الاثنين، 8 أغسطس 2022

من مقدمة طه حسين لترجمة فاوست

 


من مقدمة طه حسين لترجمة فاوست (ترجمة محمد عوض محمد)

 

هل أنا في حاجة إلى أن أتحدّثَ إليك عن غوته وفاوست بعد أن تحدثتُ إليك عن مترجِمه؟ وهل تظن أني أفيكَ شيئاً كثيراً من العلم إن قلتُ لك إنّ غوته ولد سنة 1749 ومات سنة 1832 ثم قصصتُ عليك في إيجاز بالطبع ما تعوّد المترجمون أن يقصّوه من حياة هذا الشاعر الفيلسوف؟ ألستَ تستطيع أن تظفر بهذا في دوائر المعارف على اختلافها؟ وأنت لا تطمع مني في أن أدرس لك هنا حياة غوته درساً مفصّلاً. فأنا أرجو أن شوقَك إلى قراءة فوست في اللغة العربية أشد من أن يدعك تقرأ حياةً مفصّلة لمؤلفه الآن، ولكن كلمة عن فاوست نفسه شيء لا بدّ منه قبل أن تبدأ في قراءة هذه القصة الغريبة التي أثّرت في الحياة الأدبية والفنية لهذا العصر الحديث آثاراً بعيدةً لم تبلغ أمدها بعد ويظهر أنها لن تبلغ أمدها قبل وقت طويل.

فالقصة قد تُرجِمت إلى اللغات الأوروبية كلها وقد فسِّرت وشُرِحت من أنحاء مختلفة وقد مثلت في الملاعب وغنّيَت في دور الموسيقى. لحّنها كبار الموسيقيين في أوروبا المتحضّرة ثم انبسطت أشعتُها حتى غمرت الآثار الأدبية المختلفة وتجاوزتها إلى الفلسفة فليس هنكا أديب من أدباء القرن الماضي ولا من أدباء هذا العصر إلا تأثّر بفاوست وليس هناك فيلسوف إلا تأثر بفاوست قليلاً أو كثيراً في فلسفته ولا سيما بفاوست الثاني الذي هو إلى الفلسفة أقربُ منه إلى الأدب والبيان.

وقد نحب أن نتعرّف تاريخ فاوست فنجد في ذلك شيئاً من المشقّة والصعوبة، ذلك أنّ هذه القصة لم تكتب كما كتِب غيرُها من القصص التمثيلية التي أنشأها غوته. وإنما استغرقت كتابة فاوست الأول أكثر من الحياة العاملة للشاعر الفيلسوف. بدأها شاباً ثم انصرف عنها راضياً أو كارهاً، ثم كان يعود إليها فيضيف جزءاً طويلاً أو قصيراً. وظل كذلك حتى أتمها أو خيّل إليه أنه أتمّها في أوائل القرن الماضي. ثم انصرف عنها حيناً؛ ورجع إليها فكتب فاوست الثاني. والذي ينظر في هذه القصة يلاحظ شيئاً ظاهراً من التفكك والتفرّق والبعد عن الوحدة الفنّية ويحس إحساساً قوياً بأن الكاتب لم يفرغ لها وقتاً بعينه ولم يرسم لها حدوداً معيّنة وإنما أنشأها على النحو الذي أشرنا إليه.. ولكنه مع هذا، حين يقرأ القصة ويمعن فيها التفكير يشعر بهذه الوحدة الفنّية الفكرية قويةً أشدّ القوّة، واضحةً أشدّ الوضوح، فالشاعر لم يضع قصّة تمثيليةً وإنما وضع حواراً فنّياً فلسفياً، فهو إذاً غير مقيّد بالوحدة التمثيلية ولكنه مقيّد بالوحدة الفكرية الفلسفية، وقد وفق إلى هذه الوحدة توفيقاً غريباً.

كتب هذه القصة في أكثر من ثلث قرن ولكنك لا تجد فيها ضعفاً ولا اضطراباً ولا اختلافاً وإنما تقرأ فكأنك تقرأ لكتاتب قد فرغ لموضوعه فأتقنه وأحسن تصويره وتأديته.

المصدر الظاهر لهذه القصة هي أسطورة الدكتور فاوست التي كانت شائعةً في أواخر القرون الوسطى وأوائل العصر الحديث والتي تناولها بعض الكتّاب الإنكليز والألمان فكتبوا فيها كتباً مختلفةً بل وضغوها وضعاً تمثيلياً. ولكن لهذه القصة مصادرُ أخرى فلم تكن أسطورة الدكتور فاوست إلا قالباً صُبَّت فيه فكرةٌ أدبية فلسفية راقيةٌ، فهل من الحق أن غوته لم يتأثر بما سبقة إليه فولتير من السخرية اللاذعة في خفة وظرف بكل شيءٍ في هذا العالم؟

هل من الحقّ أنه لم يتأثر بما أثار ليبنتس من خصومة عنيفة بين أنصار الخير والشر حين أعلن نظريته التي لا يمكن أن تصاغ في أحسن من الصيغة الإسلامية المعروفة "ليس في الإمكان أبدع مما كان"؟

ظهرت هذه النظرية في القرن السابع عشر فاختصم حولها الفلاسفة في هذا القرن نفسِه وفي القرن الثامن عشر. ووضع فولتير قصة "كانديد" ساخراً من هذا المذهب، هادماً له مقارناً بين الخير والشر، مصوِّراً لما بينهما من الجهاد العنيف، والصراع المنكر، في حياة الناس ووجود الأشياء، وانتهى فولتير إلى نتيجته المشهورة "ليعش كلٌ منا بحديقته" مؤثراً تسليم التر ك وإذعانهم للقضاء، على فلسفة الفلاسفة ومحاولتهم فهم أسرارها. كتب فولتير قصته هذه إبان القرن الثامن عشر قبل أن يبدأ غوته في كتابة فاوست بوقت غير طويل، وكان غوته مشغوفاً بفولتير كثير القراءة له والنظر فيه، كما كان الألمانيون جميعاً مشغوفين بالآداب الفرنسية في ذلك العصر، وكما أني لا أشك في أنّ هناك شبهاً قوياً بين "آلام فرتر" وكثير من الآثار الأدبية لجان جاك روسّو، فلست أشكّ في أنّ هناك شبهاً قوياً بين فاوست وبين كثير من الآثار الأدبية لفولتير، وربما كان من الحق الذي لا شك فيه أن غوته إنما هو استمرار لسخرية فولتير، ولكن فولتير كان يسخر في ظرف وخفّة ورشاقة كما يسخر الفرنسيون، بينما كان غوته يسخر في مرارةٍ وعنفٍ وجِدٍ كما يستطيع أن يسخر الألمان؛ ولم يكن فولتير يبتغي شيئاً وراء الشك والسخرية، وكان غوته يبتغي مثلاً أعلى وراء شكّه وسخريته، ولم يكن فولتير يتناول بسخريته شيئاً دون شيء، ولم يكن يعفي الحياة المعاصرة له من السخرية وكذلك كان غوته؛ سخر من كل شيء وأذاق معاصريه مرارةً لا تعدلها مرارة.

تلخيص فاوست يسير فقد بدأ الشاعر بمحاكاة التوراة في سفر أيوب، فأنشأ حوراً بين الله والشيطان حول حب الإنسان لله وقوّته على الوفاء له؛ وانتهى هذا الحوار في فاوست برِهانٍ بين الله والشيطان، موضوعه هذا العالم الجليل الدكتور فاوست الذي أخلص حبّه لله والعلم. يزعم الشيطان أنه قادرٌ على إغوائه ويأبى الله عليه ذلك ويُنظِره فيندفع الشيطان إلى الدكتور فاوست فيصادفه في ساعةٍ سيّئةٍ من حياته، فقد سئم العلم ويئس منه، وعجز الدينُ عن أن يسليَه ويمنحَه ما كان يطمح إليه من الوقوف على سر الحياة والاطمئنان إليه. فما يزال يحاوره حتى ينتهي به إلى عهدٍ بينهما..

يصبح الشيطان عبداً لفاوست، يتيح له كلَّ ما يريد من يسيرٍ وعسير، ويذيقه كل ما يشتهي من لذّات الحياة على اختلافها، جليلها وحقيرها، على أن يكون فاوست في آخر أمره، إذا لم يعجَز الشيطانُ عن إرضائه، عبداً للشيطان، ويتمّ العهد بين هذين المتجاورين ويندفع الشيطان بصاحبه في فنونٍ من اللذات كثيرةٍ، منها الراقي ومنها المنحط وفيها آثامٌ كثيرة، وما يزال به حتى يغوي فتاةً بريئة ويضطرها بهذا الإغواء إلى أن تقتل أمَها وابنها وتسببُ قتلَ أخيها، ثم تضطر إلى السجن ثم إلى الموت، كل ذلك في ظروفٍ كثيرة طويلة تتخللها أشياءُ أضيفَت إليها إضافةً وحشِرَت فيها حشراً، ليس بينها وبينه صلةٌ إلا الجوار، فإذا انتهيتَ إلى آخر هذه القصة رأيتَ الشيطانَ قد أنفق ما يستطيع لإرصاء فاوست فوفِّق كثيراً، ولكنه على كلّ حال لم يظفر بنفسِ فاوست، لأن فاوست ما زال على كلَفِه باللذة وتهالكه عليها، مزدرياً لكل ما ظفر به طامحاً إلى شيءٍ آخرَعجز الشيطان عن أن يوصله إليه، وهو الذي يحاول أن يطلبه ويظفر به في "فاوست" الثاني..

هذه خلاصة القصة وهي التي صيغت عليها القصص التمثيلية والغنائية ولكنّ جوهرها لس في هذا الإطار الذي صورتُه لك الآن، وإنما هو فيما يحيط به هذا الإطار من دقائق الحوار بين الله والشيطان ثم بين فاوست وتلميذه ثم بين فاوست والشيطان ثم بين الشيطان والناس.

في هذا الحوار كنوزٌ من القد والفلسفة والأدب لا سبيل إلى تقويمها ولا إلى تحليلها ولا إلى الإحاطة بها، ولكنها كفيلةٌ بأن تعطيك من غوته صورة رجلٍ عظيم قد عظم حتى كانت عظمته أشبه شيءٍ بالتمرد، ورقّ حتى كانت رقّته أشبه شيءٍ بدعة الملائكة. ومن غريب الأمر أنك تجد غوته ممثلاً أصدق تمثيل في ضعف الدكتور فاوست وقوّته وفي ضعف مرغريت وقوّته كما أنك تجده ممثلاً أصدق تمثيل في تمرد الشيطان وكبريائه. وأيّ غرابة في هذا، أليس غوته هو الذي ابتكر فاوست ومرغريت والشيطان؟

تجد في هذه القصة صورةً صادقةً لحياة العالم الأوروبي قبيل الثورة الفرنسية وإبّانه أي في عصر الانتقال الذي وثب بأوروبا الوثبة الأخيرة من حياة القرون الوسطى إلى حياة العصر الحديث، ويقال إن فاوست الثاني يصوّر المثل الأعلى الذي يسمو إليه الرجل الفيلسوف وكيف يسمو إليه وكيف يظفر به. وقد تعمدت أن آتي بلفظ الشك هذا لأن الذين فهموا فاوست الثاني قليلون وقد أسأل نفسي أحياناً هل فهمه غوته..

ولعلّ أصدق حكمٍ على هذه القصة التي أقدّمها الآن إلى القرّاء حكم مدام دي استال عليها حين قالت: "إن هذه القصة تضطرك إلى أن تفكر في كل شيء وإلى أن تفكر في أمر آخر فوق كلّ شيء".

 (طه حسين)

1929

 

 


الجمعة، 10 يونيو 2022

من الذاكرة: ولدنات في غير أوانها؛ محمد الحجيري.

 

من الذاكرة: ولدنات في غير أوانها..

محمد الحجيري



إحدى ليالي آب الصيفية، كنّا هو وأنا، وحيدين نسهر في إحدى غرف منزلنا في عرسال. والوقت كان حوالي العاشرة ليلاً.

هو: صديقي وابن خالتي إبراهيم، وأنا: أنا.

خطرت في بالنا فكرة أن نذهب في تلك الساعة من الليل، سيراً على الأقدام إلى مشاريع جوسية، حيث كان أهلي يعملون في مشروع زراعي لنا، اشتراه والدي بعد أن باع أحد حقولنا في جرود عرسال لتأمين ثمنه.

مشاريع جوسية تقع على مسافة تزيد عن أربعين كيلومتراً عن بلدة عرسال.

المسافة بحاجةٍ إلى ما يزيد عن عشر ساعات سيرٍ على الأقدام..

لم تكن تنقصنا الحماقة، فانطلقنا برحلتنا الليلية في الحال، في ظروف غير مناسبة لأسبابٍ وأسباب..

منها، أننا كنا يومها في العام 1975، حيث كانت البلاد مقبلةً على حربٍ اختلف اللبنانيون على تسميتها وتوصيفها، وشاركوا فيها كلٌّ بنصيب، ومن خلفيَّةْ واضحةٍ حيناً وملتبَسةٍ ومغلَّفةٍ بالكثير من الشعارات التمويهيّة أحياناً أخرى.

لم يكن يفصلنا عن حادثة بوسطة عين الرمانة سوى أشهرً قلائل.

يومها، كنت أدرس في مهنيّة القرطباوي في منطقة ضهر الوحش، بين مدينة عالية والكحالة..

صاحب المهنية هو رجل الدين الماروني "المونسنيور" القرطباوي..

كانت المهنية تلك مخصصةً للطلاب الأيتام أو الفقراء (المسيحيين بشكلٍ أساس، مع وجود القليل من الطلاب المسلمين)، حصلتُ على حظوة اعتباري أحد الفقراء الذين نالوا فرصة التعليم المجاني الداخلي في تلك المهنية لثلاث سنوات، من العام الدراسي 1972ـ 1973، حتى العام الدراسي 1974ـ 1975.. حيث كنت أزور أهلي مرةً كل شهر أو كل شهرين.

لم أكن أعرف في تلك السنِّ من أمور السياسة الكثير. كانت ترد إلينا من طلاب الـ BT1 والـ BT2 أي من طلاب المرحلة المهنية الثانوية، خبر إطلاق النار على معروف سعد في تظاهرة الصيادين في صيدا. الذي لم أكن أعرف عنه شيئاً قبل تلك الحادثة والأخبار المتناقلة عنه.

بعد ذلك بحوالي الشهرين، كان الطلاب يتناقلون خبر إطلاق النار على "بوسطة عين الرمانة"..

كنت أشعر أني في بيئةٍ غريبةٍ في السياسة أو في الانحياز السياسي..

يبدو أن "المونسنيور القرطباوي" كان من الشخصيات ذات الاعتبار في الاجتماع السياسي الماروني: إحدى المرات كان زملائي يتحدثون بإعجاب عن "الشيخ بيار" (وكانوا يقصدون بذلك الشيخ بيار الجميّل، زعيم حزب الكتائب)، الرجل الأنيق وفارع الطول الذي ترجّل من سيارته من أجل لقاء "المونسنيور" الماروني في عرينه (مؤسسته كانت تتضمّن مدرسة مهنية وتقنية، للمرحلة المتوسطة وللمرحلة الثانوية، في قسمين: قسم خاص بالصبيان، وآخر خاص بالبنات؛ وكان الطابق الأخير في المبنى المخصص للصفوف التعليمية والنوم والطعام ومطبعة تابعة للمؤسسة، كان الطابق الأخير بكامله مخصصاً لإقامة صاحب المؤسسة: المونسنيور القرطباوي. كما كانت هناك مستشفى مخصصة ضد الشلل تابعة له أيضاً في مبنى مجاور مكوّن من ثلاث أو أربع طبقات)

لنعد الآن إلى صاحبينا "الغرَّين" بعد هذا الاستطراد التوثيقي.

انطلق صاحبانا في رحلتهما، في طريق جبلي جرديّ مسافةً تبلغ حوالي العشرة كيلومترات أو أكثر بقليل، لا أذكر أنهما مشياه سابقاً في النهار، قبل أن يصلا إلى بلدة الفاكهة: المحطة الأولى في طريقهما الطويل، كان بحوزتهما مصباح كهربائي يدوي قد يستخدمانه حين الحاجة.

يبدو أن الطريق قادتهما إلى حيث هم ذاهبان، رغم قلّة درايتهما، في منطقة شديدة الوعورة وشديدة الانحدار في بعض الأماكن.

المسافة بين عرسال ورأس بعلبك

هل كانا خائفين؟

كانا في السادسة عشرة من العمر، وربما كان أحد أسباب قيامهما بتلك المغامرة الليلية محاولة الإثبات للذات أنهما لا يخافان السير ليلاً في المناطق الجردية. لكنه كان محض ادعاء. في كل الأحوال، فإن الصحبة الثنائية تزيل وحشة الطريق.

وصلنا بلدة الفاكهة حوالي الثانية ليلاً: بلدةٌ يخيم عليها صمت مهيب، ويؤنس طرقاتِها ضوءُ المصابيح على الأعمدة، بدءاً من البيوت القريبة من نبع الماء حتى آخر بيوت القرية.

الفاكهة بلدة صغيرة، تنتهي بيوتُها ليبتدئ طريق يربط بينها وبين بلدة رأس بعلبك في مسافة تزيد قليلاً عن الكيلومتر الواحد.

تركنا البلدة خلفنا قاصدين محطتنا الثانية: شبحَيْن كنّا، نسير في الطريق المنحدر قليلاً في اتجاه بلدة رأس بعلبك، مستمعين إلى وقع خطوات أحذيتنا على الطريق المعبّد.

فجأةً سمعنا أصواتاً تأمرنا بالتوقف وعدم الإتيان بأيّ حركة.

أصواتٌ تأتي من الليل البهيم.. ثم طُلِب من الاقتراب، حيث بدأ بعض الأشخاص المسلحين يظهرون من أماكنهم.

من أين أنتم؟

وماذا تفعلون هنا في مثل هذا الوقت من الليل؟ (قيل لنا)

تبيّن لنا أن البلدات المسيحية في تلك الفترة كانت تتوجس من اعتداءات عليها من أبناء البلدات المجاورة، وهو ما حصل فعلاً بعد ذلك بأشهر قليلة، حيث تم الاعتداء على بلدة القاع الحدودية..

تخوّفاً من مثل هذا الاحتمال، كان أهالي القرى المسيحية (على الأقل هذا ما كان يحصل في بلدة رأس بعلبك) يؤمِّنون حمايةً لقراهم خوفاً من أية مفاجأة غير مستحبة.

لم يبدُ لنا أنّ أيَّ كلامٍ سنقوله لهم سيكون مقنعاً. 

لكن لم يكن لنا إلا أن نقول ما قد يصدقونه وقد لا يصدقونه. لو كنت مكانهم لرجحت أن يكون مجيئنا محاولة استكشافيةً ومثيراً للشكوك. وأرجّح أن تكون هذه الحادثة قد زادت من التوجس عندهم، على الأقل لساعاتٍ تالية.


المسافة بين عرسال وجوسية.

قلت لهم إننا من عرسال، وإننا ذاهبون إلى مشاريع جوسية في سورية، وعرّفتهم بأن لي أعمام في رأس بعلبك: عمي "أبو واكيم"، وهو كان من "رجالات" رأس بعلبك، وشقيقاه: كنج ويوسف الملقّب بـ "فَدْغَم" (كان مربياً للخيول العربية الأصيلة)

ساد صمتٌ لبعض الوقت، ثما خاطبني أحدهم: أنا "أبو واكيم". صوتٌ حائر بين الصداقة والعمومة وبين الحذر والتوجس.

وقفنا لدقائق، لا أذكر ما دار فيها من الأسئلة والأجوبة، ثم اصطحبَنا العمُّ أبو واكيم إلى منزله حيث تناولنا الطعام وأمضينا ليلتنا، ثم غادرْنا صباح اليوم التالي مكملين طريقنا إلى "المشاريع"، لكن لا أذكر أيَّ شيءٍ عن ذلك. آخر ما أذكره هو استضافتنا في بيت العم أبو واكيم.

بعد عام من ذلك التاريخ، انتسبت إلى ثانوية رأس بعلبك: الثانوية الوحيدة في المنطقة في تلك المرحلة، حيث أمضيت فيها سنتين مقيماً في منازلها..

الغريب، أني لا أذكر شيئاً عن السنة الثالثة مطلقاً. وكأنها فجوةٌ في الذاكرة..

حين أعود إلى الذاكرة مستعرضاً محطات الماضي، أشعر أني عشت أكثر من عمر، أو عمراً بمحطاتٍ كثيرة..

 

(9 حزيران 2022)

 


الجمعة، 8 أبريل 2022

الانتخابات النيابية بين المقاطعة والتغيير. (وجهة نظر)؛ محمد الحجيري

 

 


الانتخابات النيابية بين المقاطعة والتغيير.

(وجهة نظر)

 

التغيير في الشارع الذي بدا في متناول اليد

بعد السابع عشر من تشرين ونزول الناس بمئات الألوف إلى الشوارع في مدن لبنان ودساكره وقراه، من أقصى لبنان إلى أقصاه، اهتزت أركان السلطات الحاكمة بعد أن ظهر فسادها وعجزها واستنزاف البلاد من خلال السرقة والفساد والهدر بالشراكة بين جميع أطراف السلطة، وشعر الناس في الشارع بأن اقتلاع سلطة الفساد صار في الإمكان.

ارتفعت النداءات بضرورة رحيل الجميع ومحاسبتهم.

شعرت الطبقة الحاكمة بالخطر. منهم من استقال (سعد الحريري)، ومنهم من التحق بالشارع (القوات اللبنانية)، ومنهم من اعتبر أن الشارع امتدادٌ له ولخطته في الإصلاح (التيار العوني)، رغم الهجوم المباشر والتجريح برموزه بين المتظاهرين.

ومنهم من اعتبر انتفاضة تشرين رجس من عمل السفارات، فأطلق مجاهديه بقمصانهم السود فهاجموا الساحات وأحرقوا الخيم وتعرضوا للمتظاهرين.

استمر الوضع بين شد وجذب لشهور، ثم بدأت الحماسة تخف في الشارع، وبدأ التعب يظهر للعِيان، بعد أن استخدمت السلطة كلَّ وسائلها، من سلاح الترهيب إلى سلاح الحجْر بسبب جائحة الكورونا.

 

التغيير في الصناديق

قرّر "الشارع" تأجيل التغيير ومحاسبة الطبقة الحاكمة ومصادرة أملاكِها والرمي بها في السجون أو في المنافي إلى الاستحقاق الانتخابي الوشيك.

التقطت الطبقةُ الحاكمةُ أنفاسَها واستعادت المبادرةَ، فعرضَت "خدماتِها" على المواطنين الذين بدأوا يشعرون بالاختناق الحقيقي بسبب تفاقم الأوضاع المعيشية وفقدان المواد الضرورية من الأسواق، من المحروقات إلى الدواء إلى المواد الغذائية؛ أولى هذه "الخدمات" أو "التضحيات" كانت تقديمَ "هديّةٍ" إلى الشعب اللبناني، باتفاق أطراف السلطة على الحصص وتشكيل حكومة تدير الأزمة من قِبل أبطالٍ كان يعتبرهم الشارعُ لصوصاً تجب محاسبتهم.

لا بأس، طالما أنَّ وقتَ الحسابِ في الصناديق قد أزُف.

تكثّفت اللقاءاتُ بين قوى الثورة التي تبيّن أنها كثيرةٌ أكثرَ مما كنا نتوقع. وتزايدت أعدادُ أطرافِ هذه الثورة بقدر ما كانت انتفاضة الشارع تخفُتُ والناسُ تشعر بالإحباط.

تبيَّن أن هذه الثورة تريد أعداداً من نواب التغيير أكبرَ بكثيرٍ مما يستوعبه البرلمان النيابي اللبناني.

تعددت اللوائح وتناسلت في الوقت الذي تراجع فيه حماسُ الناسِ وأملُهم في التغيير، وفي الوقت الذي شعر فيه أطرافُ السلطةِ بأنّهم قد تجاوزوا مطبَّ الانتفاضةِ، وإن كانوا قد تكبدوا بعض الخسائر التي يبدو أنَّ حماسةَ المعارضين للوصول إلى البرلمان قد قلَّلت منها.

غاب الأملُ في التغييرِ والتخلصِ من الطبقة الحاكمة.

وتراجعت فرصُ وصولٍ مؤثِّرٍ للمعارضةِ إلى الندوة النيابية.

وصار الاستحقاقُ الانتخابيُّ أقربَ إلى استعادةِ أطراف السلطة شرعيةً كانت مفقودةً قبل أشهرٍ قليلة.

خيارات:

إذا كان التوصيفُ السابقُ أعلاه صحيحاً، فما هو الموقفُ المناسبُ من الاستحقاق الانتخابيّ؟

هل هو في المشاركة الكثيفة رغم تعدد لوائح المعارضة وتراجع فرص الفوز، بل أصبح الأمل بخروقات (وليس بالفوز) أملاً قليلاً؟

أم إن ذلك سيجدد الشرعيةَ لقوى السلطة، والأفضلُ هو الدعوةُ إلى مقاطعةٍ واسعةٍ لهذه الانتخابات تُظهِر سخطَ الناس وغضبَهم ورفضَهم الأمرَ الواقع؟

وهل من الأنسب مقاطعةٌ تشمل كل الدوائر الانتخابية، أم في المناطق التي يصعب فيها تحقيق نجاحات مقبولة؟

وإذا كان خيار المشاركة هو الأفضل، فلمن نقترع؟ وما هي المقاييس التي يجب اعتمادها وتكون صالحةً للتعميم؟

إذا كان خيار المقاطعة يبدو هو الأفضل، فإني أرى أن تكون الدعوةُ إلى المقاطعة شاملةً، والابتعادَ عن الاستنسابية في المقاطعة والمشاركة. يجب أن يكون الموقف مبدئياً.

أما إذا كان خيارُ المشاركةِ هو المعتمَد، فيجب الانتباه إلى أن الاستحقاقَ الانتخابيَّ هو استحقاقٌ سياسيٌّ بامتياز. لا تتناسب معه العودة إلى أيِّ شكلٍ من أشكال العصبيات: يجب أن يكون الاختيارُ سياسياً: البدايةُ تكون من اختيار اللائحة استناداً إلى ما تمثله من موقف سياسي.

بعد ذلك يمكن اختيارُ مَنْحِ الصوتِ التفضيليِّ إلى من يجسِّد أكثرَ من غيره هذا الموقف السياسي، وبالاستناد إلى تاريخه وإلى مواقفه السياسية وإلى صفاتٍ يجب توفرها، مثل المبدئية، والكفاءة، والصدق، ونظافة الكف.. إلى آخر تلك الصفات التي تتناسب مع من نرجو له أن يكون نائباً في البرلمان يحمل هموم الناس ويحارب الفساد والطبقة التي نهبت البلد وأفقرته وحوّلته إلى مغارة لصوص.

أقول هذا الكلام الذي يجب أن يكون بدَهياً، لأني أعرف أنّ مناطقَ كثيرةً، وربما تمتد على مساحة الوطن بنسبٍ متفاوتة، يتم الاختيارُ فيها بطريقةٍ معاكسة تماماً: نبدأ الاختيارَ انطلاقاً من القرابة والعلاقات الشخصية والمنفعة والعصبية المناطقية أو العائلية والعشائرية وعصبية الطائفة والمذهب والحزب الطائفي أو المذهبي: الكثيرون يعيدون التجديد لأحزاب الطائفة الفاشلين والفاسدين، فقط لأنهم يظنون أن الطائفة في خطر وأن هؤلاء هم حماتُها.

وآخرون يظنّون بأنه يجب أن يكون ابنُ بلدتي أو قريبي أو ابن عمي في البرلمان، وأن في ذلك منفعةً وطنيّةً، إضافةً إلى كونه موضع تبجح وافتخار.

الحقيقةُ إنّ لكل موقعٍ مقاييسه: فالصفاتُ المطلوبةُ لنائبٍ في البرلمان تختلف عن الصفات المطلوبةِ لعضوٍ البلدية أو رئيسِها كما تختلف عن الصفات المناسبة لمختار في قرية، وإن كان هناك صفات مطلوبة ومشتركة في الجميع..

وقد يكون للحديث تتمة.

 

(محمد الحجيري؛ 8 نيسان 2022)

 


الجمعة، 11 مارس 2022

شوبنهاور؛ زكي نجيب محمود؛ قصة الفلسفة الحديثة.

 

 


(٤-٢) شُوبِنْهَوَر Schopenhauer

زكي نجيب محمود؛ قصة الفلسفة الحديثة

(١) عصرُه

سادت في أوروبا روح التشاؤم في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وتملَّك النفوس يأسٌ قاتل، وارتفعت بذلك أصوات الشعراء والفلاسفة في كل ناحيةٍ من نواحي القارة الأوروبية: «بيرون» في إنجلترا، و«دي موسيه» في فرنسا، «وَهِيْني وشوبنهور» في ألمانيا.

ولقد يقِف المرء أمام هذه الظاهرة العجيبة وقفةً لا تطول كثيرًا، حتى يجد أسبابها في طبيعة ذلك العصر وظروفه التاريخية، فقد انفجرَتِ الثورة في فرنسا، ودوَّت أرجاء أوروبا دويًّا اهتزت من هوله عروش، وكان لصَوتها صدًى في كل الصدور، وأثَر عميق في كل النفوس، فمن أشرافٍ ناقِمين ساخطين، إلى زُرَّاع يُهلِّلون لها ويكبِّرون، ثم كانت واقعة واترلو، فَخَفَت ذلك الصوت الداوي، وعُزل نابليون على صخرة سنت هيلانه الصامتة المُوحِشة في عرض المُحيط، وعاد «البوربون» إلى مُلكهم في فرنسا، وعاد في ذَيلهم أشراف الإقطاع يُطالبون بأملاكهم، وانتشرت في أوروبا حركة رجعية تعمل على طمس معالم الثورة.

كم من ملايين الشباب فاضَتْ أرواحهم، وكم من عامر الأرض بات خرابًا بلقعًا، فكنتَ لا ترى على وجه أوروبا إلا آثارًا خربة، وأنقاضًا هنا وهناك؛ ذلك لأنَّ الجيوش النابليونية الجرَّارة من ناحية، وأعداءها من ناحيةٍ أخرى، أخذت تروح وتجيء على وجه أوروبا أكثر من عشرين سنة قضَتْ فيها على الأخضر واليابس، وخلَّفَت القُرى والمدائن ينتابها فقر مُدقع وبؤس شامل.


ماتت الثورة الفرنسية، وكأنما انتُزِعت معها روح الحياة من أوروبا؛ لأنَّ قلوب الشباب الطامح في كل بقعةٍ من بِقاعها كانت قد صغَتْ إلى الجمهورية الناشئة، وعاشت في ظلال الأمل الوارِفة حيث أمَّلت في مستقبلٍ ذهبي زاهر، فما هي إلا أن وقعَت الواقعة في واترلو حتى تحطَّمَت كل هذه الآمال، وتبدَّلت مأساة سنت هيلانه ومؤتمر فينا، فدبَّت في النفوس روح اليأس وسُدَّت في أعين الناس سُبل الحياة، وأثر ذلك في النزعة الدينية أثرَين مختلفَين: أما الطبقة الفقيرة الجاهلة فقد التجأت إلى الدِّين تجد في كنَفِه السَّلوى والعزاء، وأما الطبقة المُفكرة فطغت على قلوبهم موجة إلحادية، ولم تعُد عقولهم تُسيغ أن يكون ثمَّة مدبِّر أعلى لهذا الكون.

فأما فريق العقيدة والدين فقد اقتنع بأن هذه النَّكبات ليست إلا إذلالًا للنفوس جزاءً وفاقًا بما نزعت إليه من الاعتداد بحُكم العقل، ونبذ العقائد وراء الظهر، وأما فريق الإلحاد فقد ارتأى أن اضطراب أوروبا ينهض دليلًا قويًّا على فوضى الحياة وعبَثِها، وعلى رأس هؤلاء «بيرون وهيني وشوبنهور».

(٢) الرجل

ولد «أرثر شوبنهور» في دانزج في الثاني والعشرين من فبراير سنة ١٧٨٨م، وكان أبوه تاجرًا امتاز بالكفاءة واستقلال الشخصية، كما عُرِف بحدَّة الطبع وحب الحُرية، حتى إنه غادر بلدته دانزج حين سُلِبت حُريتها بضمِّ بولندا لها سنة ١٧٩٣م، فارتحل إلى هامبورج، وكان ابنه «أرثر» عندئذٍ في الخامسة من عمره، وأنت ترى من ذلك كيف شبَّ «شوبنهور» اليافع في جوٍّ مُشبع بروح العمل، وكسب المال، والنزوع إلى الحرية. ومع أنه سرعان ما هجر حياة التجارة التي أقحمه فيها أبوه إقحامًا، فقد كانت قد طبعَتْه بمَيسمِها الذي يمتاز به رجال الأعمال من برودٍ في الطبع، ونزوع إلى الحقائق الملموسة الواقعة، ومَيل إلى تعرُّف الناس والعالَم. ولعلَّه ممَّا يدلُّ على شذوذ أفراد أسرة «شوبنهور» أنَّ أباه قد مات مُنتحرًا سنة ١٨٠٥م، وأن جدَّته لأبيه تُوفِّيت بعد أن أصابها الجنون.

هذا ما ورثه «شوبنهور» عن أبيه: خلق وإرادة، وأما أمُّه فقد أورثته ذكاءها المُرهَف الذي اشتُهرت به شُهرة واسعة، فلقد كانت من أنبغ من نبَغَ في عصرها من كتَّاب القصة. وكان نبوغها هذا في عالم الأدب مما نغَّض عليها الحياة مع زوجها الذي لم يكن لدَيه من تذوُّق الأدب ما يلائم بينه وبينها، فما كاد هذا الزوج الذي يتنافر طبعه وطبعها حتى اندفعت إلى حياة الحبِّ المُتحرِّر من قيود الزوجية، وقد ارتحلت إلى «فيمار»؛ لأنها أنسب بلدٍ في ذلك الحين لتلك الحياة التي نزعت إليها، فلم يقَعْ سلوك الأم من ابنها موقعًا حسنًا، وساءت العلاقة بينهما سوءًا انتهى إلى خصومةٍ مُتَّصلة ونزاع لا ينتهي، ولعلَّ هذه العلاقة السيئة بينه وبين أمِّه هي التي أوحت له بذلك المقت الشديد الذي يصبُّه على المرأة، ويصوِّر لنا هذا الخطاب من الأم إلى ابنها سوء ما كان بينهما من صِلة: «إنك عبء ثقيل لا يُحتمَل، وإنَّ الحياة معك لعسيرة شديدة العُسر، فلقد أطفأ غرورُك كلَّ صفاتك الحميدة حتى أصبحْتَ، ولا رجاء فيك يرجوه العالَم، وذلك لعجزِك عن ضبط رغبتِك القوية في تسقُّط هفوات الناس.» فلمَّا تعذَّرت الصلة بينهما على هذا النحو، اتفقا على أن يعيشا منفصلَين، حتى إنه لم يكن «شوبنهور» يغشى دار أمِّه إلا كما يغشاها سائر الأضياف والزائرين، وكانا يُعامل أحدُهما الآخر حينئذٍ في كثيرٍ من الأدب والتكلُّف كما يفعل المُضيف مع زائره الغريب، ولكن حتى هذه الصِّلة الواهنة لم تلبَثْ أن انقطعت أسبابها، وذلك أنَّ «جوته»، وقد أحبَّ الأم، قد أنبأها يومًا أن ابنها لا بدَّ بالِغ أوْج الشهرة وذروة المجد، وكانت الأم ترى أن الأيام طوال التاريخ لم تسمح بنابغتَين في أسرةٍ واحدة، فأدركَتْ من فورها أن نبوغ ابنها معناه انتقاصٌ في نبوغها، فضاقَتْ بهذا الابن ذرعًا ولم تعُد تطيق أن ترى ذلك المنافس القوي، فما هي إلا أن اشتجرَتْ معه في إحدى زياراته في معركةٍ حادَّة عنيفة، ثم دفعته على دَرَج السلم فانحدَر هاويًا بضع درجات، ثم وقف وصعَّد بصرَه إليها قائلًا في غضبٍ وحِدَّة: إنها مع ذلك كله لن تعرفها الأجيال المُقبلة إلا بأنها أمُّ «شوبنهور». ولم يلبَثْ فيلسوفنا بعد تلك الوقعة أن غادر «فيمار» ولقد لبثتْ أمُّه بعدئذٍ على قيد الحياة أربعةً وعشرين عامًا لم يرَها خلالها قط، وإنه لممَّا يستحقُّ الذكر في هذا الصدد أن «بيرون» الشاعر الإنجليزي قد وُلد في نفس العام الذي ولد فيه «شوبنهور» (١٧٨٨م)، وأنه لاقى من أُمِّه نفس العنَت الذي أصاب «شوبنهور» من أُمِّه، وأنه انتهى آخر الأمر إلى ما انتهى إليه فيلسوفنا من تشاؤم، ولا غرابة؛ فمن لم يعرف حبَّ الأم وحنانها، كلا بل من لقِيَ من أمِّه الكُره والإساءة، لحقيق أن يُقَلِّب النظر في وجوه الأرض، فلا يجد فيها ما يغري بالتعلُّق بأسباب العالَم.

وهكذا وجد فيلسوفنا من دُنياه غدرًا فتحدَّاها، وتلوَّنت حياته وفلسفته بالكآبة والتشاؤم والشك، فكان في حياته لا يتوقَّع أن يُصيبه من الناس إلا السوء والشر، ولذا عاهد نفسه ألا يترك بابًا واحدًا في داره إلا أغلقه وأحكم إغلاقه، ولم يرضَ لنفسه مرةً أن يُسلِّم عنقَه للحلاق، وكيف يفعل والحلاق لا يني مُمسكًا بموساه؟ ولم ينَمْ ليلةً إلا بعد أن استوثق من حشو غدَّارته التي كان يضعها تحت وسادته!

وممَّا يستلفِتُ النظر من أخلاقه عدَم احتماله للجلبة والضوضاء، وقد كتَب في ذلك يقول: «إن من رأيي أن مقدار الضوضاء الذي يمكن للإنسان أن يحتِمله دون أن يُثيره، يتناسَب تناسُبًا عكسيًّا مع مقدِرته العقلية، فيُمكننا بهذا أن نتَّخِذ الضوضاء مقياسًا للكفاءة بالغًا في الدقة … الضوضاء تعذيب لكلِّ من يعمل بعقلِه من الناس.» فلقد كان يدرك «شوبنهور» أنه عظيم رغم إنكار الناس لعظمَتِه، ولمَّا أفلتتْ منه الشهرة والتوفيق ارتدَّ إلى نفسه مع الناس وأخذ ينهَشُ في نفسه بأنيابه.

عاش «شوبنهور» وحيدًا فلا أمَّ ولا زوجة ولا ولد ولا أُسرة ولا وطن ولا صديق، ولم يكن يشاطر مُعاصريه فيما ملأ صدورهم من نار الوطنية المُشتعلة وقتئذ. ومما يروى في ذلك أنه في عام ١٨١٣م كان قد تأثَّر بحماسة «فخته» حتى استجاب لدعوته لحربٍ وطنية ضد نابليون. وفكر فعلًا في التطوُّع بنفسه في تلك الحرب، وابتاع لنفسه ما يلزَمُه للقتال من عدَّة وسلاح، ولكنه لم يلبَثْ بعد ذلك أن استنكر من نفسه ذلك التصرُّف قائلًا: «إن نابليون لم يفعل في كل ما قام به من عملٍ إلا أن أفصح بتعبيرٍ حُر مختصر عن تقرير الذات وعن الشهوة للاستزادة من الحياة التي يُحِسُّها من هُم أضعف منه من الناس، ولكنهم يكتمونها في صدورهم مُرغَمين.» وبدل أن يذهب لمشاركة قومه في القتال كما اعتزم. قصد إلى هدوء الريف حيث كتب رسالته التي نال بها لقب الدكتوراه في الفلسفة.

ومنذ ذلك الحين قصر «شوبنهور» مجهوده ووقته على تأليف كتابه المُسمَّى «العالم كإرادة وفكرة» وهو آية نبوغه وبرهان عبقريته، ولقد كتب هو نفسه عن هذا الكتاب حين أرسل صورته الخطية للناشر يقول: ليس كتابه هذا مجرد تكرار للآراء القديمة، ولكنه بناء شامخ من فكر مُبتدع، وأنه «قوي واضح ولا يخلو من جمال.» فهو كتاب «سيكون بعدئذٍ مُعينًا وسببًا لمائة كتاب.» يبعث هو على تأليفها فلم يشكَّ «شوبنهور» في أنه حلَّ في كتابه ذاك كل مسائل الفلسفة الهامة، حتى إنه فكر في أن يتَّخِذ لنفسه خاتمًا منقوشًا عليه صورة أبي الهول وهو يُلقي بنفسه في الهاوية؛ إذ قيل إن أبا الهول قد أخذ نفسه بأن يفعل هذا إذا ما حُلَّت ألغازه وزال عنها الغموض.

ولكن الكتاب رغم هذه المكانة كلها لم يجد في الناس قارئًا، لقد كان الناس مَنهوكي القُوى يتمرَّغون في حمأة الفقر فما حاجتهم إلى قراءة كتاب يُحدِّثهم عن فقر العالم وشقائه؟! ومهما يكن من أمر، فقد طُبع الكتاب ولبِث أكداسًا مركومة في المخازن، فلمَّا مضَت بعد طبعِه ستة عشر عامًا أُنبئ «شوبنهور» أنْ قد بيعت الكثرة العُظمى من نُسَخ الكتاب ورقًا تالفًا، وقد كتَب في مقالٍ له عن «الشهرة» مشيرًا إلى كتابه ذاك: «إنَّ مثل هذه الكتب كالمرآة إذا نظر فيها حمار فلا يتوقعنَّ أن يرى فيها ملَكًا.» «وهل إذا ما تصادم رأسٌ وكتاب، ثم انبعث من أحدِهما صوتٌ أجوف، أويكون الأجوف هو الكتاب دائمًا؟» ثم يستطرد «شوبنهور» في هذا المقال فيزهو بنفسه كأنما يريد أن ينتقم لكبريائه الجريح: «كلَّما كان الرجل تابعًا للخلف — أو بعبارةٍ أخرى كلما كان تابعًا للإنسانية بصفةٍ عامَّة — كان أبعدَ عن مُعاصريه؛ لأنه إذا كان كتابه لا يقصد إليهم كمُعاصرين، بل يخاطبهم كجزءٍ من الإنسانية عامة، فلن يصطبغ الكتاب باللَّون المحلي الذي يألفونه، ويمسُّ قلوبهم»، ثم يقول في لغةِ ثعلب العنب: «هل يَغْتَرُّ الموسيقيُّ عندما يضجُّ سامعوه باستحسانه إذا علم أن كثرتهم الغالبة صمَّاء وأنهم أوصوا شخصًا أو شخصَين ليُصفقوا عنهم لكي يُخْفُوا من أنفسهم عاهة الصَّمم؟ وماذا هو قائل إذا ما عرف أن ذلك الشخص أو الشخصين لم يصيحا باستحسانه إلا بعد أن ارتشيا ليفعلا هذا؟»

أما مؤلَّفاته الأخرى فأهمُّها وأوسعها انتشارًا «المقالات» التي نشرَها في سنة ١٨٥١م، وهو كتاب مُفعَم على صغره بالحكمة. وجدير بنا أن نذكر أن الفيلسوف لم يأخذ من ناشر الكتاب ثمنًا لكتابه إلا عشر نُسَخ منه.

لبِث «شوبنهور» في وحدته وعُزلته بعد أن غادر «فيمار» ولبث يُعاني تلك الحالة الرتيبة التي لا تأتيه بجديد، حتى تهيَّأت له في عام ١٨٢٣م فرصة طالما تمنَّاها، وهي أن يُتاح له أن يحاضر في فلسفته في إحدى الجامعات، فلمَّا كانت تلك السنة دُعِي إلى جامعة برلين ليبسُط فلسفته للطلاب، فتعمَّد أن يُحدد لإلقاء محاضراته نفس الأوقات التي كان يلقي فيها «هجل» محاضراته، وكان «هجل» في ذلك الحين في ذروة مجدِه وقمة شُهرته، له صوت بعيد في الطلَّاب، وكان «شوبنهور» يحسَب أن جموع الطلاب لن تلبَث أن تُقبل عليه، وقد كان يكون هذا لو لم يكن الطلاب قد ملأهم الإعجاب بهجل وملَك عليهم نفوسهم، ولم يعُد فيها مجال للإعجاب بأحدٍ غيره، ولكنه أحسن الظنَّ بتقدير الطلاب إلى حدٍّ بعيد، فخاب فَألُه، إذ ألفى نفسه يلقي محاضراته وليس أمامه إلا صفوف من المقاعد الخاوية، فلم يسعْه إلا أن يستقيل من هذا المنصب الذي طالما رجاه، وكأنما أحسَّ بشيءٍ من الغيط نحو «هِجِل» الذي سيطر على نفوس الطلاب جميعًا، فراح ينتقِم لنفسه منه بما نشَر عنه من نقد. وفي عام ١٨٣١م انتشرت الكوليرا في برلين، ففر «هِجِل وشوبنهور» استبقاء لحياتهما، ولكن «هِجل» عجَّل بالعودة إلى برلين حيث لقِيَ حتفه، أما «شوبنهور» فواصل السير حتى استقرَّ في فرانكفورت، وهنالك طاب له المقام، فعاش بها اثنين وعشرين عامًا انتقل بعدَها إلى جوار ربه.

لقد أبى «شوبنهور» أن يكسب عيشه بإنتاج قلمِه بحجة أن هذه زلة لا يقع فيها إلا متفائل بالدُّنيا، أما هو المُتشائم فلا يجوز له ذلك، وكان يكفيه لعَيشه ريع مالٍ خلَّفه له أبوه. ومن العجيب أنه كان حريصًا في استخدام أمواله حرصًا لا يكاد يلائم روح الفيلسوف، وكان يسكن في الشطر الأخير من حياته في حُجرتَين من منزلٍ لا زميل له إلا كلبُه الذي أطلق عليه اسم «أطما Atma» (وهو اسم يُطلقه البرهمي على روح العالم)، ولكن المُجَّان من أهل المدينة كانوا يسخرون من الفيلسوف فسمَّوا كلبَه هذا «شوبنهور الصغير»، وقد اعتاد «شوبنهور» في كل يومٍ عند بدء تناوله لغدائه أن يضع قطعةً ذهبية من النقود أمامه على المائدة، ثم يُعيدها إلى جيبه ثانيةً إذا ما فرغ من طعامه، فلم يسَعْ خادم المائدة إلا أن يستفسِره يومًا عن معنى ذلك، فأجابه «شوبنهور» إنه راهن نفسه أن يُلقي بهذه القطعة الذهبية في صندوق الفقراء إذا سمع الضبَّاط الإنجليز الذين كانوا يطعَمون في ذلك المطعم يتحدَّثون في شيءٍ غير الخيل والنساء والكلاب، وأنه في كلِّ يومٍ يكسِب من نفسه الرهان.

لقد أنكرت الجامعات «شوبنهور» كما أنكرت كتُبه، فكانت بذلك الإنكار كأنما تؤيد ما زعمه هو نفسه من أنَّ الفلسفة لم تتقدَّم خارج جدران الجامعات، ولكن «شوبنهور» لم تُخامره خلجةٌ من الشك في أن الناس لا بدَّ معترفون يومًا بمكانته، أسرع ذلك اليوم أم أبطأ، ولقد حقَّقت الأيام رجاءه بعد أعوامٍ طوال، فأقبل على فلسفته المُثقفون من الطبقات المتوسطة كالمُحامين والأطباء والتجار؛ لأنهم لم يجدوا فيه الفيلسوف الذي يرطن بضخام الألفاظ عمَّا وراء الطبيعة، ولكنهم ألفَوه يشرح بفلسفته ظواهر الحياة شرحًا يسير الفهم سهل الإساغة.

جاءته الشهرة التي تمنَّاها وتوقَّعها، ولم يكن من الشيخوخة بحيث لا يستطيع أن يتمتَّع بها، بل كان له من حيوية الشباب ما مكَّنه من التمتع بشهرته، فأخذ يقرأ كل ما كان يُنشَر عنه من مقالات، وطلب من أصدقائه أن يُرسلوا إليه كل ما يقعون عليه في الصحف وغير الصحف ممَّا يتصِل به بسبب وعليه أجرة البريد! وقد بعث إليه «فاجنر» في سنة ١٨٥٤م بتقديره وإعجابه بفلسفته في الموسيقى، فسُرَّ «شوبنهور» بذلك سرورًا كاد ينقلب معه تشاؤمه إلى تفاؤل … وقد كان في كهولتِه يضرب على القيثارة كلَّ يومٍ بعد الغداء ويحمد الأيام التي خلَّصته من نيران الشباب المحتدِم، وبلغ في سنة ١٨٥٨م عامه السبعين، فتدفَّقت إليه جموع غفيرة من كل حدبٍ وصوب ليرَوه، كما انهالت عليه رسائل التهنئة بذلك العيد.

ثم عاش بعد ذلك عامين، وفي اليوم الحادي والعشرين من سبتمبر سنة ١٨٦٠م جلس وحدَه على مائدة الإفطار وعليه علائم الصحَّة، ولكنَّ سيدة الدار رأته بعد ساعةٍ كاملة لا يزال جالسًا إلى مائدته ساكنًا لا يتحرَّك. لقد مات.

(٣) العالم فكرة

[سهولة الأسلوب]

أول ما يفجؤك من كتاب «شوبنهور» «العالم كإرادة وفكرة» أسلوبه الذي صِيغ فيه، فلن يصادفك منه إلا عبارة سهلة المأخذ، يسيرة الفهم، لا يشُوبها شيء من تلك المصطلحات المُعقَّدة التي نراها عند «كانْت» ولا شيء من ذلك الغموض الذي يصدمك عند «هِجِل». وممَّا يلفِت نظر القارئ في هذا الكتاب فضلًا عن سهولة عبارته سَبْك الأفكار سبْكًا يستدعي الإعجاب الشديد، ففكرته الأساسية هي أنَّ العالَم إرادة، ثم يترتَّب على الإرادة كفاح وجهاد، ثم يَنبني على الكفاح بؤس وشقاء، فقد جاء هذا الكتاب جديدًا في كلِّ شيء، جديدًا في وضوح عبارته بعد ما رأيناه ممَّن قبله من غموضٍ وإبهام؛ وجديدًا في اتصال ما فيه من أفكار بالحياة الواقعة، وجديدًا بكثرة ما فيه من الأمثلة التوضيحية التي لم يرَ «شوبنهور» — وهو ابن رجل الأعمال — بدًّا منها لجلاء الفكرة؛ وجديدًا حتى في فُكاهته؛ لأنَّ وجود المُلَح الفكاهية في كتابٍ فلسفي كان ظاهرةً تلفت النظر بعد «كانْت».

ولكن إذا كانت تلك منزلة الكتاب، فلِمَ نَبذُه وكسادُه؟ والجواب على ذلك أنه إنما نُبِذ وكسَد؛ لأنه هاجم أساتذة الجامعة، وهم الطائفة الوحيدة التي كان في وُسعِها أن تذيع الكتاب وتنشُره، فقد كان «هِجِل» هو الآمِر المُسيطر على ميدان الفلسفة في ألمانيا سنة ١٨١٨م، ومع ذلك لم يعبأ به «شوبنهور»، وبدأ كتابه بأعنف النقد «لهجل».

ويبدأ الكتاب بهذه العبارة: «العالَم هو فكرتي عنه» وهو يقصد ما ارتآه «كانْت» من قبلُ من أنَّنا نعلم العالم الخارجي بوساطة الحواسِّ والأفكار، ثم يستطرد «شوبنهور» فيعرض المذهب المِثالي عرضًا واضحًا قويًّا، ولكنه مع ذلك أضعف أجزاء الكتاب وأقلُّها أصالةَ رأي، وكان خيرًا له وللكتاب أن يؤخِّر هذا الجزء من أن يقدِّمه ويصدِّر به الكتاب، فلقد لبِث الناس جيلًا كاملًا وهم لا يعلمون أنَّ «شوبنهور» قد استهلَّ الكتاب بأضعف فصوله ليتَّخِذ منها ستارًا يُخبئ وراءه فِكرَه المُمتع الطريف. ولعلَّ أهم ما جاء في هذا الجزء الأول هو هجومه على المذهب المادي، فقد تساءل كيف نُفسر العقل بأنه مادة ما دُمنا لا نعلم المادة إلا بواسطة العقل؟ ثم يقول إنه من المُستحيل أن نستكشف كُنه الحقيقة بأن نبدأ ببحث المادة، ثم ننتقِل منها إلى الفِكْر، بل يجب أن نبدأ بذلك الذي نعرفه معرفةً مباشرة قريبة أعني أنفسنا «إنَّنا لن نصل إلى طبيعة الأشياء الحقيقية إذا بدأنا السير من الخارج، فمهما طال البحث فلن نُدرك شيئًا، اللهم إلا صورًا وأسماء.» أما إذا عرفْنا طبيعة عقولنا أوَّلًا فلقد ظفِرْنا بمفتاح العالم الخارجي. [التأثر هنا واضح بديكارت وكانط]

(٤) العالم إرادة

(أ) إرادة الحياة: لقد اتفق الفلاسفة جميعًا بغير استثناءٍ على أنَّ جوهرَ العقلِ الفكرُ والإدراك، وكان الإنسان عندهم جميعًا هو حيوان عارف «فيجب أولًا أن ننبذ هذه الغلطة القديمة الجوهرية الاجتماعية.»١١ إنما الإدراك مجرد قِشرة سطحية لعقولنا، ولا نعلم شيئًا عمَّا تحويه تلك القشرة كما هي حالنا مع الأرض، لا نعلم منها إلا القشرة، فثمَّة وراء العقل الواعي إرادة شعورية أو لا شعورية، وهي عبارة عن قوَّة حيوية مكافِحة مثابرة هي فاعلية من تلقاء نفسها، ورغبة تُوجِّه الإنسان بما تُلقي عليه من الأوامر، ولقد يبدو العقل أحيانًا كأنه هو الذي يقود الإرادة، ولكنه عندئذٍ يكون كما يقود الدليل سيِّدَه، فالإرادة «هي الرجل الأعمى القوي الذي يحمِل على كتفَيه رجلًا أعرج لا يُبصِر» [ربما الصحيح: يحمل على كتفيه رجلاً مبصراً أعرجَ]، فنحن لا نُريد الشيء المُعين؛ لأنَّ عقولنا قد وجدت ما يُبرِّر إرادته من أسباب، بل إننا لنوجِد الأسباب؛ لأننا أردناه، وكل ما ترى مما أنتج الإنسان من فلسفةٍ ودينٍ ليس إلا قناعًا يلفُّ فيه رغبته وإرادته، ولهذا يُسمِّي «شوبنهور» الإنسان «بالحيوان الميتافيزيقي»؛ لأنَّ سائر الحيوان يرغب ويريد دون أن يحاول إخفاء إرادته في قناع من الميتافيزيقيا، فالإنسان مسُوق بإرادته وحدَها دون عقله، يقول «شوبنهور» لشدَّ ما يَغيظني أن نجادل رجلًا بالأسباب والبراهين ونعاني الآلام في إقناعه، ثم يتَّضِح لنا آخِر الأمر أنه «لا يريد» أن يفهم، وأنه ينبغي لنا أن نتَّصِل «بإرادته» لا بعقله، ومن هنا كان المنطق عديم الفائدة؛ لأنه يستحيل عليك أن تُقنِع أحدًا بالمنطق، وما نحسَب علماء المنطق أنفسهم يستخدمون المنطق إلا كوسيلةٍ لكسْب العيش، فلكي تقنع إنسانًا يجب أن تلجأ إلى مصلحته الشخصية الذاتية وإلى رغبته وإرادته انظر كم يحتفِظ الرجل بذكرى انتصاره، ثم ما أسرع أن ينسى اندِحاره، وما ذلك إلَّا لأنَّ الذاكرة أداةٌ طيِّعة في يد الإرادة، ثم انظر كيف «يُخطئ الإنسان في إعداد حسابه خطأً في صالِحِه أكثر مما يُخطئ في غير صالِحه، وإنما يقع مثل ذلك الخطأ بغير أدنى قصدٍ دنيء.» هذا وإنك لتُلاحظ من جهةٍ أُخرى أن أغبى إنسانٍ ينقلِب مُرهَف الذكاء إذا ما كانت المسألة المطروحة عليه من البحث تمسُّ رغباته مسًّا قريبًا، ويدل ذلك كله على أن العقل ثانوي بالنسبة للإرادة، وأداة خاضعة لرغبة الإنسان، أما إذا حاوَلْتَ أن تُحِلَّ العقل محلَّ الإرادة، فقد تورَّطتَ في إشكالٍ لا نجاة لك منه؛، إذ لا يكون الإنسان عُرضة للأخطاء إلا إذا حان أن يُحكِّم عقله وتأمُّله في كلِّ شيء.

فكِّر في كفاح الناس للحصول على طعامهم وزوجاتهم، ثُم في تربية أطفالهم، وسائل نفسك: هل يمكن أن يكون هذا من عمل الفكر؟ كلا ولا رَيْب، إنما هو نتيجة لإرادة الإنسان أن يحيا حياة كاملة «فقد يبدو على الناس أنهم مقُودون من الأمام، والواقع أنهم مسُوقون من الخلف.» فهم يظنُّون أنهم مُسيَّرون بما يرون لأنفسهم، وهم في الحقيقة مدفوعون بإحساسٍ غريزي ما أكثر أن يسلبهم إدراكهم الواعي، فليس العقل من الإنسان إلا وزيرًا لخارجيته «قد أنتجته الطبيعة ليخدُم إرادة الفرد، والقصد منه أن يتعرَّف الأشياء بمقدار ما هي دوافع للإرادة، لا أن يَسبر غورَها أو يفهم حقيقة وجودها» أما الإرادة «فهي العنصر الوحيد الدائم الثابت.» وهي التي تعمل بما ترمي إليه من غرضٍ على توحيد مشاعر الإنسان وربط أفكاره وآرائه بعضها ببعض، والجمع بينها في وحدةٍ متناسقة دائمة.

هذا وإن شخصية الإنسان لتُشكلها إرادته لا عقله، وما أصدقَ العامة حين يُؤثِرون «القلب» على «العقل»؛ لأنهم مُوقنون أن الإرادة الطيِّبة أعمق من العقل الخالص، وإنا لنلاحِظ أن الناس إذا ما أطلقوا على رجلٍ اسمًا من تلك الأسماء التي تتضمَّن حدَّة الذكاء «كالداهية» أو «العليم» أو «الماكر»، فإنهم إنما يُبطنون وراء هذه التسمية رِيبتَهم في ذلك الرجل وكُرهَهم له؛ «لأن نبوغ العقل يستثير الإعجاب، ولكنه يستحيل أن يستتبع المحبَّة.» ألستَ ترى «جميع الديانات تُبشِّر بالجزاء … لحسنات الإرادة أو القلب، ولكنها لا تَعِد نبوغ العقل والفهم شيئًا؟»

بل إنَّ الجسم نفسه لثمرةٌ أنتجتْها الإرادة، فالدم الذي تدفعه تلك الإرادة التي نُسمِّيها — على وجه التقريب — بالحياة، يبني أوعيتَه التي يجري فيها بأن يشقَّ لنفسه قنواتٍ في الجنين، ثم تزداد تلك القنوات تعمُّقًا، ثم تُصبح بعدُ عروقًا وشرايين. وإرادة الإنسان أن يَعْلَم تَبْنِي المخ، كما أنَّ إرادته أن يقبِض على الأشياء تكوِّن الأيدي، وإرادة أن يأكل تهذب الجهاز الهضمي، وليس هذا الازدواج: صورة الإرادة من ناحية، والصورة الجسدية من ناحيةٍ أخرى إلا جانبَين لعملية واحدة، ولعلَّ أوضح ما تتَّضِح فيه العلاقة بين الإرادة والجسَد هي العواطف، حيث ترى الشعور المُعيَّن يتبعُه تغيرات بدنية مُعينة، وهذه وتلك تكوِّنان كلًّا واحدًا مُرَكبًا.

«إنَّ عمل الإرادة وحركة الجسم ليسا شيئَين مختلفين تُفرِّق بينهما تفرقةً موضوعية، ويتَّحد أحدهما بالآخر برباط السببية، أي أن ما بينهما من صِلةٍ هي صلة العِلة بمعلولها. بل هما شيء واحد، ولو أنهما يحدُثان بطرقٍ مختلفة أتمَّ الخلاف [التأثر واضح باسبينوزا هنا]… إن عمل الجسم ليس إلا عمل الإرادة مجسدًا، وهذا صحيح في كل حركةٍ من حركات الجسم… فليس الجسم كله إلا إرادة تجسَّدت … فيجِب لذلك أن تُقابِل أجزاء الجسم الرغبات الرئيسية التي تتجلَّى فيها الإرادة تقابلًا تامًّا، فلا بدَّ أن تكون تلك الأجزاء هي التعبير المرئي لهذه الرغبات، فالأسنان والحلق والأمعاء هي الجوع قد تجسَّد، وأعضاء التناسُل هي الرغبة الجنسية قد تجسَّدت … ويكون الجهاز العصبي في جُملته أداة الحسِّ التي تشعُر بها الإرادة فتمدُّها لتتحسَّس بها في الداخل وفي الخارج … وكما أن الجنس الإنساني بصفةٍ عامة يقابِل الإرادة الإنسانية بصفةٍ عامة، فإن البنية الجسدية للفرد تُقابل إرادة الفرد، أي شخصيته.»

وممَّا يُفرِّق بين العقل والإرادة أن الأول يتعَب، أما الثانية فلا تعرِف للتعب معنًى، فالعقل يحتاج إلى النوم، أما الإرادة فتواصِل نشاطها حتى في حالة النوم، والتعَب — كالألم — له مركز خاصٌّ في المخ، ولذا فالعضلات التي لا تتصل بالمخ — كالقلب مثلًا — لا تتعَب مطلقًا، والمخ يُغذِّيه النوم، أما الإرادة فلا تحتاج إلى تغذية، ومن هنا رأيْنا الحاجة إلى النوم تشتدُّ عند الذين يعملون بعقولهم، ومما يُلاحَظ أنَّ حياة الإنسان في النوم تهبط إلى المستوى النباتي، وحينئذٍ تعمل الإرادة وفق طبيعتها الأصلية الجوهرية، فلا يعُوقها عائق من الخارج، ولا تحدُّ من قوتها فاعلية المخ وما تبذُله من مجهودٍ في سبيل المعرفة، وهي أثقل الوظائف العضوية … ولذلك فكل قوة الإرادة تتوجَّه أثناء النوم نحو الاحتفاظ بالجهاز العضوي وتحسينه، ومن هنا أمكن للجسم أن يستعيض عن كل ما فقدَه بما يستردُّه في نومه. ولقد أصاب «برداخ» Burdach إذ قرَّر أنَّ النوم هو الحالة الطبيعية، فالجنين يكاد ينام نومًا متصلًا، والرضيع ينام الشطر الأعظم من يومِه، وهل الحياة إلا جهاد ضدَّ النوم؟ «فالنوم قطعة من المَوت استعرْناها؛ لنستعين بها على تجديد ما استهلَكَه عمل النهار من حياة.» إن النوم هو عدوُّنا الأبدي، وإنه ليتملَّكنا بعض الشيء حتى في يقظتِنا.

الإرادة إذن هي جوهر الإنسان، فماذا يمنع أن تكون جوهر الحياة في كل صورها، بل ماذا يمنع أن تكون جوهر الجماد؟ لمَ لا تكون الإرادة هي «الشيء في ذاته» الذي طالما بحثنا عنه، وطالما يئسنا من الوصول إليه؟ ألا أنَّ الإرادة هي الحقيقة النهائية، وهي كُنْه الأشياء الخفي.

إذن فلنحاوِل أن نُفسِّر مظاهر العالم الخارجي بالإرادة، ولنضرب من فورِنا إلى أعماق الموضوع فنرفُض ما قاله السابقون من أنَّ الإرادة ضرب من القوة، ونزعُم أن القوة هي صورة من صوَر الإرادة، فإذا أُلقي علينا سؤال «هيوم»: ما هي السببية؟ أجبنا: إنها الإرادة، فكما أن الإرادة هي العِلة العامة التي توجِّه أنفسنا، فهي كذلك عِلة الأشياء، وما لم نفهم العِلة على أنها إرادة، فسنظلُّ نردِّد ألفاظًا غامضة «كالقوة» «الجاذبية» وما إليهما، فنحن لا نعلم ما هذه القوى، ولكنَّنا نعلم — ولو إلى حدٍّ ما — ما هي الإرادة؟ فلماذا لا نقول إنَّ الطرد والجذب، والكون والفساد، والمغناطيسية والكهرباء، هي إرادة؟ ولقد أشار «جوته» إلى هذه الفكرة في عنوان إحدى قصصه إذ سمَّى تجاذُب الحبيبَين الذي لا مندوحة عنه «بالتشابُه الانتخابي»، ولعلَّه يريد أنَّ القوة التي تجذِب المُحبَّ إلى حبيبه هي هي القوة التي تجذب كوكبًا إلى كوكب.

هذا وإنا لنلاحِظ في حياة النبات أننا كلما هبطنا إلى أسفل صور الحياة صغُرَ الدور الذي يلعبه العقل، ولكن الإرادة تظلُّ هي هي «إنَّ ما فينا من إرادة تُتابع أغراضها في ضوء المعرفة، ولكن الإرادة هنا (أي في النبات) … تكافح كفاحًا أعمى وأبكم على صورةٍ محدودة لا تتغيَّر … إنَّ اللاشعور هو الحالة الأولية والطبيعية لسائر الأشياء، ولذا فهو الأساس الذي تفرَّع عنه الشعور — وبخاصة في الأحياء — كجوهرها الأسمى، ولكنَّ اللاشعور تظلُّ له السيطرة حتى في الكائنات ذوات الشعور. وعلى ذلك فمُعظم الموجودات تعمل بلا شعور، ولكنها تسير تبعًا لقوانين طبيعتها أعني إرادتها. فالنباتات ليس لها من الإدراك الشعوري إلا ما يُشبه الإدراك شبهًا غايةً في الضعف، وليس لأحوَطِ أنواع الحيوان إلا بصيص من الإدراك فقط، وحتى بعد أن يصعد الشعور مُجتازًا مراحل الحيوان إلى أن يصِل إلى عقل الإنسان، فإنَّ اللاشعور الذي رأيته في النبات الذي بدأ منه الشعور يظلُّ هو الأساس، ويُمكننا أن نلمس وجوده في ضرورة النوم.»

إن المهارة الآلية العجيبة التي نشاهدها في الحيوان لتُبيِّن لنا في جلاءٍ كيف أنَّ الإرادة أسبق من العقل. ألم ترَ إلى ذلك الفيل الذي سِيق إلى القارة الأوروبية، والذي عبَر في رحلته تلك مئاتٍ من الجسور (الكباري) كيف أبى أن يعبُر على جسرٍ ضعيف على الرغم من أنه رأى كثيرًا من الجياد والناس يعبرونه، ثم ألا ترى كيف يُحجِم الجرو الصغير عن القفز من المائدة؛ لأنه يخشى عواقب تلك القفزة، وهو لا يخشاها بناءً على البرهان العقلي (لأنه لم يسبِق له تجربة من هذا النوع حتى يتسنَّى له الحُكم) إنما هو يُحجِم بغريزته، بل انظر إلى قرود «الأورانج أوتانج» كيف تسعى إلى النار لتصطلِيَها، ولكنها يستحيل أن تُخطئ فتحاول أكلها، فليس هناك سبيل إلى الشكِّ في أنَّ هذه الأمثلة وأضرابها غريزة وليست نتيجةً لمنطق، إنها أعمال الإرادة لا العقل.

هذه الإرادة التي طال حديثنا عنها هي إرادة الحياة — أعني الحدَّ الأقصى من الحياة — وليست تقتصِر هذه الإرادة للحياة على كائنٍ دون آخر، بل كلها يريدها ويسترخِص كلَّ شيءٍ في سبيلها، انظر إلى حبة القمح كيف تحتفظ بقوَّة الحياة الكامنة فيها ثلاثة آلافٍ من السنين، حتى إذا ما ظفرت بالظروف المُلائمة للنموِّ ترعرَعَت نباتًا، بل فكِّر في هذه الضفادع الأحياء التي وُجِدت في ثنايا حجَر الجير، والتي لبِثَت في مخبئها ذاك عدة آلاف من السنين ترقُب العودة إلى الحياة في صبرٍ جميل، نعم إنها إرادة الحياة هي التي تُسيطر على الكائنات كلها، وأما عدوُّها الأبدي فهو الموت.

أفلا تستطيع أن تهزِم الموت؟

(ب) إرادة النَّسْل: نعم تستطيع أن تهزم عدُوَّها الموت، بالتناسُل، رغم ما يتضمَّن التناسُل من عناءٍ وتضحية، فكل كائن عضوي يُسارع إلى تضحية نفسه من أجل التناسُل إذا ما بلغ حدَّ النضوح من العنكب الذي تلتهِمُه أُنثاه بمجرد تلقيحه إيَّاها، والزنبور الذي يُفني حياته في جمع القوت لنسْلٍ لن يراه، إلى الإنسان الذي يتفانى في تحصيل حاجات أولاده من طعامٍ ولباس وتربية … فالنَّسْل هو الغرَض النهائي لكل كائنٍ عضوي، والتناسُل هو أقوى الغرائز، إذ هو الوسيلة الوحيدة التي يتسنَّى للإرادة بها أن تقهَر الموت، ولكي تثِق الإرادة بسلامتها من خطر الموت تعمَّدت ألا تضع إرادة النسْل تحت رقابة العقل بما له من تأمُّل ومعرفة، فلم يكَدْ ينجو منها أحد، حتى إنك لترى الفلاسفة أنفسهم قد انصاعوا لها وأنْسَلوا.

«إن الإرادة لتبدو في التناسُل مستقلةً عن المعرفة، فهي تسير في هذا المجال سيرًا أعمى، كما تعمل في الطبيعة اللاشعورية … وبناء على هذا كانت أعضاء التناسُل هي بؤرة الإرادة بعَينها، وهي المركز الذي يُقابله المخ الذي يمثل المعرفة من ناحية أخرى … وأعضاء التناسُل هي أساس حِفظ الحياة … لأنها تتضمَّن حياةً لا تنتهي، ومن أجل هذا عَبَدها منذ القِدَم اليونان واليهود … إنَّ العلاقة بين الجنسَين … هي في الواقع النقطة المركزية الخفية لكلِّ عملٍ وسلوك، وهي تتجلَّى في كل شيءٍ برغم ما نحاول سترَها به من الأقنعة، إنها سبب الحروب، وهي الغاية من السلام، هي أساس الجدِّ والغاية من المزاح، وهي الينبوع الفيَّاض بمُستملَح النكات، وهي مفتاح كل تلميح، ومعنى كلِّ ما غمض من العبارات … إنَّنا نراها لا تني في رفع نفسها لتكون سيدةَ العالم سيادةً وراثية حقيقية، تريد أن تتربَّع على عرش الآباء بفضل اكتمال قوَّتِها، وتُلْقِي من أوْجها نظرةً كلها السخرية والاستخفاف بما يتَّخِذه الناس لها من قيودٍ وأغلال، أو بما يُعَدُّ لتحديدها على أقلِّ تقدير، أو لمَحوِها إن أمكن، بل إنها لتهزأ من السيطرة عليها سيطرة تنزل بها إلى منزلةٍ من الحياة ثانوية فرعية.»

إن فلسفة الحبِّ لتدور حول تبعية الأب للأم، أو تبعية الوالد لولدِه، أو تبعية الفرد للنوع، وقانون الجاذبية الجنسية هو قبل كلِّ شيء اختيار الأليف اختيارًا لا شعوريًّا، بحيث يتلاءم الأليفان لإنتاج النَّسْل.

«كلٌّ يبحث عن أليفه الذي يمحو منه جوانب النقص حتى لا تورَّث … فالرجل الضعيف البنية يبحث عن امرأةٍ قوية … وكل إنسانٍ سيرى ما في أليفه من نواحي الكمال التي تعوزه هو جميلًا، كلا بل إنه ليصِف بالجمال نواحي النقص من أليفه التي تُناقِض نواحي نقصه هو … إن الصفات الجسدية لأليفَين تكون بحيث تحتفظ للنوع بصفاته المُميزة بقدْر الإمكان، ومن أجل هذا يكون الواحد منهما متمِّمًا للآخر، ولذلك تراه يرغب فيه رغبةً قوية … إنَّ الفرد ليفقد جاذبيَّتَه للجنس الآخر بمقدار ما ابتعد عن أنسَب فتراتِ حياته للإنسال … ولذا فللشباب جاذبيَّته دائمًا حتى وإنْ خلا من الجمال، ولكن لا جاذبية في جمالٍ بغير شباب …»

ولكن ممَّا تجدُر ملاحظته في هذا الصدد أنَّ أشقى حالات الزواج هو ما تمَّ على أساسٍ من الحب (ولو أنه أصلَحُها لبقاء النوع)، وعلَّة هذا أن الغرض الأسمى من الاتحاد الجنسي هو بقاء النوع لا لذَّة الفرد. أما أسعد زواجٍ في رأي «شوبنهور» فهو ما يتمُّ بإشراف آباء الزَّوجَين، ولو أنَّ هذا الضرب من الزواج — على ما فيه من سعادة الزوجين — أقل ملاءمةً لحفظ النوع من زواج الحُب، ولهذا فإنَّ الفتاة التي تندفع وراء حُبِّها مُعرِضةً عن نُصح والديها تستحقُّ الإعجاب؛ لأنها آثرَتْ بطبيعتها ما هو أهمُّ وأكثر نفعًا؛ لأنها في مثل هذه الحالة تُفضِّل واجبها نحو جنسها عن سعادة شخصها، فالحبُّ هو أدقُّ وسيلة لاختيار الأزواج اختيارًا صالحًا، بحيث يؤدِّي إلى أحسن النتائج، وما دام الحبُّ خديعة تُدبِّرها الطبيعة لأداء أغراضها، فخير الزواج ما يمحو هذه الخديعة، ولا يستطيع أن يفعل ذلك، وبعبارةٍ أخرى لا يستطيع أن يسعد بزواجه، إلَّا الفيلسوف، ولكن الفلاسفة لا يتزوَّجون.

ومما يدلُّ أيضًا على خضوع الفرد لحاجات جنسِه، وعلى أنه مجرد أداة يتخذها الجنس لاستمرار بقائه، هو أن حيوية الفرد تتوقَّف على حالة خلاياه التناسُلية.

«يجِب أن تُعتبَر الغريزة الجنسية روح شجرة النوع التي تنمو عليها حياة الفرد، فالفرد من نوعه كالورَقة من الشجرة تتغذَّى منها وتغذوها، وهذا هو السبب في قوة الغريزة الجنسية، وفي أنها تنشأ من أعماق طبيعتنا. فإذا خُصِيَ فردٌ كان ذلك بمثابة قطعِه من شجرة النوع التي ينمو عليها، وإذا ما انفصل من شجرته فلا بدَّ أن يذبُل ويذوي، ومن ثم تنحطُّ قواه البدنية والعقلية، وممَّا يلاحظ أنَّ خدمة الفرد للنوع — أعني قيامه بعملية التلقيح — يتبعها دائمًا تعَبٌ مؤقَّت وانحطاطٌ في كلِّ القوى، وقد يتبعها الموت العاجل عند مُعظم الحشرات، أما عند الإنسان فخمود القوى التناسُلية معناه أنَّ الفرد يدنو من الموت، والإفراط في استخدام هذه القوة في أية سِنٍّ مَدعاة لتقصير الحياة، والاعتدال من ناحيةٍ أخرى يزيد قوى الإنسان كلها، وبخاصةٍ القوى العضلية، وقد رُوعي هذا الأساس في تدريب الرياضيين الإغريق … وإنَّ ذلك ليدلُّ على أنَّ حياة الفرد في أعماقها ليست إلا جزءًا مستعارًا من حياة النوع … التناسُل هو الأوْج الأعلى الذي يهوي منه الفرد بعد بلوغِه إيَّاه هُوِيًّا سريعًا أو بطيئًا، بينما الحياة الجديدة (التي أنسلها) تؤكد للطبيعة بقاء النوع، ثم هي تُكرِّر الظاهرة بعينها … وهكذا يكون تعاقُب الموت والإنسال بمثابة نبضات القلب للنوع … إنَّ الموت بالنسبة إلى النوع كالنوم بالنسبة إلى الفرد … هذا هو مذهب الطبيعة العظيم في الخلود … إذ العالم بأسرِه — بكل ما فيه من ظواهر — هو تجسيد إرادة واحدة خفية … ويقول جوته: «إنَّ لأرواحنا طبيعة تستعصي على الفناء، وإنَّ فاعليتها لتمتدُّ من الأزل إلى الأبد. إنها كالشمس التي تبدو غاربةً لأعيُنِنا الأرضية، ولكنها في الحقيقة لا تغرُب أبدًا وتضيء بلا انقطاع.» ولقد أخذ منِّي «جوته» هذا التشبيه، لا أنا الذي اقتبستُه منه.

نحن كلُّنا أجزاء من حقيقةٍ واحدة، ولكن وجودنا في زمانٍ ومكان يظهرنا بمظهر الكائنات المنفصلة، فالزمان والمكان هما أصل الانفصال الفردي الذي تنقسِم به الحياة إلى كائناتٍ عضوية متميزة تبدو كأنما هي أشتاتٌ متفرِّقة في أمكنةٍ مختلفة، وفي فتراتٍ من الزمان مُتباعدة، فليس الزمان والمكان إلا نقابًا وهميًّا يخفي عن أعيُنِنا اتحاد الأشياء، إذ ليس في واقع الأمر إلا نوعٌ واحد، أو قل: حياةٌ واحدة، أو إن شئتَ فقل إرادة واحدة، وكُنه الفلسفة هو أن «تُفهمك في جلاءٍ أنْ ليس الفرد إلا الظاهرة لا الشيء في ذاته»، وأن تريك «دوام الصورة الثابتة من خلال تغيُّر المادة المُتصل».

إن من لا يستطيع أن ينظُر إلى الناس والأشياء جميعًا وفي كلِّ عصور التاريخ كأشباحٍ وأوهام فليستْ له ملَكة الفلسفة … إنَّ فلسفة التاريخ الصحيحة هي إدراك وجود ثابتٍ لا يتغيَّر، وإن بدا كما تراه مُتغيرًا تغيُّرًا لا نهاية له في الحوادث المُتشابكة. فهو يتابع اليوم نفس الأغراض التي كان بالأمس ينشُدها إلى الأبد. فعلى فيلسوف التاريخ أن يتعرَّف — بناءً على هذا — تلك الصفة الواحدة في كل الحوادث … وعليه أن يرى أنَّ الإنسانية هي في كلِّ مكانٍ على الرغم ممَّا توجِبه الظروف الخاصَّة من أوجه الخلاف في العادات والأخلاق والأزياء … فقراءتك «لهيرودوتس» — من وجهة نظر فلسفية — تكفي لدراسة التاريخ … في كلِّ زمانٍ وفي كل مكان، ورمز الطبيعة الحقيقي هو الدائرة؛ لأنها تُعبِّر عن التكرار.»

إنَّنا نميل إلا الاعتقاد بأنَّ مراحل التاريخ كلها إنما كانت خطواتٍ تمهيدية ناقصة في ذاتها، قُصِد بها أن تؤدِّي إلى عصرنا الذي نعيش فيه، ولكن هذه الفكرة بتقدُّم العالَم خداع وضلال «لقد نطق حكماء العصور كلها قولًا بعَينه، وكان السُّوقة في العصور كلها الذين يكوِّنون الأغلبية الساحِقة مُتشابهين في أعمالهم وأساليبهم … وهكذا ستستمرُّ الحال؛ لأنَّنا كما يقول «فولتير» سنترك الدنيا كما وجدناها في جهلها وشقائها.» [هنا يعارض هيغل]

وإنا لنلمَح في هذا معنًى جديدًا للجبرية، يقول «سبينُوزا» إنه لو كان للصخرة التي تُلقى في الهواء إدراك لأيقنَتْ أنها إنما تتحرَّك بإرادتها الحرة. وأنا أُضيف إلى قوله هذا أنَّ الصخرة لو فعلتْ هذا لأصابت؛ لأنَّ القوة التي تندفِع بها الصخرة هي كالقوة التي تدفعني أنا، وإنَّ ما يظهر في الصخرة من تماسُكٍ وجاذبية وصلابة هو في جوهره نفس ما أراه في نفسي وأُسمِّيه بالإرادة، وهو ما كانت الصخرة كذلك تُسمِّيه بالإرادة لو وُهِبَت المعرفة، ولكن الإرادة ليستْ حُرَّة لا في الصخرة ولا في الفيلسوف، نعم إنَّ الإرادة في مجموعها — ككل مُتَّحِد — حرة؛ لأنه ليس ثمة إرادة إلى جانبها تُحَدِّدُها، ولكن كل جزء من تلك الإرادة العامة — كل نوع على حِدة، ثم كل كائن عضوي من النوع، ثم كل عضو من هذا الكائن — محدود بما يَرسُمه له الكل.

«إنَّ كلَّ إنسانٍ ليعتقد أنه حرٌّ منذ الأزل حريةً كاملة، حتى في أعماله الضرورية، وهو يظن أنه في كل لحظةٍ قادر أن يبدأ ضربًا جديدًا من الحياة، وليس معنى ذلك إلَّا أنه يستطيع أن يكون شخصًا آخر، ولكن التجربة سرعان ما تُعلِّمه أنه ليس حرًّا، وأنه خاضع للضرورة، وأنه لا يتسنَّى له أن يُغيِّر من سلوكه على الرغم من كلِّ ما له من عزمٍ وتأمُّل، وأنه لا بدَّ له — من بدء حياته إلى نهايتها — أن يُنفِّذ نفس الأخلاق التي قد يُنفِّدُها [يفنّدها] هو نفسه، وأن يلعب الدور الذي أسند إليه حتى ختامه.»

(٥) العالم شر

ولكن إذا كان العالَم في جوهره عبارة عن إرادة كما بيَّنا، فلا بدَّ أن يكون مليئًا بألوان الشقاء والعناء.

) فهو عالم شر وسوء؛ لأن الإرادة معناها الحاجة، وهي دائمًا تتطلَّع إلى أكثر مما تظفر به، فإذا تحقَّقت لك رغبة وجدتَ إلى جانبها عشر رغباتٍ قد أعوزها التحقُّق؛ إذ الرغبة لا نهائية لا يحدُّها شيء، أما بلوغها وتحقُّقها فمَحدودان، فإذا بلغتَ مأربًا أو حقَّقتَ رغبة فما ذاك إلا «كالحسَنة نقذِف بها إلى الفقير، فتحفظ حياته اليوم لكي يمتدَّ شقاؤه إلى الغد … إنه ما دام إدراكنا مغمورًا بإرادتنا، وما دُمنا خاضعين لمُزدحِم الرغبات بآمالها ومخاوفها التي لا تنقطع، ما دُمنا مدفوعين لإرادة هذا الشيء أو ذاك، فيستحيل أن نحيا في سعادةٍ كاملة أو في سلامٍ دائم.» هذا فضلًا عن أنَّ بلوغ الأمل لا يستتبع القناعة والرضا، فليس أقتَلَ للمَثَل الأعلى من تحقُّقه، «وإنَّ العاطفة الراضية القانعة تؤدي إلى السعادة؛ لأنَّ حاجاتها كثيرًا ما تتعارض مع المصلحة الشخصية لصاحب تلك العاطفة حتى ينتهي الأمر إلى سحْق تلك المصلحة.» وإنَّ كل فردٍ ليحمل في طوية نفسه عوامل شقائه؛ لأنه إذا تحقَّقت له رغبة فإنها لا بدَّ أن تستتبع رغبةً جديدة تريد التحقُّق. وهكذا تتسلسل الرغبات إلى ما لا نهاية، «وعلَّة هذا هي أن الإرادة لا بدَّ أن تعيش على نفسها؛ لأنه ليس ثمَّة شيء سواها، وهي إرادة أبدًا جائعة.»

«إن في كلِّ فردٍ حوضًا من الألَم لا محيص له عنه … وهو حوض يستحيل أن يظلَّ فارغًا كما أنه لا يمكن أن يسَع أكثر مما يملؤه … فإذا ما أزيح عن صدورنا عناءٌ جسيم مُضنٍ … حلَّ مكانه على الفور عناءٌ آخر، ولقد كانت مادة هذا العناء موجودة فعلًا، ولكن منعها أن تجد سبيلها إلى الشعور بها أنْ لم يكن هنالك من القوى ما يفرغ لها … أمَّا الآن وقد خلا لها مكان، فإنها تندفع وتتبوَّأ مكانها.»

(٢) وهو أيضًا عالم شر وسوء؛ لأنَّ الألم هو دافعه الأساسي وحقيقته الجوهرية، وليست اللذَّة إلا امتناعًا سلبيًّا للألم، ولقد أصاب «أرسطو» إذ قال: إنه لا ينبغي للحكيم أن ينشُد اللذَّة، وحسبُه أن يتخلَّص من الألم والشقاء.

«إن كلَّ ما يُقنِع الناس أو ما يُسمُّونه عادة بالسعادة سلبيٌّ في حقيقته وجوهره … فنحن لا نشعُر تمام الشعور بما لدَينا من أسباب النعيم ولا نحمدها، بل ننظُر إليها باعتبارها شيئًا طبيعيًّا لا أكثر؛ وذلك لأنها لا تنفعنا إلا على نحوٍ سلبي فقط، بأن تقِف أسباب العذاب، لا نُدرِك قيمتها إلا إذا فقدناها؛ لأنَّ الحاجة والحرمان والأسى هي الجانب الإيجابي الذي يتَّصِل بنا اتصالًا مباشرًا، ماذا دفع الكلْبييِّن إلى نبذ اللذَّة في كل صورها إنْ لم يكن الألَم في واقع الأمر دائمًا يمتزِج باللذَّة بمقدارٍ يكثر أو يقل؟ …»

(٣) والحياة شر وسوء؛ لأنه «لا تكاد الحاجة والألم يسمَحان للإنسان بشيءٍ من الراحة حتى يشعُر بالسآمة على الفور، بحيث لا يكون له غنًى عن التسلية.» أعني مزيدًا من الألم. وحتى لو ظفرنا للإنسان بالمدينة الفاضلة، فإنه لا بدَّ أن يتبقَّى من الشرور ما لا يُحصيه العد؛ لأن بعضها — كالجهاد مثلًا — جوهري للحياة، وإذا نحن مَحَونا كلَّ شر، وامتنع الجهاد امتناعًا تامًّا أصبحت السآمة عبئًا غير مُحتمَلٍ كالألم سواء بسواء، ولهذا ترى «الحياة تتأرجَح كالبندول إلى الأمام والخلْف بين الألَم والسأم … إنَّ الإنسان بعد أن كوَّن من آلامه وعذابه فكرة الجحيم، رأى أن يبقى لدَيه شيء يكوِّن منه الجنة إلا الملل.» والواقع أنَّنا كلما ازدَدْنا في الحياة نجاحًا ازدَدْنا ضجرًا ومللًا.

(٤) والحياة شر؛ لأنه كلَّما علا الكائن العضوي في سُلَّم الارتقاء، وارتفع ازداد ما يُعانيه من ألَم، وإنَّ زيادة معرفته لا تحلُّ من الإشكال شيئًا؛ «لأنه كلما ازدادت ظاهرة الإرادة كمالًا ازداد العناء ظهورًا ووضوحًا. ففي النَّبات لا يكون قد تمَّ الإحساس بعد، ولذا فلا ألم، ثم يُعاني أحطُّ أنواع الحيوان مقدارًا يسيرًا جدًّا من الألم … وحتى في الحشرات تكون قابلية الشعور والألم لا تزال محدودة، وأول ما تظهر تلك القابلية بدرجةٍ عظيمة حينما يكمُل تكوين الجهاز العصبي للحيوانات آكلة العُشب، ثم تزداد باطِّراد كلما نما العقل. وهكذا يزداد الألم كلما ارتفع الإدراك، أي بمقدار اقتراب المعرفة من الدقَّة، حتى يصِل إلى ذروته العُليا في الإنسان، ثم يزداد ما يُحسُّه الإنسان من ألمٍ كلما دقَّت معرفته واشتدَّ ذكاؤه، ولذا كان أشدَّ بنى الإنسان مُعاناة للألَم هو العبقري الموهوب.»   [هذا يتناقض مع ما سيقوله لاحقاً من أن المثقف هو الأكثر سعادة]

إذن فمتى ازداد قسط الإنسان من المعرفة ازداد الشقاء أيضًا. وإنَّ ذاكرة الإنسان التي يستعيد بها الماضي، وبُعد نظره الذي يستطلِع به المستقبل يُضيفان كثيرًا إلى بؤسِه وألَمِه؛ لأنَّ الشطر الأعظم مما تُعاني الإنسانية من ألَم، هو في استعراض الماضي أو في استطلاع المُستقبل، أما الألم في حدِّ ذاته فقصير. انظُر مثلًا كم يتألَّم الإنسان من فكرة الموت أكثر مما يؤلِمه الموت نفسه.

(٥) والحياة شر؛ لأنها قتال لا ينقطع، فأينما توجَّهتَ ألفَيتَ جهادًا وقتالًا ومنافسة، فكل نوع «يُقاتل لينتزِع ما يملكه الآخر من مادةٍ ومكان وزمان.»

«إنَّ الهيدرا Hydra١٢ الصغيرة التي تتبرعَم من أُمِّها العجوز، وتفصل نفسها عنها؛ لتحارب وهي لا تزال مُتَّصِلة بأمِّها، لكي تظفر بالفريسة التي تعرض أمامها، حتى إنَّ الواحدة لتخطفها من فم الثانية. وإن النملة الأسترالية Bull Dogant لتضرب لنا أوضح مثَلٍ في هذا الباب؛ لأنها تنقسِم نصفَين، ثم تبدأ المعركة بين الرأس والذنَب، فيعضُّ الرأس بأسنانه الذنَب، كما يلدغ الذنب الرأس؛ لكي يُدافع عن نفسه دفاعًا مجيدًا، وقد تستغرِق المعركة نصف ساعة حتى يموتا أو يطردهما النمل الآخر … ويروي لنا Vunghahn أنه شهد في «جاوا» سهلًا يمتدُّ مدى البصر، تُغطيه بأسرِه هياكل الموتى، حتى ظنَّ أنه ميدان قتال، ولكنها لم تكن سوى هياكل سلاحِف كبيرة … قد خرجت هنالك من البحر لتضع بيضها، فهاجمَتْها الكلاب الوحشية التي تستطيع بقوة اتِّحادها أن تُرقِدها على ظهورها، ثُم تنزع منها القشرة الصغيرة التي تُغطي منها المعِدة، ثم تلتهمها حية، ويغلُب أن ينقضَّ بعدئذٍ على هاتيك الكلاب نمِر … من أجل ذلك وُلِدت السلاحف … وهكذا تفترِس إرادة الحياة نفسها أينما ذهبت، ويكون غذاؤها في صورٍ مختلفة، حتى يجيء في النهاية الجنس البشري الذي يتحكَّم في سائر الأجناس الأخرى فيحسب الطبيعة مصنعًا أعد لنفسه هو، ومع هذا فحتى الجنس البشري … يبدو فيه هذا النزاع بأجلى وضوح، هذا النزاع الذي يقع بين الإرادة وبين نفسها، فنرى «الإنسان ذئبًا للإنسان».»

حقًّا إن صورة الحياة في مجموعها لتحوي من صنوف الألم ما يربو على طاقة العقل المتأمِّل، فلا يسَع هذا العقل أن يُلم بكل ما هنالك من الألم وصنوف العذاب، وإن الحياة لتعتمِد على جهلنا بها بعض الجهل وعدَم إمكاننا معرفتها حقَّ المعرفة.

«إنَّنا لو عرَضْنا أمام نظر الإنسان ما تتعرَّض له حياته من الألم والبؤس المُروِّع المُتصل عرضًا واضحًا لامتلأ رُعبًا. ولو أخذْنا المُتفائل الراسِخ في تفاؤله إلى المُستشفيات وملاجئ المرضى وغرَف العمليات الجراحية، ولو أخذناه إلى السجون وغرَف التعذيب وأوكار العبيد، ولو أخذناه إلى ميادين القتال وأماكن الإعدام، ولو فتحْنا له كل مكامن الشَّقاء المُعتمة، حيث يختبئ الشقاء ويتستَّر لكي لا يرمُقه النظَر المُستطلع البارد، ثم لو أجزْنا له أن ينظُر إلى السراديب التي يموت فيها الناس جوعًا في Ugolino، لعلِم هذا المُتفائل طبيعة هذا العالَم كما نعلمه، ذلك العالم الذي «ليس في الإمكان أبدع منه.» وإلا فمن أين جاء «دانتي» بمادة جحيمه، ألَمْ يجئ بها من هذه الدنيا الواقعة؟ ومع ذلك فقد صوَّر منها جحيمًا أكمل ما يكون الجحيم، ولكنه حين أراد من ناحية أخرى أن يصِف الجنة وما فيها من نعيم، اصطدم بمشكلةٍ لم يستطع أن يتغلَّب عليها؛ وذلك لأنَّ عالمنا ليس فيه شيءٌ على الإطلاق يصحُّ أن يكون مادةً لهذه الفردوس … إن كلَّ الملاحم التمثيلية لا يسعُها إلا أن تُصوِّر عراكًا وجهادًا وقتلًا من أجل السعادة، ولكنها لا تصوِّر مُطلقًا السعادة الكاملة الباقية نفسها، إنها تقود أبطالَها إلى آلاف المخاطر والمصاعب لكي يظفروا بما ينشُدون، ثم هُم لا يكادون يبلُغون أهدافهم حتى تُسرع القصة فتُسدِل الستار؛ لأنه لم يعُد لها بعد ذلك شيء تعمله سوى أن الهدف المُتلألئ الذي كان البطل يتوقَّع أن يظفر عنده بالسعادة ليس له فيه إلَّا الخيبة، وأنه لم يكن بعد بلوغه أحسن حالًا منه قبل.»

نحن تُعساء إذا تزوَّجنا، تُعساء إذا بَقِينا بغير زواج، تُعساء لو اعتزلْنا، تُعساء إذا خالطنا المجتمع، وإنَّ الحياة لمأساةٌ مُبكية ومَلهاة مضحكة «فلو ألقيتَ نظرك على حياة الفرد في مجموعها … بحيث ترى أبرز ملامحها وأدلَّها معنًى، لما وجدْتَها في حقيقتها إلا مأساة مُتَّصِلة، أما إذا تناولتَ بنظرك تفصيلاتها فإنك تراها ملهاة.» انظر إلى الحياة نظر باحثٍ مدقِّق.

«يُدخلونك وأنت صبي في الخامسة مغزل قطن أو مصنعًا آخَر، فتظل منذ تلك الساعة تذهب إلى مصنعك كلَّ يوم، فتقضي فيه أول الأمر عشر ساعات، ثم اثنتَي عشرة، ثم أربع عشرة، تؤدي أثناءها عملًا آليًّا لا يتغيَّر، وأنت مُضطرٌّ إلى هذا لكي تشتري بأغلى الأثمان أنفاسك التي تُرضي بها إرادة الحياة … وإنَّ تحت القشرة الأرضية الراسخة لقوى طبيعية كامنة جبَّارة، إذا ما أتاحت لها الحادثات أن تنطلِق من كمينها فلا مناصَ من تهديمها للقشرة الأرضية بكلِّ ما عليها من أحياء، كما حدَث ثلاثَ مرَّات على الأقل فوق أرضِنا هذه، ويُرجَّح أن يحدُث أكثر من هذا في مُقتبل الأيام. إن زلزال لشبونة، وزلزال هايتي Haiti وتقويض بومبي، ليست إلا لمحاتٍ صغارًا عابثاتٍ تُشير إلى ما يمكن حدوثه.»

فليس التفاؤل أمام كل هذه المصائب إلا سخرية من كوارث البشر. وصفوة القول: «إن طبيعة الحياة تبدو لنا في كلِّ ما تبدو فيه من صُوَر كأنما هي مقصودة ومُدبَّرة، بحيث تدعونا إلى العقيدة بأنْ ليس فيها البتَّة ما هو جدير منَّا بالجهاد والمجهود والقتال، وما طيِّبات الحياة كلها إلا عبث، والعالَم في كل ما يقصد إليه فاشِل، فهو كالعمل الذي لا يُغطِّي مصاريفه.»

لكي تكون سعيدًا ينبغي أن تكون في جهل الشباب الذي يحسب أنَّ العزم والجهاد سببان للسعادة؛ لأنه لم يعلَم بعدُ ظمأ الرغبة الذي لا ينطفئ وما ينجُم عنه من بلاء، ولم يعلَم أيضًا أن الرغبة حتى لو تحقَّقت فليس في تحقيقها نفع ولا ثمرة، ثم هو لم يستيقِن بعد أنَّ خاتمة الجهاد هزيمة ليس منها مَفر، «وإنَّ فرح الشباب ونشاطه يرجعان من ناحيةٍ إلى أنَّ الموت يكون خافيًا عنَّا حينما نكون صاعِدِين أكَمَة الحياة؛ لأنه يكمُن هنالك في الجانب الآخر … فإذا ما دَنَونا من ختام الحياة، فإنَّ كلَّ يومٍ نحياه يبعَث فينا نفس الإحساس الذي يحسُّه المجرِم في كل خطوة يخطوها في طريقه إلى المقصلة … لكي يعلَم الإنسان أنَّ الحياة قصيرة لا بدَّ أن يعيش طويلًا … فإلى عامنا السادس والثلاثين نكون — من حيث طريقة بذلنا لنشاطنا الحيوي — أشبَهَ بالذين يعيشون على أرباح أموالهم، يأخذون في الغد ما يُنفقونه اليوم، ولكن موقفنا بعد السادسة والثلاثين من عمرنا يكون كموقف صاحب المال الذي يبدأ في الإنفاق من رأس ماله … وإنَّ فزَع الإنسان من هذه الكارثة هو الذي يجعل حُبه للامتلاك يزداد كلما تقدَّم في السن … إنَّ أسعد أوقات الحياة ما بَعُد عن الشباب، وما أصدَقَ أفلاطون في ملاحظته التي أوردها في مستهلِّ جمهوريته من أنَّ الأفضل أن يُعطى أحسن الجزاء لِذي السنِّ المُتقدِّمة؛ لأن الشيخوخة تُحرِّر صاحبها من العاطفة الحيوانية التي لم تفتأ تُحرِّكه حتى ذلك الوقت … ومع ذلك فلا يجوز لنا أن ننسى أنه إذا ما خمدتْ هذه العاطفة ذهب معها لبُّ الحياة الحقيقي، حيث لا يبقى إلا القشرة الجوفاء، ومن ناحيةٍ أخرى تُصبح الحياة حينئذٍ كالمهزلة التي بدأت بمُمثِّلين حقيقيِّين، ثم استمرَّت هكذا، وانتهت آخِر الأمر بأشباحٍ آلية ارتدت ملابس أولئك.»

ثم يلاقي الإنسان مَنيَّته آخِر الأمر، ومن العجب أنه إذ أخذَتِ الخبرة والتجربة في التحوُّل إلى حكمة، بدأ المخ والجسم عامَّة في التدهوُر «إنَّ كل شيءٍ لا يلبَث إلا لحظة، ثم يُسرع في طريقه إلى الموت.» وإذا سوَّفَتِ المنية للإنسان فصبرتْ عليه ومدَّت في أجلِه قليلًا، فهي إنما تلعَب به كما تلعب القطة بالجرذ الذي لا حول له ولا قوة «فمن الواضح أنه كما أنَّ المشي ليس بالبداهة إلا سقوطًا نُقاوِمه مقاومةً مُستمرَّة، كذلك حياة أبداننا ليست إلا مَوتًا نستمرُّ في مقاومته، هي موت نُسوِّف في حدوثه طول الحياة.» ومن أجل هذا ترى «طُغاة الشرق يضعون في ثنايا حُلِيِّهم الفاخرة ولباسهم الزاهر قارورة ثمينة من السُّم.» ففلسفة الشرق تفهم وجود الموت وجودًا مُتَّصلًا دائمًا، وهي تخلع على طلَّابها مظهرًا هادئًا ومشية بطيئة رزينة، ناشئان من إدراكهم لقِصَر الوجود الشخصي. إنَّ خشية الموت هي بدء الفلسفة، وهي العِلة النهائية للدين، ولمَّا كان أوساط الناس يعجزون عن التوفيق بين أنفسهم وبين الموت، تراهم يتَّخذون فلسفاتٍ وديانات لا يكاد يحصُرها العد، وإنَّ ما يسُود الناس من عقيدةٍ في الخلود لدليلٌ على خوفٍ مُفزع من الموت.

«وإذا كنَّا نصطنِع اللاهوت ليكون مهربًا من خوف الموت، فكذلك قد ينتابنا الجنون ليكون مهربًا من الألَم.»

يجيء الجنون وسيلةً يتَّخِذها ليتجنَّب بها ذكرى الألم، فهو قطع في سلسلة إدراك الإنسان، وقد تكون فيه نجاتُه.

«ما أكثر ما يفكر الإنسان في أشياء — رغم إرادته — تُسيء إلى مصلحته أشدَّ الإساءة وتجرَح عزَّته، وتُعطِّل رغباته. فما أعسر أنْ يصرَّ الإنسان على وضع هذه الأشياء أمام عقله للبحث الجدي الدقيق … ففي مقاومة الإنسان لإرادته وقسرِها على أنْ تسمح لما هو نقيضها أن يوضَع تحت بحث العقل، تقع الثغرة التي يمكن للجنون أن ينفذ منها إلى العقل … فإذا قاومت الإرادة العقل في استيعاب معرفةٍ ما، بحيث تمكَّنَت من تعطيل عملية العقل تعطيلًا لم يستطع معه العقْل أن يؤدي عملَه على الوجه الأكمل، عندئذٍ يتكوَّن في العقل عناصر وظروف مُعيَّنة تُكبَت فيه كبتًا تامًّا؛ لأن الإرادة لا تتحمَّل رؤيتها، فتنشأ بذلك فجوات لا بدَّ من ملئها كما تهوى الإرادة، وبهذا ينشأ الجنون؛ لأنَّ العقل في هذه الحالة قد تنازل عن طبيعته لكي يُرضي الإرادة فيصوِّر الخيال للإنسان ما ليس له وجود، ولكنَّ الجنون الذي نشأ على هذا النحو هو في الواقع نسيان لألَمٍ لم يكن للإنسان به قِبَل، إنه آخر وسيلة تُنجينا من الإرادة المُضنية.»

أما آخر أبواب الهرَب فهو الانتحار، حيث يتغلَّب الفكر والخيال على الغريزة وهذا عجيب، ويُقال في هذا الصدد أنَّ «ديوجنيس» قد وضع حدًّا لحياته برفضه أن يتنفَّس، فما أروَعَه انتصارًا على إرادة الحياة، ولكنه انتصار فردي فقط؛ لأنَّ الإرادة لا تزال مُستمرَّة في حياة النوع. إن الحياة لتضحك من الانتحار وتبتسِم للموت؛ لأنه إذا تعمَّد الموت فردٌ واحد، أنسل إلى جانبه آلاف الأفراد نسلًا عن غير عمدٍ «إنَّ الانتحار وهو قضاء إرادي على الوجود الظاهري للفرد، عبَث وحمق؛ لأن الشيء في ذاته — أعني النوع والحياة والإرادة بصفةٍ عامَّة — لا تتأثَّر به وتظلُّ كما يظلُّ قوس قزح، حتى ولو أسرعَتْ نُقَط الماء التي تكوِّنه إلى السقوط.» إنَّ العناء والكفاح يبقَيان بعد موت الفرد، ولا بدَّ أن يستمرَّا ما دامتِ الإرادة تسُود الإنسان، ويستحيل أن ينتصِر الإنسان على أمراض الحياة، إلا إذا أخضع الإرادة خضوعًا تامًّا للمعرفة والعقل.

(٦) حِكمة الحياة

(أ) الفلسفة: تأمَّل بادئ بدءٍ في حُمق الرغبة حين تنزع إلى الأشياء المادية، إذ يظنُّ المغفَّلون أنهم إذا استطاعوا أن يجمعوا المال الكثير، أمكنهم أن يُجيبوا إرادتهم إلى كلِّ ما تريد؛ لأنهم يفرضون أنَّ صاحب الثروة الطائلة يملك الوسيلة لإشباع كلِّ رغباته «وكثيرًا ما يُعاب على الناس رغبتهم في المال قبلَ أيِّ شيءٍ آخر، وحُبهم له أكثر من كلِّ ما عداه، ولكنه من الطبيعي، بل ممَّا ليس عنه للناس مُنصرَف، أن يميلوا إلى شيءٍ فيه قابلية دائمة للتحوُّل إلى أيِّ شيءٍ مما قد تنزِع إليه رغباتهم الكثيرة الهائمة. أمَّا كلُّ شيءٍ ما خلا المال فلا يستطيع أن يشبع من الإنسان إلا رغبةً «واحدة» فقط، فالمال وحدَه هو الخير المُطلق … لأنه استجابة مجردة لكل الرغبات.» ولكن مع هذا فإنَّ حياة تتَّجه بكلها إلى تحصيل الثروة لا خيرَ فيها، إلا إذا عرفْنا كيف نحوِّل تلك الثروة إلى سعادة، وهذا فنٌّ يحتاج إلى ثقافةٍ وحكمة. إنَّ الرغبات الحِسِّية المُتتابعة يستحيل أن ترضى وتقتنع، ولا بدَّ للإنسان أن يفهم أغراض الحياة كما لا بدَّ أن يفهم فنَّ تحصيل الوسائل للحياة «فالناس أمْيَلُ ألفَ مرةٍ إلى أن يكونوا أغنياء منهم إلى تحصيل الثقافة، مع أنَّ اليقين الذي لا شكَّ فيه هو أنَّ سعادة الإنسان تتوقَّف على ثقافة الإنسان أكثر ممَّا تعتمِد على ما يَملِكه.» فالرجل الذي ليس له مقدرةٌ عقلية لا يدري كيف يملأ فراغَه «ومن العسير أن نطمئنَّ في الفراغ.» ولذا ترى غير المُثقَّف يندفع اندفاع المنهوم الشَّرِه إلى البحث عن حاجاتٍ حِسِّية جديدة، حتى يخرَّ آخِر الأمر صريعًا مهزومًا أمام الآلهة الجبَّارة التي نيط بها الانتقام من الأثرياء والكسالى وهي السآمة.

فليتَ الثروة هي الطريق القويم، وإنما هي الحِكمة. ففي الإنسان جانبان: فهو من ناحية جهادٌ عنيف من الإرادة التي مركزها الجهاز التناسُلي، وهو من ناحيةٍ أخرى شخص خالد حُرٌّ حكيم ذو معرفة خالِصة ومركزها المخ، ومن العجيب أن يكون في إمكان المعرفة أن تُسيطر على الإرادة مع أنها وليدتها، وإنَّ إمكان استقلال المعرفة عن الإرادة ليبدو أولًا في استخفاف العقل أحيانًا بمطالب الرغبة «فقد يرفُض العقل أن يُطيع الإرادة، مثال ذلك حينما نحاول عبثًا أن نركِّز عقولنا في شيءٍ ما (أعني تريد الإرادة أن يُفكر العقل فيرفض العقل أن يطيع) أو حينما نُطالب الذاكرة في غير طائلٍ أن تتذكَّر شيئًا ما ائتمنتْها الإرادة على حفظه، وإنه لتتَّضِح العلاقة بين الإرادة والعقل واختلافهما وضوحًا تامًّا في غضب الإرادة من العقل في مِثل هذه الأحوال. وقد يتأثَّر العقل أحيانًا من غضب الإرادة فيستحضِر ما أريد منه بعد بضع ساعات، أو في اليوم التالي، وقد يفعل هذا على غِرَّة وبغير مناسبة.» [مقارنة مع التذكر الإرادي عند برغسون]

ثم قد ينتقل العقل فيكون سيِّدَ الإرادة بعد أن كان تابِعَها، فقد يُقدِم الإنسان مثلًا على عملٍ فيه عناؤه بعد تفكيرٍ طويل، فقد ينتحِر أو يُقتَل أو يبارِز أو يأتي بعملٍ آخَر ممَّا فيه خطر على الحياة، ومما تثور ضدَّه طبيعته الغريزية، ولكنه مع ذلك يُقدِم مدفوعًا بعقله وتفكيره، فأنت ترى من ذلك إلى أيِّ حدٍّ استطاع العقل أن يسيطر على الطبيعة الحيوانية في مثل هذه الظروف. [لكن هذا يتناقض مع فقرة لشوبنهاور يقول فيها بانتفاء الحرية]

إنَّ هذه القوة التي يتمتَّع بها العقل والتي يمكنه بها أن يؤثِّر في الإرادة تسمح للإنسان أن يرسُم لنفسه طريقًا يضمَن له الرُّقي والتقدُّم، فهو بالمعرفة يستطيع أن يُعَدِّل الرغبة أو أن يُخمدها، كما يمكنه أن يُعدِّلها أو يخمِدها بما قد يُدركه من الفلسفة الجبرية التي تعترِف أن كل شيءٍ نتيجة حتمية لسوابقه، فبين كلِّ عشرة مُثيرات مما يعرِض لنا ويعكِّر صفوَنا نستطيع أن نتغلَّب على تسعةٍ منها، ولا ندعها تنال من نفوسنا شيئًا إذا نحن أدركْنا عِلَلها إدراكًا تامًّا، أي إذا عرفنا حقيقة طبيعتها وضرورة وقوعها، ففي مُكنة العقل أن يكون من إرادة الإنسان ما يكون السرْج والشكيمة من الجواد الجموح، فليس أدعى إلى ضمان الانسجام والتوفيق بين الإنسان وبين الحادثات الخارجية أو المشاعر الباطنية إلا المعرفة الدقيقة، فكلَّما ازدَدْنا عرفانًا لعواطفنا قلَّتْ سيطرتها علينا. وأمنعُ قلعةٍ نحتمي بها هي ضبطنا لنفوسنا. فإذا أردتَ أن يخضع كل شيءٍ لسلطانك فلتُخضع نفسك لعقلك. وإنَّ أعجب من يسترعي الإعجاب ليس من يقهر الدُّنيا ويحكمها، ولكنه الذي يُخضع نفسَه ويلجِمُها.

وهكذا تصفو الإرادة بفِعل الفلسفة، ولكن ينبغي أن نفهم أن معنى الفلسفة هو التجربة والفكر، وحذارِ أن تظنَّها مجرد القراءة والدرس.

«إن تدفُّق أفكار غيرنا في نفوسنا تدفُّقًا دائمًا لا بدَّ أن يحصر أفكارنا ويضغطها، ثم يشلُّ قوة تفكيرنا في النهاية … إن نزوع معظم العلماء إلى القراءة هو نوع من امتصاص الفراغ، ذلك أنَّ إجداب عقولهم يسحَب أفكار الآخرين إلى الداخل سحبًا لا محيص عنه،١٣ … وإنه لمن الخطر أن نقرأ عن موضوعٍ قبل أن نفكر فيه أولًا بأنفسنا … فنحن حين نقرأ إنما يفكِّر لنا شخص آخر، ولا نكون حينئذٍ إلا مُعيدين لعمليته العقلية … لذلك لو قضى شخصٌ كلَّ يومِه في القراءة فقَدَ بالتدريج ملَكة تفكيره … فالخبرة التي نستمدُّها من الحياة يصحُّ أن تُعتبر ضربًا من المتْن، وشرح هذا المتْن هو التفكير والمعرفة، فإذا حصل إنسان على مقدارٍ كبير من التفكير والمعرفة العقلية وعلى تجربةٍ قليلة، كان كتلك الكتُب التي يكون في كل صفحةٍ من صفحاتها سطران من المتْن، وأربعون سطرًا من الشرح.»

فأول ما نتقدَّم إليك به من النُّصح هو أن الحياة قبل الكتُب، والنصيحة الثانية هي أن يكون المتْن قبل الشرح. فاقرأ إنتاج الخالِقين المُبدعين قبل أن تقرأ العارِضين والنقَّاد «فلا يمكنك أن تحصِّل الأفكار الفلسفية إلا من المؤلِّفين أنفسهم؛ ولهذا فمن يرى في نفسه ميلًا إلى الفلسفة ينبغي أن يبحث عن مُعلميها الخالدين في محراب مؤلفاتهم الهادئ.» فكتاب واحد من كتُب العباقرة يساوي ألفًا من كتُب الشُّرَّاح.

لن يكون تحصيل الثقافة مُجديًا إلا إذا أخذتَ نفسك بهذه الحدود، فإن فعلتَ ذلك استطعتَ أن تحصل على وسيلةٍ للسعادة؛ لأنَّ سعادتنا تعتمد على ما في عقولنا أكثر ممَّا تتوقَّف على ما تحويه جيوبنا، بل إنَّ الشهرة نفسها عبَث وحُمق «إذ لا تصلح رءوس الناس أن تكون دارًا لسعادة الرجل الحقيقية؛ لأنها مكان خبيث.»

«إنَّ السعادة التي نستمدُّها من أنفسنا لَأعظم من تلك التي نحصل عليها ممَّا يحيط بنا … إن الدنيا التي يعيش فيها الإنسان تتشكَّل حسب الكيفية التي ينظر بها إليها … وما دام لا يوجَد شيء بالنسبة لإنسان، ولا يحدُث له إلا ما يوجَد وما يحدُث في إدراكه فقط، فأهمُّ شيءٍ له هو تركيب إدراكه … ولذا فقد صدَق أرسطو حين قال: «إن الإنسان إذا أراد أن يكون سعيدًا فليكف نفسه بنفسه».»

لا سبيل لخلاص الإنسان من شرِّ رغبات الإرادة التي لا نهاية لها إلا في تأمُّل الحياة تأمُّلًا عقليًّا، ودراسة ما كتبه نوابغ العصور كلها من جميع الأمم «فالعقل غير الأناني يصعَد كالرائحة الزكية فوق أخطاء الإرادة ومهاتراتها.» وإن الجمهرة العُظمى من الناس ليُعجزهم أن يرتفعوا بأنفسهم عن النظر إلى الأشياء باعتبارها مواضع شهوةٍ ورغبة، ومن هنا ينشأ ما هم فيه من بؤس، فنظرُك إلى الأشياء نظرًا خالصًا باعتبارها موضوعًا للفَهم معناه ارتفاعٌ عن القيود إلى حيث الحرية.

«إذا ما جَذَبَنا فجأةً من سبيل الرغبات المتدفِّق عاملٌ خارجي ومَيل داخلي فخلَّص المعرفة من استبداد الإرادة، بحيث لا يعود انتباهنا يتَّجِه إلى دوافع الرغبة، بل إلى تفهُّم الأشياء، وهي حرَّة مما يربطها بالإرادة من روابط، ثم ينظُر إليها نظرةً لا يشوبها شيء من الهوى الشخصي والنزعة الذاتية، أي ينظُر إليها نظرةً موضوعية خالصة إذا انصرف العقل بكليته إلى الأشياء باعتبارها أفكارًا لا باعتبارها دوافع مُثيرة للرغبة، عندئذٍ يُرفرِف علينا السلام الذي طالما نشدناه، والذي ما فتئ يُفلِت منَّا في ذلك السرداب؛ سرداب الرغبات … وعندئذٍ نحيا حياة لا ألَمَ فيها، وهي الحياة التي امتدحها «أبيقور» وقال إنها الخير الأسمى، وإنها حياة الآلهة؛ لأنَّنا سنكون حينئذٍ أحرارًا من كفاح الإرادة التعس.»

(ب) العبقري: والعبقري هو أعلى صورةٍ من صور هذه المعرفة اللاإرادية [المقاومة للغريزة]، وأحطُّ ألوان الحياة هو ما تألَّف من إرادةٍ صرفة بغير معرفة، والإنسان بصفةٍ عامة أغلبُه إرادةٌ وأقلُّه معرفة. أما العبقري فهو من كان معرفةً في معظمه وإرادة في أقلِّه «والعبقرية إنما تكون في هذا: أن تنمو الملكة العارفة نموًّا يزيد عن المقدار الذي تتطلَّبه خدمة الإرادة زيادة عظيمة.» ورُجحان العقل في إنسانٍ على الإرادة معناه انتقال بعض القوة من النشاط التناسُلي إلى النشاط العقلي «والصفة الأساسية للعبقرية هي سيطرةٌ غير طبيعية للحساسية والغضب على القوة التناسلية.» ومن ثم كانت العداوة بين العبقري والمرأة التي تُمثِّل التناسُل كما تُمثِّل خضوع العقل لإرادة الحياة، نعم «قد يكون للنساء موهبة عظيمة، ولكنها ليست عبقرية؛ لأنهنَّ دائمًا ذاتيَّات في وجهة نظرهن.» فكلُّ شيء عندهنَّ شخصي وينظرنَ إليه كوسيلةٍ لأغراض شخصية، مع أنَّ العبقرية ما هي إلا النظرة الموضوعية الخالصة، أعني أنها مَيل العقل؛ لأنْ ينظُر إلى الأشياء من وجهة نظرٍ موضوعية محضة. العبقرية هي القوة التي يتمكَّن بها الفرد من نبذ مصالحه ورغباته وأغراضه ومَحْوها جميعًا من أمام عينيه، هي القوة التي يستطيع بها العبقري أن ينسى شخصيته نسيانًا تامًّا إلى وقتٍ مُعيَّن، لكي يكون ذاتًا عارفةً خالصة ليس إلا، وبذلك يتمكَّن من رؤية العالم في وضوحٍ وجلاء، ولهذا فلفظ العبقرية ينحصِر معناه في سيادة المعرفة ورُجحانها على الإرادة.

إذا تخلَّص العقل من الإرادة استطاع أن يرى الشيء كما هو «فالعبقرية تعرِض علينا المرآة السحرية التي يظهر لنا على سطحها كلُّ ما هو حيوي ذو معنى مُتجمِّعًا بعضه إلى بعض، وموضوعًا في ضوءٍ ساطع، أما ما هو عرضي زائد فيُنبَذ جانبًا.» إن الفكر لينفُذ خلال العاطفة كما يتدفَّق ضوء الشمس خلال السحاب، فيكشف عن لبِّ الأشياء وصميمها، إنه يذهب إلى ما وراء الفرد والجزئي حتى يصِل إلى «المثال الأفلاطوني» أي إلى الجوهر الذي يكون الشيء الجزئي صورةً من صُوَره، فالمصوِّر الفنان هو الذي لا يقصر نظرَه على الشخصية الفردية التي يرسُمها وعلى ملامحه المُعينة المرئية، ولكنه ينفُذ من خلال هذا الفرد فيرى وراءه صفات الإنسانية عامة، وحقيقتها الدائمة التي ليس هذا الفرد المُعين إلا رمزًا لها ووسيلة للكشف عنها، وقل هذا في كل ضروب النبوغ. فسِرُّ العبقرية إذن يقع في إدراك الحقيقة الموضوعية والجوهرية العامة إدراكًا واضحًا، لا تشوبه شائبةٌ من مَيل شخصي أو هوًى ذاتي.

إذن فالعبقري يُحاول أن يمحو شخصه ويُنكر ذاته ليرى الحقائق الخارجية كما هي، وهذا ما يجعله نابيًا في قومه؛ لأنَّ هؤلاء ينظرون إلى الأشياء من خلال ذواتهم، ولذا ترى العبقري غريبًا بين الناس لا يلتقي معهم في وجهة النظر، فهو لا يرى ما هو قريب منه، بل يُلقي ببصرِه إلى الأفق البعيد النائي، وقد يَعلَق نظرُه في النجم فيسقط في هوةٍ اعترضت طريقَه ولم يُلقِ باله إليها، ومن ثم نشأ شذوذ العبقري في المجتمع وعدَم مخالطته للناس؛ لأنه يفكِّر في أصل الأشياء الشامل الخالد، أما هُم فيفكِّرون في الصور المؤقتة الفردية المباشرة، فليس بين عقله وعقولهم قدْر مشترَك تلتقي عنده «إنَّ القاعدة أنَّ الرجل يكون اجتماعيًّا بمقدار ما هو مُجدِب في عقله تمامًا.» ولكن صاحب العبقرية له ما يُعوِّضه عن هذه العُزلة الموحِشة، فليس هو بحاجةٍ إلى العشير والرفيق كعامة الناس الذين يعتمدون في حياتهم دائمًا على ما هو خارجي عنهم، «فاللذَّة التي يستمدُّها من صور الجمال كلها، والسلوة التي يُصادفها في الفنِّ … يُمكِّنانه من نسيان مشاغل الحياة.» إذ هما «يُعوِّضانه عن الألَم الذي يزداد في الإنسان بنسبة وضوح إدراكه، ويُعوِّضانه عن وحدته المُنعزِلة في جنسٍ من البشر يختلف عنه.»

ومهما يكن من الأمر فالعبقري مُضطر إلى الوحدة، وكثيرًا ما تؤدي به إلى الجنون، فإن دقَّة حساسيته التي تُسبِّب له الألَم بالإضافة إلى خياله وبصيرته، ثم إلى عزلته ونَبوِه في الحياة تعمل جميعًا على قطع الصلة التي تُمسك أجزاء العقل، بحيث يتمكَّن من حصر تفكيره في الحقيقة، ولم يخطئ أرسطو حين قال: «إنَّ الممتازين من الرجال في الفلسفة أو في السياسة أو في الشعر أو في الفن ذوو مزاج مُكتئب.» وإنَّ العلاقة المباشرة بين الجنون والنبوغ تؤيدها تواريخ العظماء كروسو وبيرون وغيرهما «وبالبحث الدقيق في مستشفيات المجانين وُجِدت حالات فردية لمرضى كانوا بغير شكٍّ ذوي مواهب عظيمة، وكانت عبقريتهم تظهر جليَّةً من خلال جنونهم.»

ومع ذلك فهؤلاء النوابغ، وهم بحقٍّ أنصاف مجانين، هم الطبقة الأرستقراطية الحقيقية للجنس البشري «إذ الطبيعة من حيث العقل أرستقراطية إلى حدٍّ كبير؛ لأنها فرضَتْ بين الرجال من الفوارق ما يفوق ما اصطنعته الأُمَم من الفوارق التي تقوم على ميلادٍ أو رُتبة أو ثروة أو دم.» فالطبيعة لا تهَبُ النبوغ إلَّا للقلائل؛ لأنها تعلَم أنَّ مزاج النوابغ يعوق مجرى الحياة العادية التي تشترط التركيز في الجزئي المباشر فلا ينبغي أن تجود منهم إلا بالقليل.

(ﺟ) الفن: هذا التحرير للمعرفة من خضوعها للإرادة، هذا النسيان للذات الفردية ومصلحتها المادية، هذا السموُّ بالعقل إلى مرتبة التأمُّل اللاإرادي في الحقيقة، هو وظيفة الفن. فإذا كان موضوع العِلم هو الكلي الذي يشمل جزئيات كثيرة، فموضوع الفن هو الجزئي الذي يشمل الكلي، فحتى الصورة التي يرسُمها الفنان لشخصٍ يجب أن تكون — كما يقول «ونكلمان Winckelman» — «المثل الأعلى للفرد». وفي تصوير الحيوانات تكون أكثر الصور بيانًا للطابع المُميز للحيوان المرسوم هي أجملها؛ لأنها تكشف عن النوع كلِّه كشفًا واضحًا، وإذن فنجاح العمل الفني يُقاس بنسبة ما يتضمَّنه من المثال الأفلاطوني للشيء المُعين الذي تناوله ذلك العمل، أو بعبارةٍ أخرى نجاح الصور الفنية مثلًا يتوقَّف على مقدار ما تستجمِعه في الشيء المرسوم من الصفات الكلية للجنس الذي يكون الشيء المرسوم أحدَ أفراده؛ وعلى ذلك فلا يجوز أن يقصد الفنان إلى الدقَّة الفوتوغرافية إذا أراد أن يُصوِّر رجلًا، بل ينبغي أن يعرِض في صورة هذا الشخص الواحد الذي يرسُمه كلَّ ما يمكن عرضُه من صفات الإنسان عامة. فالفن أعظم من العِلم؛ لأنَّ العلم لا يصِل إلى نتيجته التي يرمي إليها إلا بعد المجهود المُضني في جمع الأمثلة وإقامة الأدلَّة في بطءٍ وحذَر شديدَين، أما الفنُّ فيصِل إلى غايته دفعةً واحدة بالبصيرة والتمثيل. هذا إلى أنَّ العلم تكفيه الموهبة العادية، أما الفنُّ فلا بدَّ له من العبقرية والنبوغ.

إن استمتاعَنا بالطبيعة وبالشِّعر وبالتصوير، أساسُه أننا نتأمَّل الشيء ونفكر فيه دون أن نمزج به الإرادة الذاتية، فالنهر بالنسبة إلى الفنان عبارة عن سلسلةٍ مُتباينة من المناظر الساحرة التي تُثير فيه الحسَّ والخيال بما تُطلِعه عليه من جمال، أما المُسافر الذي يُعنى بشئونه الشخصية، فيرى في النهر وشُطآنه «خطًّا تقطعه خطوط أخرى هي الجسور المُقامة عليه.» هكذا يُحرِّر الفنان نفسه من الشواغل الشخصية، بحيث «يكون سواءً لدى إدراكه الفني أن يرى غروب الشمس من سجنٍ أو من قصر.»

تلك هي اللذَّة التي تنشأ من الإدراك اللاإرادي الذي يخلع على حوادث الماضي، وعلى الأشياء البعيدة سحرًا خلابًا، ويُقدِّمهما لنا في ضوءٍ جميل، وحتى الأشياء القبيحة إذا نحن تأمَّلناها بغير تدخُّل الإرادة ودون أن نُلقي بالًا لما قد ينجُم عنها من خطرٍ مباشر، بدَتْ لنا في أروع صور الجمال. إنَّ الفنَّ يُخفِّف من أمراض الحياة؛ لأنه يُطلِعنا على العنصر الخالد الشامل وراء الصور الفردية الزائلة، وما أصدَقَ «سبينُوزا» في قوله: «إنَّ العقل يُساهم في الأبدية بمقدار ما يرى الأشياء في مظهرها الخالد.»

ولعلَّ الموسيقى أقوى ضروب الفن في قُدرتها على رفع الإنسان فوق إرادته ومكافحتها «ليست الموسيقى بأية حالٍ كسائر الفنون نسخةً من المثل (أي جواهر الأشياء)، ولكنها نسخة من الإرادة نفسها.» فهي تُصوِّر لنا الإرادة في حركتها البدائية وكفاحها الدائم، تلك الإرادة التي لا تنفكُّ تعود إلى نفسها لكي تبدأ كفاحها من جديد، فالسبب الذي جعل تأثير الموسيقى أقوى وأنفذ من الفنون الأخرى هو أنَّ هذه الفنون تتحدَّث عن خيالات فقط، أما الموسيقى فتُعبِّر عن الأشياء نفسها، وهي تختلف أيضًا عن الفنون الأخرى في أنها تؤثر في شعورنا تأثيرًا مباشرًا، لا عن طريق الأفكار، وإنها لتخاطِب فينا جانبًا أرقَّ من العقل. ومما تجدُر ملاحظته أن التناظُر (السمترية) في فنون المعمار تقوم مقام النغَم في الموسيقى، إذ إنَّ فنَّ النحْت كما يقول «جوته» عبارة عن موسيقى مُتجمِّدة والتناظُر فيها نغَم صامت.

(د) الدين: لقد أدرك «شوبنهور» وهو في كهولته الناضجة أنَّ النظرية التي ارتآها في الفن — وخُلاصتها التغلُّب على الإرادة وطرحها جانبًا لِنتأمَّل الحقيقة الموضوعية الخالدة الشاملة — تصلح أيضًا أن تكون نظريةً للدين، فلقد نشأ «شوبنهور» نشأةً لم يكن للدِّين فيها إلا جانب ضئيل جدًّا، ولم تنزع به مُيوله إلى احترام النظم الكنسية السائدة في عصره، حتى لقد احتقر رجال اللاهوت ووصَفَ الدين بأنه «ميتافيزيقا الجماهير»، ولكنه لمَّا اكتهل واكتمل نضوجه أخذ يُدرك في بعض الشعائر والمُعتقدات الدينية المسيحية معنًى عميقًا وفلسفةً تشاؤمية عويصة، فجوهر المسيحية قائم على مذهب الخطيئة (وهي في أساسها تقرير للإرادة) والتكفير (وهو إنكار للإرادة) هذا وإنَّ الصوم الذي يفرضه الدين وسيلة قوية فعَّالة في إخماد الرغبات التي يستحيل أن يؤدي وجودها إلى السعادة، بل مؤدَّاها لا بدَّ أن يكون إما إلى خيبةٍ وفشل أو إلى التطلُّع إلى رغبة أخرى.

«إنَّ القوة التي استطاعت بها المسيحية أن تتغلَّب على اليهودية أولًا، ثم على وثنية اليونان والرومان، إنما تنحصِر في تشاؤمها فقط، أي في اعترافها بأنَّ حالنا شديدة البؤس ومُسرفة في الخطيئة، مع أنَّ اليهودية والوثنية جميعًا كانتا مُتفائلتين.» لقد حسبت اليهودية والوثنية أن الدين رشوة يُقدِّمها الإنسان إلى الآلهة لتُعينهم على نجاحهم الدنيوي، أما المسيحية فقد رأت للدِّين غرضًا غير طلب السعادة في هذه الدنيا؛ لأنها رجاءٌ هيهات أن يتحقَّق، ولقد نهضت في عالمٍ يملؤه الترَف والزهو بالسلطان الدنيوي فرفعت مثَلَها الأعلى الذي صوَّرته في حياة القديس المتعبد الذي يستطيع أن يهزم الإرادة الفردية هزيمة مُنكَرة.

والبوذية أعمق من المسيحية؛ لأنها تجعل عدَم الإرادة غاية الدين، ولا رَيب في أن الهنود أبعدُ غورًا من مُفكِّري أوروبا؛ لأنهم يفسِّرون الدنيا بالشعور والبصيرة لا بالحسِّ والعقل، إن العقل يُقسِّم كل شيء، أما البصيرة فتوحِّد كل شيء، وقد رأى الهنود أنَّ اﻟ «أنا» وهْم وخداع، وأنَّ الفرد شبَح زائل، أما الحقيقة الوحيدة فهي «الواحد اللانهائي». إن كل من يصفو بصرُه وبصيرته، بحيث يرى أنَّنا جميعًا أعضاء من كائنٍ عضوي واحد، وأنَّنا تيَّارات ضئيلة في خِضم الإرادة فهو «لا شكَّ بالغٌ كل فضيلة وكلَّ نعيم، وهو سائر على طريقٍ قويم نحو التحرُّر.» ولا يظن «شوبنهور» أن المسيحية مُستطيعة أن تحصل مكان البوذية في الشرق، ولا يرى لها من أثرٍ في البوذية أكثر من رصاصةٍ أُطلِقَت في جبلٍ شامخ، بل يرى أنَّ الأصحَّ هو أن الفلسفة الهندية تتدفَّق في أوروبا، وأنها ستُغيِّر من معرفة الأوروبيين وتفكيرهم تغييرًا عميقًا، وأن الأدب الهندي (السنسكريتي) سيقلِب وجه الأدب الأوروبي كما فعلتِ الآداب اليونانية حين ابتُعِثت في القرن الخامس عشر.

إنَّ الحكمة النهائية إذن هي «النرڨانا»١٤ هي أن تنحصِر ذات الفرد في أقلِّ حيِّزٍ مُمكن من الرغبة والإرادة، فكلَّما قلَّت مُثيرات الإرادة لنا قلَّت آلامنا تبعًا لذلك. إنَّ السلام الذي يسمو على العقل كلِّه، إنَّ الهدوء الروحي الكامل، إنَّ الطمأنينة العميقة، هو ما يجِب أن يكون لنا إنجيلا … يجِب أن تخلُد المعرفة، وتنمحي الإرادة.

(٧) حكمة الموت

ولكن مهما يكن من أمر الدين، فما زلنا بحاجةٍ إلى ما هو أكثر منه، نعم يستطيع الفرد أن يمحو الإرادة، وأن يتحرَّر بفضل النرفانا، ولكن ماذا يخلِّص الإنسانية بأسرها؟ إنَّ الحياة لتضحك من فناء الأفراد؛ لأنها تُبقيهم أحياء في نسلِهم، ولو أمكن لفردٍ واحدٍ أن يقهرها بما يختاره لنفسه من العُقم، فهنالك إلى جانبه ألوف وألوف تستجيب لداعي الحياة، وتنسل ما يضمَن لها البقاء والخلود، فكيف إذن نُخلِّص الإنسان؟ أليس ثمَّة نرفانا للجنس عامَّة كما وجدناها للفرد؟

ولئن أردْنا أن نهزِم الإرادة هزيمة مُنكرة لا يكون لها قيام بعدَها، فلن يكون لنا هذا إلا في استئصال مَعين الحياة أعني في مقاومة إرادة النَّسل. «إنَّ إشباع الغريزة الجنسية هو الذي يستوجب المنع البات؛ لأنه أقوى ما يُثبِت شهوة الحياة.» وليت شعري ماذا جنى هؤلاء الأطفال فندفع بهم إلى الحياة؟

«إنَّنا لو تأمَّلنا الحياة المُصطخبة لرأينا الناس جميعًا يشتغلون بما تتطلَّبه من حاجةٍ وشقاء، ويستنفدون كلَّ قواهم لكي يُرضوا حاجات الحياة التي لا تنتهي، ولكي يمحوا أحزانها الكثيرة، أوليس عجيبًا بعد هذا ألا يكون لدَيهم من الجرأة ما يجعلهم يفكرون — في شيءٍ آخر سوى الاحتفاظ بهذا الوجود المعذَّب — أمدًا قصيرًا من الحياة، أوليس عجيبًا أن نرى وسط هذا الصخب نظرات الغزل يتبادلها الحبيبان حين يلتقِيان في شوق؟ ولكن لماذا يلتقي الحبيبان تحت ستْر الخفاء، وفي شيءٍ من الوجَل؟ لأنهما الخائنان اللذان ينشُدان دوام هذه الحاجة، وهذا الاستعباد الذي كان سرعان ما ينتهي لولاهما … ها هو السبب العميق لما يُحيط عملية التناسُل من خجل.»

وتَبِعة هذه الجريمة إنما تقع على المرأة؛ لأنه إذا نمَتْ معرفة الرجل نموًّا يرجح على الإرادة، بل يمحوها فإنَّ فتنة المرأة التي لا معرفة فيها ولا فكر تعود، فتهبط بالرجل إلى التناسُل، وليس لدى الشباب من الذكاء ما يكفي أن يعلم أن فتنة المرأة قصيرة الأجل، فإذا ما نضج الذكاء واكتمل العقل ليُدرك هذه الحقيقة تكون الفرصة السانحة قد أفلتت، والوقت المناسب قد انقضى.

لقد وهبَتِ الطبيعة الفتاة قسطًا من الجمال تغزو به أفئدة الرجال لينهضوا بعبئها عن رضًا وطواعية، ولكن الطبيعة في عطائها كانت كعهدنا بها مُقتِّرة، فلم تهَبِ المرأة من الجمال إلا بمقدار ما تستطيع أن تتَّخذ منه أداةً لحفْز الرجل على التناسُل ليستمرَّ بقاء الحياة، حتى إذا ما انقضت مهمَّتها في ذلك عادت فسلبتْها ما كانت وهبتْها من فتنةٍ وجمال، وتطوُّع الرجل للإنفاق على المرأة لم يكن ليتمَّ لو كان العقل وحدَه هو الذي يُوجِّه أفكار الرجل.

وإنَّ «شوبنهور» ليعجَب أشدَّ العجب لهذا الاسم الذي يُطلَق على النساء جزافًا «الجنس اللطيف»، فلا شكَّ أنَّ من يُطلِق هذا اللقب على ذلك الجنس الضئيل القصير الشائه، هم أولئك الذين أفسدت غرائزهم الجنسية عقولَهم، فجمال المرأة كله قائم على الغريزة الجنسية وحدَها، وإنه لأقرب إلى الصواب أن نُسمِّي النساء بالجنس الذي لا ذوق له في الفن؛ إذ ليس في مقدورهنَّ تقدير الجمال في شتَّى الفنون، ولكنهنَّ كثيرًا ما يُغالطنَ في الحقائق فيدَّعين أنهن ذوات فنٍّ جميل، بأن يعزفن على الآلات الموسيقية أو يُعالجن التصوير، ولكن ذلك منهنَّ كذب ورياء، فهن لا يُشغفْنَ إلا بما خلقنَ من أجله؛ أعني حفظ النوع. إنَّ الرجل يجاهد في العلوم والفنون لتتمَّ له السيطرة على الأشياء سيطرةً مباشرة، إما بفهمها أو بالتحكم فيها، أما المرأة فهي بطبيعتها لا تحبُّ أن تسيطر على الأشياء سيطرةً مباشرة، ولكنها دائمًا تقصد إلى السيادة عليها عن طريق سيادتها على الرجل، فالرجل وحدَه هو ما تصبو المرأة إلى التحكُّم فيه والسيطرة عليه، ومعنى ذلك أنَّ المرأة ترى في كلِّ شيءٍ وسيلةً فقط لغزو الرجل، فإذا ما تظاهرت بميل إلى الموسيقى أو الشعر مثلًا فليس ذلك ناشئًا عن رغبة طبيعية فيها نحو هذه الفنون، إنما هي تتَّخذ منها أداة تتجمَّل بها لتروق في عين الرجل، ولو استعرضتَ عصور التاريخ جميعًا لما وجدْتَ أحدًا من النساء قد أبدع في الفن آيةً فيها أصالة ونبوغ.

ولعلَّ هذا الاحترام الذي يُبديه الرجل للمرأة إحدى نتائج الديانة المسيحية، وهو سبب لتلك الحركة الرومانتيكية التي تُمجِّد الشعور والغريزة والإرادة، وتضعها جميعًا فوق العقل والذكاء. ولقد أدرك أهل القارَّة الآسيوية في ذلك ما لم يُدرِكه الأوروبيون؛ لأنهم يعترفون اعترافًا صريحًا بِضَعة المرأة، إذ لا رَيْب في أنَّ كل قانون يُعامِل المرأة على أساس مساواتها بالرجل باطل من أوَّلِه، فإذا أراد القانون أن يُسوِّيها في الحقوق بالرجل فليُعْطها أولًا عقلًا كعقول الرجال، هذا ولقد أصاب الشرقيُّون مرةً أخرى في تقريرهم لمبدأ تعدُّد الزوجات؛ لأنه مبدأ تُحتِّمه الطبيعة وتُبرِّره. والعجَب أنَّ الأوروبيِّين في الوقت الذي يستنكرون فيه هذا المبدأ نظريًّا يتَّبِعونه عمليًّا، فما أحسب أنَّ بينهم من يُنفِّذ مبدأ الزوجة الواحدة على وجهه الصحيح.

ومن الخرْق أيضًا أن نسمح للمرأة بوراثة مال زوجها؛ لأنها مُسرفة بطبعِها، وقد نشأ إسرافها من تعلُّق أطماعها بالأشياء المادية، فتراها تبذُل بغير حسابٍ في تجمُّلها وزينتها، وهي في ذلك مخالفة للرجل الذي يتوجَّه بطموحه إلى نواحٍ غير مادية كالعِلم والشجاعة وما إليهما، وهو بذلك يستنفِد مجهوده فيما لا يحتاج إلى البذْل والإسراف.

يقول «أرسطو» في كتاب «السياسة»: إنه إذا سُمح للمرأة بالزيادة من حقوقها كان ذلك نذيرًا بزوال الدولة ودمارها، وهو يستشهِد على ذلك «بإسبرطه»، ولقد جاء التاريخ الحديث بأمثلةٍ تؤيد ما ذهب إليه ذلك الفيلسوف العظيم، فزيادة نفوذ المرأة في فرنسا منذ عهد لويس الثالث عشر أدَّى إلى تدهور الحكومة والبلاط، وهذا أنتج الثورة الفرنسية الكُبرى وما أعقبَها من ثورات.

نرى من ذلك كله أنه كلما وهنَتْ علاقة الرجل بالمرأة كان خيرًا وأفضل، فليس النساء «شرًّا لا بدَّ منه.» كما يقولون، إذ الحياة بغيرهنَّ آمَن وأمتع، فليتدبَّر الرجال الأمر، وليفكِّروا طويلًا في هذه الأحبولة التي نُصِبت لهم في النساء، وفي هذه المهزلة الساخرة التي ترمي إليها الإرادة من التناسُل، إن تقدُّم العقل سيَحدُّ بل سيمحو إرادة النسْل. فلستُ أدري لماذا نرفع الستار عن حياةٍ جديدة كلما أُسدِلت على عزيمةٍ وموت؟ لستُ أدري لماذا نخلق بأنفسنا معركةً جديدة وهزيمة جديدة كلما فرغْنا من كفاحٍ ينتهي بالاندحار؟ حتامَّ تخدع الناس هذه الزوبعة التي تثُور حول لا شيء، حتامَّ نصبِر على هذا الألَم الذي لا ينتهي، والذي لا يؤدي إلا إلى عناءٍ وشر، متى نتذرَّع بالشجاعة فنتحدَّى الإرادة ونُنبئها أنَّ حبَّ الحياة أكذوبة، وأنَّ أعظم نعيمٍ للناس جميعًا هو الموت؟

نقد

لم يكن عجيبًا أن ينطق «شوبنهور» بهذه الفلسفة المتشائمة بعد ما شهدته أوروبا من كوارث الحروب النابليونية التي أنهكتْها وذهبت بريحها؛ لأنه إذا ما اشتدَّتِ الكروب بالإنسان أسلم نفسه لليأس القاتل، وغاضَتْ منه كلُّ بواعث الأمل؛ لشعوره العميق حينئذٍ بضَعف إرادته أمام إرادة الكون القوية الجبَّارة، هكذا حدَث في اليونان بعد حروب الإسكندر، فنشأت بها الرواقية الشاحبة، والأبيقورية المُتعثِّرة اليائسة، وهكذا حدَث في روما بعد قيصر، ففي كلتا الحالَين تدفَّقت في الصدور تلك العقائد التي توقِن يقينًا جازمًا بقوَّة إرادة الطبيعة وجبروتها إذا قِيست بإرادة الإنسان الواهية العاجزة، التي تُسلِّم بأنَّ لا حول لهذا الإنسان أمام قوة القدر. ثم هكذا كانت الحال في أوروبا بعد عام ١٨١٥م حيث خارت قواها، وأظلمَتِ الدنيا أمام ناظريها، فاتَّخذت من «شوبنهور» لسانًا يُعبِّر عما في نفسها من خيبةٍ ويأس.

ولا شكَّ أنه ممَّا عمل على إيجاد هذا الروح اليائس في نفس «شوبنهور» ما كان يعيش فيه من فراغ؛ إذ الحياة المليئة بالعمل والنشاط تخلق غالبًا المرَح والتفاؤل. ومن العسير أن تنعَم النفس بالهدوء والطمأنينة إذا خلَتِ الحياة من العمل. ولقد كان لدى فيلسوفنا من المال ما يكفيه، فعاش في فراغٍ مُتَّصل، حتى أيقن أنَّ العمل المُتواصِل أخفُّ احتمالًا من الفراغ الدائم. ولعلَّ نزوع الفلاسفة عامَّة إلى الكآبة راجع إلى خلوِّ حياتهم من النشاط والحركة.

ولكن فلسفة «شوبنهور» لم تخلُ من بعض الأخطاء التي نُشير إليها هنا إشارةً عجلى:

  • (١)

فلا رَيب أنه بالَغ في رأيه في النساء، وأسرَف في سُوء ظنِّه بهنَّ إسرافًا شديدًا، فما كل النساء خادِعات ماكرات كما ظن، وليس جمالهنَّ ناشئًا عن الغريزة الجنسية وحدَها كما ذهب، وليْتَ شعري كم يبقى لدَينا من الجمال إذا نحن أنكرْنا جمال النساء؟ ولكن لعلَّ «لشوبنهور» عُذره في رأيه هذا لِما وجد من أمِّه من مقتٍ وحِقد.

  • (٢)

ثُم ما هذا التشاؤم كله من الحياة؟ أليس في التشاؤم كثير من الأنانية؟ أوكلَّما تبرَّمَ الإنسان بنفسه انقلب إلى الكون بأسرِه فألقى عليه التَّبِعة؟ لقد نسينا إذن ما أرشدَنا إليه «سبينُوزا» من أنَّ ما نحسُّ به نحن من سخط ومن غضب أحكام بشرية، نخطئ غالبًا إذا طبَّقناها على العالم، فلربَّما كان كُرهنا للعالم هو كُره لأنفسنا قد تنكَّر واستخفى، فما ينبغي أن تكون الإساءة منَّا، ثم نقذف بالتُّهمة جزافًا على «البيئة» أو على «العالم» إنكالًا منَّا على أن البيئة أو العالم صامتان ليس لهما ألسنة يُدافعان بهما عن نفسيهما. إنَّ الرجل السليم المُعافى ذا العقل الناضِج الرشيد، ليَقبل الحياة بما فيها من قيود؛ لأنه لا يتوقَّع من السماء أن تكون خادمًا طيِّعًا رهْن إشارته، وهو يعلَم أنه من حُمق الرأي — كما يقول كارليل — أن نلعَن الشمس؛ لأنها لا تُشعِل لنا «السجائر» حينما نريد منها ذلك، ومع ذلك فلعلَّها فاعلة لو أوتينا العِلم والذكاء، فلقد ينقلِب هذا الكون الفسيح إلى ميدان لذَّةٍ وسعادة إذا نحن عاونَّاه بشيءٍ من الإشراق في نفوسنا، وعلى كلِّ حالٍ فليس العالَم صديقًا لنا كما أنه ليس بِعدوِّنا، فما هو إلا مادة أولية في أيدينا، تكون منه الجنة، أو يكون منه الجحيم حسب ما تكون عليه نفوسنا.

  • (٣)

أما أنَّ ما تُثيره فينا الإرادة من رغباتٍ ينتهي عادةً بالفشل، وأنه حتى إذا تحقَّقت الرغبة، فإنها تبعَث وراءها رغبةً ثانية وهلمَّ جرًّا، فلسْنا ندري أين العيب في هذا؟ أولَمْ يدْرِ «شوبنهور» أنَّ لذَّةَ الحياة في الكفاح حتى ولو أخفق؟ وماذا علينا في أنْ تبعَث الرغبة المُتحقِّقة رغبةً أخرى؟ إنه خير لنا من غير شكٍّ ألا نقنَع ونرضى، فالسعادة كما قال القُدامى: هي في حالة السَّعي وراءها لا في حالة الرِّضا والتشبع، والرجل الكامل لا ينشُد السعادة بقدْر ما يبحث عن ظرفٍ سانح يُمارس فيه ملَكاته وقُواه، فإذا كان لزامًا عليه أنْ يدفع عناءه وشقاءه ثمنًا لهذا، فما أرخَصَه من ثمن، إنَّنا لفي حاجةٍ إلى المقاومة لكي نرتفع كما ترتفِع بالمقاومة الطائرة والطائر، نحن بحاجةٍ إلى العقبات لترهف بها قوانا، فليستِ الحياة الهيِّنة جديرة بالإنسان.

  • (٤)

ولقد زعم «شوبنهور» أنَّ الزيادة من المعرفة تستتبِع الزيادة في الألَم، وأن أرقى الكائنات هي أشدُّها معاناةً للألم، وهذا صحيح لا رَيب فيه، ولكن أليس صحيحًا كذلك أنَّ زيادة المعرفة تزيد الألم، وأنَّ أرقى الكائنات يتمتَّع وحدَه بأسمى الملاذِّ كما يُعاني ألذَعَ الألم؟ لقد أصاب «فولتير» حين آثَر لنفسه أن يشقى بالحكمة عن أن ينعم نعيم الجهالة والسذاجة. إنَّنا لا نتردَّد في أن نُعالِج من الحياة أقواها وأعمقها، حتى ولو كان ذلك على حساب ما نُقاسيه من ألَم.

  • (٥)

أمَّا أنَّ اللذَّة سلبية كما يقول «شوبنهور» فلا نظنُّ ذلك صحيحًا على إطلاقه. إنَّ اللذَّة هي انسجام ما تقوم به غرائزنا من عمل، فلا تكون اللذَّة سلبيةً إذا كانت الغريزة الدافعة إليها غريزة تقهقُر وتراجُع. لا تُقدُّم وإقدام، كلذَّة الهرَب والراحة والخضوع والأمن والوحدة والهدوء، فهذه كلُّها لذَّاتٌ سلبية؛ لأنها ناشئة عن غرائز سلبية، فهي ألوانٌ من الفرار والخوف، ولكن من ذا يزعُم أنَّ الملاذَّ التي تنشأ عن الغرائز الإيجابية كغرائز التحصيل والامتلاك والحُكم والسيادة والاجتماع والحُب، ملاذُّ سلبيَّة؟ مَن ذا يخطئ فيظنُّ أنَّ الضحك ومرَح الطفولة وأغنية الطير لأليفِه والاستمتاع بالفنِّ ملاذُّ سلبية؟

  • (٦)

ويقول فيلسوفنا إنَّ الموت مُروِّع مُفزع، فهل كان يُرضيه ألَّا نموت؟ من ذا يغبِط «أهاسُورَس» Ahasuerus الذي أرادتِ الآلهة أن تُنزِل به أمرَّ ما ينزِل بإنسانٍ من عقاب، فأرادت له ألا يموت؟ ثم لماذا يكون الموت مُفزعًا إذا لم تكُن الحياة حلوةً مريئة؟ هذا، وإنَّ امرأً نيَّف على السبعين من عُمره لا يحقُّ له أن يدَّعي أنه صادقٌ في تشاؤمه، وفي ذلك يقول «جوته»: إنَّ الإنسان لا يتشاءم قبل العشرين ولا بعد الثلاثين؛ لأنَّ التشاؤم في حقيقته فيْض الشعور بالذات وما لها من أهميةٍ وخطر، وإنما يشعُر بهذا الشعور شابٌّ انسلخ لتوِّه من صدْر أسرته الحنون المملوء حبًّا وتعاونًا وأمنًا، إلى عالَمٍ لا يعرف إلا التنافس بين الأفراد وما يلازمه من شراهةٍ وجشع، عندئذٍ يحسُّ مثل ذلك الشابُّ شرَّ الحياة وسوءها، حينما يشهد مُثُلَه العُليا تنهار واحدةً بعد واحدة. أما قبل العشرين فتكون لذَّة الجسد، ثُم تكون لذَّة العقل بعد الثلاثين.

  • (٧)

ويظهر أنَّ «شوبنهور» لم يُصِبْ حين ارتأى أنَّ إرادة الحياة هي القوة الحقيقية الدافعة لهذا الوجود، فبماذا نُعلِّل الانتحار؟

  • (٨)

ولقد زعم أنَّ النبوغ مُرتبط بالجنون، فما قوله في «سقراط» و«أفلاطون» و«أرسطو» و«سبينُوزا» و«بيكون» و«نيوتن» و«فولتير» و«جوته» و«دارون» وغيرهم؟

ولكن مهما يكن في فلسفة الرجل من أخطاء، فما ذلك إلا كالكَلَف في الشمس، ولقد أفلح في أن يفرِض فلسفته على الوجود فرضًا، وفي أن يُضيف اسمه إلى سجلِّ الخالدين.