الانتخابات النيابية بين المقاطعة والتغيير.
(وجهة
نظر)
التغيير في الشارع الذي بدا في متناول اليد
بعد السابع عشر من تشرين ونزول الناس بمئات الألوف إلى الشوارع في مدن
لبنان ودساكره وقراه، من أقصى لبنان إلى أقصاه، اهتزت أركان السلطات الحاكمة بعد
أن ظهر فسادها وعجزها واستنزاف البلاد من خلال السرقة والفساد والهدر بالشراكة بين
جميع أطراف السلطة، وشعر الناس في الشارع بأن اقتلاع سلطة الفساد صار في الإمكان.
ارتفعت النداءات بضرورة رحيل الجميع ومحاسبتهم.
شعرت الطبقة الحاكمة بالخطر. منهم من استقال (سعد الحريري)، ومنهم من
التحق بالشارع (القوات اللبنانية)، ومنهم من اعتبر أن الشارع امتدادٌ له ولخطته في
الإصلاح (التيار العوني)، رغم الهجوم المباشر والتجريح برموزه بين المتظاهرين.
ومنهم من اعتبر انتفاضة تشرين رجس من عمل السفارات، فأطلق مجاهديه
بقمصانهم السود فهاجموا الساحات وأحرقوا الخيم وتعرضوا للمتظاهرين.
استمر الوضع بين شد وجذب لشهور، ثم بدأت الحماسة تخف في الشارع، وبدأ
التعب يظهر للعِيان، بعد أن استخدمت السلطة كلَّ وسائلها، من سلاح الترهيب إلى
سلاح الحجْر بسبب جائحة الكورونا.
التغيير في الصناديق
قرّر "الشارع" تأجيل التغيير ومحاسبة الطبقة الحاكمة ومصادرة أملاكِها والرمي بها في السجون أو في المنافي إلى الاستحقاق الانتخابي الوشيك.
التقطت الطبقةُ الحاكمةُ أنفاسَها واستعادت المبادرةَ، فعرضَت "خدماتِها" على المواطنين الذين بدأوا يشعرون بالاختناق الحقيقي بسبب تفاقم الأوضاع المعيشية
وفقدان المواد الضرورية من الأسواق، من المحروقات إلى الدواء إلى المواد الغذائية؛
أولى هذه "الخدمات" أو "التضحيات" كانت تقديمَ "هديّةٍ" إلى الشعب اللبناني، باتفاق أطراف
السلطة على الحصص وتشكيل حكومة تدير الأزمة من قِبل أبطالٍ كان يعتبرهم الشارعُ
لصوصاً تجب محاسبتهم.
لا بأس، طالما أنَّ وقتَ الحسابِ في الصناديق قد أزُف.
تكثّفت اللقاءاتُ بين قوى الثورة التي تبيّن أنها كثيرةٌ أكثرَ مما كنا
نتوقع. وتزايدت أعدادُ أطرافِ هذه الثورة بقدر ما كانت انتفاضة الشارع تخفُتُ والناسُ تشعر بالإحباط.
تبيَّن أن هذه الثورة تريد أعداداً من نواب التغيير أكبرَ بكثيرٍ مما
يستوعبه البرلمان النيابي اللبناني.
تعددت اللوائح وتناسلت في الوقت الذي تراجع فيه حماسُ الناسِ وأملُهم في
التغيير، وفي الوقت الذي شعر فيه أطرافُ السلطةِ بأنّهم قد تجاوزوا مطبَّ الانتفاضةِ، وإن
كانوا قد تكبدوا بعض الخسائر التي يبدو أنَّ حماسةَ المعارضين للوصول إلى البرلمان قد
قلَّلت منها.
غاب الأملُ في التغييرِ والتخلصِ من الطبقة الحاكمة.
وتراجعت فرصُ وصولٍ مؤثِّرٍ للمعارضةِ إلى الندوة النيابية.
وصار الاستحقاقُ الانتخابيُّ أقربَ إلى استعادةِ أطراف السلطة شرعيةً
كانت مفقودةً قبل أشهرٍ قليلة.
خيارات:
إذا كان التوصيفُ السابقُ أعلاه صحيحاً، فما هو الموقفُ المناسبُ من الاستحقاق
الانتخابيّ؟
هل هو في المشاركة الكثيفة رغم تعدد لوائح المعارضة وتراجع فرص الفوز،
بل أصبح الأمل بخروقات (وليس بالفوز) أملاً قليلاً؟
أم إن ذلك سيجدد الشرعيةَ لقوى السلطة، والأفضلُ هو الدعوةُ إلى مقاطعةٍ واسعةٍ لهذه الانتخابات تُظهِر سخطَ الناس وغضبَهم ورفضَهم الأمرَ الواقع؟
وهل من الأنسب مقاطعةٌ تشمل كل الدوائر الانتخابية، أم في المناطق التي
يصعب فيها تحقيق نجاحات مقبولة؟
وإذا كان خيار المشاركة هو الأفضل، فلمن نقترع؟ وما هي المقاييس التي
يجب اعتمادها وتكون صالحةً للتعميم؟
إذا كان خيار المقاطعة يبدو هو الأفضل، فإني أرى أن تكون الدعوةُ إلى
المقاطعة شاملةً، والابتعادَ عن الاستنسابية في المقاطعة والمشاركة. يجب أن يكون
الموقف مبدئياً.
أما إذا كان خيارُ المشاركةِ هو المعتمَد، فيجب الانتباه إلى أن
الاستحقاقَ الانتخابيَّ هو استحقاقٌ سياسيٌّ بامتياز. لا تتناسب معه العودة إلى أيِّ شكلٍ من أشكال العصبيات: يجب أن يكون الاختيارُ سياسياً: البدايةُ تكون من اختيار اللائحة
استناداً إلى ما تمثله من موقف سياسي.
بعد ذلك يمكن اختيارُ مَنْحِ الصوتِ التفضيليِّ إلى من يجسِّد أكثرَ من
غيره هذا الموقف السياسي، وبالاستناد إلى تاريخه وإلى مواقفه السياسية وإلى صفاتٍ يجب توفرها، مثل المبدئية، والكفاءة، والصدق، ونظافة الكف.. إلى آخر تلك الصفات
التي تتناسب مع من نرجو له أن يكون نائباً في البرلمان يحمل هموم الناس ويحارب
الفساد والطبقة التي نهبت البلد وأفقرته وحوّلته إلى مغارة لصوص.
أقول هذا الكلام الذي يجب أن يكون بدَهياً، لأني أعرف أنّ مناطقَ
كثيرةً، وربما تمتد على مساحة الوطن بنسبٍ متفاوتة، يتم الاختيارُ فيها بطريقةٍ
معاكسة تماماً: نبدأ الاختيارَ انطلاقاً من القرابة والعلاقات الشخصية والمنفعة
والعصبية المناطقية أو العائلية والعشائرية وعصبية الطائفة والمذهب والحزب الطائفي
أو المذهبي: الكثيرون يعيدون التجديد لأحزاب الطائفة الفاشلين والفاسدين، فقط
لأنهم يظنون أن الطائفة في خطر وأن هؤلاء هم حماتُها.
وآخرون يظنّون بأنه يجب أن يكون ابنُ بلدتي أو قريبي أو ابن عمي في
البرلمان، وأن في ذلك منفعةً وطنيّةً، إضافةً إلى كونه موضع تبجح وافتخار.
الحقيقةُ إنّ لكل موقعٍ مقاييسه: فالصفاتُ المطلوبةُ لنائبٍ في البرلمان
تختلف عن الصفات المطلوبةِ لعضوٍ البلدية أو رئيسِها كما تختلف عن الصفات المناسبة
لمختار في قرية، وإن كان هناك صفات مطلوبة ومشتركة في الجميع..
وقد يكون للحديث تتمة.
(محمد الحجيري؛ 8 نيسان 2022)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق