السبت، 3 فبراير 2024

"الملجأ اللبناني" (عرض ونقد)؛ كمال صليبي.

 



["الملجأ اللبناني"] (عرض ونقد)

وإراهاصات فكرة القومية السورية

كمال صليبي


كانت بريطانيا قد تبنّت القضية القومية العربية في الشام، خلال سنوات الحرب، ودعمت ثورة الشريف حسين العربية في الحجاز، وسمحت لابنه فيصل بدخول دمشق في العام 1918 وإقامة حكومته العربية هناك. (ص170)

.. ضمنت فرنسا أخيراً، في العام 1920، انتدابها على بعض أراضي "المشرق"، فأخرجت فيصل من دمشق، وأعلنت خلق "دولة لبنان الكبير" كخطوةٍ أولى باتجاه إعادة التنظيم السياسي للأراضي الموضوعة تحت انتدابها. ولكنّ القومية العربية بقيت تشكل قوةً لا يستهانُ بها ولا بدّ من أخذها في الحساب، يدعمها البريطانيون سرّاً ضد الفرنسيين، وتتلقّى دعماً مكشوفاً من الأميركيين.. (ص171)

وإذ أُحرِج الفرنسيون بالدعم البريطاني للقومية العربية أولاً، ثم بالتبني الأميركي لها، فإنهم باتوا يشعرون بضرورة إيجاد فكرةٍ أخرى تكون قويّةً بما يكفي لطرحها في مواجهة فكرةِ العروبة. وظهر كتاب هنري لامنس [وهو أبٌ يسوعي من أصل فلمنكي (توفي عام 1937) ، كان أستاذاً للدراسات الشرقية في جامعة القديس يوسف التي تأسست في بيروت في العام 1875] عن "تاريخ سورية" في الوقت المناسب لإيجاد مثل هذه الفكرة، إذ قال لامنس في كتابه هذا إنّ السوريين كشعبٍ لهم وجودٌ تاريخي يسبق بكثير وصول العرب إلى بلادهم، وإن لديهم كامل الإمكانيّة للتطوّر والتحوّل إلى أمّةٍ قائمةٍ بذاتها. ومستقلّةٍ تمام الاستقلال عن محيطها العربي. 

وكانت سورية، كما رآها الأب لامنس، عبارةً عن بلدٍ كامل المقوّمات، وله من الحدود الطبيعية ما يندر العثور على مثيلٍ له. وهذه الحدود تتمثّل بجبال طوروس التي تفصل البلد عن الأناضول في الشمال، والصحراء التي تفصله عن العراق في الشرق وعن شبه جزيرة العرب في الجنوب، والبحر الذي يصله بعالم حوض البحر الأبيض المتوسط في الغرب. (ص172)

.. ولقد أظهر السوريون منذ أقدم العصور، وعلى مرّ الأزمنة، درجةً عاليةً من الذكاء الفطري والمبادرة في المجالين الثقافي والعملي، وحباً للحرية، وكراهيّةً للاضطهاد. وبالإضافة إلى هذا، فإنّ انفتاحهم على التأثيرات الثقافية البنّاءة القادمة من الغرب كان دوماً أكبر من انفتاحهم على تلك القادمة من الشرق، كما أنهم أثّروا بدورهم على الغرب. ولقد كانت لهم أهمّيةٌ كبرى في تاريخ العالم الغربي، وفي تراثه الهيليني، الإغريقي الروماني. ألم تحمل المسيحيةُ الملامحَ المميّزة لأصولها السورية الهيلينية؟ ألم يجلس خمسة من الأباطرة السوريين على عرش روما؟ ألم تكن بيروتُ المركزَ الرئيسي لدراسة القانون في اواخر عهد الرومان؟

ثم ظهر الإسلام في شبه جزيرة العرب في القرن السابع للميلاد، وفتح العرب سورية آتين تحت راية الدين الجديد ـ حسب رأي لامنس ـ من صحراءَ قاحلةٍ معاديةٍ للحضارة. ولم يبقَ في سورية كلِّها جزء لم يتم إخضاعه للحكم الجديد إلا جبال لبنان. وبالتالي، صار كلّ ما تبقّى من تاريخٍ سوريٍّ مستقل منحصراً هناك. [..] وفي رأي لامنس كان الأمويون وحدَهم الأسرةَ الحاكمةَ المستنيرة في تاريخ العرب والإسلام، وكانت دولتُهم في دمشق دولةً سوريةً أكثر منها دولةً عربية. ثم أطاح العباسيون ـ وهم المتعصبّون الظالمون ـ بالأمويّين فصار السوريون الذين لم يتحمّلوا الاستبداد يهربون إلى جبل لبنان، حتى أصبح هذا الجبل وحدَه الملاذَ لكل ملاحَق أو مضطَهَد أو محبٍّ للحرية في البلاد. وهذه كانت، في نظر لامنس، بداية تاريخ "الملجأ اللبناني".

ولم يكن مضطهَدو سورية من المسيحيين فحسب، بل كان هناك المسلمون المنشقّون أيضاً، وبينهم الشيعة الاثنا عشرية والدروز. وهؤلاء جميعُهم لجأوا إلى لبنان. (173)

[..] أصاب لامنس في أطروحته هذه حول تاريخ سورية، بما فيها "الملجأ اللبناني"، هدفين بسهم واحد. فقد وصف سورية بكونها بلداً طبيعياً ينتظر الفرصة لكي يصبح أمّة، فيما أعطى للبنان موقعاً تاريخياً خاصاً داخل سورية كملاذٍ جبليٍّ تقليدي للمضطهَدين. وهو أيضاً في ذلك الجزء من الأطروحة المتعلق بسورية عامة، ميّز بدقةٍ بين ما اعتبره التاريخ القومي المشروع للبلاد، وبين ما لم يكن في رأيه أكثر من تطفّلٍ عربيٍّ وإسلاميٍّ على هذا التاريخ الذي طال أمدُه دون أن يتمكّن من تغيير أساس الواقع.

كان الأب لامنس يوفّر مسوّغاً تاريخياً لظهور حركةٍ قوميّة علمانية متعدّدة الأديان ومستقلة عن العروبة في سوية الجغرافية. ولم يكن لمثل هذه الحركة أن تتأخّر في الظهور من تلقاء نفسها كتطوّر طبيعي للشعور القومي السوري الذي كان قد بدأ يتقدم في بعض الأوساط المسيحية منذ القرن السابق. ومن ذلك جاء تأسيس "الحزب السوري القومي" على يد أنطون سعادة في الثلاثينيات من القرن الحالي [الماضي]. وعن طريق هذا الحزب أصبحت القومية السورية مقبولةً عند مسيحيّين كثيرين في أجزاءٍ مختلفةٍ من لبنان وسورية وفلسطين وشرق الأردن، وكذلك أصبحت هذه القومية مقبولةً عند كثيرين أيضاً من الشيعة والدروز والنصيريّين، وحتى عند بعض المسلمين السنّة المتحرّرين وذوي الاتجاهات العلمانية الذين وجدوا في العروبة من الطابع الإسلامي ما لا يأنسون إليه. (174)

ومن ناحيةٍ أخرى، اهتمّ لامنس في كتابه برسم خطٍّ رفيع يميّز بين "الملجأ اللبناني" وبقيّة سورية، فوفّر بذلك مسوِّغاً تاريخياً محدّداً لوجود "دولة لبنان الكبير" التي كان الفرنسيون قد خلقوها قبل أشهر قليلة من ظهور الكتاب. وأصبح كتابُه "تاريخ سورية" مرجعاً للقوميّين السوريّين حيثما وُجِدوا، وكذلك للمسيحيّين من دعاة اللبنانية في لبنان. وكذلك كان الأمر أيضاً بالنسبة إلى المفوضيّة الفرنسية السامية في بيروت، فقد أوجد الكتاب غطاءً فكرياً مثالياً لسياساتها. (175)

[مناقشة ونقد]

لكنّ التصوير التاريخي لما اعتبره لامنس الهوية القومية المميّزة للشعب السوري جاء متناقضاً مع حقائقَ أساسيّة. فقد كان يصعب على أيٍّ كان الادعاء بأنّ أهلَ سورية، مهما يكن أمرهم في قديم الزمن، لم يكونوا عرباً تماماً بلغتهم وحضارتهم التقليدية في العصور الوسطى والأزمنة الحديثة، على الفروقات الثانوية التي كانت تميّزهم عن غيرهم من العرب. 

وبالإضافة إلى هذا فالقول بأنّ السوريين استعربوا بعد فتح العرب المسلمين لبلادهم لم يكن صحيحاً على الإطلاق، لأنّ وجود العرب في بلاد الشام ـ أي في ما يسمّى الآن بسورية الجغرافية ـ جاء سابقاً للإسلام بزمنٍ طويل، إذ كان معظم عرب الشام على المسيحية. 

ومن ناحيةٍ أخرى، فقد بدا للوهلة الأولى أنّ مفهوم لامنس للبنان كملاذٍ تاريخي لمضطهَدي سورية ـ خلافاً لمفهومه العام لسورية ـ لم يكن فيه شوائب تذكر. وقد قبل المسيحيون اللبنانيون فكرة "لبنان الملجأ" كما شرحها لامنس. وكذلك فعل مواطنوهم الشيعة والدروز الذين لم يجدوا تفسيراً تاريخيّاً آخر لحقيقة وجودهم في لبنان بهذه الكثافة. أما المسلمون السنّة، في لبنان وغيره، فقد صُعِقوا للفكرة القائلة بأنهم كانوا، تاريخيّاً، قد اضطهَدوا مختلف الجماعات المسيحية والإسلامية المنشقة التي هربت لتلجأ إلى جبال لبنان. ولكن كان يصعب عليهم إنكار الواقع بأنهم كانوا يشكّلون الأكثريّة الواضحة في مدن الساحل وفي مدن الداخل السوري وقراه، بينما كان جبل لبنان إضافةً إلى جواره المباشر مأهولاً بشكلٍ رئيسي بالأقليّات الدينية من المسيحيّين والمسلمين من غير السنّة. ولهذا، فقد بدت فكرة لبنان كملاذٍ جبليٍّ لجأتْ إليه هذه الأقليّاتُ في الأصل من الساحل والداخل مضطَهَدَةً من الأكثرية السنّية، فكرةً معقولةً حتى للسنّة أنفسهم، وإن لم تكن تشكّل ثناءً عليهم. وقد قبلوا بها في النهاية، ولكن بقدْرٍ من التحفّظ.

وما زالت فكرة "الملجأ اللبناني" كتفسيرٍ للأصول الاجتماعية والسياسية للبنان مقبولةً على وجه العموم إلى اليوم. ولكن لا بدّ من طرح سؤالين اثنين لتحديد مدى دقّتها التاريخيّة. فأولاً، ما مدى صحة القول بأن جبل لبنان وفّر ـ تاريخياً ـ ملجأً لجماعات مختلفة هاربة من الاستبداد السياسي والضطهاد الديني من قبل الأكثرية من المسلمين السنّة في أجزاءٍ أخرى من الشام؟ 

وثانياً، هل كان جبل لبنان في الأزمنة الإسلامية، على وعورة أراضيه، منيعاً حقاً على الحكم الإسلامي السنّي حتى صار له بالفعل أن يوفّر ملجأً آمناً لجماعاتٍ فضّلت ألا تعيش في ظلّ هذا الحكم؟

منذ أيام ابن القلاعي في أواخر القرن الخامس عشر والموارنة يردّدون القول بأنهم وصلوا إلى جبل لبنان، أوّل ما وصلوا، هاربين من اضطهادٍ إسلاميٍّ لا يُطاق في داخل الشام. مع أنّ أكبر مؤرّخيهم في القرن السابع عشر، وهو البطريرك الدويهي، يؤكّد أنّ الاضطهاد الذي أجبر الموارنة على هجر وادي العاصي في بلاد حماه والهرب إلى جبل لبنان إنما كان على أيدي البيزنطيين وليس الملسمين. وكل الدلائل المتوفّرة تشير إلى هذا الواقع. 

وكنا قد أثبتنا في فصلٍ سابق أنّ الاضطهاد البيزنطي الذي أخرج الموارنة نهائياً من وادي العاصي قد حصل في حوالي سنة 1000، عندما كان البيزنطيون يسيطرون عملياً على تلك المنطقة من الشام، وليس سنة 685، كما اعتقد الدويهي، عندما كانت السيطرة على كامل بلاد الشام في ظل الحكم الإسلامي لأكثر من ثلاثة قرون، حتى جاءهم البيزنطيون أخيراً فجعلوا بقاءهم في المنطقة أمراً مستحيلاً. وعندما هرب هؤلاء الموارنة من وادي العاصي ذهب بعضهم فاستقر مع من كان من الطائفة في حلب، فيما ذهب معظم الآخرين ليلتحقوا بمن كان من الموارنة أصلاً في جبل لبنان. وسعى هؤلاء وأولئك، في الحالتين، إلى ملجأٍ كان في الواقع تحت السيطرة الإسلامية، وليس تحت أية سيطرة أخرى.

وخلال القرن الحادي عشر لم يصل الدروز إلى جبال الشوف ووادي التيم هاربين من أيّ مكانٍ آخر، بل إنهم تحوّلوا إلى العقيدة الدرزية في الأرض التي كانوا فيها يعيشون. وكما أشرنا سابقاً، فإنّ المدوّنات الدرزيّة ما زالت تحفظ نص الرسالة المؤرَّخة في ما يقابل العام 1926 للميلاد، والموجّهة إلى أحد الزعماء الدروز المحليّين. وكان هذا قد قبِل العقيدة الدرزية سابقاً كما دعا إليها واضعوها في القاهرة دون أن يتحرك من مكانه. والواقع بالنسبة إلى الطائفة الدرزية أنّ أتباعها في شمال الشام تعرّضوا للاضطهاد في ذلك الزمن المبكر، ولكن لم يُعرَف عن أيّ درزيٍّ أنه هجر تلك المنطقة نتيجةً لذلك الاضطهاد باحثاً لنفسه عن ملجإٍ في لبنان. والهجرة الدرزية الوحيدة المعروفة من شمال الشام إلى لبنان حصلت في العام 1811، عندما شهد ريف الداخل الشامي غاراتٍ متكرّرةً على مختلف أرجائه من قبل فرقةِ الوهابيّة المنطلقة من وسط شبه جزيرة العرب. وقد دُعي دروز منطقة حلب آنذاك ـ وبسبب تعرّضهم للضغوط الوهّابية ـ إلى الجلاء عن هذه المنطقة والاستقرار بين أبناء مذهبهم في مناطق الشوف. وكان الذي وجّه إليهم هذه الدعوة هو بشير شهاب الثاني بناءً على طلبٍ من بشير جنبلاط الذي كان أكبر زعماء دروز الشوف في تلك الأيام.

وليس هناك أيُّ دليلٍ، مهما يكن نوعُه، على حصول أية هجرة جماعيّة للشيعة الاثنيّ عشرية أو للإسماعيلية أو للنصيريّة من أية منطقة إلى الأراضي التي هي اليوم أراضي لبنان. وعلى العكس من ذلك، وفيما يخص الإسماعيلية والنصيرية بالذات، فقد كان لكلتا الطائفتين تواجد ملحوظ أصلاً في بعض أجزاء لبنان الحالي، حيث لم يعد هناك أيّ أثرٍ لتواجدهم. وربما عنى ذلك أنّ الإسماعيلية والنصيريّة اضطهِدوا في زمنٍ ما في هذه المناطق نفسها، فهربوا منها إلى مناطق أخرى من الشام حيث يتواجدون اليوم. وفي زمن العثمانيّين، هجر بعض علماء الشيعة دمشق ليستقروا بين أبناء طائفتهم في جبل عامل، ولكن يصعب وصف ذلك بأنه كان هجرةً جماعية.

وعلى أثر قبول بعض المسيحيّين الملكيّين بالاتحاد مع روما في العام 1683 غادر الملكيّون المتّحدون، أي الروم الكاثوليك، منطقة حلب وأجزاءً أخرى من الداخل الشامي بحثاً عن ملجإٍ لهم بين موارنة لبنان ودروزه، ولكن الاضطهاد الذي تسبّب في هجرتهم في ذلك الوقت لم يأتِ على أيدي المسلمين المحلّيين، بل على أيدي زملائهم الملكيّين من الروم الأرثوذوكس. والأمر نفسه ينطبق على الأرمن الكاثوليك الذين اضطهدهم الأرمن الأرثوذوكس في كيليكية (وهي المنطقة المحيطة بخليج الإسكندرون) في شمال الشام، ومن تركيا حالياً، فبدأوا يسعَون إلى ملجإٍ لهم بين الموارنة في كسروان بعد أن تم اتحادهم مع روما في العام 1721.

 وكانت هنالك هجرة ملحوظة للمسيحيين الروم الأرثوذوكس من الداخل الشامي في مطلع القرن التاسع عشر، ليس إلى الإراضي التي هي اراضي لبنان الحالي فحسب، بل إلى فلسطين. وكان معظم المهاجرين قد انطلقوا من شرق الأردن ومن منطقة حوران، جنوب دمشق، ربما هرباً من الغارات الوهابية التي تسببت في هجرة الدروز من منطقة حلب في الوقت نفسه. ومن المؤكد أنه كانت هنالك هجرات مسيحية أخرى من أنحاءٍ مختلفة من الشام إلى لبنان بعد العام 1860، عندما اضطُهِد المسيحيون ولوحقوا في جميع أنحاء البلاد وحصلت مجزرة في دمشق أتت في يومٍ واحد على حوالي 12000 منهم. لكن لا بدّ من الملاحظة هنا أن العثمانيّين عاقبوا مرتكبي مجزرة دمشق بأقصى الشدة لكي لا يتكرّر مثلُها. فخلال ليلةٍ واحدة جرت محاكمةٌ سريعةٌ لأكثرَ من مائة شخصٍ اعتُبِروا مسؤولين عما حصل، وأعدِم هؤلاء شنقاً على الفور، وبينهم والي دمشق العثماني نفسُه وكبارُ ضبّاطه. وكذلك فقد حوكم كثيرون من أعيان دمشق المسلمين وسجنوا أو أرسلوا إلى المنفى، وذلك لأنهم لم يستخدموا نفوذهم الاجتماعي لوقف المجزرة. وبعد العام 1894، بدأ أرمن شرق آسيا الصغرى وكيليكية بالمجيء إلى لبنان بأعدادٍ كبيرة هرباً من المجازر التركية، وعاودوا الهرب بعد العام 1915. ولكن الكثيرين من الأرمن استقروا في أنحاءٍ مختلفةٍ من الشام، في غير لبنان، حيث شعروا بأمن مماثل بين السكان العرب المسلمين المحلّيين.

وفّرت أراضي لبنان الحالي في بعض الأحيان ملجأً لجماعات هاربة من الاضطهاد، مع أنّ هذا الاضطهاد لم يكن إسلامياً في حالاتٍ عديدة. وحتى عندما كان هذا الاضطهاد إسلامياً فإنه لم يرتكَب عادةً على أيدي المسلمين من عرب الشام. ومن بين الجماعات الطائفية الموجودة حاليّاً في لبنان، فإنّ الشيعة، والجزء الأكبر والرئيسي من الدروز، لم يصلوا إلى لبنان، في أيّ زمنٍ كان، هرباً من اضطهادٍ سنّي لحق بهم في مكانٍ آخر. وكذلك فإنّ أعداداً كبيرةً من الموارنة كانت تعيش فعلاً في شمال لبنان قبل زمن طويل من ملاحقة البيزنطيين لموارنة الداخل الشامي، وقد هرب هؤلاء من وادي العاصي بسبب الاضطهاد البيزنطي ـ لا الإسلامي ـ لهم للانضمام إلى الموارنة الآخرين في شمال لبنان. وهذا يفتح الثغرة الكبيرة الأولى في نظرية "لبنان الملجأ".

وهناك أرضيّةٌ أخرى تختلُّ عليها هذه النظرية. ذلك أنّ مفهوم "لبنان الملجأ" يفترض أساساً أنّ الدولة الإسلامية لم تنجح تاريخياً في فرض سيطرةٍ كاملة على الجبل اللبناني بسبب وعورته. لكن عندما يتم تفحص الحقائق تظهر للعين صورةٌ مختلفةٌ تماماً عن هذا الافتراض. فبدءاً من أيام الفتح العربي لم تكن السيطرة الإسلامية غائبة في أيّ وقت عن جبال لبنان إلا في زمن الفرنجة عندما اقتصرت هذه السيطرة على أراضي منطقة الغرب المطلّة على بيروت، كما لوحظ سابقاً. وكانت هناك مسالك حيوية بين الداخل والساحل من الشام تمرّ عبر المرتفعات اللبنانية الوعرة، من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب. وما كان لأيّ حكم إسلامي في البلاد أن يتجاهل الأهميّةَ الاستراتيجيةَ لهذه المسالك. وفي الأيام المبكرة للأمويين استقدم الخليفة معاوية (661ـ 680) عشائرَ فارسيّةً حديثةَ الإسلام من إيران لكيّ تستوطن في هضاب بعلبك وطرابلس، وكذلك في كسروان، للمساعدة في حراسة الممرات الجبليّة وطريق الساحل لحساب الدولة الإسلامية. ولا بدّ أن اسم كسروان نفسَه كان في الأصل اسماً لعشيرة من هؤلاء الفرس المستوطنين، علماً بأن "كسروان" هو الجمع بالفارسية لاسم العلم "خُسرو" وتعريبه "كسرى". وكان لامنس يعي أمر هذه الاستيطانات الفارسية في الأرض اللبنانية التي تعود إلى عهد الأمويّين. 

(من كتاب بيت بمنازل كثيرة؛ ص ص 170، 180)


ليست هناك تعليقات: