالية وبلاد ما بين النهرين، وظلَّت قويةً حتى القرن الخامس. وكانت المرقيونية تدعو إلى التزام العفَّة، وقدَّمت للمانوية عنصرها المسيحي.

٢٣  عيسى نبي الإسلام، محمد عطاء الرحيم، ترجمة فهمي م. شما، دمشق ١٩٩٠م، ص١٢٨-١٢٩.

٢٤  د. م، ك. م، ص٣٤٥.

٢٥  غرديه وقنواتي، فلسفة الفكر الديني، ج٢، ص٢٨٧.

٢٦  عيسى يبشِّر بالإسلام، ص١٢٨. انظر أيضًا: غرديه وقنواتي، ص٢٨٦.

٢٧  ج. لورتس، تاريخ الكنيسة «الفرنسية»، باريس ١٩٥٥م، ص٦٧.

٢٨  المرجع نفسه، والصفحة نفسها.

٢٩  د. م، ك. م، ص٣٤٥.

٣٠  د. م، ك. م، ص٣٤٥-٣٤٦.

٣١  روجيه غارودي، الإسلام، ترجمة وجيه أسعد، ط٢، بيروت ١٩٩٧م، ص٣٣.

٣٢  المرجع نفسه، والصفحة نفسها.

٣٣  محمد عطاء الرحيم، عيسى يبشر بالإسلام، ص١٥٧.

٣٤  المرجع السابق نفسه، ص١٦٠.

٣٥  المرجع السابق نفسه، ص١٦٣-١٦٤.

٣٦  يرجع إلى الآية ٦٨ من سورة يونس، و١١١ من الإسراء و٤ من الكهف، و٨٨–٩٥ من مريم.

 


السبت، 3 فبراير 2024

"الملجأ اللبناني" (عرض ونقد)؛ كمال صليبي.

 



["الملجأ اللبناني"] (عرض ونقد)

وإراهاصات فكرة القومية السورية

كمال صليبي


كانت بريطانيا قد تبنّت القضية القومية العربية في الشام، خلال سنوات الحرب، ودعمت ثورة الشريف حسين العربية في الحجاز، وسمحت لابنه فيصل بدخول دمشق في العام 1918 وإقامة حكومته العربية هناك. (ص170)

.. ضمنت فرنسا أخيراً، في العام 1920، انتدابها على بعض أراضي "المشرق"، فأخرجت فيصل من دمشق، وأعلنت خلق "دولة لبنان الكبير" كخطوةٍ أولى باتجاه إعادة التنظيم السياسي للأراضي الموضوعة تحت انتدابها. ولكنّ القومية العربية بقيت تشكل قوةً لا يستهانُ بها ولا بدّ من أخذها في الحساب، يدعمها البريطانيون سرّاً ضد الفرنسيين، وتتلقّى دعماً مكشوفاً من الأميركيين.. (ص171)

وإذ أُحرِج الفرنسيون بالدعم البريطاني للقومية العربية أولاً، ثم بالتبني الأميركي لها، فإنهم باتوا يشعرون بضرورة إيجاد فكرةٍ أخرى تكون قويّةً بما يكفي لطرحها في مواجهة فكرةِ العروبة. وظهر كتاب هنري لامنس [وهو أبٌ يسوعي من أصل فلمنكي (توفي عام 1937) ، كان أستاذاً للدراسات الشرقية في جامعة القديس يوسف التي تأسست في بيروت في العام 1875] عن "تاريخ سورية" في الوقت المناسب لإيجاد مثل هذه الفكرة، إذ قال لامنس في كتابه هذا إنّ السوريين كشعبٍ لهم وجودٌ تاريخي يسبق بكثير وصول العرب إلى بلادهم، وإن لديهم كامل الإمكانيّة للتطوّر والتحوّل إلى أمّةٍ قائمةٍ بذاتها. ومستقلّةٍ تمام الاستقلال عن محيطها العربي. 

وكانت سورية، كما رآها الأب لامنس، عبارةً عن بلدٍ كامل المقوّمات، وله من الحدود الطبيعية ما يندر العثور على مثيلٍ له. وهذه الحدود تتمثّل بجبال طوروس التي تفصل البلد عن الأناضول في الشمال، والصحراء التي تفصله عن العراق في الشرق وعن شبه جزيرة العرب في الجنوب، والبحر الذي يصله بعالم حوض البحر الأبيض المتوسط في الغرب. (ص172)

.. ولقد أظهر السوريون منذ أقدم العصور، وعلى مرّ الأزمنة، درجةً عاليةً من الذكاء الفطري والمبادرة في المجالين الثقافي والعملي، وحباً للحرية، وكراهيّةً للاضطهاد. وبالإضافة إلى هذا، فإنّ انفتاحهم على التأثيرات الثقافية البنّاءة القادمة من الغرب كان دوماً أكبر من انفتاحهم على تلك القادمة من الشرق، كما أنهم أثّروا بدورهم على الغرب. ولقد كانت لهم أهمّيةٌ كبرى في تاريخ العالم الغربي، وفي تراثه الهيليني، الإغريقي الروماني. ألم تحمل المسيحيةُ الملامحَ المميّزة لأصولها السورية الهيلينية؟ ألم يجلس خمسة من الأباطرة السوريين على عرش روما؟ ألم تكن بيروتُ المركزَ الرئيسي لدراسة القانون في اواخر عهد الرومان؟

ثم ظهر الإسلام في شبه جزيرة العرب في القرن السابع للميلاد، وفتح العرب سورية آتين تحت راية الدين الجديد ـ حسب رأي لامنس ـ من صحراءَ قاحلةٍ معاديةٍ للحضارة. ولم يبقَ في سورية كلِّها جزء لم يتم إخضاعه للحكم الجديد إلا جبال لبنان. وبالتالي، صار كلّ ما تبقّى من تاريخٍ سوريٍّ مستقل منحصراً هناك. [..] وفي رأي لامنس كان الأمويون وحدَهم الأسرةَ الحاكمةَ المستنيرة في تاريخ العرب والإسلام، وكانت دولتُهم في دمشق دولةً سوريةً أكثر منها دولةً عربية. ثم أطاح العباسيون ـ وهم المتعصبّون الظالمون ـ بالأمويّين فصار السوريون الذين لم يتحمّلوا الاستبداد يهربون إلى جبل لبنان، حتى أصبح هذا الجبل وحدَه الملاذَ لكل ملاحَق أو مضطَهَد أو محبٍّ للحرية في البلاد. وهذه كانت، في نظر لامنس، بداية تاريخ "الملجأ اللبناني".

ولم يكن مضطهَدو سورية من المسيحيين فحسب، بل كان هناك المسلمون المنشقّون أيضاً، وبينهم الشيعة الاثنا عشرية والدروز. وهؤلاء جميعُهم لجأوا إلى لبنان. (173)

[..] أصاب لامنس في أطروحته هذه حول تاريخ سورية، بما فيها "الملجأ اللبناني"، هدفين بسهم واحد. فقد وصف سورية بكونها بلداً طبيعياً ينتظر الفرصة لكي يصبح أمّة، فيما أعطى للبنان موقعاً تاريخياً خاصاً داخل سورية كملاذٍ جبليٍّ تقليدي للمضطهَدين. وهو أيضاً في ذلك الجزء من الأطروحة المتعلق بسورية عامة، ميّز بدقةٍ بين ما اعتبره التاريخ القومي المشروع للبلاد، وبين ما لم يكن في رأيه أكثر من تطفّلٍ عربيٍّ وإسلاميٍّ على هذا التاريخ الذي طال أمدُه دون أن يتمكّن من تغيير أساس الواقع.

كان الأب لامنس يوفّر مسوّغاً تاريخياً لظهور حركةٍ قوميّة علمانية متعدّدة الأديان ومستقلة عن العروبة في سوية الجغرافية. ولم يكن لمثل هذه الحركة أن تتأخّر في الظهور من تلقاء نفسها كتطوّر طبيعي للشعور القومي السوري الذي كان قد بدأ يتقدم في بعض الأوساط المسيحية منذ القرن السابق. ومن ذلك جاء تأسيس "الحزب السوري القومي" على يد أنطون سعادة في الثلاثينيات من القرن الحالي [الماضي]. وعن طريق هذا الحزب أصبحت القومية السورية مقبولةً عند مسيحيّين كثيرين في أجزاءٍ مختلفةٍ من لبنان وسورية وفلسطين وشرق الأردن، وكذلك أصبحت هذه القومية مقبولةً عند كثيرين أيضاً من الشيعة والدروز والنصيريّين، وحتى عند بعض المسلمين السنّة المتحرّرين وذوي الاتجاهات العلمانية الذين وجدوا في العروبة من الطابع الإسلامي ما لا يأنسون إليه. (174)

ومن ناحيةٍ أخرى، اهتمّ لامنس في كتابه برسم خطٍّ رفيع يميّز بين "الملجأ اللبناني" وبقيّة سورية، فوفّر بذلك مسوِّغاً تاريخياً محدّداً لوجود "دولة لبنان الكبير" التي كان الفرنسيون قد خلقوها قبل أشهر قليلة من ظهور الكتاب. وأصبح كتابُه "تاريخ سورية" مرجعاً للقوميّين السوريّين حيثما وُجِدوا، وكذلك للمسيحيّين من دعاة اللبنانية في لبنان. وكذلك كان الأمر أيضاً بالنسبة إلى المفوضيّة الفرنسية السامية في بيروت، فقد أوجد الكتاب غطاءً فكرياً مثالياً لسياساتها. (175)

[مناقشة ونقد]

لكنّ التصوير التاريخي لما اعتبره لامنس الهوية القومية المميّزة للشعب السوري جاء متناقضاً مع حقائقَ أساسيّة. فقد كان يصعب على أيٍّ كان الادعاء بأنّ أهلَ سورية، مهما يكن أمرهم في قديم الزمن، لم يكونوا عرباً تماماً بلغتهم وحضارتهم التقليدية في العصور الوسطى والأزمنة الحديثة، على الفروقات الثانوية التي كانت تميّزهم عن غيرهم من العرب. 

وبالإضافة إلى هذا فالقول بأنّ السوريين استعربوا بعد فتح العرب المسلمين لبلادهم لم يكن صحيحاً على الإطلاق، لأنّ وجود العرب في بلاد الشام ـ أي في ما يسمّى الآن بسورية الجغرافية ـ جاء سابقاً للإسلام بزمنٍ طويل، إذ كان معظم عرب الشام على المسيحية. 

ومن ناحيةٍ أخرى، فقد بدا للوهلة الأولى أنّ مفهوم لامنس للبنان كملاذٍ تاريخي لمضطهَدي سورية ـ خلافاً لمفهومه العام لسورية ـ لم يكن فيه شوائب تذكر. وقد قبل المسيحيون اللبنانيون فكرة "لبنان الملجأ" كما شرحها لامنس. وكذلك فعل مواطنوهم الشيعة والدروز الذين لم يجدوا تفسيراً تاريخيّاً آخر لحقيقة وجودهم في لبنان بهذه الكثافة. أما المسلمون السنّة، في لبنان وغيره، فقد صُعِقوا للفكرة القائلة بأنهم كانوا، تاريخيّاً، قد اضطهَدوا مختلف الجماعات المسيحية والإسلامية المنشقة التي هربت لتلجأ إلى جبال لبنان. ولكن كان يصعب عليهم إنكار الواقع بأنهم كانوا يشكّلون الأكثريّة الواضحة في مدن الساحل وفي مدن الداخل السوري وقراه، بينما كان جبل لبنان إضافةً إلى جواره المباشر مأهولاً بشكلٍ رئيسي بالأقليّات الدينية من المسيحيّين والمسلمين من غير السنّة. ولهذا، فقد بدت فكرة لبنان كملاذٍ جبليٍّ لجأتْ إليه هذه الأقليّاتُ في الأصل من الساحل والداخل مضطَهَدَةً من الأكثرية السنّية، فكرةً معقولةً حتى للسنّة أنفسهم، وإن لم تكن تشكّل ثناءً عليهم. وقد قبلوا بها في النهاية، ولكن بقدْرٍ من التحفّظ.

وما زالت فكرة "الملجأ اللبناني" كتفسيرٍ للأصول الاجتماعية والسياسية للبنان مقبولةً على وجه العموم إلى اليوم. ولكن لا بدّ من طرح سؤالين اثنين لتحديد مدى دقّتها التاريخيّة. فأولاً، ما مدى صحة القول بأن جبل لبنان وفّر ـ تاريخياً ـ ملجأً لجماعات مختلفة هاربة من الاستبداد السياسي والضطهاد الديني من قبل الأكثرية من المسلمين السنّة في أجزاءٍ أخرى من الشام؟ 

وثانياً، هل كان جبل لبنان في الأزمنة الإسلامية، على وعورة أراضيه، منيعاً حقاً على الحكم الإسلامي السنّي حتى صار له بالفعل أن يوفّر ملجأً آمناً لجماعاتٍ فضّلت ألا تعيش في ظلّ هذا الحكم؟

منذ أيام ابن القلاعي في أواخر القرن الخامس عشر والموارنة يردّدون القول بأنهم وصلوا إلى جبل لبنان، أوّل ما وصلوا، هاربين من اضطهادٍ إسلاميٍّ لا يُطاق في داخل الشام. مع أنّ أكبر مؤرّخيهم في القرن السابع عشر، وهو البطريرك الدويهي، يؤكّد أنّ الاضطهاد الذي أجبر الموارنة على هجر وادي العاصي في بلاد حماه والهرب إلى جبل لبنان إنما كان على أيدي البيزنطيين وليس الملسمين. وكل الدلائل المتوفّرة تشير إلى هذا الواقع. 

وكنا قد أثبتنا في فصلٍ سابق أنّ الاضطهاد البيزنطي الذي أخرج الموارنة نهائياً من وادي العاصي قد حصل في حوالي سنة 1000، عندما كان البيزنطيون يسيطرون عملياً على تلك المنطقة من الشام، وليس سنة 685، كما اعتقد الدويهي، عندما كانت السيطرة على كامل بلاد الشام في ظل الحكم الإسلامي لأكثر من ثلاثة قرون، حتى جاءهم البيزنطيون أخيراً فجعلوا بقاءهم في المنطقة أمراً مستحيلاً. وعندما هرب هؤلاء الموارنة من وادي العاصي ذهب بعضهم فاستقر مع من كان من الطائفة في حلب، فيما ذهب معظم الآخرين ليلتحقوا بمن كان من الموارنة أصلاً في جبل لبنان. وسعى هؤلاء وأولئك، في الحالتين، إلى ملجأٍ كان في الواقع تحت السيطرة الإسلامية، وليس تحت أية سيطرة أخرى.

وخلال القرن الحادي عشر لم يصل الدروز إلى جبال الشوف ووادي التيم هاربين من أيّ مكانٍ آخر، بل إنهم تحوّلوا إلى العقيدة الدرزية في الأرض التي كانوا فيها يعيشون. وكما أشرنا سابقاً، فإنّ المدوّنات الدرزيّة ما زالت تحفظ نص الرسالة المؤرَّخة في ما يقابل العام 1926 للميلاد، والموجّهة إلى أحد الزعماء الدروز المحليّين. وكان هذا قد قبِل العقيدة الدرزية سابقاً كما دعا إليها واضعوها في القاهرة دون أن يتحرك من مكانه. والواقع بالنسبة إلى الطائفة الدرزية أنّ أتباعها في شمال الشام تعرّضوا للاضطهاد في ذلك الزمن المبكر، ولكن لم يُعرَف عن أيّ درزيٍّ أنه هجر تلك المنطقة نتيجةً لذلك الاضطهاد باحثاً لنفسه عن ملجإٍ في لبنان. والهجرة الدرزية الوحيدة المعروفة من شمال الشام إلى لبنان حصلت في العام 1811، عندما شهد ريف الداخل الشامي غاراتٍ متكرّرةً على مختلف أرجائه من قبل فرقةِ الوهابيّة المنطلقة من وسط شبه جزيرة العرب. وقد دُعي دروز منطقة حلب آنذاك ـ وبسبب تعرّضهم للضغوط الوهّابية ـ إلى الجلاء عن هذه المنطقة والاستقرار بين أبناء مذهبهم في مناطق الشوف. وكان الذي وجّه إليهم هذه الدعوة هو بشير شهاب الثاني بناءً على طلبٍ من بشير جنبلاط الذي كان أكبر زعماء دروز الشوف في تلك الأيام.

وليس هناك أيُّ دليلٍ، مهما يكن نوعُه، على حصول أية هجرة جماعيّة للشيعة الاثنيّ عشرية أو للإسماعيلية أو للنصيريّة من أية منطقة إلى الأراضي التي هي اليوم أراضي لبنان. وعلى العكس من ذلك، وفيما يخص الإسماعيلية والنصيرية بالذات، فقد كان لكلتا الطائفتين تواجد ملحوظ أصلاً في بعض أجزاء لبنان الحالي، حيث لم يعد هناك أيّ أثرٍ لتواجدهم. وربما عنى ذلك أنّ الإسماعيلية والنصيريّة اضطهِدوا في زمنٍ ما في هذه المناطق نفسها، فهربوا منها إلى مناطق أخرى من الشام حيث يتواجدون اليوم. وفي زمن العثمانيّين، هجر بعض علماء الشيعة دمشق ليستقروا بين أبناء طائفتهم في جبل عامل، ولكن يصعب وصف ذلك بأنه كان هجرةً جماعية.

وعلى أثر قبول بعض المسيحيّين الملكيّين بالاتحاد مع روما في العام 1683 غادر الملكيّون المتّحدون، أي الروم الكاثوليك، منطقة حلب وأجزاءً أخرى من الداخل الشامي بحثاً عن ملجإٍ لهم بين موارنة لبنان ودروزه، ولكن الاضطهاد الذي تسبّب في هجرتهم في ذلك الوقت لم يأتِ على أيدي المسلمين المحلّيين، بل على أيدي زملائهم الملكيّين من الروم الأرثوذوكس. والأمر نفسه ينطبق على الأرمن الكاثوليك الذين اضطهدهم الأرمن الأرثوذوكس في كيليكية (وهي المنطقة المحيطة بخليج الإسكندرون) في شمال الشام، ومن تركيا حالياً، فبدأوا يسعَون إلى ملجإٍ لهم بين الموارنة في كسروان بعد أن تم اتحادهم مع روما في العام 1721.

 وكانت هنالك هجرة ملحوظة للمسيحيين الروم الأرثوذوكس من الداخل الشامي في مطلع القرن التاسع عشر، ليس إلى الإراضي التي هي اراضي لبنان الحالي فحسب، بل إلى فلسطين. وكان معظم المهاجرين قد انطلقوا من شرق الأردن ومن منطقة حوران، جنوب دمشق، ربما هرباً من الغارات الوهابية التي تسببت في هجرة الدروز من منطقة حلب في الوقت نفسه. ومن المؤكد أنه كانت هنالك هجرات مسيحية أخرى من أنحاءٍ مختلفة من الشام إلى لبنان بعد العام 1860، عندما اضطُهِد المسيحيون ولوحقوا في جميع أنحاء البلاد وحصلت مجزرة في دمشق أتت في يومٍ واحد على حوالي 12000 منهم. لكن لا بدّ من الملاحظة هنا أن العثمانيّين عاقبوا مرتكبي مجزرة دمشق بأقصى الشدة لكي لا يتكرّر مثلُها. فخلال ليلةٍ واحدة جرت محاكمةٌ سريعةٌ لأكثرَ من مائة شخصٍ اعتُبِروا مسؤولين عما حصل، وأعدِم هؤلاء شنقاً على الفور، وبينهم والي دمشق العثماني نفسُه وكبارُ ضبّاطه. وكذلك فقد حوكم كثيرون من أعيان دمشق المسلمين وسجنوا أو أرسلوا إلى المنفى، وذلك لأنهم لم يستخدموا نفوذهم الاجتماعي لوقف المجزرة. وبعد العام 1894، بدأ أرمن شرق آسيا الصغرى وكيليكية بالمجيء إلى لبنان بأعدادٍ كبيرة هرباً من المجازر التركية، وعاودوا الهرب بعد العام 1915. ولكن الكثيرين من الأرمن استقروا في أنحاءٍ مختلفةٍ من الشام، في غير لبنان، حيث شعروا بأمن مماثل بين السكان العرب المسلمين المحلّيين.

وفّرت أراضي لبنان الحالي في بعض الأحيان ملجأً لجماعات هاربة من الاضطهاد، مع أنّ هذا الاضطهاد لم يكن إسلامياً في حالاتٍ عديدة. وحتى عندما كان هذا الاضطهاد إسلامياً فإنه لم يرتكَب عادةً على أيدي المسلمين من عرب الشام. ومن بين الجماعات الطائفية الموجودة حاليّاً في لبنان، فإنّ الشيعة، والجزء الأكبر والرئيسي من الدروز، لم يصلوا إلى لبنان، في أيّ زمنٍ كان، هرباً من اضطهادٍ سنّي لحق بهم في مكانٍ آخر. وكذلك فإنّ أعداداً كبيرةً من الموارنة كانت تعيش فعلاً في شمال لبنان قبل زمن طويل من ملاحقة البيزنطيين لموارنة الداخل الشامي، وقد هرب هؤلاء من وادي العاصي بسبب الاضطهاد البيزنطي ـ لا الإسلامي ـ لهم للانضمام إلى الموارنة الآخرين في شمال لبنان. وهذا يفتح الثغرة الكبيرة الأولى في نظرية "لبنان الملجأ".

وهناك أرضيّةٌ أخرى تختلُّ عليها هذه النظرية. ذلك أنّ مفهوم "لبنان الملجأ" يفترض أساساً أنّ الدولة الإسلامية لم تنجح تاريخياً في فرض سيطرةٍ كاملة على الجبل اللبناني بسبب وعورته. لكن عندما يتم تفحص الحقائق تظهر للعين صورةٌ مختلفةٌ تماماً عن هذا الافتراض. فبدءاً من أيام الفتح العربي لم تكن السيطرة الإسلامية غائبة في أيّ وقت عن جبال لبنان إلا في زمن الفرنجة عندما اقتصرت هذه السيطرة على أراضي منطقة الغرب المطلّة على بيروت، كما لوحظ سابقاً. وكانت هناك مسالك حيوية بين الداخل والساحل من الشام تمرّ عبر المرتفعات اللبنانية الوعرة، من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب. وما كان لأيّ حكم إسلامي في البلاد أن يتجاهل الأهميّةَ الاستراتيجيةَ لهذه المسالك. وفي الأيام المبكرة للأمويين استقدم الخليفة معاوية (661ـ 680) عشائرَ فارسيّةً حديثةَ الإسلام من إيران لكيّ تستوطن في هضاب بعلبك وطرابلس، وكذلك في كسروان، للمساعدة في حراسة الممرات الجبليّة وطريق الساحل لحساب الدولة الإسلامية. ولا بدّ أن اسم كسروان نفسَه كان في الأصل اسماً لعشيرة من هؤلاء الفرس المستوطنين، علماً بأن "كسروان" هو الجمع بالفارسية لاسم العلم "خُسرو" وتعريبه "كسرى". وكان لامنس يعي أمر هذه الاستيطانات الفارسية في الأرض اللبنانية التي تعود إلى عهد الأمويّين. 

(من كتاب بيت بمنازل كثيرة؛ ص ص 170، 180)