الجمعة، 11 ديسمبر 2020

مابعد الحداثة؛ علي وطفة.

 



نقد الحداثة:

(علي وطفة)

(الجزء الثاني من مقالة عن الحداثة ومابعد الحداثة)


علماء الاجتماع استطاعوا عبر رؤاهم النقدية أن يكتشفوا مسالب الحداثة ومخاطرها ولكنهم مع ذلك كانوا يرجحون الجوانب الإيجابية لهذه الحداثة على مضامينها السلبية.

لم تستطع الحداثة بنزعتها العقلانية ومغامراتها العلمية أن تحقق الغايات التي كانت في أصل وجودها. إن مأساة الحداثة كما يقول تورين “أنها تطورت ضد ذاتها[39]. وهذا يعني أنها وجدت من أجل تحرير الإنسان ولكنها وفي سياق تطورها وضعته في أقفاص عبودية جديدة هي عبودية العقل والعقلانية، لقد أصبحت الذات الإنسانية في سياق هذا التطور موضعا للعلم والعقلانية، وتم استلاب هذه الذات من مقومات وجودها الإنسانية.

لقد أعلن جان جاك روسو J.J.Rousseau (1712-1778) زعيم النزعة الطبيعية، في القرن الثامن عشر، عن مسالب الحداثة ومخاطر العقلانية الصارمة التي اجتاحت العمق الإنساني واستلبت المشاعر السامية للإنسان. وقد أكد هذه الملاحظات في مختلف أعماله بدءا من العقد الاجتماعي Le contrat social  وانتهاء بكتابه إميل  Emile.

يهاجم روسو بشدة التقدم العلمي الذي أدى إلى تشويه الجانب الإنساني في الإنسان، ونادى بإصلاح التربية والقيم والمؤسسات السياسية والدين من أجل الإنسان في أعمق مضامينه الإنسانية. وإذا كان الإنسان اليوم يحتل مكانا مركزيا في دائرة تصوراتنا فإن هذا يعود بالدرجة الأولى إلى روسو. وعلى أساس ذلك يقول كانط إن “روسو هو نيوتن العالم الأخلاقي[40]. ففي رسالتيه المشهورتينمقالة في العلوم والفنون Le discours sur les sciences et les arts، ومن ثم مقالته في أصل اللامساواة بين البشر Discours sur l’origine de l’inégalité يؤكد روسو على أن الحضارة المادية العقلانية تؤدي إلى تراجع الأخلاق وتراجع القيم الإنسانية وتدفع الإنسان إلى دوائر الاستلاب والاغتراب. وفي هذا السياق يرى روسو أن المجتمع ليس عقلانيا وأن الحداثة تفسد أكثر مما تقدمه من فوائد. وبالتالي ومن أجل تحقيق الوحدة بين الإنسان والمجتمع فإن الحداثة تؤدي إلى تأكيد السيادة السياسية التي توظف في خدمة العقل وهي سيادة تنمو وتزدهر على حساب الذات الإنسانية المتفردة. وبعبارة أخرى من أجل انتصار العقل والعقلانية يجب التخلي عن الذات الإنسانية بما تنطوي عليه هذه الذات من كرامة وخصوصية. وهنا يجب على الإنسان أن يخضع لعقله وتأملاته العقلية وذلك على حساب عواطفه ومشاعره وقيمه الخاصة. وعلى هذا الأساس يستطيع المرء أن يتدرج وأن يأخذ مكانه وحضوره في سياق وجوده الاجتماعي وذلك بوصفه عاملا أو جنديا أو مواطنا بدرجة أكبر من كونه سيدا لنفسه ولمصيره. وعلى هذا الأساس يتحول العقل إلى طاغية والعقلانية إلى قهر واستبداد تنتهك وجود الإنسان وتستلبه[41].

لقد شكلت الحداثة على مدى القرون الماضية دريئة للنقد من قبل مفكرين أفذاذ مثل ماركس ونيتشه وفرويد واستطاعوا أن يفندوا جميع الأسس التي قامت عليها الحداثة. وفي ظل هذه الانتقادات المتنامية طرحت العلاقة الإشكالية بين الجانب الذاتي في الإنسان (الذاتية الإنسانية التي تمثل الجانب الانفعالي والعاطفي من كرامة وحب وكراهية وأحاسيس ومشاعر وقيم وانتماءات) والعقلانية نفسها بوصفها إحدى أهم التحديات التي واجهتها مرحلة الحداثة. فالحداثة تؤكد العقلانية وهي لا تعير الجانب الذاتي الإنساني اهتماما كبيرا، وإذا كان تجاهل الجانب الذاتي في الإنسان يضع الحداثة في وضعية أزمة فإن تغييب الجانب العقلي لحساب الجانب الذاتي يضاعف من حدة هذه الأزمة. فالإنسان الذي يتجرد من عطاءات العقلانية يضع نفسه في زنزانات الهوية والنزعات الاعتباطية ويذوب في معاصر التعصب والتحيز والانكماش.

وتلك هي المعادلة الصعبة والحل المناسب هنا ليس في أن يختار الإنسان بين العقل أو الذات بل وعلى خلاف ذلك يتوجب على الإنسان أن يحقق التوافق بين الطرفين والتوازن بين الاتجاهين: بين العقل وبين الذات الإنسانية. وإنه لمن مظاهر الخطر الكبير تنامي هذا الانفصال بين الجانبين: بين العالم العقلي وبين العالم الذاتي في مستوى الإنسان الفرد كما في مستوى المجتمع، بين الحياة الخاصة وبين الحياة العامة للفرد. وغالبا ما تجد هذه المعادلة الصعبة مخرجها عبر عملية ديمقراطية تتميز بالقدرة الحقيقية على تحقيق علاقة التوازن بين الفرد والمجتمع بين المصلحة الخاصة للفرد وبين المصلحة العامة كما يؤكد في هذا السياق المفكر الأمريكي جون ديوي.

لقد فقدت الحداثة قدرتها على تحرير الإنسان بعد أن أدت دورها التاريخي، وفي هذا السياق يقول تورين: “بقدر ما تنتصر الحداثة بقدر ما تفقد قدرتها على التحرير، إن دعوة التنوير مؤثرة عندما يكون العالم غارقا في الظلام والجهل والعبودية[42]. ومن أجل تفسير هذا التناقض الكبير يشرح لنا تورين هذه الإشكالية، إشكالية التحرير والعبودية فيما بين عصر التقاليد وعصر الحداثة فيقول: “كنا نعيش في الصمت صرنا نعيش في الضجيج، كنا معزولين فصرنا ضائعين وسط الزحام، كنا نتسلم قليلا من الرسائل والآن تنهمر علينا كوابل من نار، لقد انتزعتنا الحداثة من الحدود الضيقة للثقافة التقليدية المحلية التي كنا نحياها وألقت بنا في جحيم الحرية الفردية، لقد ناضلنا ضد نظم الحكم القديمة الفاسدة وميراثها، أما في القرن العشرين فضد الأنظمة الجديدة والمجتمع الجديد والإنسان الجديد[43].

يعد الفيلسوف الفرنسي المعروف جان فرانسوا ليوتار Lyotard من كبار المفكرين الذين وضعوا الحداثة في قفص الاتهام وهو من أعلن نهايتها معلنا عن ميلاد عصر ما بعد الحداثة في كتابه المعروف الوضع ما بعد الحداثي La condition Postmoderne عام 1979. وهو في هذا السياق يعلن عن سقوط النظريات والإيديولوجيات الكبرى وعجز هذه النظريات عن قراءة الواقع أو تفسيره لأن هذه الأنساق الفكرية تعاني من الجمود والانغلاق وهي ليست قادرة أبدا كما يذهب أصحابها وروادها على تفسير العالم أو المجتمع ومن هذه النظريات الماركسية والوضعية والوجودية والبرغماتية وغيرها من النظريات الشمولية المعروفة.

ومن القضايا التي يناقشها جان فرانسوا ليوتار Jean-François Lyotard في هذا الجانب إشكالية الحتمية التي يعلن سقوطها تأسيسا على تطور العلوم الطبيعية والتاريخ[44]. فالحتمية تعلن إفلاسها أمام المستجدات العلمية الجديدة في القرن العشرين. لقد بينت الأحداث المتتابعة، على مدى القرن العشرين، أن التاريخ لا يأخذ خطا حتميا تحركه تتابعات المراحل، وحتميات التتابع التاريخي الذي أنبأت عنه الماركسية وغيرها. فالتاريخ الإنساني قد يأخذ خط التقدم، ولكنه قد يتراجع وقد ينهض من جديد أو يراوح في مكانه، فلا مكان لأقدار الحتمية وأفكار الغايات التي يسعى إليها التطور في منظور الأنساق الفكرية الكبرى[45].

مفهوم ما بعد الحداثة:

غالبا ما يحاصر المفكرون المفاهيم الجديدة بإيقاعات تصوراتهم الفكرية ومن هذا المنطلق نجد أن مفهوم الحداثة قد تشبع بتصورات وحدود عدد كبير من المفكرين العمالقة الذين وظفوا هذا المفهوم في منظوماتهم الفكرية. ومن هذه الزاوية نجد حالة من التنوع والاضطراب في تحديد مفهوم ما بعد الحداثة بصورة واضحة وجلية. لقد شكلت الانتقادات المنهجية التي وجهت إلى مفهوم الحداثة الأرضية العلمية التي تنامى في تربتها مفهوم ما بعد الحداثة ليأخذ صورته النقدية التي تغذيها روح فكرية نقدية نشطة ومتطورة. وقد لا نبالغ إذا قلنا بأن هذه الانتقادات التي تنامت في حقل الحداثة شكلت أيضا ينبوعا للتنظير العلمي المتقدم والإبداعي في ميدان ما بعد الحداثة. وتأسيسا على ذلك يمكن القول بأن مفهوم ما بعد الحداثة لا يأخذ أهميته بوصفه امتدادا زمنيا لحالات حضارية متعاقبة بل هو نسق من التصورات النقدية التي أبدعتها روح العصر المتجدد في مختلف ميادين الحياة الفكرية.

وفي غمرة الانتقادات التي وجهت إلى الحداثة وفي ملامح الأزمة التي تعيشها الحداثة دفعت بعض الباحثين إلى الاعتقاد بأن الإنسانية خرجت، تحت تأثير هذه الاختناقات الحضارية، من مرحلة الحداثة وبدأت مرحلة جديدة أطلق عليها ما بعد الحداثة. ويقدر فريق من هؤلاء الباحثين أن هذه المرحلة قد بدأت تاريخيا منذ عام 1968 وهي المرحلة التي عرفت بثورة الطلاب في مختلف عواصم العالم، وعلى خلاف ذلك يرى الفريق الآخر من هؤلاء الباحثين أن مرحلة [مابعد] الحداثة قد بدأت مع سقوط جدار برلين تعبيرا عن سقوط المنظومة الاشتراكية.

وفي هذا الخصوص يشير إيهاب حسن، أحد المنظرين في هذا المجال، إلى صعوبة تحديد مفهوم ما بعد الحداثة، ولكنه مع ذلك يقدم مجموعة من التصورات العلمية التي يمكنها أن تشكل العناصر الأساسية في بنية هذا المفهوم ومنها:

إن لفظ ما بعد الحداثة يوحي بفكرة الحداثة وهو بالتالي يتضمن بعد التوالي الزمني للعلاقة بين المفهومين.

لا يوجد إجماع بين النقاد على تعريف واضح لمفهوم ما بعد الحداثة.

مفهوم ما بعد الحداثة عرضة كغيره للتغير والصيرورة التي نلاحظها في المفاهيم الوليدة حديثا[46].

ومن هذا المنطلق يمكن الإشارة إلى موقف يورجين هابرماس Jurgen Habermas من هذا المفهوم في مقالة له بعنوان “الحداثة مشروع لم يكتمل” في عام 1981[47]، حيث يرى بأن لفظة ما بعد الحداثة Post-modernité  تمثل رغبة بعض المفكرين في الابتعاد عن ماض متشبع بتناقضات كبيرة وتعبر في الوقت نفسه عن سعي حثيث إلى وصف العصر الجديد بمفهوم لم تتحدد ملامحه بعد وذلك لأن الإنسانية لم تستطع أن تجد الحلول المناسبة للإشكاليات التي يطرحها العصر. ووفقا لهذه الصيغة يرى هابرماس بأن ما بعد الحداثة هي صيغة جديدة لمفهوم قديم (الحداثة) وأن ما بعد الحداثة محاولة لإثراء مرحلة الحداثة ذاتها وإتمام مشروعها حتى النهاية.

إن السمات الأساسية التي تنطلق منها حركة ما بعد الحداثة تتمثل في عدة اتجاهات أهمها:

ـ هدم الأنساق الفكرية الجامدة والإيديولوجيات الكبرى المغلقة وتقويض أسسها؛

ـ العمل على إزالة التناقض الحداثي بين الذات والموضوع بين الجانب العقلاني والجانب الروحي في الإنسان، وذلك من منطلق الافتراض بعدم وجود مثل هذه الثنائية الميتافيزيائية؛

ـ رفض الحتمية الطبيعية والتاريخية التي كانت سائدة في مرحلة الحداثة ولا سيما مفهوم التطور التعاقبي أو الخطي أو الزمني الذي يسجل حضوره في الأنساق الاجتماعية والحياة الاجتماعية[48]؛

ويصف إيهاب حسن مرحلة ما بعد الحداثة بالسمات التالية:

ـ فكر يرفض الشمولية في التفكير ولا سيما النظريات الكبرى مثل نظرية كارل ماركس، ونظرية هيغل، ووضعية كونت، ونظرية التحليل النفسي…إلخ.  ويركز على الجزئيات والرؤى المجهرية للكون والوجود؛

ـ رفض اليقين المعرفي المطلق ورفض المنطق التقليدي الذي يقوم على تطابق الدال والمدلول، أي تطابق الأشياء والكلمات؛

ـ يلح على إسقاط نظام السلطة الفكرية في المجتمع والجامعة، في الأدب والفن، والإطاحة بمشروعية القيم المفروضة من فوق في الأنظمة والمؤسسات الاجتماعية كافة[49].

وفي هذا السياق، يرفض أنصار ما بعد الحداثة مفاهيم حداثية مثل: العقل والذات والعقلانية والمنطق والحقيقة، فهي مقولات مرفوضة. والحقيقة وهم لا طائل منه، ذلك لأن الحقيقية مرتهنة بعدد من المعايير الخاصة بالعقل والمنطق وهذه بدورها مرفوضة أيضا[50].

إزاء هذه التناقضات التي نسبت إلى مرحلة الحداثة وعرفت بها، وفي مواجهة هذه الإشكاليات والتحديات، التي انبثقت عن التحولات التاريخية، في النصف الثاني من القرن العشرين، توجب على الإنسانية أن تبحث عن حالة توازن جديدة لتحقيق التوافق الاجتماعي الثقافي وتحقيق المصالحة بين العقل والروح، بين المظاهر المادية للحضارة والمظاهر الروحية، بين العقلانية والذاتية. وفي إطار البحث الإنساني عن مخارج حضارية جديدة للأزمات المتفاقمة جاءت مرحلة ما بعد الحداثة بأفكار وآراء ونظريات مرشحة لتقديم تصورات ذكية عن المخارج الحضارية الجديدة لتجاوز الاختناقات التاريخية القائمة.

ومرحلة ما بعد الحداثة لا ترفض عطاءات المرحلة الحداثية بل تأخذها وتعيد إنتاجها بصورة تتساقط معها مختلف التناقضات وتتكامل فيها مختلف جوانب الوجود الفكري والإنساني في لحمة واحدة. ما بعد الحداثة محاولة لإعادة ترتيب الإشكاليات المطروحة ومن ثم العمل على تنظيم تناقضاتها وإدماجه في حركة التطور الإنساني.

لقد شكلت التحولات الحضارية الجديدة مناخا فكريا لولادة أنظمة فكرية تتسم بطابع الذكاء والتعقيد والتكامل في الآن الواحد. وهذه الولادة الذكية جاءت تعبيرا عن وعي إنساني جديد يتميز بطابعه النقدي المتمرد. وفي هذا السياق يمكن أن نقف عند محورين إشكاليين أساسيين لمرحلة ما بعد الحداثة وهما إشكالية العلاقة بين العقلانية والذاتية من جهة وإشكالية التكاملية من جهة أخرى.

 

العقلانية والذاتية : La rationalisation et la subjectivation

استطاعت النزعة العقلانية في الحداثة أن تقتحم بوابات الجوانب الذاتية في الإنسان وأن تقوض حصون الروح الإنسانية بكل ما تنطوي عليه هذه الروح من مشاعر وأحاسيس وحدوس وقيم ذاتية. وتحت تأثير تموجات الحضارة المادية تشيأ الإنسان وتحول إلى موضوع لهذه النزعة الحضارية الجارفة. لقد تحول الإنسان إلى موضوع للمعرفة العلمية وترتب عليه أن يخضع لمقتضيات النزعة العقلانية وأن يتخلى عن عناصر الخصوصية التي تتميز بها الروح الفردية لديه.

وقد تجلت هذه الوضعية في الأنساق التربوية القائمة حيث عملت المدرسة على تأكيد هذا الانشطار بين الموضوع والذات، بين الإنسان باعتباراته الذاتية وبين العقل باعتباراته الموضوعية. فالمدرسة كانت تعلم التفكير العقلاني وتشدد على أهميته وتعارض مختلف مظاهر الذاتانية التي تتصل بالمشاعر والميول والعواطف والحدوس والخيال والقيم الذاتية والجمالية.

وفي ظل هذه الإكراهات المتنامية التي فرضها منطق العقل والعقلانية ظهرت اتجاهات فكرية واجتماعية تنادي بإعادة الاعتبار للذات الإنسانية بكل ما تشتمل عليه هذه الذات الإنسانية من خصائص ومضامين أخلاقية. واتضح هذا الاتجاه في المراحل الأخيرة من الحداثة وبداية مرحلة ما بعد الحداثة. وفي هذا السياق بدأت الأسرة تأخذ دورها في إعادة الاعتبار إلى الجوانب الروحية والذاتية في الإنسان وبدأت تتنامى أهمية النظرة إلى الإنسان بوصفه ذاتا وبدأت هذه الرؤية تأخذ مداها في مدار الحياة الأسرية. وفي هذه الأجواء لم يعد الزواج مجرد عقد اجتماعي صارم يقوم على أساس من الحقوق والواجبات التي يمليها القانون. وعلى خلاف ذلك بدأت الجوانب الإنسانية في دائرة هذه العلاقة الزواجية تأخذ أهميتها وخصوصيتها. وبدأ الأزواج ينفصلون عندما لا يجدون في دائرة حياتهم الزواجية الأبعاد الإنسانية والعاطفية الضرورية بين الزوجين. فالزواج لم يعد مجرد عقد قانوني بل أصبح عقدا إنسانيا وعاطفيا وانفعاليا يؤكد القيم الإنسانية في أكثر جوانبها خصوصية وأهمية. وبدأ الناس يجدون أنفسهم فيما بعد الحداثة ولا سيما في دائرة الحياة العائلية التي بدأت تغدق على أفرادها ما يحتاجونه من مشاعر إنسانية وقيم عاطفية ملحة وضرورية في حياة الأفراد والمجتمعات الإنسانية.

هذه التغيرات الجديدة في مجال الأسرة بدأت تطرح أهمية إعادة النظر في مفهوم الأسرة وأهمية تقديم تعريفات جديدة وتحديدات جديدة لهذا المفهوم. وتأتي أهمية هذا الموقف من وجود عناصر جديدة تتمثل في أن الحياة الأسرية بدأت في الغرب تتحرر من سطوة الكنيسة ورجال الدين ومن تأثير حطام الإيديولوجيات القديمة. [لكن هذا التحرر لم يكن غائباً في فترة الحداثة أو في فكر الحداثة] وفي هذه الأجواء أيضا بدأت الحياة الفردية تتحرر من صيغتها التقليدية وبدأت الحياة الأسرة تتمحور وبصورة متزايدة حول مبدأي الاستقلال الذاتي والتوافق.

إن ظهور النزعة الذاتانية لا يعني أبدا رفض العقلانية بل بقيت حيث وجب أن تبقى السلاح النقدي الأكثر قدرة وقوة ضد التسلط والشمولية. وهذا لا يعني أبدا أنه يجب علينا أن نتجاهل أن هذه العقلانية كثيرا ما كانت تضع الإنسان الفرد جانبا باسم العلم والموضوعية العلمية.

إن الخصوصية التاريخية لما بعد الحداثة تكمن في تعزيز هذا التقاطع التكاملي بين ذاتانية الفرد وعقلانيته، بين الجوانب الذاتية والجوانب الموضوعية للحياة الإنسانية. ولا يمكن اليوم إجراء المقابلات القديمة بين هذين الجانبين إلا في سياق الصورة التكاملية والجلية بينهما. فالإنسان يمكن أن يكون موضوعا للمعرفة العلمية دون أن ينتقص ذلك من خصوصيته الذاتية والإنسانية.

وهذه الخصوصية الذاتية للإنسان بدأت تتجلى في النسق الاجتماعي أيضا حيث نلاحظ تنامي الاهتمام بالجوانب الذاتية والشخصية للأفراد في دائرة حياتهم الاجتماعية. وهذا يعني أن الأنا يأخذ هيئة بناء يتكامل فيها مع الروح الاجتماعية ليتحول إلى فاعل اجتماعي. وفي هذا الخصوص يمكن القول بأن ما بعد الحداثة تعمل على تحقيق التكامل بين الفرد وأدواره الاجتماعية. وهذا التكامل هو الذي يضعنا في صورة الإنسان الذي يستطيع أن يواجه الأنظمة الاجتماعية القائمة، وأن يعمل على تغييرها بصورة مستمرة، وهذا يعني الإنسان الذي يستطيع أن يحدد مصيره وأن يرسم غايات وجوده بصورة عملية. فالإنسان يمتلك ذاتا وهوية شخصية فردية وهو في الوقت نفسه كائن اجتماعي وهو بجانبيه هذين يشكل لحظة واحدة لا تمايز فيها بين مكوناتها الشخصية والاجتماعية. وهذا يعني أنه يجب ألا يضحي بأحد هذين الجانبين لصالح الآخر ويجب ألا يتوارى أحدهما عندما يظهر الآخر في مجتمع ما بعد الحداثة. فمجتمع ما بعد الحداثة يتعارض مع أي صورة للوجود الإنساني يتعالى فيها أحد الجانبين على الآخر أو يؤدي إلى إزاحته. وعلى هذا الأساس يمكن القول بأن قوى الحضارة لا ترتهن اليوم بعملية النمو المعرفي وتنامي المعرفة العلمية والتكنولوجية فحسب، بل تجد هذه القوة نفسها في الإنسان وتتجلى في طاقاته الذاتية والإنسانية التي يمكنها أن تحرك الطاقة الحضارية للمجتمع.

لقد سبق لدوركهايم Emile Durkheim أن أعطى هذه القضية جل اهتمامه واستطاع بعبقريته المعهودة أن يميز بين جانبي الشخصية وأن يؤكد الوحدة بين هذين الجانبين. يقول دوركهايم في هذا الصدد: “يوجد في كل منا كائنان لا يمكن الفصل بينهما إلا على نحو تجريدي، أحدهما نتاج لكل الحالات الذهنية الخاصة بنا وبحياتنا الشخصية وهو ما يمكن أن نطلق عليه الكائن الفردي. أما الكائن الآخر، فهو نظام من الأفكار والمشاعر والعادات التي ننتمي إليها، مثل العقائد الدينية والممارسات الأخلاقية والتقاليد القومية والمهنية والمشاعر الجمعية من أي نوع كانت، وهي تشكل في مجموعها الكائن الاجتماعي الآخر. وبالتالي فإن بناء هذا الكائن الاجتماعي في كل منا يشكل في نهاية المطاف هدف التربية وغايتها[51].

وفي هذا السياق، يؤكد دوركهايم وهمية التصور بأنه يمكن الفصل بين هذين الجانبين حيث يقول: “إن المعارضة بين الفرد والمجتمع فكرة لا تتوافق أبدا مع معطيات الواقع، لأن هذين المفهومين يتداخلان ويترابطان. وبالتالي فإن الفعل الذي يمارسه المجتمع على الفرد لا يهدف أبدا إلى إفساد الفرد أو إلحاق الضرر به لأن بناء الفرد على نحو اجتماعي ضرورة إنسانية وحضارية[52].

التكامل والشمولية  : L’intégration

يرى بعض المفكرين أن الحداثة تضج بمظاهر التجزئة والتشظي والانشطار في مختلف مظاهر الوجود الاجتماعي والفكري. وأمام هذا الواقع تتجه القوى الحضارية لمرحلة ما بعد الحداثة إلى توحيد هذه الاتجاهات وعقلنة وجودها في سياق تكاملي. وهذا يعني البحث عن مبدأ التكامل في نسق الوجود الاجتماعي والإنساني وبالتالي تحقيق النقلة الواعية من مبدأ الفصل والاستبعاد إلى مبدأ الوحدة والتكامل والإنسانية. ومن أجل هذه الغاية يجب التدخل لتحقيق هذه الانسيابية في مستوى المعارف العلمية والتكنولوجية.

لقد بلغت المعرفة العلمية حالة مزرية من الفوضى والجزئية والتناقض، وقد خضعت هذه المعرفة لمبدأ التعدد المدرسي في كل اتجاه وحدب وصوب. وإذا كانت مرحلة الحداثة تؤكد هذه الوضعية وتعرف بها فإن ما بعد الحداثة تؤكد على أهمية الوحدة والتنسيق والتكامل والتبادل بين مختلف الاتجاهات والتيارات العلمية المتنافرة. وهي وفقا لهذا الاتجاه تبحث عن سياق تتكامل فيه هذه الاتجاهات لتشكل طاقة حضارية متجددة وفاعلة ودافعة إلى تحقيق التطور. [هذا يشبه موقف هوسرل]

وفي نسق رؤية نقدية لوضعية التجزؤ والفوضى المعرفية التي شهدتها مرحلة الحداثة يرى موران E.Morin أنه قد حان الوقت من أجل تجاوز وضعية التشتت والتجزئة والفوضى العلمية القائمة وإيجاد لحمة حقيقية بين التيارات والاتجاهات العلمية والفكرية المتنافرة. فالتيارات المتعددة يمكن أن تشكل العناصر الأساسية لنسيج علمي متطور يؤدي إلى بناء تكوينات علمية جديدة قادرة على توفير الشروط الحضارية لعملية إبداع متواصلة وحركة تجديد في مختلف ميادين الوجود والحياة.

وفي غمرة هذه التصورات الجديدة الداعية إلى الوحدة والتكامل بين عناصر الحياة الفكرية والاجتماعية يحدد ليوتار J.F.Lyotard اتجاه وغاية هذه النزعة إلى التجديد والشمولية. فالهدف من هذه النزعة حسب ليوتار لا يهدف إلى مجرد إحداث القطيعة مع الماضي وتفكيكه وإنما الهدف هو العمل على تطوير الأنظمة القائمة وتغذيتها بطاقة جديدة فاعلة في ميدان الإبداع والتجديد. وفي هذا السياق عينه ينظر ليوتار إلى التعقيد بوصفه صورة متقدمة لعملية التطور. وهذا يعني أن الأنظمة تصبح أكثر تطورا كلما أصبحت أكثر تعقيدا. ومن هذا المنطلق يمكن القول بأن تجاوز الازدواجيات والثنائيات في الفكر والإيديولوجيا والنظريات يعني في الوقت ذاته نهاية الأنظمة الفكرية الشمولية والنظريات الكبرى التي تحجرت وتصلبت تحت تأثير الانغلاق الإيديولوجي والتعصب الفكري.

وعلى خلاف الأنظمة المغلقة فإن النظام ما بعد الحداثي يبشر بحالة من الانفتاح الواسعة، وهذا الانفتاح يؤسس بدوره لمناخ يحفز على الإبداع وينضج بإمكانيات الابتكار والتجديد في مناحي الحياة المختلفة. فالتجديد يولد ويتوالد في قلب عملية الجدل والصراع والمواجهات والتعارض والتخاصب بين مختلف التيارات والاتجاهات التي يتوجب عليها أن تخرج من دوائر الجمود والانغلاق[53].

وهذه التصورات ما بعد الحداثية الجديدة، التي تعبر عن إرهاصات واقع متقدم، يضج بطاقات الإبداع والابتكار، ويسعى إلى البحث الدائم عن آفاق إنسانية جديدة، لا تتوانى عن إظهار بعض التحديات التي تواجه المصير الإنساني في هذه المرحلة المتقدمة من التطور. لقد كان الإيمان بالله في مرحلة ما قبل الحداثة هي الفكرة التي يخلد إليها العقل الإنساني وهي السكون التي تلجأ إليه النفس البشرية. فالإيمان بالله كان يمنح البشر هذا الإحساس الشامل بالأمن الوجودي الخلاق، ويغذيهم بطاقات وجودية خلاقة تمنحهم الاستقرار والسكينة والقدرة على مواجهة مختلف التحديات الوجودية التي تضع الإنسان في دوائر الخوف والقلق. أما فيما بعد الحداثة فإن غياب هذا الإيمان النبيل بوجود الله كقوة عليا حامية يدفع البشر إلى دائرة إحساس عميق لا حدود له بالقلق والخوف والتوتر. وهنا يمكن القول بأن غياب ما هو إلهي يؤدي إلى غياب ما هو إنساني وإلى حالة من القلق الوجودي والعصاب الذي يقهر كل الإرادات ويقض كل المضاجع ويضع الإنسان في حالة اغتراب لا حدود لها.

وفي دائرة هذا الاختناق الوجودي المفعم بالقلق والتوتر والعصاب يجب على الإنسان أن يواجه عالما يفيض بالخطر الدائم. وهذا يعني أنه يجب على الإنسان أن يتكيف مع هذا الواقع الجديد وأن يتعايش مع هذا الخطر المستمر والألم الوجودي المزمن، كما يتعايش مع أي مرض له طابع الاستمرارية الزمنية. ولا يبقى في جعبة الإنسان المعاصر إلا البحث الدائم عن صيغ جديدة وإبداعات جديدة يمكنها في سياق عملية التطور أن تخفف من حدة هذا الخطر وغلواء الشعور بالقهر الإنساني الذي تولده كل آليات الاستلاب الحضاري القائمة.

نحن والحداثة :

يجري الاعتقاد، في أوساط كثير من المثقفين العرب، أن الحداثة عملية يتم من خلالها نقل الأفكار الغربية والتكنولوجيا المتقدمة إلى الأقطار العربية، وعلى أساس هذا المنطق يعرف عبد الغفار رشاد الحداثة بوصفها “الأفكار والمعايير والقيم والمؤسسات ونماذج السلوك الجديدة الوافدة إلى المجتمع من الخارج، أو تلك التي ابتكرها المجتمع من خلال حركة تجديد أو إحياء داخلية[54]. وهذا يعني أن الحداثة يمكن أن تتحقق بكل بساطة مع انتقال المعلومات والمعارف والتكنولوجيا إلى البلدان العربية.

إن مجرد الحصول على المال والرجال والتكنولوجيا لا يعني في أي حال من الأحوال تحقيق الحداثة. وذلك لأن الحداثة عمل وفعل يجد نفسه في أعماق القوى الفاعلة في المجتمع. الحداثة فعل جوهري يحدث في الروح الدافعة للتطور والوجود، إنها طاقة تنوير هائلة تلامس الروح والعقل بالدرجة الأولى. وهذا يعني أن الحداثة لن تتحقق أبدا عبر المظاهر وأنها رهينة الروح الحضارية التي تتمثل في تفجير طاقات العقل وبناء الروح العلمية التي تستمد نسغ وجودها من القيم الإنسانية الحضارية التي تتعلق بالحرية والإنسان والمدنية والقيم الديمقراطية.

وفي معرض التمييز بين الحداثة الغربية والحداثة العربية، يقول محمد محفوظ، إشارة منه إلى عقم الحداثة العربية وبقائها في مستوى الشعارات: “الحداثة الغربية كانت وليدة تطور تاريخي-اجتماعي لا يمكننا تجاوزه.. وبالتالي فالحداثة ليست شعارات وأشكالا سياسية، بل هي قبل ذلك كله صيرورة تاريخية-اجتماعية يصل إليها المجتمع بعد حقبة تاريخية من العمل المتواصل والجهد المركز في هذا السبيل[55].

وهذا يعني أنه يجب علينا في البداية وفي الجوهر أن نطهر ساحة الفكر العربي من الأوهام والغيبيات والخرافات التي تعطل العقل وتبدد كل إمكانيات التطور والإبداع الإنساني وتدفع بالإنسان إلى دوائر العطالة والجمود. وفي هذا المقام يقول حسن صعب: “إن بطء هذا التغير العقلي المنهجي هو المسؤول الأول عن بطء التقدم في العالم العربي وفي سائر أنحاء العالم الثالث. فالشرط الأول للتقدم هو في عقل الإنسان. والإنسان الواعي لتخلفه وتقدم غيره هو الذي يندفع في طريق التقدم[56].

لقد استطاع الغرب أن يحقق اليوم حداثته وأن يتجاوزها في الآن الواحد. والغرب الآن يحاكم مرحلة جديدة من تطوره هي مرحلة ما بعد الحداثة. حيث يواجه تحديات جديدة وقضايا جديدة تختلف كليا عن هذه التي طرحت في مرحلة ما بعد الحداثة.

فالفكر الأوروبي يشكل منطقة يترعرع فيها منطق وفكر ما بعد الحداثة، أما نحن فما زلنا نجوب مخفقين في دائرة الحداثة بمفهومها التنويري المرتبط بفكرة التقدم فقط. وحتى التقدم هنا لا يأخذ معناه النقدي بل صيغته الاقتصادية الإنتاجية البحتة وأحيانا صورته المظهرية، وهو تقدم بائس وحداثة مشوهة[57].

وباختصار إذا كان الغرب اليوم يصول في حقل معرفي جديد وإذا كان يواجه مشكلات ما بعد الحداثة، ومشكلات ما بعد المجتمع الصناعي، فهل يمكننا أن نقول بأننا ما زلنا نواجه تحديات ما قبل المجتمع الصناعي ومشكلات ما قبل الحداثة؟ وأخيرا ألا يحق لنا أن نتساءل عن الوقت الذي تبدأ فيه حركة حداثتنا؟  

 

 

[1] – آلان تورين، نقد الحداثة، ترجمة أنور مغيت، المجلس الأعلى للثقافة، المطابع الأميرية، القاهرة 1992، ص16.

[2] – بومدين بوزيد، الفكر العربي المعاصر وإشكالية الحداثة، ضمن مركز دراسات الوحدة العربية، قضايا التنوير والنهضة في الفكر العربي المعاصر، العدد 18، بيروت، ص19-31، ص21.

[3]  – Danilo Martuccelli, Sociologie de la modernité, E.Gallimard, Paris, 1999.

[4]  – Jean-Pierre Pourtois et Huguette Desmet, L’éducation postmoderne, P.U.F, Paris, 1997, p26.

[5]  – A.Giddens, Les conséquences de la modernité, Harmattan, Paris, 1994.

[6]  – Tom Rock More, (La modernité et la raison, Habermas et Hegele), In Archives de philosophie 52, 1989, p177-190.

[7] – سمير أحمد جرار، (التربية العربية ومأزق الثنائية المتوهمة، الحداثة والتغريب)، ضمن: الجمعية الكويتية لتقدم الطفولة العربية، العرب والتربية والعصر الجديد، الكتاب السنوي الثالث عشر، الكويت، 1997-1998، (ص57-90)، ص63.

[8] – انظر جابر عصفور، (إسلام النفط والحداثة) ضمن الإسلام والحداثة، ندوة مواقف، لندن، دار الساقي، 1990، ص177-209.

[9] – محمد محفوظ، الإسلام، الغرب وحوار المستقبل، المركز الثقافي العربي، الدار اليبضاء، ، 1998، ص33.

[10] – سمير أحمد جرار، التربية العربية ومأزق الثنائية المتوهمة،  مرجع السابق، ص63.

[11] – غانم هنا، عبد الله الغذامي، مرسل العجمي، ناصيف نصار، ندوة حول عناصر الحداثة في الفكر العربي المعاصر، عدد 61، السنة 16، شتاء 1998، ص218-247، ص221.

[12] – محمد محفوظ، الإسلام، الغرب وحوار المستقبل، مرجع السابق، ص27.

[13] – نقلا عن محمد محفوظ، الإسلام، الغرب وحوار المستقبل، المرجع السابق، ص45.

[14] – محمد محفوظ، الإسلام، الغرب وحوار المستقبل، مرجع السابق، ص35.

[15] – جمال الدين الخضورمأساة العقل العربي: دراسة في البناء الأنتروبولوجي الثقافي المعرفي العربي المعاصر، دار الحصاد، دمشق، 1995، ص119.

[16] – برهان غليون، اغتيال العقل، محنة الثقافة العربية بين السلفية والتبعية، دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت، 1987، ص184.

[17] – برهنة غليون، اغتيال العقل، مرجع سابق، ص185.

[18] – برهان غليون، اغتيال العقل، مرجع سابق، ص194.

[19] – عبد الغفار رشاد، التقليدية والحداثة في التجربة اليابانية، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، 1984، ص28.

[20] – عبد الغفار رشاد، التقليدية والحداثة في التجربة اليابانية، مرجع سابق، ص32.

[21] – عبد الله عبد الدايم، التربية عبر التاريخ: من العصور المسيحية حتى أوائل القرن العشرين، دار العلم للملايين، بيروت، 1978، ص354.

[22] – جلال أمين، حول مفهوم التنوير، ضمن ، قضايا التنوير والنهضة في الفكر العربي المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربية. بيروت، ص19-31، ص76.

[23]  – E.Kant, Réponse à la question : Qu’est-ce que les lumières ? Flamaration, Paris, 1990.

[24]  – E.Kant, Réponse à la question : Qu’est-ce que les lumières ? ibid.

[25] – عياض ابن عاشور، الضمير والتشريع، العقلية المدنية والحقوق الحديثة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 1998، ص13.

[26] – بومدين بوزيد، الفكر العربي المعاصر وإشكالية الحداثة، مرجع سابق، ص22.

[27] – محمد محفوظ، الإسلام، الغرب وحوار المستقبل، مرجع السابق، ص32.

[28] – محمد محفوظ، الإسلام، الغرب وحوار المستقبل، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 1998، ص33.

[29] – محمد محفوظ، الإسلام، الغرب وحوار المستقبل، مرجع سابق، ص36.

[30] – انظر عياض ابن عاشور، الضمير والتشريع، العقلية المدنية والحقوق الحديثة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1998، ص14 و15.

[31] – محمد محفوظ، الإسلام، الغرب وحوار المستقبل، مرجع سابق، 1998، ص27.

[32] – محمد سبيلا وعبد السلام بنعبد العالي، الحداثة، دفاتر فلسفية، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، 1996، ص12.

[33] – محمد سبيلا وعبد السلام بنعبد العالي، الحداثة، المرجع السابق، 1996، ص17.

[34] – محمد سبيلا وعبد اللام بنعبد العالي، الحداثة، مرجع سابق، ص62.

[35] – عياض بن عاشور، (العقلية المدنية العربية تجاه الحداثة)، لوموند ديبلوماتيك، الطبعة العربية، 1989.

[36]  – A.Touraine, Critique de la modernité, Fayard, Paris, 1993.

[37]  – Jean-Pierre Pourtois et Huguette Desmet, L’éducation postmoderne, PUF, Paris, 1997, p27.

[38] – آلان تورين، نقد الحداثة، ترجمة أنور مغيت، مرجع سابق، ص29.

[39]  – A.Touraine, Critique de la modernité, Fayard, Paris, 1993, p241.

[40]  – L’encyclopédie française universaliste, Livre numéro 20, Paris, 1995, p318.

[41]  – Jean-Pierre Pourtois et Juguette Desmet, L’éducation postmoderne, PUF, Paris, 1997, p29.

[42] – آلان تورين، نقد الحداثة، ترجمة أنور مغيت، المجلس الأعلى للثقافة، المطابع الأميرية، القاهرة، ص129.

[43] – آلان تورين، نقد الحداثة، مرجع سابق، ص129.

[44]  – Jean François Lyotard, La condition postmoderne, Minuit, Paris, 1979.

[45] – عصام عبد الله، (الجذور النيتشوية لـ”ما بعد” الحداثة)، الفلسفة والعصر، العدد الأول، أكتوبر، 1999، ص229-248، ص232.

[46] – عصام عبد الله، الجذور النيتشوية لـ”ما بعد” الحداثة، المرجع السابق، ص232.

[47]  – Jurgen Habermas, (La modernité, un projet inachevé), Critique, n° 413, Octobre, 1981, pp950-967.

[48] – عصام عبد الله، الجذور النيتشوية لـ”ما بعد” الحداثة، مرجع سابق، ص237.

[49] – بومدين بوزيد، (الفكر العربي المعاصر وإشكالية الحداثة)، ضمن مركز دراسات الوحدة العربية، قضايا التنوير والنهضة في الفكر العربي المعاصر، العدد 18، بيروت، ص19-31، ص21.

[50] – عصام عبد الله، الجذور النيتشوية لـ”ما بعد” الحداثة، مرجع سابق، ص238.

[51] – إميل دوركهايم، التربية والمجتمع، ترجمة علي وطفة، الينابيع، دمشق، 1994، ص133.

[52] – إميل دوركهايم، التربية والمجتمع، المرجع السابق، ص77.

[53]  – Jean François Lyotard, La condition postmoderne, Minuit, Paris, 1979.

[54] – عبد الغفار رشاد، التقليدية والحداثة في التجربة اليابانية، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، 1984، ص25.

[55] – محمد محفوظ، الإسلام، الغرب وحوار المستقبل، مرجع سابق، ص47.

[56] – نقلا عن برهان غليون، اغتيال العقل، مرجع سابق، ص184 (حسن صعب، تحديث العقل العربي، ص19).

[57] – بومدين بوزيد، الفكر العربي المعاصر وإشكالية الحداثة، مرجع سابق، ص22

 


الأحد، 8 نوفمبر 2020

مفهوم القبليّة عند هوسّرل؛ أنطوان خوري.

 


مفهوم القبلية عند هوسّرل

أنطوان خوري 


[يعرّف أنطوان خوري بثلاثة مفاهيم عند هوسرل: القصدية؛ العِيان المقولي [حدس الماهيات]؛ مفهوم القبلية]

.. من العبث الكلام عن مقولات مجردة من كل تجربة. وكانط ذاته ما كان ليستطيع الكلام عنها لو لم يتوصل إليها على نحوٍ شكليّ صِرف من خلال لائحة الأشكال الحكمية التقليدية. إنه، إذاً، لم يستقرئها من التجربة الفعلية. من هنا إن الفصل الكانطي بين "الشيء ـ بحدّ ـ ذاته" والظاهرة هو مجرّد نتيجة لفرضياته اللافينومينولوجية.

خلاصة القول هنا أنه لا يوجد، في نظر هوسرل، أي إدراك حسي منعزل عن سياق الحياة الفعلية، كما لا يوجد أي إدراك حسّي صرفاً. إن ما ندعوه إدراكاً حسياً هو دائماً تداخل موحَّد وأحياناً مؤسَّس من عِيانات حسية ومقولية. وحتى هذا الإدراك الحسي المقولي المؤَسَّس والموحَّد لا يوجد في معزل عن الحكم وباستقلال عنه ـ ذلك لأنه إدراك للأنّيّات الحكمية. وهكذا فتوحيد الفهم والحس في عيان متدرج وموحَّد، وتأكيد ضرورة الحكم لكلا الفهم والحس، على أن يؤخذ الحكم كأنّية معنوية تحتوي على عناصر مقولية مختلفة ويُستقرأ من أنماط التجربة الواقعة لا من لائحة لأشكال خارجية: هذا ما تبدّى لهوسرل من خلال الوصف الفينومينولوجي لأفعال الإدراك، وهذا ما دفع به، منذ البداية، إلى مناهضة كانط. 

 

مفهوم القبليّة: 

تكلّمنا أعلاه عن الإدراك بصفته تداخلاً حسّياً مقولياً موحّداً موضوعُه أنّية حكمية.

هذا الإدراك قد يكون بسيطاً وقد يأتي مركباً.

إن من شأن كل فعلٍ إدراكي، مهما جاء بسيطاً، أن يأتي إدراكاً (رغم جوّانيته، أي رغم كونه إدراكاً لجانبٍ معي!ن من الموضوع) لكلّية الشيء.

فعندما أدور حول هذا الكرسيّ فإنني ألتقط منه جوانبَ مختلفةٍ تختلف بختلاف تموقعي منه. إلا أنّني في كل لقطةٍ من لقطات هذا الكرسي إنما أدركُه هو ذاته ككرسيّ، بل كنفس الكرسي الواحد. بذلك فإنّ كلّ إدراكٍ لأحد جوانبه المتعددة إنما هو، بآنٍ، إدراك لكونه كرسياً، إدراكٌ لكرسيَّوِيَّتِه ـ إذا جاز التعبير.

أيّ إن إدراكي له ككرسيّ ليس حصيلةً تركيبية لفعل تجريدي أقوم به بعد الانتهاء من الدوران حول هذا الكرسي وعلى أساس إدراكاتي المتعددة للكراسي. إنّ في هذا الإدراك البسيط لشيئية الشيء دليلاً، في نظر هوسرل، على "واقعية" "شيءِ" هذا الإدراك وخلوصه، بالتالي، من كل مشروطية ذاتية. 

 

[الإدراك المقولي والتقاطع مع الجشطالتية]

انطلاقاً من هذا الإدراك البسيط للشيء الواقع نستطيع أن نحقق إدراكاتٍ تركيبية.

إن إدراكَنا لانتظام أشياءَ واقعةٍ في نظام معيّن هو إدراكٌ مركّب. إننا نرى صفّاً من العسكر فإذا بإدراكنا هذا إدراكٌ مؤسَّس في إدراكاتٍ بسيطة. ليس أننا ندور حول كل عسكريّ لنخلص من ذلك إلى تركيب إدراكٍ عام لصف العسكر. إننا نرى منذ البداية صفاً من العسكر. هذا الإدراك هو منذ البداية إدراك لعمومية الصف التي نجد، عند التدقيق بها، أنها موضوعٌ لإدراكٍ مؤسَّس في إدراكات بسيطة كل منها يلتقط جانباً من أحد العساكر على أنه جانب لعسكري تام. على أنه، بالتالي، جانب لموضوع حاضر بذاته في الإدراك. طبعاً إنّ بوسعنا الدوران حول كل عسكري بمفرده. لكن مجموع هذه الإدراكات لن يشكل إدراكاً لصفٍ من العسكر. هذا الإدراك لصفٍ من العسكر بوصفه صفّاً هو إدراك أوّلي نحصل عليه كما بضربةٍ واحدة. وكل ما تبقّى هو من باب تحليل هذه الرؤية الشمولية الأولى. من هنا إن إدراكي الأوّلي لشمولية الصف هو إدراك مؤسَّس ومركّب وذلك بحيث يُفهم هذا التأسيس وهذا التركيب على نحوٍ يتماشى مع أولية الإدراك الشمولي وليس على نحوٍ يجعل من شمولية الإدراك طابعاً متأخراً أساسه الانطلاق التجريدي من إدراكات بسيطة مبعثرة. إن الصف هو موضوع عام لهذا الإدراك المؤسَّس ولا يمكن ردُّه إلى معطيات الإدراك الحسية أو التحقق منه فيها ومن خلالها صرفاً. إنه إدراكٌ مقوليّ

بل إن هذا الإدراك التركيبي هو أحد الأنحاء الممكنة للعِنان المقولي المؤسَّس. ولا يخفى أن كل عِيان مقولي هو عِيان مؤسَّس في عِيان حسّي. وذلك بمعنى خاص لهذا التأسيس: تداخله منذ البدء مع حسّية الإدراك بطابعها المنظوري الجوانبي الذي يجعل من الإدراك، رغم جوانبيته، إدراكاً للشيء بتمامه.

وإذا كان التركيب أول أنحاء العِيان المقولي فإن "المَمْثَلة" ideation هي نحوُه الثاني. إنها بدورها، إدراك أوّلي لموضوع عام.

[الحدس الماهوي: "الممثلة" ideation  ]

فـ عندما ننظر إلى صفٍّ بين العساكر... إن أول ما نرى في هذا الإدراك هو عسكرية هؤلاء العساكر، أي ما هو عام ومشترك بينهم.

هذا وإن هذه المَمْثَلة هي مقوِّم ماهويّ حتى لإدراكنا الخاص لعسكري بمفرده. إن أول ما نرى فيه هو ما يجمعه بباقي العسكر. ونحن لا نتوصل على نحوٍ منطقي أو تجريدي إلى إدراك هذا العام في العسكري. إن عسكريتَه هي أول ما نراه. منذ البداية نرى أنه عسكري. 

وهكذا ننتهي إلى القول إنّ كِلا التركيب والمَمْثَلة يشتركان في كونهما أفعالاً مؤسَّسة، أو في كون كليهما يفترضان شيئاً معطى من قبل في إدراكٍ حسّي. كما ،هما يشتركان في كون كليهما فعلاً عِيانياً هو فعل إدراكٍ لموضوعٍ من نوعٍ جديد، موضوعٌ يتسم بطابع معنوي معام، موضوعٌ هو غير موضوع الإدراك الحسي البسيط المؤسِّس لهذه الأفعال العِيانية العليا. إلى ذلك فإن إدراك هذا الموضوع العام، في كلا التركيب والممثلة، لا يلغي الموضوعات الحسية المؤسِّسة، إذ تبقى هذه حاضرةً فيه ومعنيّة على نحوٍ خاص بالتركيب من جهةٍ والمَمثَلة من جهةٍ آخرى. 

إن المحصلة الإبستيمولوجية لهذه التفاصيل تتبدّى من خلال السؤال عن صدق الحكم الإدراكي. إذ ذاك فإن هوسّرل يريد القول إن صدق الحكم لا يتوقف على حصر أنظارنا في المعطيات الحسية لموضوع الإدراك مهملين المقوِّمات المعنوية الأخرى على أنها إضافات ذاتية من عمل العقل. بذلك يتوجّب علينا، من خلال الوصف، تبيّن موضوعية موضوع الإدراك وكيفية عنيِها في الحكم كفعلٍ قصدي. إذ ذاك يبِين لنا موضوع الإدراك كبنية ذات طبقات متعددة، أدناها حسّي وأعلاها مقولي معنوي، أدناها خاص وأعلاها عام. إن في هذا المفهوم الموسَّع للموضوع توسيعاً لماهية الموضوعية بالذات بحيث تحتوي في صلبِها ما كان يُحسَب من قبل مجرد إضافات وتلوينات ذاتية للموضوع. بل إن أهمية هذا التوصع لمفهوم الموضوعية تكمن في كونه المفتاح الرئيس لإمكانية تأسيس علمية العلم.

إن الكلام أعلاه عن العِيان المقولي في شكليّ التركيب والممْثَلة قد مهّد لنا الطريق لولوج موضوع القبلية في المعرفة.

 إن القبلي في المعرفة هو ما يتسم بطابع أوّلي بحيث لا يتقدّم عليه أيّ شيء آخر. ديكارت رآه في الـ "أنا أفكر" وإدراكاته الذاتية المحصورة ضمن بطون الذات. التجريبيون اعتبروا الانطباع الحسي العاري أول طريق المعرفة. أما كانط فكأنه رأى للمعرفة بدايتين مختلفتين على طرفيّ نقيض: الانطباعات الحسية الخام والمشوّشة من جهة، والأشكال الذاتية (مكان، زمان، مقولات) من جهةٍ أخرى، التي تضفي على هذه الانطباعات نظاماً قبلياً وتجعل من هذا الشواش كوناً معنوياً

إلا أنّ هذا المفهوم الذاتي البطوني للقبلية، وهو ما يدفع كانط، كنتيجة لبطونيته، إلى السؤال عن إمكانية الأحكام القبلية التركيبية كشرط لإمكانية المعرفة الموضوعية خارج بطون الذات وفي فروقية عالم العلوم المختلفة، لا يجد في متكآت الفينومينولوجيا مسنداً لرأسه.

إن أول ما يجده الوصف الفينومينولوجي ليس انطباعات حسية متفرقة ولا أشكالاً ذاتية صِرفاً، بل أنِّيّات حكمية تنطوي على معانٍ عامة هي من صلب موضوع الإدراك أو من صلب كون الشيء موضوعاً للإدراك. هذا ما تبيّناه من خلال فضّ معنى التركيب والممثلة، وهو بالتالي القبلي في المعرفة. ليس القبلي، إذاً، في كمون الذات وقواها الذاتية، بل في أنّية الحكم بصفتها موضوع الإدراك. إذ ذاك فإن القبلي هو المعاني العامة التي تنطوي عليها أنّيات الأحكام بصفتها ما يُعرَف من خلالها (كما في التركيب) من جهة، أو بصفتها ماهيات عامة (كما في الممثلة) هي أوّل ما يُدرَك حتى في الإدراكات المنظورية الطابع للأشياء. (48)

بذلك نصل إلى مقوّم هام في مفهوم القبلية عند هوسّرل. إن المعاني العامة المتبدّية لنا في الأنّيات الحكمية تتسم بطابع منظوريّ رغم ما فيها من حضور الموضوع ذاته في الإدراك. هذا الطابع المنظوري هو من صلب قبلية الموضوع العام ومن صلب أوليّته الإدراكية. من هنا إن الموضوع الإدراكي الحاضر بذاته في منظورية العِيان يحيلنا إلى منظورات أخرى تكتمل من خلالها رؤيتُنا لجوانبه المختلفة ـ ولو أنّ اكتمالَها الفعلي يبقى حداً مثالياً نسعى إليه دون أن ندركَه بالفعل. المهم أن الموضوع هو ذاته ما يحيلنا على جوانبه الأخرى وأنّ هذه الإحالة هي من صلب قبلية طابعه العام، من صلب عِيانية قبليته. بذلك فإن الطابع العِياني (التجريبي بالمعنى الواسع للكلمة) الذي يميّز عمومية الموضوع الإدراكي هو في أساس التركيب والمَمْثلة بحيث أنّ البنى المعنوية العامة الناتجة عن هذين النحوين الرئيسين للعيان المقولي لا تأتي من باب التجريد البسيكولوجي أو التنظير الميتافيزي، بل تتبدّى لنا من صلب موضوعية العِيان ومن صلب عيانية الموضوع. وخلاصة القول إن القبلي في المعرفة هو المعنى المقولي العام، كما أنّ هذا المعنى المقولي العام، في شكلي التركيب والمَمْثلة، هو من صلب موضوع الإدراك، وبالتالي من صلب عِيانيته. إذ ذاك فهذا قبليّ مضموني وليس مجرد شكل عقليّ يسبغه الوعي على مضمونٍ غريب. إن الجهة الخلفية للكرسي، وهي لا تبين لي من موقعي الراهن، هي مما تحيلني عليه، قبلياً، كرسيّويّة هذا الكرسي. هذه الجهة الخلفية للكرسي ليست من عنديّاتي، بل من عند الكرسي الحاضر بذاته في إدراكي المنظوري ـ المعطى لي قبلياً كذي طابع منظوري. كذلك صف اصطفاف العسكر أو حتى كثرتهم عموماً (مقوليّ على نحو المَمْثَلة) ـ ليس شيء من هذه جميعها مجرد ظهور نسبي من عنديّاتي الذاتية. كل هذه جميعها معطاة لي قبلياً في عِيان أولي يلتقطها على نحوٍ مباشر بصفتها من مقوّمات أنّية الموضوع.

وهكذا فما علينا من أجل تحقيق صدق الحكم الإدراكي سوى الانطلاق بقصد الحكم (أي بنحو عَنْيِه لموضوعه) من ملء مضامين أنّيته العيانية بما فيها من معطيات وافق قبلية، بحيث يتمرأس السؤال عما إذا كان الموضوع يحيلنا قبلياً عيانياً على ما هو معنيّ في حكمه. إذ ذاك يتحقق التطابق بين بنية الموجود ومضمون الحكم، فيدعى هذا التطابق بداهة ـ على أن لا تحصر هذه البداهة في الحكم بل تتسع لاحتواء قصدية الوعي عموماً أو لكون الوعي عموماً "وعياً لشيء" على النحو الذي فصلناه تحت عنوان "القصدية" أعلاه. بذلك تصبح البداهة طابعاً يميز التجربة عموماً وبدرجات مختلفة من حيث الكمال. ولئن كانت هذه التجربة، وبالتالي، بداهاتها المختلفة، تتسم دائماً بطابع منظوري من شأنه، ربما دائماً، أن يخفي في آفاقه أكثر مما يعرِض في واجهته، فحسبها أنها تجربة للشيء ذاته وبذاته وأنها، بالتالي، تجربة للحضور العِياني ـ بما في العيان من فهم وحسّ. 


(أنطوان خوري؛ مدخل إلى الفلسفة الظاهراتية؛ دار التنوير، بيروت؛ صص 44،49)


الأحد، 1 نوفمبر 2020

المدلول الحضاري لفلسفة هوبز السياسية؛ جورج زيناتي.

 




المدلول الحضاري لفلسفة هوبز السياسية

جورج زيناتي

 

عن مجلة الفكر العربي

العدد 22

أيلول ـ تشرين أول 1981

 

تمهيد: 

تبدو فلسفة هوبز السياسية وكأنها كُتبَت تحت إلحاح ضغطِ الظروف التاريخية التي كانت تعيشها بلاده إنجلترا، في منتصف القرن السابع عشر، فلقد انتشر كتابُه "عناصر القانون الطبيعي والسياسي" وهو ما زال مخطوطاً سنة 1640 من أجل الدفاع عن سلطة الملك المطلقة في وجه البرلمان، ولقد نشره هوبز بعد ذلك بعشر سنين كمؤلّفَيْن منفصلين تحت اسم "في الطبيعة البشرية" و "في الجسم السياسي". هذا الكتاب لم يفد الملك وعرّض صاحبَه للخطر، حين قرّر مجلس العموم مناقشته، فهرب هوبز إلى فرنسا التي كان قد زارها سابقاً، ووقعت الحرب الأهلية سنة 1641 م وظهر كرمويل على مسرح الأحداث مؤيداً البرلمان في صراعه مع الملك، وعرفت إنجلترا الحرب الأهلية بعد الأخرى إلى حين وفاة قائدها كرمويل سنة 1658م وعودة الملكية إليها. وكذلك انتهى هوبز من كتابة أشهر كتبه على الإطلاق: "لاوياثان" Leviathan سنة 1651م تحت وطأة الحروب الأهلية المنتشرة في شتى أنحاء المملكة، وكأنه، بهذا الكتاب، أراد أن يقول للجمهور الإنجليزي الذي أثخنته المنازعات الداخلية، لقد وجدت لكم الدواء لوقف النزيف المتأتي من سيطرة الأهواء والعواطف.

غير أن الواقع هو أن توماس هوبز تأثر برجال العلم والفكرالذين التقاهم في حياته أكثر بكثير من تأثره بالتاريخ المضطرب لإنجلترا في أيامه، فالذي حدث أنّ رياحاً جديدةً من النهضة العلمية والثقافية كانت تجتاح كل أوروبا، مع مطلع القرن السابع عشر، لتقيم العصر الحديث على أشلاء الفلسفة السكولائية السائدة. وقد التقى هوبز كل أعلام زمنه خلال إقاماته المتعددة في القارة الأوروبية بعيداً عن إنجلترا. حياة هوبز يمكن أن تُختصَر في هذا التنقل المتلاحق بين بلده وبقية بلدان أوروبا. زار فرنسا للمرة الأولى سنة 1610م. وهناك شهد الصراع الفكري ضد فلسفة القرون الوسطى و[ضد] سيطرة أرسطو، وكان غاليليو قد استعمل التلسكوب في حين كان كبلر قد ألف كتابه حول "الفلك الجديد" إلا أنه من الظاهر أن هوبز لم يعِ في تلك الفترة كل ما كان يجري من جديد في القارة الأوروبية، إذ كان ما يزال منشغلاً في دراساته الأدبية، إلا أنه عاد ثانيةً إلى القارة وهناك اكتشف كتاب "العناصر" لأوقليدس فوقع في غرامه مباشرة، إذ اعتقد أنه وجد المنهجية الصالحة لمعالجة كل الأمور بطريقة رياضية. ثم عاد مرةً ثالثةً إلى فرنسا سنة 1634م ومن هناك مضى إلى إيطاليا حيث التقى بغاليليو، وكان لهذا اللقاء التأثير الحاسم على كل فكره، وهو يخبرنا بأنه أثناء عودته بعد لقاء العالم الإيطالي كان الكون كله يبدو له مليئاً بالأشياء المتحركة. وفي باريس التقى بمرسين وغاسّندي وديكارت وكانت اجتماعاتُه بهم أهم، في نظره، من كل ما درسه في الجامعات. ثم عاد هوبز للمرة الرابعة إلى فرنسا هرباً من الاضطرابات في بلاده ليبدأ أهم فترة منتجة في حياته، وليكتب أهم كتبه السياسية وأشهرها لاوياثان، وقد انتهى منه سنة 1651م.

هذا الكتاب هو من الكتب الكلاسيكية في الفكر السياسي الغربي شأنه شأن "رسالة في اللاهوت والسياسة" لسبينوزا، و"الأمير" لميكيافيللي و"روح الشرائع" لمونتسكيو، و"العقد الاجتماعي" لروسو و"مقالة حول الحرية" لجون ستيورت ميل، وهو يحمل كل فلسفة هوبز وكل فكره السياسي.

كان لا بدّ لنا من هذا التمهيد الوجيز حول حياة هوبز ولقاءاته مع علماء عصره لنبيّن بوضوح مصادر فكره السياسي، فلقد لعبت الصراعات السياسية الدائرة في إنجلترا في ذلك العصر دوراً هاماً في تكوين النظام السياسي لفيلسوفنا، وكذلك كان لاكتشافه لهندسة أوقليدس ولفيزياء غاليليو ولعقلانية ديكارت الدور الحاسم في رسم معالم هذا النظام كما سنرى.

بعد هذه المقدمة يمكننا أن نبدأ بعرض الفلسفة السياسية لتوماس هوبز في أفكارها الرئيسية كما تجلّت بشكلٍ خاص في كتابه "لاوياثان"، لنرى بعد ذلك أين تكمن أصالته ومساهمته في تطوّر الفكر السياسي الغربي، ثم لنرى أخيراً المدلول الحضاري لهذه الفلسفة، أي كيف أنها تعكس جوهر الحضارة الغربية، غير أنه من المفيد لنا، قبل ذلك، أن نقول كلمةً حول العنوان الذي أعطاه هوبز لأشهر كتبه.

2ـ لاوياثان: لقد اختار هوبز اسم لاوياثان من كتاب "العهد القديم"، وقد ورد في مزامير داود وكتاب أيوب وسفر أشعيا ذكره، وهو يمثل وحشاً قديماً يتخذ صوراً مختلفة، تارةً صورةَ حيّةٍ وتارةً صورة حيوان بحريّ كبير، وتارة صورة وحش متعدد الرؤوس. ولعل هذه الصورة الأخيرة التي وردت في المزمور الرابع والسبعين هي التي استهوت فيلسوفنا؛ فهذا الحيوان المخيف برؤوسه المتعددة أقوى من أن يستطيع فردٌ من البشر أن ينازله، ولا يستطيع الناس رضّ رؤوسه لأنه أشد بأساً وبطئاً منهم جميعاً، وفي المزمور، الله وحده في جبروته استطاع ذلك.

لاوياثان عند هوبز هو رمز الدولة الحديثة التي يقيمها الأفراد لتكون أقوى من كل واحد منهم، الدولة أو الكومنولث أو المدينة/الدولة هي المؤسسة الضخمة التي تتعاقد مجموعةٌ من الأفراد على إقامتها لتصبح ذلك الوحش المخيف الذي يؤمن للأفراد الأمن في الداخل والسلام في الخارج. لقد اعتبر هوبز الفرد الإنساني آلة طبيعية تتحكم فيها الحركة، ولاوياثان هو الدولة الحديثة التي تقيمها الآلات الطبيعية أي مجموعة من البشرية كآلة اصطناعية ضخمة ذات بأس، مهمتها المحافظة على المنفعة الأولى لجميع الأفراد الذين ارتضوا صنع هذه الآلة الحامية، وهي السلامة.

لاوياثان هذه الآلة المرهِبة التي يقيمها الناس بالتراضي بينهم هي الضامن الوحيد، بفضل سلطتها التطلقةن لتخلّي الأفراد عن أهوائهم وعواطفهم الطبيعية التي تقودهم إلى حب السيطرة والأنانية وبالتالي إلى الحروب التي تجلب البؤس والفقر والهمجية والموت.

مهمة لاوياثان أن يكون القوة القاهرة الرادعة التي تخرج الفرد من حالته الطبيعية المتميّزة "بالكبرياء والبخل والطموح والخوف من الموت" إلى حالة قوانين الطبيعة المتميّزة "بالعدل والإنصاف والتواضع والرحمة" أي بتطبيق مبدأ أن نفعل للآخرين ما نريد أن يفعله الآخرون لنا، وبدون هذه القوة لا يكون هناك أي معنى لأي اتفاق بقيمة أفراد فيما بينهم، ذلك أن "الاتفاقات بدون السيف ليست سوى كلمات" (لاوياثان الفصل السابع عشر). لاوياثان هو إذاً هذا السيف المصلت فوق الجميع ليمنعهم من الاستسلام لطبيعتهم الشريرة وليجنبهم بالتالي التقاتل والخراب، ليؤمن لهم بدل ذلك أهم ما يصبو إليه الفرد وهو حب البقاءز ولكن من هو الذي يستطيع أن يلعب هذا الدور دون تسليط سيف العقاب فوق رؤوس الجميع؟ لاوياثان هو الدولة الحديثة، دولة الشرائع الطبيعية في وجه الأهواء الطبيعية، غير أن هذه الدولة ليست، عند هوبز، بمفهوم مجرد، إنها تتمثل بالسلطة المطلقة الشاملة التي يضعها الأفراد في يد شخصٍ واحد فقط، أو إذا احتاج الأمر إلى هيئةٍ واحدة أو جمعية واحدة. وهكذا فإن لاوياثان هذا لاوحش الاصطناعي الحديث هو في نهاية المطاف الحاكم المطلق الذي لا تحدّ من سلطته أية قيود أو شروط، سواء أكان هذا الحاكم فرداً واحداً أم مجلساً واحداً.

3ـ فلسفة هوبز السياسية:

لاوياثان أو الدولة الحديثة القائمة بالتراضي أي بالعقد بين مجموعةٍ من الأفراد تتمثل ، كما قلنا، في إعطاء السلطة المطلقة لفردٍ واحدٍ أو لمجلسٍ واحدٍ يقوم مقام هذا الفرد، وبالتالي يمكننا أن نختصر فلسفة هوبز السياسية بالقول إنها فلسفة الدفاع عن السلطة المطلقة للحاكم. ولقد أثارت فلسفتُه هذه استياء الجميع حين صدورها في وقت كان الشعب الإنجليزي يعلن الثورة تلو الأخرى دفاعاً عن صلاحيات البرلمان في وجه الملك، غير أن هوبز لم يتراجع عن آرائه، وفي التحقيق معه أمام البرلمان شدّد باستمرار على وجوب إيجاد سلطة مطلقة تكون المرجع الفصل في كل القضايا. إن التسليم بالسلطة المطلقة لفردٍ واحد (الملك) أو لهيئة مؤلفة من مجموعةٍ من الأفراد (البرلمان) أمرٌ حتمي وضرورة منطقية لتأمين حماية الفرد في الداخل من حرب أهلية، والدفاع عنه ضد الخطر الخارجي.

يمكنالقول بأن هوبز نادى بالسلطة المطلقة للحاكم لا يفيدنا الكثير لمعرفة فلسفته السياسية، ذلك أن تنظير السلطة المطلقة والدفاع عنها كان القاعدة التي اتبعها المفكرون الغربيون منذ العصر الوسيط، وبهذا لا يكون هوبز قد أتى بجديد، غير أن الدخول في التفاصيل هو الذي يلقي الأضواء على أصالة هذا الفكر. وللدخول في التفاصيل لا بدّ من الإجابة على عدة أسئلة أولها: من أين يستمد الحاكم حقه في ممارسة السلطة المطلقة وبتعبير آخر من هو صاحب مثل هذا الحق؟ والسؤال الثاني ما الذي يبرر قيام هذه السلطة المطلقة؟ وأخيراً: أليس لهذه السلطة المطلقة من حدود؟ وسنحاول أن نجيب باختصار على هذه الأسئلة.

أـ مصدر حق ممارسة الحاكم للسلطة المطلقة: تبدأ الإجابة على هذا السؤال من جوانبه السلبية، أي من استبعاد المصادر التي كانت سائدة في عصر هوبز. أول هذه المصادر هو الحق الإلهي. نحن نعرف أن الحق الإلهي بممارسة الحكم كان المصدر الأساسي لشرعية الملوك في الغرب، الملك يمثل الله على الأرض وهو المنفّذ للإرادة الإلهية بين رعاياه. ولق دأثار هذا الحق الكثير من المشاكل بين ملوك أوروبا والبابوية. الملك يمثل السلطة الزمنية التي يستمدها من مشيئة الله، أما البابا فيمثل السلطة الروحية، وكثيراً ما كانت السلطة الزمنية تتعارض مع السلطة الروحية فيقوم الخلاف، وقد نادى توما الإكويني، على سبيل المثال بأفضلية السلطة الروحية لأن الروحي أهم من الزمني، فبرر خضوع الملوك لإرادة الفاتيكان. وهوبز نفى هذا الحق الإلهي جملةً وتفصيلاً، ذلك أن مثل هذا الحق لا يستند إلى أيّ منطقٍ عقلي، وليس هناك ما يبرره حين ننظر إلى منفعة الأفراد.

ونستطيع أن نقول الشيء ذاته بالنسبة إلى حق الوراثة إذ ليست هناك أية ضرورة عقلانية تبرر حق ابن الحاكم أن يرث أباه، الملكية الوراثية لا تقوم إذاً على أيّ أساسٍ طبيعي تستمد منه شرعيتها.

إذا كان الحاكم لا يستمد شرعيته، لا من حق إلهي ولا من حق مكتسب بالوراثة، فهل يعني هذا أنه يستمد مثل هذا الحق من صفاته الأخرقية كما كان يرى الكثير من فلاسفة العرب وأفلاطون من قبلهم، وكذلك بعض مفكري الغرب في أيام هوبز نفسه؟

هوبز ينسف هذه النظرية من أساسها ويعتبر أنْ لا معنى لها على الإطلاق، وهو بهذا كان رائداً في الفكر الغربي، إذ إنه أيقن بأن المشاكل السياسية، ما دامت تُطرَح بتعابير أخلاقية فلن تجد لها حلاً. الحل لا يتأتى إلا حين نتخلص من الاعتبارات الأخلاقية لطرح المسائل السياسية بطريقة فيزيائية أي حين يُنظَر إليها كقوى متصارعة، وقد سبقه إلى مثل هذا الطرح، في الفكر الغربي، الإيطالي ماكيافيللي.

إن أخلاق الحاكم لا يمكن أن تكون إطلاقاً الضمان من أجل إقامة شريعة العدل والرحمة بين المواطنين، ذلك أننا حين نقول بأن هذا الحاكم أفضل الناس ليتولى السلطة، فإننا نستعمل كلمة ليس لها من معنى أصلاً، وهي كلمة "أفضل"، فأفضل بالنسبة لمن؟ إن الأفضل بالنسبة للحاكم هو تحقيق أهوائه في السيطرة والتحكم لإشباع طموحاته وكبريائه، ومردُّ ذلك أنّ هوبز يعتبر الخير ما يتمشىمع المصالح الأنانية لكل فردٍ منا، وبالتالي فإن ما هو خيرٌ بالنسبة لواحد من الناس هو شرٌّ بالنسبة لغيره حتماً، إذ ليس هناك من غايةٍ أخيرة يسعى الناسُ إليها، وليس هناك من خير مطلق كما يؤكد فلاسفة الأخلاق، بل هناك لدى كل فرد رغبةٌ لا تعرف الراحة من أجل السيطرة والسلطة لا تتوقف إلا بالموت. (لاوياثان: الفصل الحادي عشر)

إنّ الحاكم يستمد حقه في ممارسة السلطة من العقد الذي تقيمه مجموعة من الأفراد في ما بينها، وبالتالي فإنّ شخص الحاكم ومؤهلاتِه ليس لها أية أهمية في نظر هوبز، وفيلسوفنا يساوي هنا بين كرمويل والملك. وهوبز سبق جان جاك روسو في اعتبار العلاقة القائمة بين الدولة والفرد علاقة عقد أي علاقة اتفاق بين طرفين، غير أنّ هوبز لا يجعل الدولة في ناحية والفرد في ناحية أخرى، العقد عنده قائم من جهة واحدة بين جميع الأفراد الذين يؤلفون الدولة. والقوة في نظره هي التخلي عن حق، وهنا لا بدّ من بعض الإيضاح ذلك أن الحق الطبيعي يقود إلى صراع العواطف والأهواء وبالتالي إلى حالة من الحرب الدائمة بين الأفراد. وفي العقد الاجتماعي يتنازل الأفراد عن هذا الحق، عن حق استعمال القوة الفردية للحصول على ما يبتغيه الفرد، والحرية في العمل والتصرف ليقيم بدل هذا الحق الطبيعي القانون الطبيعي ـ وتنفيذ هذا القانون الذي يرتضيه الأفراد اختياراً هو العدل، وكل مخالفة لهذا العقد ـ الاتفاق بين الأفراد هو الظلم (لاوياثان، الفصل الرابع عشر والفصل الخامس عشر)

في هذا التمييز بين الحق الطبيعي والقانون الطبيعي تبدو واقعية هوبز وعقلانيّته، فهو حين يؤكّد بأن الإنسان حين يُترَك لحقّه الطبيعي يصبح ذئباً كاسراً في غابةٍ شريعتها الحرب التي لا تتوقف، يؤكّد بأن الأهواء الذاتية تطغى تماماً على العقل وتجعل من الإنسان كائناً تتحكّم فيه أنانيته وحدها، وهو في تحليله هذا يعكس واقعاً كان يراه يسيّر تاريخ البشر. غير أن هوبز ابن القرن السابع عشر، ابن عصر العقلانية الديكارتية، فإذا كانت العواطف والنزوات طاغيةً فليس معنى ذلك أنّ العقل يقف عاجزاً تماماً أمامها. العقل يستطيع أن يميّز بين كل هذه الأنانيات الأنانية الأقل ضرراً للفرد وبالتالي فإنّ العقل يسرم الطريق أمام بناء الدولة القائمة على شريعة ما يراه العقل أي على الأنانية العقلانية ـ إذا جاز التعبير. العقل يبيّن أنه إذا تُرِك الإنسان لطبيعته فإنه يهدد ذاته بالفناء بحروبه المتواصلة. الحل العقلاني الأناني إذاً هو في التخلي عن الحق الطبيعي والحرية مقابل القيمة الأولى والأهم للفرد وهي البقاء على قيد الحياة والعيش في سلام، والأمان للفرد ومقتنياته. القانون الطبيعي الذي يقره العقل ويرتضيه الناس طواعية لأنه يحقق لهم أغلى هدفٍ في الحياة ت الاستمرار في الحياة ـ هو الاتفاق/ العقد الذي يقيمونه بينهم ويسلّمون بموجبه السلطة المطلقة لأحد الأفراد ليضمن عن طريق التهديد بالعقاب، غقامة العدل أي احترام العقد.

الحاكم يستمد إذاً حقه في السلطة المطلقة من الاتفاق الاختياري الملزِم الذي يقيمه أفراد المدينة / الدولة في ما بينهم ليضعوا حداً لصراعات الحق الطبيعي أي الاستسلام للأهواء ليقيموا سلطة القانون الذي يؤمن لكل فرد الأمن الداخلي والسلام الخارجي، وإذا كانت مثل هذه السلطة مطلقة، لأنه بدون مثل هذه القوة غير المحدودة لا يمكن أن يقام عدلٌ، فهذا يعني خضوع السلطة الدينية للسلطة المدنية. وهوبز يدافع عن حق الحاكم في فرض الدين الذي يراه على جميع المواطنين ـ وهذا ما فرضه في الواقع الملك لويس الرابع عشر في فرنسا، وهوبز يعتقد أن مثل هذا الإكراه لا يتعارض مع معتقدات الفرد الحميمة إذ يستطيع الفرد أن يظل محتفظاً بقناعاته بينه وبين نفسه.

ب ـ ما الذي يبرر قيام السلطة المطلقة؟

إن مثل هذا السؤال مرتبط بنظرة هوبز إلى الطبيعة البشرية، ولقد كانت المشكلة الرئيسية التي تشغله هي مشكلة العواطف البشرية وكيفية السيطرة عليها. والواقع إنّ هذه المشكلة كانت القضية الرئيسية في فلسفة أفلاطون السياسية. ولقد نادى الفيلسوف اليوناني بحكم الفلاسفة لأن هؤلاء يحكمون بلا أهواء، مما يمكّنهم من إقامة العدل، ولقد جعل من السيطرة على الذات أمّ جميع الفضائل، فمن لم يستطع أن يحكم ذاتَه وأن يتحكّم في عواطفه لم يكن أهلاً لأن يحكم أي إنسان غيره. الطبيعة البشرية تتحكم فيها الأهواء وإن تُرِك الإنسان على طبيعته أي لو تُرِك لحقّه الطبيعي لأصبح كل إنسان ذئباً في وجه الإنسان الآخر ولكانت قامت حرب الجميع ضد الجميع.

العقل عبد للأهواء وبالتالي لا يستطيع أن يرينا دافعاً مستقلاً للعمل، لا يستطيع أن يرينا الخير المطلق، وهنا يخالف هوبز ديكارت في فكرة الكمال الموجودة في الذات، ليس هناك من كمال أملك فكرته في نفسي كما يؤكد ديكارت والطلب إلى الناس الالتزام الأخلاقي لا يُجدي نفعاً، غير أنّ هذه الفلسفة الطبيعية، هذه الرؤية المتشائمة للطبيعة البشرية لا تقف حائلاً دون عودة هوبز إلى العقلانية والدفاع عنها: داخل هذا لاصراع المستميت والحرب الضروس يستطيع العقل أن يُريَ الناس الوسائل الأنجع لإشباع رغباتهم، فبين الرغبات المتصارعة يستطيع العقل أن يقيم تفاضلاً. العقل يرينا أنه يجب التخلي عن حالة الطبيعة لأنها حالة الحرب ضد الجميع، ومن كان اليوم منتصراً يصبح غداً ضحية. إن مثل هذه الحالة لا تقود إلا إلى البؤس والهلاك، العقلُ يقرّر أنّ المصلحة الحقيقية للفرد، أمام مثل هذا الواقع، هي مصلحة البقاء. وهذه المصلحة الأنانية يجمع عليها جميع الناس لأن حب البقاء والاستمرار في حياة هادئة هو المطمح الأخير لكل فرد. ولمّا كان الإنسان آلة طبيعية تتحرك كان لا بدّ من آلة اصطناعية تتحرك هي السلطة المطلقة للدولة الكفيلة وحدها بتحقيق الغاية الأفضل التي ارتآها العقل، وهي وضعُ حدٍّ لحرب كل واحد ضد الآخر، وتأمين الأمن للجميع.

ج ـ حدود السلطة المطلقة:

إن العلاقة القائمة بين الأفراد الذين ارتضوا إقامة لاوياثان أي الدولة الحديثة التي يتولى فيها السلطة المطلقة فردٌ واحدٌ أو مؤسسة واحدة هي علاقة عقد أو اتفاق أو معاهدة لتأمين الحماية لكل فرد ولما يملك. إنّ مثل هذه المعاهدة تُنقَض، لا حين تكون المجموعة في خطر، ولكن حين تتعرض حياة الفرد للخطر، ذلك أنّ هوبز نظر باستمرار غلى المدينة ـ الدولة كمجموعة من الأفراد اختاروا طواعية العيش معاً في ظل قانون العقل، وظلّ همّه الأول حماية الفرد لا المجموعة، وإذا كان العقد الاجتماعي يعني تخلّي كل فرد عن حقه الطبيعي في استخدام عنفه للوصول إلى غاياته الأنانية لإقامة العدل القائم على تأمين الحماية لكل فرد فإنّ أحداً لا يستطيع أن يتخلى عن حقه بتخليص نفسه من الموت أو التعذيب أو السجن، لأن تجنب هذه الأمور هو الغاية من التنازل عن أي حق (لاوياثان: الفصل الرابع عشر). وبتعبير آخر فإن القبول بالسلطة المطلقة ينتهي حين يهدَّد الفرد في حياته وسلامته، وهذا هو الحد الأول للسلطة المطلقة للحاكم، أما الحد الثاني فهو يقوم حين لا يعود الحاكم قادراً على حماية الفرد، إذا فقد الحاكم قدرته على حماية الأفراد ينتهي الاتفاق القائم سابقاً. وباختصار فإن حدود السلطة المطلقة هي حدود أمن الفرد أي إن ما لا يمكن لأي فرد التنازل عنه من أجل غاية أخرى هو سلامته الشخصية، غير أنّ هوبز لا يذهب على الإطلاق إلى حدّ المطالبة بالتمرد على السلطة القائمة كما فعل مواطنُه ومعاصره جون لوك الذي اعتبر أن إسقاط الحكم لا يعني إسقاط المجتمع. [توماس هوبز (1588ـ 1679)؛ جون لوك (1632ـ 1704)]

هوبز ظل يعتبر أنّ أيّ عصيان يعني العودة إلى المجتمع البربري، مجتمع التناحر والفناء، وأنّ إسقاط الدولة يعني نهاية المجتمع المتحضّر.

4ـ مدلولها الحضاري:

للوهلة الأولى تبدو فلسفة هوبز السياسية وكأنها انعكاس لما عانته إنجلترا من حروب أهلية في القرن السابع عشر، فصراع الأهواء والانفعالات كانت أمامه ولم يكن بحاجة لقراءة كتب التاريخ اليونانية ليتأكد من أنّ مشكلة العواطف البشرية والسيطرة عليها هي المشكلة السياسية الأولى. وكذلك قد نرى في مثل هذه الفلسفة انعكاساً للعقلية الإنجليزية التي ترى في القوانين الشرط الأساسي الذي بدونه لا يمكن أن تقوم حضارة. وكذلك نستطيع أن نقول بأن دفاعه عن السلطة المطلقة للحاكم يخلو من كل أصالة فقد دافع الكثيرون من المفكرين الغربيين قبله عن مثل هذه الآراء منذ العصر الوسيط، أما مناداته بإخضاع السلطة الدينية للسلطة المدنية فكان قد سبقه إليها كل الرشديين اللاتين في القرن الرابع عشر وكان أشهرهم مارسيليو الباداوي Padova صاحب كتاب "المُدافع عن السلم" وكذلك وليم الأوكامي. كل الرشدية اللاتينية كانت قد تحوّلت في القرن الرابع عشر إلى رشدية سياسية تطالب بفصل الدين عن الدولة وتحارب السلطة الزمنية للبابوية.

غير أنّ كل هذه الاعتبارات تظلّ، في نهاية التحليل، سطحية، ذلك أنّ فلسفة هوبز السياسية لها مدلول حضاري هام إذ إنها تعكس، بصورة واضحة تماماً، العقلية الغربية في التعاطي مع المشكلات الأخلاقية والسياسية، وطريقة إيجاد الحلول لها. فإذا كانت الفلسفة الغربية قد مرّت بمراحل ثلاثٍ هي المرحلة اللاهوتية والمرحلة الفلسفية والمرحلة العلمية، فإن هوبز قد عاش في عصرٍ من التوازن، عصر انتصار الفلسفة والاستعانة في العلم لتحرير الفرد. وإذا كانت الحضارة الغربية هي حضارة كسب حريات مجسدة للفرد وقد تميّزت بتحويلها كل مشكلة أخلاقية إلى مشكلة فيزيائية ليسهل إيجاد الحل لها فإن فلسفلة هوبز تعكس تماماً مثل هذه العقلية.

أ ـ الاستعانة بالعلم:

لقد وجدت الفلسفة الغربية في العلم حليفاً ثميناً لمحاربة الكثير من المعتقدات السائدة، ولقد استعان هوبز بعلوم عصره لمحاربة السكولائية التي كانت الفلسفة شبه الرسمية للكنيسة الكاثوليكية، ولقد أكد أنه سيفعل للفلسفة الأخلاقية والسياسية ما فعله غاليليو وكوبرنيك وكبلر للعلوم الدقيقة أي إنه يريد تحريرها من كل ما يغشاها من الشوائب اللاهوتية والميتافيزيقية ليتمكّن الفرد من رؤية مصلحته الحقيقية. والواقع أنه استعان بمنهجية كتاب "العناصر" لأوقليدس إذ اعتبر أنه يجب تحليل السياسة إلى عناصرها البسيطة مما يسهل إيجاد الحل. وكتابه لاوياثان مليء بالتعريفات والاستنتاجات الرياضية والواقع أنّ مطالبته بالسلطة المطلقة للحاكم جاءت كاستنتاج هندسي للنظر في الطبيعة البشرية: إذا كان الإنسان بطبيعته ميالاً للأنانية، وإذا كان يريد أن يختار أنانيته الفضلى أي تلك التي لا تعرّضه للبؤس والدمار فإن الحساب الدقيق يريه ضرورة إقامة السلطة المطلقة للحاكم وهو في هذا المجال رائدٌ تأثر به حقاً مواطنه بنتام في كتابه "مبادئ الأخلاق والتشريع" المنشور سنة 1780م حين حاول إقامة رياضيات للذة وجعل من المنفعة أقصى السعادة لأكبر عددٍ من الناس. وكان جون ستيورت مل، فيما بعد، من أكبر أنصار مبدأ المنفعة هذا، إذ اعتبر أنّ تجنّب الألم والتمتع باللذة هما المنفعة الحقيقية التي يسعى إليها البشر. ونستطيع أن نقول بأن السعي وراء هذه المنفعة الفردية الخالية من الألم هو الذي دفع هوبز إلى المطالبة بالسلطة المطلقة للحاكم.

أما العالِم الذي تأثر به الفيلسوف الإنجليزي فكان بلا شك غاليليو ونظريته في الحركة، إذ اعتبر هوبز أنّ العالَم الذي نعيش فيه تتحكم به الحركة. والإنسان نفسه هو آلة طبيعية، وحين نقول آلةً فإننا نقول بالضرورة حركة. الإنسان آلة تتحرك في سبيل تحقيق أنانيتها، والعقلُ يُري هذه الآلة الاتجاه الذي يجب أن تتحرّك فيه لنيل أقصى سعادتها وهي الطمأنينة والسلام. والدولة أيضاً آلة ضخمة رادعة ولكنها آلة اصطناعية يبنيها الأفراد طواعيةً للمحافظةِ على غايتهم الأخيرة.

رياضيات أوقليدس وفيزياء غاليليو كانت وراء المنهجية التي اتّبعها فيلسوفُنا للنظر في الطبيعة البشرية وفي مبادئ الأخلاق والأسس التي يجب أن تُبنى عليها الدولة الحديثة.

ب ـ الدفاع عن الفرد:

قد يبدو هذا القول تناقضاً فاضحاً مع ما يؤكّده هوبز عن السلطة المطلقة للحاكم، حتى أنّ بعض الباحثين رأوا فيه أحد منظّري التوتاليتارية، والواقع أنّ غالبية المنادين بالسلطة المطلقة كان رائدهم مصلحة المجموعة وضمان استمرارها، في حين أنّهوبز لم ينسَ الفرد على الإطلاق، بل يمكننا أن نقول إن كل فلسفته السياسية هي عبارةٌ عن خطاب حول منفعة الفرد وأين تكمن مصلحتُه الحقيقية. أنانية الطبيعة تقود إلى الهلاك، أما الأنانية التي يبرهِن عنها العقل فتقود إلى الأمان. كل فلسفة هوبز السياسية عبارةٌ عن مرافعة لمصلحة أمن الفرد وسلامته. ما فعله هو حسابٌ دقيقٌ من أجلِ تأمين هذه الغاية وكذلك فإن الحدود التي وضعها للسلطة المطلقة كانت، كما رأينا، حدود أمنِ الفرد. وفي دفاعه المستمر عن الفرد عكَس هوبز أحد المناحي التي اتجهت فيها الفلسفة الغربية في صراعها من أجل انتزاع حقوق مجسّدة للأفراد من السلطة القائمة.

ج) طرح المشكلة الأخلاقية بتعابير فيزيائية: قد يكون من أهم الميزات التي طبعت الحضارة الغربية تحويلها كل مشكلة أخلاقية وكل مشكلة سياسية إلى مشكلة فيزيائية أي تحويلها إلى ميزان قوى تتجاذب.

والفلسفة السياسية عند هوبز مرتبطة، كما ذكرنا، بمفهومه عن الإنسان ومشكلة الخير والشر أي إنها مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالمشكلة الأخلاقية. ولقد حوّل هوبز هذه المعضلة إلى معادلة فيزيائية حين اعتبر الإنسان آلةً طبيعية تتحرك، وحاول أن يوضّح أن أهم ما تقصد إليه هذه الحركة هي الديمومة والاستمرارية. الإنسان في المجتمع البربري آلة تتحرك، والإنسان في المجتمع المتحضّر آلة تتحرك أيضاً، والفرق بين الحركتين ليس فرقاً أخلاقياً، بل هو فرقٌ بين ما تؤدي إليه كل من الحركتين، التحرك الأول يقود إلى إفناء الحركات وتعطيلها، في حين أن الثاني يقود إلى بقاء الحركة أطول مدة ممكنة، ومن هنا كانت النتيجة المنطقية بتفضيل الحركة الثانية بدافع أناني محض.

ولقد فعل هوبز الشيء نفسه حين عارض الحق الإلهي والحق الوراثي ولاحق الأخلاقي في الحكم، ليجعل من الدولة آلة اصطناعية تتحرك بحركة أقوى من جميع حركات الأفراد مما يسمح لها بممارسة السلطة القامعة المطلقة. الدولة تصبح الآلة المتحركة الأكبر والأقوى القادرة على إنزال العقال بمن لا يحترم العقد القائم بين الأفراد.

لقد عاش هوبز في مرحلة هامة من تاريخ إنجلترا والغرب، وقد عكست فلسفته السياسية مجمل المشاكل التي كانت مطروحةً في زمانه وعكست الكثير من تطلعات الغرب نحو عالم عقلاني متحرر من رواسب الماضي.