الأربعاء، 2 نوفمبر 2022

نظرية النيابة الملَكِيّة (عن تأثير الصفويّين في الفكر الشيعي)؛ أحمد الكاتب؛ عن كتاب "تطور الفكر السياسي الشيعي من الشورى إلى ولاية الفقيه.

 


نظرية النيابة الملَكِيّة

أحمد الكاتب

بينما كانت نظرية النيابة العامّة تنمو ببطء وبصورةٍ جزئية ومحدودة، على أيدي علماء الحلّة وجبل عامل، في القرن السابع والثامن الهجريّين، كان الواقع الشيعي السياسي يتطوّر بعيداً عن الفكر السياسي الإمامي حيث انفجرت ثورة السربدارية في نيسابور/ خراسان، وأقامت دولةً دامت خمسين عاماً، من سنة 738هـ إلى سنة 782 هـ، كما رأينا في الصفحات الماضية، كما قام الشيعة بتأسيس دولةٍ لهم في مازندران وخوزستان وجنوب العراق.

ثم انفجرت حركةٌ جديدة في تبريز على أيدي الصفويّين ـ وهم حركة صوفيّة تركمانيّة تحوّلت إلى التشيّع ـ بقيادة شابٍّ صغير لم يتجاوز الرابعة عشرة من عمره، اسمه إسماعيل بن صفيّ الدين بن حيدر، الذي أعلن قيام الدولة الصفوية في مطلع القرنالعاشر الهجري سنة 907هـ، في تبريز، وكان يعتبر قطباً في الحركة الصفويّة، وقد ورث هذا اللقب عن أبيه،كما كان شيخ تكيّة ويتمتّع بمنزلة روحيّة بين أتباعه، خاصّةً وأنه ينتمي إلى السلالة العلويّة؛ والانتماء إلى أهل البيت يحتلّ مكانةً مميّزةً عند الصوفية.

وبالرغم من التطوّرالكبير الذي كان قد حصل في نظرية النيابة العامة للفقهاء عن الإمام

المهدي في مجال الخمس والزكاة والحدود وصلاة الجمعة، إلا أنّها ـ حتى ذلك التاريخ ـ لم تكن قد تبلورت بعد كنظرية سياسية متكاملة، بديلة عن نظرية الإمامة الإلهية،ولازمتها الانتظار، بحيث تستطيع أن تبادر إلى تفجير الثورة وإقامة الدولة في عصر الغيبة وذلك لاشتراط العصمة والنص والسلالة العلوية الحسينيّة في الإمام (الرئيس)، وعدم جواز تولّي غير المعصوم لمقاليد السلطة في البلاد، حسب النظرية الإمامية القديمة... ومن هنا كانت نظرية الانتظار تفرض نفسها على الفقهاءالشيعة الإمامية الاثنيّ عشرية، وتشلّ حركتهم وتمنعهم من العمل والتحرّك السياسي.

وعندما أراد الصفويّون التحرّك العسكري لإقامة دولةٍ خاصّةٍ بهم، وجدوا نظرية الانتظار غير معقولة ولا واقعيّة، وتشكل حجر عثرةٍ أمام طموحهم وتحرّكهم. وبالرغم من أنهم كانوا، منذ فترة، قد أعلنوا التمسّك بالمذهب الإمامي الاثنيّ عشري، إلا أنهم في الحقيقة لم يستوعبوا نظرية الإمامة الإلهية التي تشترط العصمة والنصّ في الإمام، وحوّلوها إلى نظريّةٍ تاريخية، ورفضوها عملياً، حيث أجازوا لزعمائهم، وهم غير معصومين ولا منصوصٍ عليهم من الله، أن يستولوا على الملك، ويقوموا بمهامّ الإمامة تماماً كما فعل الأمويّون والعبّاسيّون والعثمانيّون، ولم يصعب عليهم الالتفاف على نظرية الانتظار وتجاوزها.

واختلفت تجربة الدولة الصفويّة في مرحلتها الأولى، أيّام الشاه إسماعيل بن صفيّ الدين، عن التجارب السياسيّة الشيعيّة السابقة، كالدولة البويهيّة والسربدارية والمرعشية والمشعشعيّة، في أنّ هذه التجارب كانت دولاً سياسيّةً بحتة، أي غير إيديولوجية، بينما حاولت الدلدولة الصفويّة تقديم نفسها كدولةٍ عقائديّة، ومرتبطة بالأئمّة الاثنيّ عشر بصورةٍ روحيّة غيبيّة. وكانت تشكّل تطوّراً انقلابيّاً في الفكر السياسي الشيعي، نقل الشيعةَ من نظرية الانتظار السلبيّة الانعزاليّة إلى سدّة الحكم والسلطنة.

وقد طوّر الشاه إسماعيل، أو تطوّر على يديه، فكرٌ سياسيٌّ جديد حاول الالتفاف على فكر التقيّة والانتظار، فادّعى ذات يومٍ أنّه أخذ إجازةً من صاحب الزمان، المهدي المنتظر، بالثورة والخروج ضد أمراء التركمان الذين كانوا يحكمون إيران، وبينما كان ذات يوم مع مجموعةٍ من رفقائه الصوفية خارجين للصيد في منطقة تبريز، مرّوا بنهرٍ، فطالبهم بالتوقّف عنده وعبر هو النهرَ بمفرده ودخل كهفاً، ثم خرج متقلّداً بسيف، وأخبر رفقاءه أنّه شاهد في الكهف صاحب الزمان وأنه قال له: "لقد حان وقت الخروج"، وأنه أمسك ظهره ورفعه ثلاث مرّات ووضعه على الأرض وشدّ حزامه بيده ووضع خنجراً في حزامه وقال له: "اذهب فقد رخّصتك".

وادّعى بعد ذلك أنه شاهد الإمام عليَّ بن أبي طالب في المنام، وأنّه حثّه على القيام وإعلان الدولة الشيعيّة، وقال له بالحرف الواحد: "ابني.. لا تدع القلق يشوّش أفكارك.. أحضِر القزلباشيّة، وهم من ميليشيا الصوفية، مع أسلحتهم الكاملة إلى المسجد (في تبريز) وأْمرهم أن يحاصروا الناس... وإذا أبدى هؤلاء أيّة معارضة أثناء الخطبة باسم أهل البيت فإنّ الجنود ينهود الأمر".

وهكذا فعل الشابّ إسماعيل بين صفيّ الدين، (قطب الصوفيّة)، حيث أحضر القزلباشيّة وحاصر جامع تبريز ذات جمعة، وأعلن سيادة المذهب الإماميّ الاثنيّ عشريّ وقيام الدولة

الصفوية، وذلك بناءً على دعويَين، دعوى الوكالة الخاصّة عن الإمام المهديّ، ودعوى رؤية الإمام عليٍّ في المنام.

وقد أتاحت له هاتان الدعويان للحركة الصوفية الصفويّة أن تتحرّر من نظرية التقيّة والانتظار، وتأسيس الدولة الصفويّة الشيعيّة الاثنيّ عشريّة.

يقول راجر سيوري في كتابه "إيران في العصر الصفوي": "اعتمد الصفويّون على فكرة الحق الإلهي للملوك الإيرانيّين قبل الإسلام، منذ سبعة آلاف سنة، وذلك بوراثة هذا الحق باعتبارهم "سادة" وأنّ جدّهم الإمام الحسين بن عليّ قد تزوّج بنت يزدجرد فأولدها الإمام زين العابدين، فاجتمع الحقّان، حق أهل البيت في الخلافة، (حسب النظرية الإمامية)، وحقّ الملوك الإيرانيّين فيهم، بالإضافة إلى نيابة الإمام المهديّ".

وبناءً على ذلك، فقد كان الشاه إسماعيل يعتبر نفسه "نائب الله وخليفة الرسول والأئمة الاثنيّ عشر، وممثّل الإمام المهديّ في غيبته". وكان جنود القزلباش الصوفيّة يعتقدون أنه تجسيد لله.

وتقول بعض الروايات الصوفيّة إنّ أحد شيوخ الصوفيّة، وهو الشيخ زاهد الكيلاني، قد تنبّأ من قبلُ بظهور الشاه إسماعيل، وقال لجدّه صفيّ الدين الذي زوّجه ابنته: "السلام عليك يا ولدي سيّد صدر الدين، مشيراً بذلك إلى حفيده الذي ادّعى أنه قد رآه قبل أن يولد، وأعطى علائمه وتنبّأ قائلاً: "إنّ أولاد هذا الزعيم سيملكون العالم، ويترَقَّوْن يوماً بعد يوم إلى زمان القائم المهديّ المنتظَر".

وقد انتشرت هذه العقدةُ الغيبيّةُ بين الصفويّين الذين أقاموا الدولة الصفويّة، واعتقدوا أنها ستدوم حتى ظهور المهديّ المنتظر، محمّد بن الحسن العسكري؛ ولكنّها اهتزّت بعد هزيمة الشاه إسماعيل في موقعة جالدران مع السلطان العثماني سليمان القانونيّ عام 920 هـ / 1512م، حيث بدأ القزلباش بتخلَّوْن عن الاعتقاد الغالي به أنّه موجودٌ إلهيٌّ أو نصفُ إلهيّ، أو أنه ظل الله في الأرض، ويخرجون على سلطته ويتقاتلون فيما بينهم.

وقد ساعدت الأرضيّة الصوفيّة للحركة الصفويّة الشاه إسماعيل على ادّعاء الكشف والارتباط الشخصيّ بالأئمّة المعصومين، وأخذ التعليمات المباشرة منهم، وهو ما أعطاه سلطةً دينيّة ودنيويّة مطلقة.

وبالرغم من حدوث تطوّرات فكريّة سياسيّة عديدة، فقد ظلّت نظريّة الدولة الصفويّة الأولى، (نيابة السلاطين عن المهديّ) حاكمةً، بشكلٍ أو بآخر، إلى وقتٍ طويل. وامتدّت حتى ما بعد انهيار الدولة الصفويّة...

ويذكر المؤرّخون أنّ الميرزا عبد الحسين ملاّ باشي، (رئيس العلماء أيّام نارد شاه)، قد عارض هذا الأخير الذي جاء بعد انقراض الدولة الصفويّة وقال: "إن الشرعيّة مع السلالة الصفوية المتمثّلة في طهماسب ميرزا أو ولده عبّاس ميرزا فقتله نادر شاه".

وقد قامت بعض الحكومات اللاحقة في إيران باسم الصفويّين، ولم يعلن كريم خان زند الذي سيطر على إيران، نفسَه ملكاً على البلاد، بل "صغيراً من آل الصفوي" وحاول القاجاريّون البحث عن رابط دمويّ مع عائلة الصفويّة، وأراد الشاه الأول في تلك السلالة، فتح علي شاه، أن يعلن نفسه شاهاً صفوياً لرابطة القرابة معهم، ولكنّ رؤساء القاجار منعوه.

ومن الجدير بالذكر أن الملوك الصفويّين لم يكونوا يلتزمون بصورةٍ عامّة، ما عدا بعضِهم بالشريعة الإسلامية، وأحكام الدين الحنيف، فكانوا يشربون الخمر ويمارسون التعذيب والقتل العشوائي، ويرتكبون المحرّمات كما يحلو لهم، وكان حكمهم لا يختلف عن أيّ حكمٍ ديكتاتوريّ طغيانيّ فاسد.

وقد غطّت الدولة الصفوية على تناقضها الكبير هذا، وانقلابها على التشيّع، بجملة طقوس وشعاراتٍ متطرّفة أساءت إلى الشيعة والتشيّع عبر التاريخ.. كسَبّ الخلفاء الثلاثة على المنابر وفي الشوارع، وهو منهج مناقضٌ لسيرة أهل البيت وأخلاق الشيعة الجعفرية، وإقحام الشهادة الثالثة، (أشهد أنّ عليّاً وليُّ الله)، في الآذان، وهو عملٌ كان بعض المتطرّفين الغلاة في القرن الرابع الهجري قد حاول تنفيذه، ولكنّ العلماء الشيعة الإمامية رفضوه بشدّة، واعتبروه بدعةً محرّمة، كما يقول الشيخ الصدّوق في كتابه "من لا يحضره الفقيه". وكذلك التطرّف في إحياء الشعائر الحسينيّة من العزاء واللطز والأعلام والأبواق وصنع التربة للسجود في الصلاة.

وكان أسوأ عملٍ قام به الصفويّون، هو إجبار الناس على التحوّل بالقوّة إلى المذهب الاثنيّ عشريّ، وقتل الألوف من الناس والعلماء من المذاهب الأخرى.. الأمر الذي أدّى إلى ردّة فعلٍ عنيفة من قِبل الدولة العثمانية، وإبادة الكثير من الشيعة هنا وهناك، والتسبّب في تمزيق الوحدة الإسلامية، وزرع الأحقاد الطائفيّة بين الشيعة والسنّة، منذ ذلك الحين إلى اليوم.

لقد كان التشيّع قبلئذٍ منهجاً ثوريّاً، ونظريّة سياسيّة تختلف مع الآخرين حول النظام الدستوري للمسلمين، وإن الخلافة بالشورى أو بالوراثة لهذا البيت الهاشمي أو ذاك..

ولم يكن التشيّع أبداً فكراً طائفيّاً يعادي أبناء الأمّة، أو يشكّل دائرةً منعزلةً ضيّقة في مقابل دائرة الأمة الإسلامية الواسعة، بل كان تيّاراً سياسيّاً فقهيّاً في قلب الأمّة، فجاء الصفويّون وجرّدوا التشيّع من روحه الحسينيّة الجعفريّة، ومسخوه إلى عقدةٍ طائفيّة مستعصيةٍ ومعاديةٍ للمسلمين.

وكان الصفويّون بعد ذلك أبعد الناس عن أخلاق أهل البيت في الزهد والحلم والتواضع، إذ كانوا يتصارعون فيما بينهم ويقتل بعضُهم بعضاً من أجل السلطة.. وكان كثيرٌ من ملوكِهم يقتلون أولادهم وإخوانَهم وأرحامَهم، ويقتلعون عيونهم، ويمثّلون بهم في صراعهم من أجل السلطة، وفي الحقيقة كانوا أسوأ من الأمويّين والعبّاسيّين والحكّام الظلمة الذين سبقوهم أو لحقوهم.

ولا زال الشيعة، إلى اليوم يدفعون ثمن سياساتهم الخاطئة، ويعانون من البدع التي أدخلوها في الثقافة الشيعية الشعبيّة.

ولسنا بصدد دراسة تاريخ الصفويّين.. وإنما أردنا الإشارة إلى دور الحركة الصفويّة في تطوّر الفكر السياسي الشيعي، والقول بأنّ بروز التجربة الصفويّة كان نتيجة الفراغ السياسي الذي كان يهيمن على الشيعة في ظلّ نظرية الانتظار السلبية الانعزاليّة، في تلك الأيام، واستغلال الشاه إسماعيل لنظريّة الإمام المهدي الغائب، في أخذ الشرعيّة لنظامه الاستبداديّ المطلق المناقض لروح التشيّع.

فعندما يجمد الفكر ويتحجّرالعلماء، وينامون على أفكارٍ خاطئة، كنظرية الانتظار، فإنه لا بدّ أن يأتي من يرفض تلك الأفكار، وإذا لم يجد أمامه الفكر السليم، فإنه قد يلجأ إلى إنتاج أفكارٍ خاطئةٍ أخرى، قد تكون أشدّ خطورةً من الأفكار السابقة.. وهكذا كانت الإيديولوجية الصفويّة أشدّ خطورةً من نظريّة الانتظار.

بالرغم من كلّ ذلك، فقد استهوت التجربة الصفويّة، في بدايتها، الشيعة المضطهَدين في العراق وجبل عامل والبحرين، وذهبالعلماء بالخصوص، ليدعموا تأسيس الدولة "الشيعيّة" الوليدة. وعندما شاهدوا الواقع الصفويّ السلطويّ الظالم والمخادع، انكفأ بعضُهم راجعاً إلى النجف وأنكر على الشاه إسماعيل دعاوى النيابة الخاصّة عن الإمام المهدي. (379)

 

 

 


الاثنين، 31 أكتوبر 2022

الأساطير القومية؛ (فصل من كتاب "لماذا يكذب القادة؟") جون جي. ميرشيمر؛ ترجمة عادل النجّار.

 

 


الأساطير القومية

(فصل من كتاب "لماذا يكذب القادة؟")

جون جي. ميرشيمر

ترجمة عادل النجّار

 

مع ظهور القومية الوطنية في القرنين الماضيين، سَعَت عرقيّاتٌ ومجموعةُ قوميّاتٍ وطنيةٍ عديدةٍ حولَ العالمِ نحو تأسيس دُولِها. التي عُرِفت بـ "الدول القومية". وفي أثناء عملية البناء هذه، حاولَتْ كلُّ مجموعةٍ أن تخلقَ أساطيرَها الخاصةَ المقدّسةَ عن ماضيها، تصوّرها بشكل أفضل، وتصوّر خصومها من المجموعات القومية الأخرى بصورةٍ سلبية. وقد كتب أستاذ العلوم السياسية بجامعة MIT الأميركية، ستيفن فان إفيرا، أنّ هذه الأساطيرَ الشوفينيةَ "تأتي في أشكالٍ ثلاثة: تقديسُ الذات، تنقيتُها من الأخطاء، والإضرارُ بالآخر". ويتطلب اختراعُ هذه الأساطير ونشرُها على نطاق واسع حول العالم الكذبَ في الوقائعِ التاريخية أو الأحداثِ السياسية المعاصرة. "الغلطة التاريخية"، كما وصفها المنظّر السياسي الفرنسي أرنست رينان، تشكّل "عنصراً مهمّاً في صناعة الدولة".

لماذا صنعَت النخبةُ الأسطورةَ القوميّة؟

تتحمّل النخبة التي تسيطر على مسارات التفكير في دولةٍ ما مسؤوليةً كبيرة عن خلق هذه الأساطير، وهم يفعلون ذلك لسببين أساسيّين. تساعد هذه القصص الكاذبة في تعضيد التضامن الجماعي؛ وكذلك تساعد في خلق شعورٍ قويٍّ بالوطنيّة. وهو عنصر أساس في بناء الدولة والمحافظة عليها. وعلة وجه الخصوص، فإن هذه القصص الخيالية تضفي على المجموعة العرقية أو القومية الإحساس بالانتماء إلى مشروعٍ نبيل، الذي لا يستدعي الفخر به فحسب، بل يستحقّ تحمّل المصاعب لأجله، والقتال والموت في سبيله إن استدعى الأمر. تظهر هذه الحاجة إلى إبراز الجوانب الإيجابية لأمةٍ ما في القانون الذي أقرّتهالحكومةُ الفرنسية في فبراير 2005، واذي ألزم اكتب امقررات التاريخ في مدارسِ الثانوية العامة بإبراز الجوانب الإيجابية في التاريخ الاستعماري الفرنسي.

بيد أنه من المهمّ الإشارة إلى أن خلقَ الأساطير القوميّة ليس مجرّد تأليفِ بعضِ النخب قصصاً مختلَقَةً وتمريرها إلى جماهيرهم. فالحقيقة هي أنّ الناس العاديّين يكونون عطشى لتلك الأساطير؛ فهم في حاجةٍ إلى سماعِ قصصٍ وحكاياتٍ عن الماضي، تُصَوِّرُهُم بأنهم أخيارٌ ذوو قبعات بيضاء، بمواجهة القوميّات الأخرى ذوي القبّعات السوداء. وبالتالي، فإنّ خلقَ الأساطير القوميّة هو فعلٌ مدفوعٌ من الأدنى كما هو مدفوعٌ كذلك من الأعلى.

يخلقُ أفرادُ النخبةِ الأساطيرَ القوميّةَ أيضاً لاكتساب مشروعيّةٍ دوليّة والعائد من وراء هذا قليل، لأنه من الصعب جرّ الغرباء والأجانب إلى قصص تتعارض مع الروايات الموضوعيّة للأحداي التاريخية. ومع ذلك، فهناك استثناءات لتلك القاعدة. فقد يتمكن القادةُ من "بيعِ" أساطيرِهم القوميّة لحليفٍ لصيقٍ تكون له عادةً مصلحةٌ في قبولها وتصديقها. ففي بداية الحرب العالمية الثانية، على سبيل المثال، خلقت النخبة الألمانية أسطورةَ أن جيشهم ـ الفيرماخت ـ لم تكن له أيُّ علاقةٍ بقتل المدنيّين الأبرياء على الجبهة الشرقيّة خلال تلك الحرب الوحشية. وقد قيل حينها إن جهاز الاستخبارات إس إس ـ الذي يمثّل فئةً صغيرةً من الشعب الألماني ويرتبط بهتلر بصورةٍ مباشرة ـ هو المسؤول عن تلك الأعمال المرعبة. فالجيش الألماني، استناداً إلى هذه الرواية، كانت يداه نظيفتَين.

لقد "بلعَت" الولايات المتحدة هذه القصّة الكاذبة خلال السنوات الأولى من الحرب الباردة، حين كانت تعمل بشكلٍ لصيقٍ مع نازيّين سابقين، ومتعاونين مع النازيّين، ومنتسبين سابقين إلى الجيش الألماني، وأيضاً لأنها كانت تعمل على إعادة تأهيل الجيش الألماني، وجعلِه جزءاً لا يتجزّأ من حلف شمال الأطلسي. فلم يكن إذاً مستغرباً، كما يذكر كريستوفر سمبسون في كتابه عن تجنيد واشنطن للنازيّين بعد الحرب العالمية الثانية، أن "تترك مراجعة أكثر كتب التاريخ انتشاراً في الغرب عن الحرب، مع استثناءاتٍ بسيطة، انطباعاً قويّاً بأن كل الوحشيّة التي تمّت في محارق النازيّة كانت مسؤولية جهاز إس إس، وليس كل الجهاز أيضاً. غير أنه وفي أواخر الستينيات، بدأ الباحثون الألمان في كشف النقاب عن القصة الحقيقية،وهي أن الجيش الألماني كان جزءاً لا يتجزّأ من آلة القتل الألمانية التي تسبّبت في كلّ هذا الدمار البشري خلال الحرب العالمية الثانية. ولكن آنذاك، كان كلٌّ من الجيش الألماني الجديد "البونديزفير" والناتو قد تأسسا بالفعل، فلم يعد تقبّل حقيقة ما حصل على الجبهة الشرقية بين العامي 1939 و1945 يمثّل مشكلةً سياسيّةً كبيرة للولايات المتحدة.

كذلك يحدث أحياناً أن تُصدِرَ دولةٌ لديها جاليات مؤثرة وذات نفوذ قويّ في الشتات الأساطيرَ القوميةَ لجالياته في الخارج. وأحسن مثال لهذه الظاهرة هو إسرائيل والجالية اليهودية في أمريكا. فلم يكن للصهاينة أن يؤسسوا دولةً يهوديّةً في فلسطين من دون إبادةٍ عرقيّةٍ واسعة لسكانها العرب الموجودين هناك منذ قرون. وقد أدرك قادةُ الصهاينةِهذه النقطة على نطاقٍ واسع قبل تأسيس الدولة الإسرائيلية. وجاءت الفرصةُ المؤاتية لطرد الفلسطينيين في أوائل العام 1948، عندما نشبت الحربُ بين الفلسطينيّين والصهاينة بعد قرار الأمم المتّحدة تقسيم فلسطين إلى دولتَين. أجلى الصهاينة عرقياً نحو سبعمائة ألف فلسطيني من أرضهم التي أصبحت لاحقاً إسرائيل، ورفضوا بإصرار السماح لهم بالعودة إلى منازلِهم حتى بعد أن توقّفت الحرب. وبالطبع، هذه قصّةٌ تضع إسرائيلَ في دور المعتدي، مما يجعل من الصعب على هذه الدولةِ الناشئةِ أن تكسب الأصدقاء وتخلقَ أثراً في العالم، وعلى الأخص في الولايات المتحدة.

ولهذا لم يكن مستغرَباً أن تبذِل إسرائيل وأصدقاؤها الأميركيّون جهوداً مضنيَةً بعد أحداث العام 1948 لتوجيه اللوم في عملية طرد الفلسطينيّين إلى الضحايا أنفسِهم. واستناداً إلى الأسطورة التي جرى اختراعُها وتأليفُها، فإن الفلسطينيّين لم يجرِ "تطهيرهُم عرقيّاً" من قِبل الصهاينة، ولكنهم، كما قيل، فرّوا من منازلِهم لأنّ الدولَ العربية المحيطة بهم طلبت منهم المغادرة، حتى تتمكّن جيوشُها من الدخول وإلقاء اليهود في البحر. ومن ثَمّ يعود الفلسطينيّون إلى منازلهم بعد أن يجري "تطهيرُها" من اليهود. هذه القصّة لم يتمّ ترويجُها وقبولُها بشكلٍ واسعٍ في إسرائيل فحسب، ولكن في الولايات المتّحدة كذلك على مدى ما يقرب من الأربعة عقود، وقد أدّت دوراً أساسياً في إقناع الكثير من الأميريكيّين برؤية إسرائيل بصورةٍ إيجابية والتعاطف معها في صراعها المستمرّ مع الفلسطينيّين. غير أنّ باحثين إسرائيليّين، وآخرين، فكّكوا أوهام تلك الأسطورة، وغيرها من الأساطير، على مدى العقدين الماضيَين، وبدأ التاريخ الجديد  للحكاية يظهر ببطء في سياق المنطق الأميركي تجاه الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني، بطرق جعلت بعض الأميريكيّين أقلّ تعاطفاً مع ماضي إسرايل وسلوكِها تجاه الفلسطينيّين.

عندما تعمل النخبة على صناعة الأساطير القومية:

تعتزّ الأمم بشكلٍ مستمرٍّ بأساطيرِها الأساسيّة، لأنّ أغلب أفرادِها يحتاجون إلى مثلِ هذه القصص لتعزّز فيهم الإحساس بالهوّية، ولأنها تقوّي من التضامن المجتمعي. وعليه، فإننا نستطيع القول إنّ عمليّةَ صناعة الأساطير القوميّة هي عمليّة مستمرّة طوال الوقت. وبالطبع، تحتج تلك القصص إلى تحديثٍ من فترةٍ إلى فترة، مع ظهور معلوماتٍجديدة عن الماضي تستلزم خلقَ اساطيرٍ جديدة للتعامل مع المرال الجديدة في تاريخ الأمة. ولذا، يمكن للفرد أن يتوقّع احتدام إطلاقِ الأكاذيب القوميّة في بداية الحروب، وفي الأحداث عالية التأثير قوميّاً، والتي تتضمّن النزاعات الحادّة حول سلوك الدولة محلّ الخلاف، والتي بدورِها يمكن أن تحيِي صراعاتٍ قديمةً اندثرت في زمن مضى. وفي مثل هذه الأحوال، تعمل النخبة ليلاً ونهاراً لإظهار امّتها في أبهى صورةٍ ممكنة، وتظهر الأمم المنافسة في أبشع صوره.

يمكننا كذلك أن نتوقّع أن تصبح صناعةُ الأساطير القوميّة في أعلى حالاتِها عندما يكون هناك خلافٌ حادٌّ بشأن قضايا تتعلّق بنشأةِ الدولة. ترتبط شرعية الدولة بالظروف والملابسات التي أحاطت بولادتها، وأغلب الناس لا يريدون الاعتراف بأن ولادة دولهم جاءت من رحم الخطيئة. فمقدار الأكاذيب التي تُطلَق في هذه الأحوال يعتمد على عاملين: حجم القسوة والوحشية التي صاحبت إنشاء تلك الدولة، ومدى حداثتِها.

وبالتحديد، فكلما كانت ظروف إنشاء الدولة قاسيةً وعنيفةً، كان هناك مزيد من السلوك المشين الذي يتطلّب إخفاءه، وبالتالي تزداد حاجةُ النخبة إلى الكذب بشأن ما جرى فعلاً وقتَ إنشائها. وتعدّ أساطير "تلميع الذات"، كما لاحظ إفيرا، أكثر أنواع الكذبات القوميّة الثلاث. كلما كانت الأحداث حديثةَ الوقوع، كان الناس على الأطراف المختلفة من النزاع يتذكّرونها ويتأثرون بها أكثر. باختصار، عندما يكون إنشاء الدولة حديثاً وقاسياً، فعلى النخبة أن تكدّ وتجتهد أكثر لتلفّق قصّةً تصوّرُهم كأنّهم فرسانٌ نبلاء، وتصوّر الجانب الآخر بأنهم شياطين. على سبيل المثال،انظر إلى الخمس عشرة دولة التي ظهرت على إثر تفكك الاتحاد السوفييتي السابق بطريقة سلميّة. لم يكن للنخبة في هذه الدول حاجةٌ إلى تلفيق قصص عن كيفية ظهور هذه الدول إلى حيّز الوجود في العام 1991، لأن تفكك الاتحاد السوفييتي كان سلمِيّاً. (بالطبع، هناك دوافعُ قويّةٌ لتلك الدول للكذب عن نواحٍ أخرى في تاريخها الطويل، وهم يفعلون ذلك على أيّ حال). على العكس من حالةِ تلك الدول، نجد إنشاء إسرائيل والولايات المتحدة، وكلتاهما قد تورّطت في جرائمَ خطيرةٍ ضدّ البشر الذين كانوا يعيشون في تلك الأراضي التي احتُلّت وأصبحت تحت الاستعمار. ليس من المستَغرَب أن تبذل إسرائيل وأمريكا جهوداً مضنيةً لتصوير ذلك التاريخ بأنه مشرق بدلاً من سرد الوقائع بكل ما فيها من قسوة. ولكن هذا لم يعد أمراً مقلقاً بالنسبة إلى الولايات المتحدة في الوقت الحاضر، لأن الأحداث الخلافية حصلت في زمنٍ بعيد، فهي تبدو كالتاريخ المندثر. أما إنشاء إسرائيل، في المقابل، فهو وجودٌ حديث، وقضيّة إنشائها تعدّ موضوعاً حالياً ومثيراً للجدل، ليس لما للفلسطينيّين من صوتٍ عالٍ ومسموعٍ فحسب، ولكن لأنّ عدداً قليلاً من المباحثين (ومعظمهم من الإسرائيليّين أنفسهم) قد تحدَّوْا هذه الأساطير. وكما هو متوقَّع، فلم يغيّر معظم الإسرائيليّين، وأنصارُهم من الأميركيّين، وجهة نظرهم تجاه نشأة إسرائيل، بل هم يضاعفون جهودَهم المضنية لتسويق تلك الأساطير. (94)

 

ن كتاب "لماذا يكذب القادة؟"؛ سلسلة عالم المعرفة، ديسمبر 2016)

 

تعريف بالمؤلِّف: جون جي. ميرشيمر

يعَدّ البروفيسور ميرشيمر، أستاذُ العلوم السياسية في جامعة شيكاغو الأميريكية، أحد أبرز الباحثين الأميركيّين في السياسة الخارجية، وله عدّة كتب منها: "مأساة السياسة في الدولة العظمى"، و"اللوبي الإسرائيلي وسياسة أمريكا الخارجية"، والذي تُرجِم إلى أكثر من 19 لغة، وأثار جدلاً واسعاً لموضوعيّته في بحث مسألة حسّاسة مثل العلاقات الأميركيّة ـ الإسرائيليّة، وربما كان هو الذي دفع اللوبي الإسرائيلي إلى إصدار كتابٍ مضادّ بعنوان "اللوبي العربي".

 


الاثنين، 8 أغسطس 2022

من مقدمة طه حسين لترجمة فاوست

 


من مقدمة طه حسين لترجمة فاوست (ترجمة محمد عوض محمد)

 

هل أنا في حاجة إلى أن أتحدّثَ إليك عن غوته وفاوست بعد أن تحدثتُ إليك عن مترجِمه؟ وهل تظن أني أفيكَ شيئاً كثيراً من العلم إن قلتُ لك إنّ غوته ولد سنة 1749 ومات سنة 1832 ثم قصصتُ عليك في إيجاز بالطبع ما تعوّد المترجمون أن يقصّوه من حياة هذا الشاعر الفيلسوف؟ ألستَ تستطيع أن تظفر بهذا في دوائر المعارف على اختلافها؟ وأنت لا تطمع مني في أن أدرس لك هنا حياة غوته درساً مفصّلاً. فأنا أرجو أن شوقَك إلى قراءة فوست في اللغة العربية أشد من أن يدعك تقرأ حياةً مفصّلة لمؤلفه الآن، ولكن كلمة عن فاوست نفسه شيء لا بدّ منه قبل أن تبدأ في قراءة هذه القصة الغريبة التي أثّرت في الحياة الأدبية والفنية لهذا العصر الحديث آثاراً بعيدةً لم تبلغ أمدها بعد ويظهر أنها لن تبلغ أمدها قبل وقت طويل.

فالقصة قد تُرجِمت إلى اللغات الأوروبية كلها وقد فسِّرت وشُرِحت من أنحاء مختلفة وقد مثلت في الملاعب وغنّيَت في دور الموسيقى. لحّنها كبار الموسيقيين في أوروبا المتحضّرة ثم انبسطت أشعتُها حتى غمرت الآثار الأدبية المختلفة وتجاوزتها إلى الفلسفة فليس هنكا أديب من أدباء القرن الماضي ولا من أدباء هذا العصر إلا تأثّر بفاوست وليس هناك فيلسوف إلا تأثر بفاوست قليلاً أو كثيراً في فلسفته ولا سيما بفاوست الثاني الذي هو إلى الفلسفة أقربُ منه إلى الأدب والبيان.

وقد نحب أن نتعرّف تاريخ فاوست فنجد في ذلك شيئاً من المشقّة والصعوبة، ذلك أنّ هذه القصة لم تكتب كما كتِب غيرُها من القصص التمثيلية التي أنشأها غوته. وإنما استغرقت كتابة فاوست الأول أكثر من الحياة العاملة للشاعر الفيلسوف. بدأها شاباً ثم انصرف عنها راضياً أو كارهاً، ثم كان يعود إليها فيضيف جزءاً طويلاً أو قصيراً. وظل كذلك حتى أتمها أو خيّل إليه أنه أتمّها في أوائل القرن الماضي. ثم انصرف عنها حيناً؛ ورجع إليها فكتب فاوست الثاني. والذي ينظر في هذه القصة يلاحظ شيئاً ظاهراً من التفكك والتفرّق والبعد عن الوحدة الفنّية ويحس إحساساً قوياً بأن الكاتب لم يفرغ لها وقتاً بعينه ولم يرسم لها حدوداً معيّنة وإنما أنشأها على النحو الذي أشرنا إليه.. ولكنه مع هذا، حين يقرأ القصة ويمعن فيها التفكير يشعر بهذه الوحدة الفنّية الفكرية قويةً أشدّ القوّة، واضحةً أشدّ الوضوح، فالشاعر لم يضع قصّة تمثيليةً وإنما وضع حواراً فنّياً فلسفياً، فهو إذاً غير مقيّد بالوحدة التمثيلية ولكنه مقيّد بالوحدة الفكرية الفلسفية، وقد وفق إلى هذه الوحدة توفيقاً غريباً.

كتب هذه القصة في أكثر من ثلث قرن ولكنك لا تجد فيها ضعفاً ولا اضطراباً ولا اختلافاً وإنما تقرأ فكأنك تقرأ لكتاتب قد فرغ لموضوعه فأتقنه وأحسن تصويره وتأديته.

المصدر الظاهر لهذه القصة هي أسطورة الدكتور فاوست التي كانت شائعةً في أواخر القرون الوسطى وأوائل العصر الحديث والتي تناولها بعض الكتّاب الإنكليز والألمان فكتبوا فيها كتباً مختلفةً بل وضغوها وضعاً تمثيلياً. ولكن لهذه القصة مصادرُ أخرى فلم تكن أسطورة الدكتور فاوست إلا قالباً صُبَّت فيه فكرةٌ أدبية فلسفية راقيةٌ، فهل من الحق أن غوته لم يتأثر بما سبقة إليه فولتير من السخرية اللاذعة في خفة وظرف بكل شيءٍ في هذا العالم؟

هل من الحقّ أنه لم يتأثر بما أثار ليبنتس من خصومة عنيفة بين أنصار الخير والشر حين أعلن نظريته التي لا يمكن أن تصاغ في أحسن من الصيغة الإسلامية المعروفة "ليس في الإمكان أبدع مما كان"؟

ظهرت هذه النظرية في القرن السابع عشر فاختصم حولها الفلاسفة في هذا القرن نفسِه وفي القرن الثامن عشر. ووضع فولتير قصة "كانديد" ساخراً من هذا المذهب، هادماً له مقارناً بين الخير والشر، مصوِّراً لما بينهما من الجهاد العنيف، والصراع المنكر، في حياة الناس ووجود الأشياء، وانتهى فولتير إلى نتيجته المشهورة "ليعش كلٌ منا بحديقته" مؤثراً تسليم التر ك وإذعانهم للقضاء، على فلسفة الفلاسفة ومحاولتهم فهم أسرارها. كتب فولتير قصته هذه إبان القرن الثامن عشر قبل أن يبدأ غوته في كتابة فاوست بوقت غير طويل، وكان غوته مشغوفاً بفولتير كثير القراءة له والنظر فيه، كما كان الألمانيون جميعاً مشغوفين بالآداب الفرنسية في ذلك العصر، وكما أني لا أشك في أنّ هناك شبهاً قوياً بين "آلام فرتر" وكثير من الآثار الأدبية لجان جاك روسّو، فلست أشكّ في أنّ هناك شبهاً قوياً بين فاوست وبين كثير من الآثار الأدبية لفولتير، وربما كان من الحق الذي لا شك فيه أن غوته إنما هو استمرار لسخرية فولتير، ولكن فولتير كان يسخر في ظرف وخفّة ورشاقة كما يسخر الفرنسيون، بينما كان غوته يسخر في مرارةٍ وعنفٍ وجِدٍ كما يستطيع أن يسخر الألمان؛ ولم يكن فولتير يبتغي شيئاً وراء الشك والسخرية، وكان غوته يبتغي مثلاً أعلى وراء شكّه وسخريته، ولم يكن فولتير يتناول بسخريته شيئاً دون شيء، ولم يكن يعفي الحياة المعاصرة له من السخرية وكذلك كان غوته؛ سخر من كل شيء وأذاق معاصريه مرارةً لا تعدلها مرارة.

تلخيص فاوست يسير فقد بدأ الشاعر بمحاكاة التوراة في سفر أيوب، فأنشأ حوراً بين الله والشيطان حول حب الإنسان لله وقوّته على الوفاء له؛ وانتهى هذا الحوار في فاوست برِهانٍ بين الله والشيطان، موضوعه هذا العالم الجليل الدكتور فاوست الذي أخلص حبّه لله والعلم. يزعم الشيطان أنه قادرٌ على إغوائه ويأبى الله عليه ذلك ويُنظِره فيندفع الشيطان إلى الدكتور فاوست فيصادفه في ساعةٍ سيّئةٍ من حياته، فقد سئم العلم ويئس منه، وعجز الدينُ عن أن يسليَه ويمنحَه ما كان يطمح إليه من الوقوف على سر الحياة والاطمئنان إليه. فما يزال يحاوره حتى ينتهي به إلى عهدٍ بينهما..

يصبح الشيطان عبداً لفاوست، يتيح له كلَّ ما يريد من يسيرٍ وعسير، ويذيقه كل ما يشتهي من لذّات الحياة على اختلافها، جليلها وحقيرها، على أن يكون فاوست في آخر أمره، إذا لم يعجَز الشيطانُ عن إرضائه، عبداً للشيطان، ويتمّ العهد بين هذين المتجاورين ويندفع الشيطان بصاحبه في فنونٍ من اللذات كثيرةٍ، منها الراقي ومنها المنحط وفيها آثامٌ كثيرة، وما يزال به حتى يغوي فتاةً بريئة ويضطرها بهذا الإغواء إلى أن تقتل أمَها وابنها وتسببُ قتلَ أخيها، ثم تضطر إلى السجن ثم إلى الموت، كل ذلك في ظروفٍ كثيرة طويلة تتخللها أشياءُ أضيفَت إليها إضافةً وحشِرَت فيها حشراً، ليس بينها وبينه صلةٌ إلا الجوار، فإذا انتهيتَ إلى آخر هذه القصة رأيتَ الشيطانَ قد أنفق ما يستطيع لإرصاء فاوست فوفِّق كثيراً، ولكنه على كلّ حال لم يظفر بنفسِ فاوست، لأن فاوست ما زال على كلَفِه باللذة وتهالكه عليها، مزدرياً لكل ما ظفر به طامحاً إلى شيءٍ آخرَعجز الشيطان عن أن يوصله إليه، وهو الذي يحاول أن يطلبه ويظفر به في "فاوست" الثاني..

هذه خلاصة القصة وهي التي صيغت عليها القصص التمثيلية والغنائية ولكنّ جوهرها لس في هذا الإطار الذي صورتُه لك الآن، وإنما هو فيما يحيط به هذا الإطار من دقائق الحوار بين الله والشيطان ثم بين فاوست وتلميذه ثم بين فاوست والشيطان ثم بين الشيطان والناس.

في هذا الحوار كنوزٌ من القد والفلسفة والأدب لا سبيل إلى تقويمها ولا إلى تحليلها ولا إلى الإحاطة بها، ولكنها كفيلةٌ بأن تعطيك من غوته صورة رجلٍ عظيم قد عظم حتى كانت عظمته أشبه شيءٍ بالتمرد، ورقّ حتى كانت رقّته أشبه شيءٍ بدعة الملائكة. ومن غريب الأمر أنك تجد غوته ممثلاً أصدق تمثيل في ضعف الدكتور فاوست وقوّته وفي ضعف مرغريت وقوّته كما أنك تجده ممثلاً أصدق تمثيل في تمرد الشيطان وكبريائه. وأيّ غرابة في هذا، أليس غوته هو الذي ابتكر فاوست ومرغريت والشيطان؟

تجد في هذه القصة صورةً صادقةً لحياة العالم الأوروبي قبيل الثورة الفرنسية وإبّانه أي في عصر الانتقال الذي وثب بأوروبا الوثبة الأخيرة من حياة القرون الوسطى إلى حياة العصر الحديث، ويقال إن فاوست الثاني يصوّر المثل الأعلى الذي يسمو إليه الرجل الفيلسوف وكيف يسمو إليه وكيف يظفر به. وقد تعمدت أن آتي بلفظ الشك هذا لأن الذين فهموا فاوست الثاني قليلون وقد أسأل نفسي أحياناً هل فهمه غوته..

ولعلّ أصدق حكمٍ على هذه القصة التي أقدّمها الآن إلى القرّاء حكم مدام دي استال عليها حين قالت: "إن هذه القصة تضطرك إلى أن تفكر في كل شيء وإلى أن تفكر في أمر آخر فوق كلّ شيء".

 (طه حسين)

1929

 

 


الجمعة، 10 يونيو 2022

من الذاكرة: ولدنات في غير أوانها؛ محمد الحجيري.

 

من الذاكرة: ولدنات في غير أوانها..

محمد الحجيري



إحدى ليالي آب الصيفية، كنّا هو وأنا، وحيدين نسهر في إحدى غرف منزلنا في عرسال. والوقت كان حوالي العاشرة ليلاً.

هو: صديقي وابن خالتي إبراهيم، وأنا: أنا.

خطرت في بالنا فكرة أن نذهب في تلك الساعة من الليل، سيراً على الأقدام إلى مشاريع جوسية، حيث كان أهلي يعملون في مشروع زراعي لنا، اشتراه والدي بعد أن باع أحد حقولنا في جرود عرسال لتأمين ثمنه.

مشاريع جوسية تقع على مسافة تزيد عن أربعين كيلومتراً عن بلدة عرسال.

المسافة بحاجةٍ إلى ما يزيد عن عشر ساعات سيرٍ على الأقدام..

لم تكن تنقصنا الحماقة، فانطلقنا برحلتنا الليلية في الحال، في ظروف غير مناسبة لأسبابٍ وأسباب..

منها، أننا كنا يومها في العام 1975، حيث كانت البلاد مقبلةً على حربٍ اختلف اللبنانيون على تسميتها وتوصيفها، وشاركوا فيها كلٌّ بنصيب، ومن خلفيَّةْ واضحةٍ حيناً وملتبَسةٍ ومغلَّفةٍ بالكثير من الشعارات التمويهيّة أحياناً أخرى.

لم يكن يفصلنا عن حادثة بوسطة عين الرمانة سوى أشهرً قلائل.

يومها، كنت أدرس في مهنيّة القرطباوي في منطقة ضهر الوحش، بين مدينة عالية والكحالة..

صاحب المهنية هو رجل الدين الماروني "المونسنيور" القرطباوي..

كانت المهنية تلك مخصصةً للطلاب الأيتام أو الفقراء (المسيحيين بشكلٍ أساس، مع وجود القليل من الطلاب المسلمين)، حصلتُ على حظوة اعتباري أحد الفقراء الذين نالوا فرصة التعليم المجاني الداخلي في تلك المهنية لثلاث سنوات، من العام الدراسي 1972ـ 1973، حتى العام الدراسي 1974ـ 1975.. حيث كنت أزور أهلي مرةً كل شهر أو كل شهرين.

لم أكن أعرف في تلك السنِّ من أمور السياسة الكثير. كانت ترد إلينا من طلاب الـ BT1 والـ BT2 أي من طلاب المرحلة المهنية الثانوية، خبر إطلاق النار على معروف سعد في تظاهرة الصيادين في صيدا. الذي لم أكن أعرف عنه شيئاً قبل تلك الحادثة والأخبار المتناقلة عنه.

بعد ذلك بحوالي الشهرين، كان الطلاب يتناقلون خبر إطلاق النار على "بوسطة عين الرمانة"..

كنت أشعر أني في بيئةٍ غريبةٍ في السياسة أو في الانحياز السياسي..

يبدو أن "المونسنيور القرطباوي" كان من الشخصيات ذات الاعتبار في الاجتماع السياسي الماروني: إحدى المرات كان زملائي يتحدثون بإعجاب عن "الشيخ بيار" (وكانوا يقصدون بذلك الشيخ بيار الجميّل، زعيم حزب الكتائب)، الرجل الأنيق وفارع الطول الذي ترجّل من سيارته من أجل لقاء "المونسنيور" الماروني في عرينه (مؤسسته كانت تتضمّن مدرسة مهنية وتقنية، للمرحلة المتوسطة وللمرحلة الثانوية، في قسمين: قسم خاص بالصبيان، وآخر خاص بالبنات؛ وكان الطابق الأخير في المبنى المخصص للصفوف التعليمية والنوم والطعام ومطبعة تابعة للمؤسسة، كان الطابق الأخير بكامله مخصصاً لإقامة صاحب المؤسسة: المونسنيور القرطباوي. كما كانت هناك مستشفى مخصصة ضد الشلل تابعة له أيضاً في مبنى مجاور مكوّن من ثلاث أو أربع طبقات)

لنعد الآن إلى صاحبينا "الغرَّين" بعد هذا الاستطراد التوثيقي.

انطلق صاحبانا في رحلتهما، في طريق جبلي جرديّ مسافةً تبلغ حوالي العشرة كيلومترات أو أكثر بقليل، لا أذكر أنهما مشياه سابقاً في النهار، قبل أن يصلا إلى بلدة الفاكهة: المحطة الأولى في طريقهما الطويل، كان بحوزتهما مصباح كهربائي يدوي قد يستخدمانه حين الحاجة.

يبدو أن الطريق قادتهما إلى حيث هم ذاهبان، رغم قلّة درايتهما، في منطقة شديدة الوعورة وشديدة الانحدار في بعض الأماكن.

المسافة بين عرسال ورأس بعلبك

هل كانا خائفين؟

كانا في السادسة عشرة من العمر، وربما كان أحد أسباب قيامهما بتلك المغامرة الليلية محاولة الإثبات للذات أنهما لا يخافان السير ليلاً في المناطق الجردية. لكنه كان محض ادعاء. في كل الأحوال، فإن الصحبة الثنائية تزيل وحشة الطريق.

وصلنا بلدة الفاكهة حوالي الثانية ليلاً: بلدةٌ يخيم عليها صمت مهيب، ويؤنس طرقاتِها ضوءُ المصابيح على الأعمدة، بدءاً من البيوت القريبة من نبع الماء حتى آخر بيوت القرية.

الفاكهة بلدة صغيرة، تنتهي بيوتُها ليبتدئ طريق يربط بينها وبين بلدة رأس بعلبك في مسافة تزيد قليلاً عن الكيلومتر الواحد.

تركنا البلدة خلفنا قاصدين محطتنا الثانية: شبحَيْن كنّا، نسير في الطريق المنحدر قليلاً في اتجاه بلدة رأس بعلبك، مستمعين إلى وقع خطوات أحذيتنا على الطريق المعبّد.

فجأةً سمعنا أصواتاً تأمرنا بالتوقف وعدم الإتيان بأيّ حركة.

أصواتٌ تأتي من الليل البهيم.. ثم طُلِب من الاقتراب، حيث بدأ بعض الأشخاص المسلحين يظهرون من أماكنهم.

من أين أنتم؟

وماذا تفعلون هنا في مثل هذا الوقت من الليل؟ (قيل لنا)

تبيّن لنا أن البلدات المسيحية في تلك الفترة كانت تتوجس من اعتداءات عليها من أبناء البلدات المجاورة، وهو ما حصل فعلاً بعد ذلك بأشهر قليلة، حيث تم الاعتداء على بلدة القاع الحدودية..

تخوّفاً من مثل هذا الاحتمال، كان أهالي القرى المسيحية (على الأقل هذا ما كان يحصل في بلدة رأس بعلبك) يؤمِّنون حمايةً لقراهم خوفاً من أية مفاجأة غير مستحبة.

لم يبدُ لنا أنّ أيَّ كلامٍ سنقوله لهم سيكون مقنعاً. 

لكن لم يكن لنا إلا أن نقول ما قد يصدقونه وقد لا يصدقونه. لو كنت مكانهم لرجحت أن يكون مجيئنا محاولة استكشافيةً ومثيراً للشكوك. وأرجّح أن تكون هذه الحادثة قد زادت من التوجس عندهم، على الأقل لساعاتٍ تالية.


المسافة بين عرسال وجوسية.

قلت لهم إننا من عرسال، وإننا ذاهبون إلى مشاريع جوسية في سورية، وعرّفتهم بأن لي أعمام في رأس بعلبك: عمي "أبو واكيم"، وهو كان من "رجالات" رأس بعلبك، وشقيقاه: كنج ويوسف الملقّب بـ "فَدْغَم" (كان مربياً للخيول العربية الأصيلة)

ساد صمتٌ لبعض الوقت، ثما خاطبني أحدهم: أنا "أبو واكيم". صوتٌ حائر بين الصداقة والعمومة وبين الحذر والتوجس.

وقفنا لدقائق، لا أذكر ما دار فيها من الأسئلة والأجوبة، ثم اصطحبَنا العمُّ أبو واكيم إلى منزله حيث تناولنا الطعام وأمضينا ليلتنا، ثم غادرْنا صباح اليوم التالي مكملين طريقنا إلى "المشاريع"، لكن لا أذكر أيَّ شيءٍ عن ذلك. آخر ما أذكره هو استضافتنا في بيت العم أبو واكيم.

بعد عام من ذلك التاريخ، انتسبت إلى ثانوية رأس بعلبك: الثانوية الوحيدة في المنطقة في تلك المرحلة، حيث أمضيت فيها سنتين مقيماً في منازلها..

الغريب، أني لا أذكر شيئاً عن السنة الثالثة مطلقاً. وكأنها فجوةٌ في الذاكرة..

حين أعود إلى الذاكرة مستعرضاً محطات الماضي، أشعر أني عشت أكثر من عمر، أو عمراً بمحطاتٍ كثيرة..

 

(9 حزيران 2022)

 


الجمعة، 8 أبريل 2022

الانتخابات النيابية بين المقاطعة والتغيير. (وجهة نظر)؛ محمد الحجيري

 

 


الانتخابات النيابية بين المقاطعة والتغيير.

(وجهة نظر)

 

التغيير في الشارع الذي بدا في متناول اليد

بعد السابع عشر من تشرين ونزول الناس بمئات الألوف إلى الشوارع في مدن لبنان ودساكره وقراه، من أقصى لبنان إلى أقصاه، اهتزت أركان السلطات الحاكمة بعد أن ظهر فسادها وعجزها واستنزاف البلاد من خلال السرقة والفساد والهدر بالشراكة بين جميع أطراف السلطة، وشعر الناس في الشارع بأن اقتلاع سلطة الفساد صار في الإمكان.

ارتفعت النداءات بضرورة رحيل الجميع ومحاسبتهم.

شعرت الطبقة الحاكمة بالخطر. منهم من استقال (سعد الحريري)، ومنهم من التحق بالشارع (القوات اللبنانية)، ومنهم من اعتبر أن الشارع امتدادٌ له ولخطته في الإصلاح (التيار العوني)، رغم الهجوم المباشر والتجريح برموزه بين المتظاهرين.

ومنهم من اعتبر انتفاضة تشرين رجس من عمل السفارات، فأطلق مجاهديه بقمصانهم السود فهاجموا الساحات وأحرقوا الخيم وتعرضوا للمتظاهرين.

استمر الوضع بين شد وجذب لشهور، ثم بدأت الحماسة تخف في الشارع، وبدأ التعب يظهر للعِيان، بعد أن استخدمت السلطة كلَّ وسائلها، من سلاح الترهيب إلى سلاح الحجْر بسبب جائحة الكورونا.

 

التغيير في الصناديق

قرّر "الشارع" تأجيل التغيير ومحاسبة الطبقة الحاكمة ومصادرة أملاكِها والرمي بها في السجون أو في المنافي إلى الاستحقاق الانتخابي الوشيك.

التقطت الطبقةُ الحاكمةُ أنفاسَها واستعادت المبادرةَ، فعرضَت "خدماتِها" على المواطنين الذين بدأوا يشعرون بالاختناق الحقيقي بسبب تفاقم الأوضاع المعيشية وفقدان المواد الضرورية من الأسواق، من المحروقات إلى الدواء إلى المواد الغذائية؛ أولى هذه "الخدمات" أو "التضحيات" كانت تقديمَ "هديّةٍ" إلى الشعب اللبناني، باتفاق أطراف السلطة على الحصص وتشكيل حكومة تدير الأزمة من قِبل أبطالٍ كان يعتبرهم الشارعُ لصوصاً تجب محاسبتهم.

لا بأس، طالما أنَّ وقتَ الحسابِ في الصناديق قد أزُف.

تكثّفت اللقاءاتُ بين قوى الثورة التي تبيّن أنها كثيرةٌ أكثرَ مما كنا نتوقع. وتزايدت أعدادُ أطرافِ هذه الثورة بقدر ما كانت انتفاضة الشارع تخفُتُ والناسُ تشعر بالإحباط.

تبيَّن أن هذه الثورة تريد أعداداً من نواب التغيير أكبرَ بكثيرٍ مما يستوعبه البرلمان النيابي اللبناني.

تعددت اللوائح وتناسلت في الوقت الذي تراجع فيه حماسُ الناسِ وأملُهم في التغيير، وفي الوقت الذي شعر فيه أطرافُ السلطةِ بأنّهم قد تجاوزوا مطبَّ الانتفاضةِ، وإن كانوا قد تكبدوا بعض الخسائر التي يبدو أنَّ حماسةَ المعارضين للوصول إلى البرلمان قد قلَّلت منها.

غاب الأملُ في التغييرِ والتخلصِ من الطبقة الحاكمة.

وتراجعت فرصُ وصولٍ مؤثِّرٍ للمعارضةِ إلى الندوة النيابية.

وصار الاستحقاقُ الانتخابيُّ أقربَ إلى استعادةِ أطراف السلطة شرعيةً كانت مفقودةً قبل أشهرٍ قليلة.

خيارات:

إذا كان التوصيفُ السابقُ أعلاه صحيحاً، فما هو الموقفُ المناسبُ من الاستحقاق الانتخابيّ؟

هل هو في المشاركة الكثيفة رغم تعدد لوائح المعارضة وتراجع فرص الفوز، بل أصبح الأمل بخروقات (وليس بالفوز) أملاً قليلاً؟

أم إن ذلك سيجدد الشرعيةَ لقوى السلطة، والأفضلُ هو الدعوةُ إلى مقاطعةٍ واسعةٍ لهذه الانتخابات تُظهِر سخطَ الناس وغضبَهم ورفضَهم الأمرَ الواقع؟

وهل من الأنسب مقاطعةٌ تشمل كل الدوائر الانتخابية، أم في المناطق التي يصعب فيها تحقيق نجاحات مقبولة؟

وإذا كان خيار المشاركة هو الأفضل، فلمن نقترع؟ وما هي المقاييس التي يجب اعتمادها وتكون صالحةً للتعميم؟

إذا كان خيار المقاطعة يبدو هو الأفضل، فإني أرى أن تكون الدعوةُ إلى المقاطعة شاملةً، والابتعادَ عن الاستنسابية في المقاطعة والمشاركة. يجب أن يكون الموقف مبدئياً.

أما إذا كان خيارُ المشاركةِ هو المعتمَد، فيجب الانتباه إلى أن الاستحقاقَ الانتخابيَّ هو استحقاقٌ سياسيٌّ بامتياز. لا تتناسب معه العودة إلى أيِّ شكلٍ من أشكال العصبيات: يجب أن يكون الاختيارُ سياسياً: البدايةُ تكون من اختيار اللائحة استناداً إلى ما تمثله من موقف سياسي.

بعد ذلك يمكن اختيارُ مَنْحِ الصوتِ التفضيليِّ إلى من يجسِّد أكثرَ من غيره هذا الموقف السياسي، وبالاستناد إلى تاريخه وإلى مواقفه السياسية وإلى صفاتٍ يجب توفرها، مثل المبدئية، والكفاءة، والصدق، ونظافة الكف.. إلى آخر تلك الصفات التي تتناسب مع من نرجو له أن يكون نائباً في البرلمان يحمل هموم الناس ويحارب الفساد والطبقة التي نهبت البلد وأفقرته وحوّلته إلى مغارة لصوص.

أقول هذا الكلام الذي يجب أن يكون بدَهياً، لأني أعرف أنّ مناطقَ كثيرةً، وربما تمتد على مساحة الوطن بنسبٍ متفاوتة، يتم الاختيارُ فيها بطريقةٍ معاكسة تماماً: نبدأ الاختيارَ انطلاقاً من القرابة والعلاقات الشخصية والمنفعة والعصبية المناطقية أو العائلية والعشائرية وعصبية الطائفة والمذهب والحزب الطائفي أو المذهبي: الكثيرون يعيدون التجديد لأحزاب الطائفة الفاشلين والفاسدين، فقط لأنهم يظنون أن الطائفة في خطر وأن هؤلاء هم حماتُها.

وآخرون يظنّون بأنه يجب أن يكون ابنُ بلدتي أو قريبي أو ابن عمي في البرلمان، وأن في ذلك منفعةً وطنيّةً، إضافةً إلى كونه موضع تبجح وافتخار.

الحقيقةُ إنّ لكل موقعٍ مقاييسه: فالصفاتُ المطلوبةُ لنائبٍ في البرلمان تختلف عن الصفات المطلوبةِ لعضوٍ البلدية أو رئيسِها كما تختلف عن الصفات المناسبة لمختار في قرية، وإن كان هناك صفات مطلوبة ومشتركة في الجميع..

وقد يكون للحديث تتمة.

 

(محمد الحجيري؛ 8 نيسان 2022)