فلسفة العلم في القرن العشرين
سلسلة
عالم المعرفة
العدد
264
ملف: md ـ عالم المعرفة.
ﻣﻘﺪﻣﺔ
اﻟﻔﺼﻞ اﻷول: ٩ ﻣﺪﺧﻞ: اﻟﻌﻠﻢ ﺑين ﻓﻠﺴﻔﺘﻪ وﺗﺎرﻳﺨﻪ
اﻟﻔﺼﻞ
اﻟﺜﺎﻧﻲ: ٥٩ ﻣﻴﺮاث ﺗﺴﻠﻤﻪ اﻟﻘﺮن اﻟﻌﺸﺮون
اﻟﻔﺼﻞ
اﻟﺜﺎﻟﺚ: ١١٧ ﻓﻠﺴﻔﺔ اﻟﻌﻠﻢ اﳊﺪﻳﺚ )اﻟﻜﻼﺳﻴﻜﻲ(
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺮاﺑﻊ: ١٧٣ ﺛﻮرة اﻟﻔﻴﺰﻳﺎء اﻟﻜﺒﺮى ﻣﻦ ﻣﻨﻈﻮر
ﻓﻠﺴﻔﺔ اﻟﻌﻠﻢ
اﻟﻔﺼﻞ اﳋﺎﻣﺲ: ٢٢٩ اﻟﺘﺠﺮﻳﺒﻴﺔ أﺻﺒﺤﺖ ﻣﻨﻄﻘﻴﺔ
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺴﺎدس: ٣١٥ ﻣﻦ ﻣﻨﻄﻖ اﻟﺘﺒﺮﻳﺮ إﻟﻰ ﻣﻨﻄﻖ اﻟﺘﻘﺪم
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺴﺎﺑﻊ: ٣٧٧ ﻓﻠﺴﻔﺔ اﻟﻌﻠﻢ واﻟﻮﻋﻲ ﺑﺘﺎرﻳﺦ اﻟﻌﻠﻢ
٤٤٥ اﻟﻬﻮاﻣﺶ
٤٦١ اﺆﻟﻒ ﻓﻲ ﺳﻄﻮر
كارل بوبر
وﻛﺎن ﻛﺎرل ﺑﻮﺑﺮ أﻋﻈـﻢ ﻓـﻼﺳـﻔـﺔ اﻟـﻌـﻠـﻢ ﻓـﻲ
اﻟـﻘـﺮن اﻟـﻌـﺸـﺮﻳـﻦ وأﻫـﻤـﻬـﻢ وأﺧﻄﺮﻫﻢ ﺗﺄﺛﻴﺮا2 ﻷﻧﻪ ﻛﺎن ﻗﺎدرا ﻋﻠﻰ ﻣﻮاﺟﻬـﺔ ﻛـﻞ ﻫـﺬا2
وإﺣـﺪاث اﻟـﺘـﻄـﻮر اﳉﻮﻫﺮي ﻓﻲ ﻓﻠﺴﻔﺔ اﻟﻌﻠﻢ اﻟﺬي ﻳﻔﺘﺢ
أﻣﺎﻣﻬﺎ آﻓﺎﻗﺎ ﻣﺴﺘﻘﺒـﻠـﻴـﺔ ﺑـﻼ ﺣـﺪود2 ﻣﺎدام ﻳﻨﺘﻘﻞ ﺑﻬﺎ ﻧﻘﻠﺔ ﺟﺬرﻳﺔ ﻣﻦ ﻣﻨﻄﻖ ﺗﺒﺮﻳﺮ ا@ﻌﺮﻓـﺔ
اﻟـﻌـﻠـﻤـﻴـﺔ إﻟـﻰ ﻣـﻨـﻄـﻖ اﻟﻜﺸﻒ اﻟﻌﻠﻤﻲ واﻟﺘﻘﺪم ا@ﻄﺮد.
لاحظ
بوبر (1902ـ 1994) أن كل فلاسفة العلم منذ جون ستيوارت مل، بل كل فلاسفة المعرفة
التجريبية منذ ديفيد هيوم حتى ماخ والوضعيين والأداتيين على السواء، ينظرون إلى
المعرفة العلمية بوصفها حقائق مثبتة مؤسَّسة فينشغلون بتبريرها. وصمم بوبر على
إحراز الخطوة الأبعد، وأكد أنه على عكسهم جميعاً لا يُعنَى البتّة بتبرير المعرفة
العلمية أو حدود صدقها وصحتها، بل يُعنى فقط بمشكلة نمو المعرفة وكيفية تقدمها.
فيصوّب الأنظار إلى منطق الكشف العلمي واللحظة الدراماتيكية الكبرى المتمخضة عن
الجديد: لحظة التكذيب والتفنيد، في إطارٍ من
معالجة منطقية منهجية بالغة الدقة والإحكام، بحيث كانت النظرة البوبرية أقدر من
سواها على طرح المعرفة العلمية بوصفها قابلةً للاختبار البينذاتي، أي الموضوعي،
كمعرفة ديناميكية متحركة لا ثبات ولا جمود فيها. يرى بوبر أن المعرفة على العموم
والمعرفة العلمية على أخص الخصوص بناء صميم طبيعته الصيرورة، التقدم المستمر.
(316)
تتفق الأطراف المعنيّة على أن كارل بوبر
فيلسوف المنهج العلمي الأول وبغير منازع على هذه الأولوية.
يقول عالم الفلك الإنكليزي سير هيرمان
بوندي: "إن العلم ببساطة ليس شيئاً أكثر من منهجه، وليس منهجُه شيئاً أكثر
مما قاله بوبر" (317)
إن
نظرية بوبر في المنهج العلمي امتدادٌ لنظريته في المعرفة، وكلتاهما تنطلق من أصول
بيولوجية أولية منذ أن وجدت الحياة على سطح الأرض، ثم تنمو المعرفة العلمية وتتطور
بتطور الحياة والحضارة. والمحصلة أن فلسفة بوبر للمنهج العلمي فلسفة دارونية
تطورية. وفي عرضنا الآتي لنظريته في المنهج سوف نفهم حيثيات إصراره على قدرة هذا
المنظور التطوري البيولوجي في تفسير النشاط المعرفي على قدرة هذا المنظور التطوري
البيولوجي في تفسير النشاط المعرفي والعلم. والجدير ذكره أن بوبر بعد أن تجاوز
الثمانين من عمره حاد بشدة في اتجاه الإيبستيمولوجيا التطورية حتى أعلن أن هدف
نظرية المعرفة هو البحث عن أوجه التشابه والاختلاف بين معرفة الحيوان ومعرفة
الإنسان، بمعنى إنشاء جهاز معرفي مقارن يكون منطلقاً للإيبستيمولوجيا. وقد أثار
هذا الحيود تساؤلات حول ما إذا كان بوبر قد هجر الفيزياء إلى البيولوجيا.
وسوف
نرى أنه ليس هناك حيود أو هجران، بل نماء عادي جداً لتوجهات فلسفة بوبر. ولما كانت
فلسفة العلم في القرن الحادي والعشرين تنتظرها آفاق مستقبلية واسعة في اتجاه
البيولوجيا والمنظورات البيولوجية. أدركنا منذ البداية كيف كان بوبر نقطة تحول،
ودفع فلسفة العلم إلى آفاق مستقبلية متتالة. (318)
انعكست
صياغة بوبر للمنهج العلمي في مجموعةٍ من الآليات والقيم، ترتد نهائياً في صورة
مجتمع مفتوح للرأي والرأي الآخر، لكل محاولات حل المشاكل، ليفوز الحل الأقدر
والرأي الأرجح فيكون الانتقال بهندسة اجتماعية جزئية من المشكلات إلى حلولها في
إطار ديموقراطي، يستلزم التسامح وينقض كل دعاوى الديكتاتورية والانفراد بالرأي
والتعصب والتطرف فضلاً عن الإرهاب. ويستحيل معه صب المجتمع داخل الإطار الشمولي
الكلي والنسق الموحد، سواءٌ أكان النسق هو
الماركسية أم سواها، لأن هذا مجافٍ لمنطق العلم ومنطق الواقع ومنطق التاريخ وإن
استحقت الماركسية بالذات نقداً مكثفاً. هذا هو مضمون كتاب بوبر "المجتمع
المفتوح وخصومه ـ 1945" في جزأين، حيث تعقب بوبر جذور الاتجاه الشمولي فيما
قبل الماركسية والهيغلية حتى أرسطو وأفلاطون، بل وما قبل أفلاطون ليصل في النهاية
إلى أقوى نقد وجه للماركسية. وعلى الرغم من أن بوبر، أساساً ودائماً، فيلسوف علم،
فإنه حاز شهرته من هذا الكتاب الذي طبق الخافقين، وتوالت طبعاته منذ صدوره حتى
الأن، وترجم إلى كثير من اللغات. وبمجرد انهيار الاتحاد السوفييتي، الذي أتى
مصداقاً لمضمون "المجتمع المفتوح"، صدرت ترجمته الروسية العام 1992 في
خمسين ألف نسخة.
أعقب بوبر "المجتمع المفتوح"
بكتابه "عقم النزعة التاريخية: دراسة في مناهج العلوم الاجتماعية ـ
1957" الذي يكاد يكون ملحقاً له لأن بوبر ينقض فيه كل حجج الاتجاه الفلسفي
المعتقد في مسارٍ محتوم للتاريخ، يرى وظيفة العلوم الاجتماعية في النبؤ بهذا
المسار. [يبدو أن هذه المعلومة ليست دقيقة، تشير المراجع إلى أن كتاب "بؤس
التاريخانية" سبق في الصدور كتاب "المجتمع المفتوح بعام واحد، فهو قد
صدر عام 1944] (319)
ألحق بوبر بالترجمة الإنكليزية
"منطق الكشف العلمي" ملحقاً مطنباً بعنوان "بعد عشرين عاماً"
أثبت فيه بضعة مستجدات منها محصلة لقائه بأينشتاين ومحاولات بوبر لكي يقنعه
بالعدول عن الإيمان بالحتمية العلمية التي تبخرت. جرى هذا اللقاء العام 1950، حين
ذهب بوبر إلى أمريكا تلبيةً لدعوةٍ تلقاها كي يلقي محاضرةً بجامعة هارفارد في ذكرى
وليم جيمس.
ما زالت طبعات "منطق الكشف
العلمي" تتوالى حتى يومنا هذا، وتُرجِم إلى سبع عشرة لغة منها العربية. كما
ترجِمت أربعة كتب أخرى لبوبر إلى اللغة العربية. (323)
ليس بوبر من نمط الفلاسفة الذين يمرون
بمراحل فكرية أو تتعرض فلسفاتُهم لتطورات وتعديلات، بل هو ـ على عكس راسل مثلاً ـ
ظلت منطلقاتُه وتوجهاته الفلسفية ثابتة راسخة بطريقة غير عادية. ساعد هذا على أن
يظل "منطق الكشف العلمي" دائماً مركز فلسفته.
ﺻﺪر ﺑﻌﺪﻫﺎ ﻛﺘﺎﺑﺎن ﺑﺎﻟﻠﻐﺔ اﻷ@ﺎﻧﻴﺔ ﻫﻤﺎ »ﺑﺤﺜﺎ
ﻋﻦ ﻋﺎﻟﻢ أﻓﻀﻞ ــ ٢٩٩١« و»اﳊﻴﺎة ﺑﺄﺳﺮﻫﺎ ﺣﻠﻮل
@ﺸـﺎﻛـﻞ ـــ ٤٩٩١« ﻳـﻀـﻤـﺎن ﻣﻘﺎﻻت ﻓﻠﺴﻔﻴﺔ ﻋﺎﻣﺔ2 ﻛﻼﻫﻤﺎ ﻣﺘﺮﺟﻢ إﻟﻰ اﻹﳒﻠﻴﺰﻳﺔ وأﻳﻀﺎ إﻟﻰ اﻟﻌﺮﺑﻴـﺔ.
كان
آخر ما صدر له قبيل رحيله كتاب "أسطورة الإطارـ 1994" وهو دفاع عن العلم
وعن العقلانية التنويرية في مواجهة تيارات ما بعد الحداثة. التي تنقض مفاهيم عصر
التنوير أو تتجاوزها. وفي هذا يعد بوبر نفسه آخر التنويريين العظام.
ولا مفر من الاعتراف بأنه بهذا المنظور
كان أيضاً آخر الاستعماريين العظام. إنه شوفيني الإعجاب بالحضارة الغربية. يراها
بما حققته من حرية وفردانية وتقليص للفقر والجهل والمرض أعلى مدّ بلغه الإنسان،
والحضارات الأخرى في ناظريه بمنزلة أطفال نفكر ألف مرة قبل إعطائهم أي قدر من
الحرية والاستقلال!. (324)
كان بوبر يدرس في جامعة فيينا، فيما بين
العامين 1918 و 1928 في مكان وزمان نشأة دائرة فيينا. كان أعضاؤها هم أساتذته
وزملاءه، وارتبط بصداقات شخصية حميمة مع بعضٍ منهم، خصوصاً كارناب وفيجل وفيزمان
ومنجر وفيكتور كرافت وكورت جودل صاحب مبرهنة اللااكتمال. حضر بوبر اجتماعات فرعية
للدائرة في منزل العضو إدغار تسيلزل، وألقى محاضرةً هي أساساً نقدٌ للوضعية
المنطقية. كان بوبر مثلهم منطقياً وفيلسوف علم معنياً بتمييز المعرفة العلمية
وبالأسس المنطقية للتجريب، وداعية لوحدة المنهج بين العلوم الطبيعية والإنسانية..
لكنه ليس وضعياً ولا استقرائياً بحال. وقف وحيداً ليتخذ موقفاً معارضاً لهم، حتى
أطلق نويراث على بوبر لقب "المعارض الرسمي". وفيما طرح مؤرخ الفلسفة جون
باسمور سؤاله: من الذي قضى على الوضعية المنطقية؟ وبوبر يخشى أن يكون هو المسؤول.
(325)
الوضعيون
المنطقيون هم قادة الهجوم في القرن العشرين، وبوبر هو المدافع المستخَف به عن
الفلسفة التقليدية، اﻟﺬي ﻳﺼﺮ ﻋﻠـﻰ أن ﻣـﺸـﺎﻛـﻠـﻬـﺎ ﺣﻘﻴﻘﻴﺔ. وﻟﻴﺲ ﻫﻨﺎك ﺷﻲء ﻋﻠﻰ وﺟﻪ
اﻹﻃﻼق ــ ﻓﻲ ﻧﻈﺮ ﺑﻮﺑﺮ ــ ﻳـﻌـﺰ ﻋـﻠـﻰ اﻟﻨﻘﺪ أو ﺣﺘﻰ ﻳﺴﺘﻐﻨﻲ ﻋﻨﻪ. ولما ﻛﺎن ﺑﻮﺑﺮ ﻳـﺮى
أن اﻟـﻔـﻠـﺴـﻔـﺔ ﻫـﻲ اﻟـﺪراﺳـﺔ اﻟﻨﻘﺪﻳة، ﻟﻠﺨﺒﺮة اﳊﺴﻴﺔ وﺳﻮاﻫﺎ، ﺑﺪا ﺑﻮﺿـﻮح لماذا ﻳـﻌـﺎدي ﺑـﺼـﺮاﺣـﺔ ﻫـﺬا اﻟﺘﻮﺟﻪ اﻟﺬي ﻳﻌﺎدي
وﺟﻮد اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ أﺻﻼ. اﻟﻨﻘﺪ داﺋﻤﺎ ﻫﻮ ﺣﺠﺮ اﻟﺰاوﻳﺔ ﻣﻦ أﻓﻜﺎر ﺑﻮﺑﺮ، وﻫﻮ اﻵن ﻳﺼﻮﺑﻪ ﻋﻠﻰ اﻟﻮﺿﻌﻴﺔ
المنطقية.
وظائف اللغة:
إن اللغة في نظر بوبر أخطر مكوّنات
العالم الإنساني. لكن لا ينبغي أن تدور في متاهات لفظية بل يجب أن تعمل على شرح
الوظائف الأربع الأساسية للغة. وهي الوظيفة التعبيرية بمعنى التعبير عن النفس،
والوظيفة الإشارية، والوظيفة الوصفية، والوظيفة الجدلية بمعنى النقاش. ويوضح بوبر
أن اللغة ـ أياً كان مستواها ـ لن تكون لغةً إلا إذا كانت قادرةً على إثارة
استجابة من كائن حيٍ آخر. لغات الحيوان أو وسائل تواصله من رقص أو تلامس أو إصدار
أصوات أو غيره، قادرةٌ على أداء الوظيفتين التعبيرية والإشارية، ثم تتميز اللغة
الإنسانية فقط بقدرتها على أداء الوظيفتين العلّيتين الوصفية والنقاشية. (327)
.. هكذا يعلي بوبر من قدر اللغة، بينما
يحط من قدر الفلسفات اللغوية التحليلية المتطرفة .. [ومنها] الوضعية المنطقية،
فلسفة العلم التي اقتصرت على التحليل المنطقي اللغوي وأرادت قصرالفلسفة عليه.
هذا هو الخلاف الأساسي بين بوبر
والوضعية، إصراره على أن المشاكل اللغوية لم تكن أبداً مشكلة فلسفية، فضلاً عن أن
تكون المشكلة الفلسفية الوحيدة. يؤكد بوبر أن المشكلة الفلسفية الوحيدة هي عينها
المشكلة العلمية الوحيدة: المشكلة الكوزمولوجية، أي مشكلة فهم العالم بما في ذلك
نحن أنفسنا كجزء من العالم. العلم والفلسفة معاً يساهمان في حل هذه المشكلة، إنهما
ليفقدان كل روعتهما وجاذبيتهما إذا ما تحليا عنها. قد يساعدنا فهم وظيفة اللغة على
الحل، أما أن نحيل المشكلة بأسرها إلى متاهات لغوية فإن هذا مرفوض.
.. لقد أخطأ الوضعيون المنطقيون حين
حددوا الفلسفة بمشكلة معيّنة واحدة هي المشكلة اللغوية. (327)
بوبر
يقسم الفلاسفة إلى فريقين متقابلين أحدهما يأتمّ بفتجنشتين والآخر يأتمّ بإيمانويل
كانط الذي جعل العقل يفرض تصوراته على الطبيعة، الوضعيون المنطقيون في الفريق
الأول، وبوبر ف الفريق الثاني الكانطي. (329)
أخرج بوبر مقالاً بعنوان
"طبيعة المشكلات الفلسفية وجذورها في العلم"، يوضح فيه كيف أن المشاكل
الفلسفية والميتافيزيقية دوماً ذات جذور علمية واجتماعية ودينية وسياسية، وإنها
لتنهار وتتحول إلى لغوٍ إذا ما أنكرت عليها تلك الجذور أو استؤصلت منها. ويذهب
بوبر إلى إثبات دعواه بشروح مسهبة لأمثلة عدة لمشكلات من أخص خصائص الفلسفة،
كالمثل الأفلاطونية والعداد القيثاغورية والمقولات الكانطية.. ليثبت جذورها في
حدود علم عصرها. (330)
كانت فلسفة دائرة فيينا [الوضعية المنطقية] معالجةً منطقية
للنزعة الاستقرائية، ليبقى تبرير العلم على أساس ارتكازه على الوقائع التجريبية وخروجه
منها.
وهنا نصل إلى حجر الزاوية ومفترق الطرق في فلسفة العلم. ولعل
هجوم بوبر الضاري على الوضعية المنطقية انطلق من عزمه الأكيد على استئصال شأفة
النزعة الاستقرائية من فلسفة العلم. وتلك هي معركة بوبر الكبرى، حتى لو أردنا
تلخيص فلسفته التجريبية في كلمة واحدة لكانت: ضد الاستقراء أو
"اللااستقراء". فما من محاضرةٍ يلقيها أو مقالة يكتبها إلا ويؤكد فيها
أن الاستقراء خرافة، لا هو يصف ما يفعله العلماء في الواقع ولا ما يجب أن يفعلوه
ولا حتى ما يمكن أن يفعلوه، لأن البدء بالملاحظة الخالصة مستحيل ولن يفضي إلى شيء.
ويدخل بوبر في مناقشات تفصيلية مسهبة ليوضح أن أياً من نظريات العلم يستحيل أن
تكون قد أتت نتيجة للتعميمات الاستقرائية. (333)
طبعاً بوبر فيلسوف تجريبي، لكنه لا يرى الذهن يولد صفحةً بيضاء تخطها
التجربة كما يدعي المتطرفون أمثال لوك وهيوم. ولا هو يرى الذهن يولد بأفكار فطرية
كما يدعي المثاليون المتطرفون. لكنه يرى الذهن يولد مزوداً بمجموعةٍ من
الاستعدادات السيكولوجية والنزعات والتوقعات الفطرية التي قد تتغير وتتعدل مع تطور
الكائن الحي. ومنها النزوع إلى الحب والعطف وإلى مناظرة الحركات والأصوات، وأيضاً
إلى توقع الاطراد في الطبيعة. والإطرادات ليست نتيجة الخبرات المتكررة، بل لوحظت
في الحيوانات والأطفال الحاجة إلى إشباع هذا التوقع بأي شكل. (334)
ﻳﺴﺘﻌين ﺑﻮﺑﺮ ﺑﺄﺑﺤﺎث ﻣﻮاﻃﻨﻪ وﻣﻌﺎﺻﺮه ﻛﻮﻧﺮاد ﻟﻮرﻧﺘﺲ ﻓﻲ ﻋﻠﻢ ﻧﻔﺲ اﳊﻴﻮان اﻟﺘـﻲ أﺟـﺮاﻫـﺎ ﻋـﻠـﻰ
اﻟـﺒـﻂ واﻷوز، وﺧـﺮج ﻣﻨﻬﺎ ﺑﺄن اﳊﻴﻮاﻧﺎت ﺗﻮﻟﺪ ﻣﺰودة ﺑﺂﻟﻴﺔ ﻓﻄﺮﻳـﺔ
في القفز إﻟﻰ ﻧﺘﺎﺋﺞ وﻃﻴﺪة. ﻣﺜﻼ، ﻓﺮخ اﻷوز ﺣﺪﻳﺚ اﳋﺮوج ﻣﻦ اﻟـﺒـﻴـﻀـﺔ ﻳـﺘـﺨـﺬ أول ﺷﻲء ﻣﺘﺤﺮك ﻳﺮاه ﻋﻠﻰ أﻧﻪ أﻣﻪ، وﻫﺬه آﻟﻴﺔ
ﻣﻼﺋـﻤـﺔ ﻓـﻲ اﻟـﻈـﺮوف اﻟـﻌـﺎدﻳـﺔ ﻟﻜﻨﻬﺎ ﻗﺪ ﺗﻜﻮن ﺧﻄﻴﺮة ﻓﻲ ﺑﻌﺾ اﻟﻈﺮوف إذا ﻛﺎن ﻫﺬا اﻟﺸﻲء
اﻟﻜﺒﻴﺮ ﺛﻌﻠﺒﺎ ﻣﺜﻼ. واﻟﻄﻔﻞ ﺣﺪﻳﺚ اﻟﻮﻻدة ﻳﺘﻮﻗﻊ أن ﻳﺠﺪ ﻣﻦ ﻳﺤﺒﻪ وﻳﺤﻤﻴﻪ. ﻛﻞ ﻛﺎﺋﻦ ﺣﻲ ﻟﺪﻳﻪ
ﺗﻮﻗﻌﺎت أو ﻧﺰوﻋﺎت ﻓﻄﺮﻳﺔ ﻗﺪ ﺗﻜﻮن ﻣﺘﻜﻴﻔﺔ ﻣﻊ أﺣﺪاث وﺷﻴﻜﺔ اﻟﻮﻗﻮع. إﻧﻬﺎ ﻓﻄﺮﻳﺔ وﺳﺎﺑﻘﺔ
زﻣﺎﻧﻴﺎ وﻣﻨﻄﻘﻴﺎ ﻋﻠﻰ أي ﺗﻌﺮف ﻋﻠﻰ اﻟﺒﻴﺌﺔ أو ﺗﻠﻘﻲ ﺧﺒﺮة ﺣﺴﻴﺔ ﻋﻦ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺘﺠﺮﻳﺒﻲ، وﻗﺪ
ﺗﻜﻮن ﺧﺎﻃﺌﺔ وﺧﻄﻴﺮة ﻛﻤﺎ ﻓﻲ ﺣﺎﻟﺔ اﻟﺜﻌﻠﺐ. واﻟﻮﻟﻴﺪ ﻗﺪ ﻳﻬﺠﺮ وﻳﺘﺮك ﻟﻴﻤﻮت ﺟﻮﻋﺎ. اﻟﺘﻮﻗﻌﺎت
اﻟﻔﻄﺮﻳﺔ ﻟﻴﺴﺖ ذات ﺻﺤﺔ أوﻟﻴﺔ، وﻫﻲ ﻗﺎﺑﻠﺔ ﻟﻠﺘﻌﺪﻳﻞ واﻟﺘﺼﺤﻴﺢ. أﻣﺜﺎل ﻫﺬه اﻟﺘﻮﻗﻌﺎت ﻫﻲ ﻧﻘﻄﺔ
اﻟﺒﺪء. ﻓﺘﻜﻮن أوﻟﻰ ﺣﻠﻘﺎت المعرفة اﻟﺘﺠﺮﻳﺒﻴﺔ ﻓﻲ اﻟﻌﺼﺮ اﳊﺠـﺮي ﺗـﻮﻗـﻌـﺎ ﻓـﻄـﺮﻳـﺎ أﺧﻄﺄ ﻓﻲ ﻣﻮاﺟﻬﺘﻪ ﻟﻠﻮاﻗﻊ اﻟﺘﺠﺮﻳﺒﻲ. ﻓﺤﺎول اﻹﻧﺴﺎن
اﻟﺒﺪاﺋﻲ ﺗﺼﻮﻳﺒﻪ ﺑﺘﻮﻗﻊ آﺧﺮ، ﻛﺎﻧﺖ ﻟﻪ أوﺟﻪ ﻗﺼﻮره وﻣﺸﺎﻛﻠﻪ. ﻓﺘﻢ ﺗﺼﻮﻳﺒﻪ ﺑﻔﺮض ﺟـﺪﻳـﺪ، وﻫـﻜـﺬا
دواﻟﻴﻚ وﺻﻮﻻ إﻟﻰ ﻧﺴﻖ اﻟﻌﻠﻢ اﻟﻴﻮم. وﻻ ﻳﻜﻮن ﺛﻤﺔ اﺳﺘﻘﺮاء ﻟﻮﻗﺎﺋـﻊ اﳊـﺲ ﻣﻦ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﺛﻢ ﺗﻌﻤﻴﻤﻬﺎ ﻓﻲ أي ﻣﺮﺣﻠﺔ ﻋﻠﻰ وﺟﻪ اﻹﻃﻼق، اﻷﺳﺒﻘﻴﺔ داﺋﻤـﺎ
ﻟﻠﻜﺎﺋﻦ اﳊﻲ وﻟﻠﻌﻘﻞ. ﻓﻴـﻤـﻜـﻦ اﺳـﺘـﺌـﺼـﺎل اﻻﺳـﺘـﻘـﺮاء أو اﻟـﺒـﺪء بالملاحظة اﳋﺎﻟﺼﺔ ﻣﻦ أﻋﻤﻖ اﳉﺬور. (334)
[يسلم
بوبر بوجود "الحقيقة" وإن كان لا يمكن الإمساك بها، لكن تاريخ العلم هو
تاريخ الاقتراب منها، من خلال الاكتشاف المستمر والمتكرر للأخطاء السابقة، وذلك
على العكس من الأداتية التي تستبعد الحقيقة الموضوعية، وتعتبر بأن النظريات ما هي
إلا تفسيرات ملائمة للواقع. "ويكون الصدق [بالنسبة إليها] هو ما نستطيع تبرير
الاعتقاد فيه أو قبوله" (336).]
ﻳﻀﻔﻲ ﺑﻮﺑﺮ ﻣﻨﺘﻬﻰ الموضوعية على المعرفة ﻟﺪرﺟﺔ
اﻻﺳﺘﻘﻼل اﻟﺘﺎم ﻋﻦ أي ﺷﺨﺺ ﻳﻌﺮف أو ﻳﻌﺘﻘﺪ، ﺣﺘﻰ ﻳﺰﻋﻢ أﻧﻬﺎ ﻣﻌﺮﻓﺔ ﺑﻐﻴﺮ ذوات ﻋﺎرﻓﺔ أﺻﻼ.
ﻣﺎدام ﻣﻜﺎﻧﻬﺎ ﻫﻮ اﻟﻌﺎﻟﻢ3، ﻓﻤﺎ ﻫﻮ اﻟﻌﺎﻟﻢ3؟ إﻧﻪ اﺑﺘﻜﺎر ﻣﺜﻴﺮ ﻟﺒﻮﺑﺮ حين ﻳﻘﻮل إن ﻫﻨﺎك
ﺛﻼﺛﺔ ﻋﻮاﻟﻢ: اﻟﻌﺎﻟﻢ ١: ﻫﻮ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﻔﻴﺰﻳﻘﻲ المادي. اﻟﻌﺎﻟﻢ ٢: ﻫﻮ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺬاﺗﻲ، ﻋﺎﻟﻢ
اﻟﻮﻋﻲ واﻟﺸﻌﻮر والمعتقدات واﻹدراﻛﺎت واﳊﺎﻻت اﻟﻌﻘﻠﻴﺔ
والميول اﻟﺴﻴﻜﻮﻟﻮﺟﻴﺔ. اﻟﻌﺎﻟﻢ ٣: ﻋﺎﻟﻢ اﶈﺘﻮى الموضوعي ﻟﻠﻔﻜﺮ
ﻛﺎﻟـﻌـﻠـﻢ واﻟـﻔـﻠـﺴـﻔـﺔ واﻷﻋـﻤـﺎل اﻷدﺑـــﻴﺔ واﻟﻔﻨﻴــﺔ واﻟﻨــﻈﻢ اﻟﺴﻴــﺎﺳﻴـــﺔ واﻟﺘﻘﺎﻟﻴﺪ
واﻟﻘﻴﻢ واﻷﻋﺮاف... ﻣﺤﺘﻮى ﻫﺬا اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻫﻮ ﻣﺤﺘﻮى اﻟﻜﺘﺐ واﻟﺼﺤﺎﺋﻒ وأﺟﻬﺰة اﻟـﻜـﻮﻣـﺒـﻴـﻮﺗـﺮ
والمتاحف والمعارض.
واﻟﻌﻼﻗﺔ ﺑين اﻟﻌﻮاﻟﻢ اﻟﺜﻼﺛﺔ ﻣﺘﺪاﺧﻠﺔ، ﻟﻜﻦ اﻟﻌﺎﻟﻢ2 ﻫﻮ اﻟﻮﺳـﻴـﻂ اﻟـﺬي ﻳﺮﺑﻂ ﺑين
اﻟﻌﺎﻟﻢ ١ واﻟﻌﺎﻟﻢ ٣ ﺑﻔﻀﻞ ﻋﻼﻗﺎﺗﻪ ﻣﻊ ﻛﻞ ﻣﻨﻬﻤﺎ. ﻓﻬﻮ ﻳﺪرك اﻟﻌﺎﻟﻢ1
بالمفهوم اﳊﺮﻓﻲ ﻟﻺدراك، وﻳﺨﻠﻖ اﻟﻌﺎﻟﻢ ٣ وﻳﻈـﻞ ﻳـﺪرﺳـﻪ وﻳـﻀـﻴـﻒ إﻟـﻴـﻪ وﻳﺤﺬف ﻣﻨﻪ،
ﺣﺘﻰ اﻟﻘﻮة اﻟﺘﻜﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﻓﻲ اﻟﻌﺎﻟﻢ ٣ تمارس ﺗﺄﺛﻴﺮﻫﺎ ﻓﻲ اﻟﻌﺎﻟﻢ ١ ﺑﻔﻀﻞ اﻟﻌﺎﻟﻢ٢.
ﻋﻠﻰ ﻫﺬا ﻳﻔﺮق ﺑﻮﺑﺮ ﻓﻲ ﻣﻜﻮﻧﺎت اﻟﻌﺎﻟﻢ ٣ ﺑ
ا@ﻨﺘﺠﺎت ا@ﻘﺼـﻮدة اﻟـﺘـﻲ اﺟﺘﻤﻊ
أﺷﺨﺎص ﻣﻌﻴﻨﻮن وﺑﺬﻟﻮا ﺟﻬﺪا ﻣﻮﺟﻬﺎ ﳋﻠﻘﻬﺎ2 ﻣﺜﻞ ا@ﺆﺳﺴﺎت
واﻷﻋﻤﺎل اﻟﻔﻨﻴﺔ واﻟﻌﻠﻤﻴﺔ واﻟﻘﻮاﻧ
واﻟﺪﺳﺎﺗﻴﺮ... وﺑ
ا@ﻨﺘﺠﺎت اﳉﺎﻧﺒﻴﺔ اﻟﺜﺎﻧﻮﻳﺔ اﻟﺘﻲ
ﻟﻢ ﻳﺨﻠﻘﻬﺎ اﻹﻧﺴﺎن ﺑﻘﺼﺪ2 ﺑﻞ اﻧﺒﺜﻘﺖ ﻣﻦ ﺗﻠﻘﺎء ذاﺗﻬﺎ. واﻟﻐﺮﻳﺐ أﻧﻬﺎ ﻗﺪ ﺗﻜﻮن أﻛﺜﺮ أﻫﻤﻴﺔ
ﻣﻦ ا@ﻨﺘﺠﺎت ا@ﻘﺼﻮدة. ﻓﺄﻫﻢ ﻛﻴﺎﻧﺎت اﻟﻌﺎﻟﻢ ٣ ﻃﺮا اﻟﻠﻐﺔ2 وﻟﻴﺲ ﻫﻨﺎك ﺟﻤﺎﻋﺔ اﺟﺘﻤﻌﺖ ﻟﺘﺨﻄﻴﻄﻬﺎ2
ﺑﻞ ﺗﺒﺪأ ﺑﻨﺸﺎط أوﻟﻲ ﺗﻮﺟﻬﻪ اﳊﺎﺟﺔ ﺛﻢ ﻳﺘﺴﻊ وﻳﺘﻄﻮر
وﻳﺘﺤﺴﻦ ﺗﺪرﻳﺠﻴﺎ ﺑﻐﻴﺮ ﺧﻄﺔ ﺳﺎﺑﻘﺔ . إﻧﻬﺎ أﺷﻴﺎء ﺻﻨﻌﻬﺎ اﻟﻨﺎس ﺑﻐﻴﺮ أن ﻳﺼﻨﻌﻬﺎ واﺣﺪ ﻣﻨﻬﻢ2
وﺣ
ﺗﺘﺒﺪى ﻓﺎﺋﺪﺗﻬﺎ ﺗﺘﻄﻮر وﺗﺘﺤﺴﻦ. اﻟﻌﺎﻟﻢ ٣ ﻫﻮ اﻟﺬي Iﻴﺰ اﻹﻧﺴﺎن ﻋﻦ اﳊﻴﻮان. ﻣﻮﺿﻮع اﻹﺑﺴﺘــﻤﻮﻟﻮﺟﻴﺎ
ﻳﻘـﻄـﻦ ﻓـﻴـﻪ2 وﻻ ﺷﺄن ﻟﻬﺎ اﻟﺒﺘﺔ ﺑﺎﻟﻌﺎﻟﻢ ٢. وأﻫﻢ ﻣﻜﻮﻧﺎت اﻟﻌﺎﻟﻢ ٣ اﻟﻠﻐﺔ واﻟـﻨـﻘـﺪ
وﺑـﻔـﻀـﻞ اﻟﻨﻘﺪ ﻳﻜﻮن ﺗﻄﻮره وkﺎؤه اﻟﺪاﺋﻢ ﻧﺤﻮ اﻷﻓﻀﻞ.
ﻳﺮى ﺑﻮﺑﺮ أن ﻛﻞ ﻣﻨﺠﺰات اﳊﻀﺎرة اﻟﻐﺮﺑﻴﺔ ا@ﻌﺎﺻﺮة ﺗﺪﻳﻦ ﻓﻲ ﻧﺸﺄﺗـﻬـﺎ إﻟﻰ اﻟﻌﻘﻼﻧﻴﺔ اﻟﻜﻼﺳﻴﻜﻴﺔ اﻟـﺘـﻲ
ﻛـﺎﻧـﺖ ا@ـﻠـﻬـﻢ اﻷﻋـﻈـﻢ ﻟـﻠـﺘـﻘـﺪم اﳊـﻀـﺎري واﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ
وﺑﻐﻴﺮ ﻧﻈﻴﺮ ﻳﻨﺎﻓﺴﻬﺎ ﻋﺒﺮ اﻟﺘﺎرﻳﺦ. وﻣﻊ ﻫﺬا ﻓﻬﻲ kﻮذج ﻟﻠﻔﻜﺮة . ﻓﻘﺪ ﺗﺮدت ﻓﻲ ﺧﻄﺄ ﻛﺒﻴﺮ ﻫﻮ اﻻﻋﺘﻘﺎد(١٢)اﳋﺎﻃﺌﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻠﻬﻢ ﺑﺄﻓﻜﺎر راﺋﻌﺔ ﺑﺄن اﳊﻘﻴﻘﺔ ﺑﻴﻨﺔ وأن ا@ﻌﺮﻓﺔ اﻟﻴﻘﻴﻨﻴﺔ ﺳﻬـﻠـﺔ ا@ـﻨـﺎل. واﻧـﻔـﻠـﻘـﺖ اﻟـﻌـﻘـﻼﻧـﻴـﺔ
اﻟﻜﻼﺳﻴﻜﻴﺔ إﻟﻰ ﺗﻴﺎرﻳﻬﺎ ﻓﻲ ﻣﺤﺎوﻟﺘﻬﺎ ﻟﺘﺒﺮﻳﺮ ﻫﺬا اﻟﻴﻘ
وﲢـﺪﻳـﺪ ا@ـﺼـﺪر اﻟﻨﻬﺎﺋﻲ @ﻌﺮﻓﺔ
اﳊﻘﻴﻘﺔ2 أﻫﻮ اﳊﻮاس أم اﻟﻌﻘﻞ? وﻫﺬا اﻟﻄﺮح ﺧﺎﻃﺊ
أﺻﻼ2 ﻓﻼ ﻳﻬﻢ ﻣﺼﺪر ا@ﻌﺮﻓﺔ2 ا@ﻬﻢ ﻫﻮ ا@ﻌﺮﻓﺔ ذاﺗﻬﺎ2 ﻣـﺤـﺘـﻮاﻫـﺎ وﻣـﺪى ﺻـﺪﻗـﻬـﺎ وﻗﺪرﺗﻬﺎ
ﻋﻠﻰ ﺣﻞ ا@ﺸﻜﻠﺔ ا@ﻄﺮوﺣﺔ ﻟﻠﺒﺤﺚ. إﻧﻬﻢ ﺑﺎﻟﺴﺆال ﻋﻦ ا@ﺼﺪر أﻫﻮ اﻟﻌﻘﻞ أم اﳊﻮاس2 ﻳﻜﺮرون اﳋﻄﻴﺌﺔ اﻷرﺳﺘﻘﺮاﻃﻴـﺔ
اﻟـﺘـﻲ ﺗـﻬـﺘـﻢ ﺑـﺎﳊـﺴـﺐ . وﻫﺬه اﳋﻄﻴﺌﺔ ﲡﺴـﺪت ﻓـﻲ(١٣)واﻟﻨﺴﺐ وﺗﻐﻔﻞ ﻋﻦ ﺗﻘﻴﻴﻢ اﻟﺸـﺨـﺺ ذاﺗـﻪ اﻻﺳﺘﻘﺮاﺋﻴﺔ واﻟﻮﺿﻌﻴﺔ
وﻫﻲ ﺗﻨﺸﻐﻞ ﺑﺘﺒﺮﻳﺮ ا@ﻌﺮﻓﺔ اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ اﻟﺘﺜﺒﺖ ﻣﻦ ردﻫﺎ إﻟﻰ أﺻﻮﻟﻬﺎ ﻓﻲ اﻟﻮﻗﺎﺋﻊ اﻟﺘﺠﺮﻳﺒﻴﺔ.
إن اﻟﺴﺆال اﻟﺬي ﻳﺤﺪد اﻟﺒﺤﻮث اﻹﺑﺴﺘﻤﻮﻟﻮﺟﻴﺔ
ﻟـﻴـﺲ ﻋـﻦ ا@ـﺼـﺪر2 ﺑـﻞ ﻫﻮ: ﻛﻴﻒ ﻧﻜﺘﺸﻒ أﺧﻄﺎءﻧﺎ وﻧﺴﺘﺒﻌﺪﻫﺎ ﻟﻜﻲ ﺗﻨﻤـﻮ ا@ـﻌـﺮﻓـﺔ وﺗـﺘـﻄـﻮر
وﻳـﻜـﻮن داﺋﻤﺎ اﻟﻜﺸﻒ واﻹﺿﺎﻓﺔ واﻟﺘﻘﺪم? وﻗﺪ أﺟﺎب ﺑﻮﺑﺮ ﻋﻦ ﻫﺬا ﺑﺎﻟﻨﻘﺪ2 واﺗﺨـﺬ ﻣﻮﻗﻒ اﻟﻌﻘﻼﻧﻴﺔ
اﻟﻨﻘﺪﻳﺔ.
وﺑﻄﺒﻴﻌﺔ ﺑﻮﺑﺮ2 ﻳﺼﺐ ﺟﺎم ﻧﻘﺪه ﻋﻠﻰ ﻫـﻴـﻮم2 ﻓـﻴـﺠـﺪه
ﻗـﺪ اﻧـﺘـﻬـﻰ إﻟـﻰ أن اﻟﺘﻜﺮار ﻗﺪ ﺧﻠﻖ ﻓﻴﻨﺎ ﻋﺎدة اﻻﻋﺘﻘﺎد ﻓﻲ ﻗﺎﻧﻮن. ﻏﻴﺮ أن ﺑﻮﺑﺮ ﻳـﺆﻛـﺪ
أن ﻫـﺬا ﺧﻄﺄ واﻟﻌﻜﺲ Fﺎﻣﺎ ﻫﻮ اﻟﺼﺤﻴﺢ2 ﻓﺎﻟﺘﻜﺮار ﻳﺤﻄﻢ
اﻟﻮﻋﻲ ﺑﺎﻟﻘﺎﻧﻮن وﻻ ﻳﺨﻠﻖ اﻋﺘﻘﺎدا ﻓﻴﻪ. ﻓﻤﺜﻼ ﻓﻲ ﺣﺎﻟﺔ ﻋﺰف ﻗﻄﻌﺔ ﻣﻮﺳﻴﻘﻴﺔ ﺻﻌﺒﺔ ﻋﻠﻰ اﻟﺒﻴﺎﻧﻮ2
ﻳﺒﺪأ ﻌﺰف ﺑﻼ اﻧﺘﺒـﺎهُاﻟﻌﺎزف ﻣﺮﻛﺰا وﻋﻴﻪ وﺷﻌﻮره2 وﺑﻌﺪ ﻗﺪر ﻛﺎف ﻣﻦ اﻟـﺘـﻜـﺮار ﻳ ﻟﻘﺎﻧﻮن.
وﺣ
اﻟﺒﺪء ﻓﻲ ﻗﻴﺎدة اﻟﺪراﺟﺔ ﻧﺘـﻌـﻠـﻢ
أن ﻧـﺪﻳـﺮ اﻟـﺪﻓـﺔ ﻓـﻲ اﻻﲡـﺎه اﻟﺬي ﻧﺨﺸﻰ اﻟﺴﻘﻮط ﻓﻴﻪ2
وﺗﺒﺪأ اﶈﺎوﻻت اﻷوﻟﻰ ﻟﻠﺮﻛﻮب وأذﻫﺎﻧﻨﺎ
ﻣﺮﻛﺰة Fﺎﻣﺎ ﻋﻠﻰ ﻫﺬا اﻟﻘﺎﻧﻮن2 وﺑﻌﺪ ﻗﺪر ﻛﺎف ﻣﻦ اﻟﺘﻜﺮار ﻧﻨﺴﺎه Fﺎﻣﺎ. إذن ﻓﺎﻟﺘﻜﺮار ﻳﺤﻄﻢ اﻟﻮﻋﻲ ﺑﺎﻟﻘﺎﻧﻮن وﻻ ﻳﺨﻠﻘﻪ ﻛﻤﺎ ذﻫﺐ ﻫﻴﻮم.
ﻓﻨﺤﻦ ﻻ ﻧـﺸـﻌـﺮ ﺑـﺪﻗـﺎت اﻟﺴﺎﻋﺔ ا@ﻨﺰﻟﻴﺔ ﻟﻜﻦ ﻧﺸﻌﺮ ﺑﺄن اﻟﺴﺎﻋﺔ ﺗﻮﻗﻔﺖ. وﻣﻦ ﻧﺎﺣﻴﺔ أﺧﺮى
ﳒـﺪ أن اﻟﺴﻠﻮك ــ ﻛﺎﻷﻛﻞ أو اﻟﻨﻮم ﻓﻲ ﺳﺎﻋﺔ ﻣﻌﻴﻨﺔ ــ ﻟﻜﻲ ﻳﻜﻮن ﻋﺎدة2
ﻓﺈﻧﻪ ﻳﻨﺸﺄ أوﻻ ﺛﻢ ﻳﺘﻜﺮر ﺛﺎﻧﻴﺎ. ﻣﻌﻨﻰ ﻫﺬا
أن ﻧﺸﺄة اﻟﻌﺎدة ﻻ ﺗﺮﺟﻊ إﻟﻰ اﻟﺘﻜـﺮار ﻛـﻤـﺎ ذﻫـﺐ ﻫﻴﻮم. (341)
وﻛﺎن اﻟﺘﻜﺮار اﻟﺬي ﻋﻨﺎه ﻫﻴﻮم ﻗﺎﺋﻤﺎ ﻋﻠﻰ اﻟﺘﻤﺎﺛﻞ
بين اﻟﻮﻗﺎﺋﻊ أو ﺗﺸﺎﺑﻬﻬﺎ. وﻓﻲ ﻫﺬا
ﻳﺤﺮص
ﺑﻮﺑﺮ ﻋﻠﻰ ﺗﺒﻴﺎن أن اﻟﻌﻘﻞ اﻟﺒﺸﺮي ﻫﻮ اﻟـﺬي ﻳـﺤـﻜـﻢ ﻋـﻠـﻰ اﻟﻮﻗﺎﺋﻊ ﺑﺄﻧﻬﺎ ﻣﺘﺸﺎﺑﻬﺔ أو ﻣﺘﻤﺎﺛﻠﺔ
وﺑﺎﻟﺘﺎﻟﻲ ﺑﺄﻧﻬﺎ ﺗﻜﺮارات. ﻟﻴﺲ ﻫﻨﺎك ﺗﻜﺮارات ﻓﻲ ﺻﻠﺐ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ، ﺑﻞ ﻫﻨﺎك وﻗﺎﺋﻊ ﻳﺤﻜﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺑﺄﻧﻬﺎ ﻣﺘﻤﺎﺛﻠﺔ وﺑﺎﻟﺘﺎﻟﻲ ﻣﺘﻜﺮرة، وﺗﺒﻌﺎ لمنظورٍ معيّن في اﻟﻌﻘﻞ ﺳﺎﺑﻖ ﻋﻠﻰ
إدراك اﻟﻮﻗﺎﺋﻊ ذاﺗﻬﺎ. ﻫﻜﺬا ﳒﺪ ﺑﻮﺑﺮ ﻳﻠﻒ وﻳﺪور ﻓﻲ ﻧﻔﺲ ﻣﺤﻮر أﺳﺒﻘﻴﺔ اﻟﻔﺮض ﻋﻠﻰ الملاحظة واﻟﻌﻘﻞ
ﻋﻠﻰ اﻟﻮاﻗﻊ.
وﻋﻠﻰ ﻫﺬا اﻷﺳﺎس ا@ﻮﺿﻮﻋﻲ ﻳﻄﺮح ﺑﻮﺑﺮ اﻟﺴﺆال:
ﻫﻞ Iـﻜـﻦ ﻟـﻠـﻮﻗـﺎﺋـﻊ اﻟﺘﺠﺮﻳﺒﻴﺔ أن ﺗﺒﺮر اﻟﺪﻋﻮى ﺑﺼﺪق اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ اﻟﻌﻤﻮﻣﻴﺔ
اﻟﺘـﻔـﺴـﻴـﺮﻳـﺔ? وأﺟـﺎب ﺑﻮﺑﺮ ﻋﻦ ﻫﺬا إﺟﺎﺑﺔ ﻫﻴﻮم ﻧﻔﺴﻬﺎ2 أي ﺑﺎﻟﻨﻔﻲ ﻣﻬﻤﺎ ﻛﺎن ﻋﺪد اﻟﻮﻗﺎﺋﻊ
ﻛﺒﻴﺮا. وﻫﻨﺎ ﻳﺼﻞ إﻟﻰ اﻟﺴﺆال اﻟﺜﺎﻧﻲ: ﻫﻞ Iﻜﻦ ﻟﻠـﻮﻗـﺎﺋـﻊ
اﻟـﺘـﺠـﺮﻳـﺒـﻴـﺔ أن ﺗـﺒـﺮر اﻟﺪﻋﻮى ﺑﺄن اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ اﻟﻌﻤﻮﻣﻴﺔ ﻛﺎذﺑﺔ? وﺑﻮﺑﺮ ﻳﺮد ﻋﻠﻰ ﻫﺬا ﺑﺎﻹﻳﺠﺎب
ﻓﺎﻟﻮﻗﺎﺋﻊ اﻟﺘﺠﺮﻳﺒﻴﺔ ﻻ ﺗﺒﺮر اﻟﺪﻋﻮى ﺑﺼﺪق اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ2 ﻟﻜﻨﻬﺎ ﺗﺒﺮر اﻟﺪﻋﻮى ﺑﻜﺬﺑﻬﺎ. (342)
ﻫﻞ
يمكن ﻟﻠﻮﻗﺎﺋﻊ اﻟﺘﺠﺮﻳـﺒـﻴـﺔ أن ﺗـﺒـﺮر ﺗـﻔـﻀـﻴـﻞ ﺑـﻌـﺾ ﻣـﻦ اﻟﻨﻈﺮﻳﺎت اﻟﻌﻤﻮﻣﻴﺔ المتنافسة
ﻣﻊ اﻷﺧﺮى? ﺑﻮﺑﺮ ﻳﺮد ﻋﻠﻰ ﻫﺬا ﺑﺎﻹﻳﺠﺎب ﺑﻨﺎء ﻋﻠﻰ ﻣﺎ ﺳﺒﻖ فإذا ﺗﻮﺻﻠﻨﺎ إﻟﻰ إﺛـﺒـﺎت ﻛﺬب ﺑﻌﺾ
ﻣﻦ اﻟﻔﺮوض المتنافسة، أي تمّ تفنيدها، أﺻـﺒـﺢ ﻣـﻦ اﻟـﻮاﺿـﺢ ﻣﻨﻄﻘﻴﺎ ﺗﻔﻀﻴﻞ اﻟﻔﺮوض اﻟﺘﻲ
ﻟﻢ ﻳﺘﻢ ﺗﻔﻨﻴﺪﻫﺎ ﺑﻌﺪ. وﻫﺬه ﻧﺘﻤﺴﻚ ﺑﻬﺎ ﻣﺆﻗﺘﺎ ﺑﻮﺻﻔﻬﺎ ﺣﺪ اﻟﺘﻘﺪم اﻟﻌﻠﻤﻲ ﺣﺘﻰ اﻟﻠﺤﻈﺔ اﻟﺮاﻫﻨﺔ.
ﺛﻢ ﻧﺴﺘﺄﻧﻒ اﳉﻬﻮد اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ اﻟﺘﺎﻟﻴﺔ الميسر منها ﺑﺄن ﻧﺤﺎول ﺗﻔﻨﻴﺪﻫﺎ ﻫﻲ اﻷﺧﺮى، وﻧﺤﺎول
أن ﻧﻀﻊ ﺑﺪﻻ ﻣﻨﻬﺎ ﻓﺮوﺿﺎ أﻛﺜﺮ اﻗﺘﺮاﺑﺎ ﻣﻦ اﻟﺼﺪق، ﻧﺄﺧﺬ أﻓﻀﻠﻬﺎ ﻧﺴﺒﻴـﺎ وﻧـﺘـﻤـﺴـﻚ ﺑـﻬـﺎ
ﻣﺆﻗﺘﺎ ﻓﻘﻂ ﻷﻧﻬﺎ أﻓﻀﻞ ﻣﺎ ﻟﺪﻳﻨﺎ ﺣﺘﻰ اﻟﻮﻗﺖ اﻟﺮاﻫﻦ إﻟﻰ أن ﻳﺘﻢ ﺗﻔﻨـﻴـﺪﻫـﺎ ﻫﻲ اﻷﺧﺮى واﻟﻮﺻﻮل
إﻟﻰ ﻓﺮوض أﻓﻀﻞ، ﻧﺴﻠﻢ ﺑﻬﺎ ﺑﺼﻔﺔ ﻣﺆﻗﺘﺔ... وﻫـﻠـﻢ ﺟﺮا.
ﻳـﻌـﺎود
اﻟـﺘـﺄﻛـﻴـﺪ ﻋـﻠـﻰ أن اﻋﺘﻘﺎداﺗﻨﺎ اﻟﺴﻴﻜﻮﻟﻮﺟﻴﺔ
اﻟﻘﻮﻳﺔ اﻟﺘﻲ ﻧﺘﺼﺮف ﻋﻠﻰ أﺳﺎﺳﻬﺎ ﻓﻲ ﺣﻴﺎﺗﻨﺎ اﻟﻌﻤﻠﻴﺔ ﻟﻴﺴﺖ اﻟﺒﺘﺔ ﻧﺘﻴﺠﺔ اﻟﺘﻜﺮار ﻛﻤﺎ أوﺿﺢ
ﻓﻲ ﻧﻘﺪه ﻟﻬﻴﻮم2 وأن اﻟﻌﻘﻞ ﻫﻮ اﻟـﺬي ﻳﻔﺮض ﻣﻔﻬﻮم اﻟﺘﻜﺮار ﻋﻠﻰ اﻟﻮاﻗﻊ ﺑﻨﺎء ﻋﻠﻰ ﺗﻮﻗﻌﺎﺗﻪ
اﻟﻔﻄﺮﻳﺔ اﻟﺴﺎﺑﻘﺔ ﻋﻠـﻰ اﻟﺘﺠﺮﺑﺔ. ﻫﺬه اﻟﺘﻮﻗﻌﺎت ﻛﻔﻴﻠﺔ ﺑﺄن ﲡﺘﺚ اﻻﺳﺘﻘﺮاء ﻣﻦ أﻋﻤﻖ اﳉﺬور. ﻳﻘﻮل إن اﳊﻴﻮان اﳉﺎﺋﻊ ﻳﻘﺴﻢ اﻟـﺒـﻴـﺌـﺔ
إﻟـﻰJ. Katzﻋﺎﻟﻢ اﻟﻨﻔﺲ ﺟـﻴـﺮوﻟـﺪ ﻛـﺎﺗـﺲ أﺷﻴﺎء ﺗﺆﻛﻞ وأﺷﻴﺎء ﻏﻴﺮ ﻗﺎﺑﻠﺔ ﻟﻸﻛﻞ2
وﺣﻴﻨﻤﺎ ﻳﺸﻌﺮ ﺑﺎﳋﻄﺮ ﻻ ﻳﺮى أﻣـﺎﻣـﻪ إﻻ أﻣﺎﻛﻦ اﻻﺧﺘﺒﺎء
وﻃﺮق اﻟﻬﺮوب2 ﻓﺎﳊﺎﻟﺔ اﻟﺪاﺧﻠﻴﺔ ﻟﻠﻜﺎﺋﻦ اﳊﻲ واﻫﺘﻤﺎﻣﺎﺗﻪ اﻟﻌﻘﻠﻴﺔ ﻫﻲ اﻟﺘﻲ ﲢﺪد ردود أﻓﻌﺎﻟﻪ إزاء اﻟﺒﻴﺌﺔ وﺗﺮﺳﻢ ﻟﻪ إﻃﺎرﻫﺎ أو ﺗﺼﻨﻒ وﻗﺎﺋﻌﻬﺎ اﻟﺘﺠﺮﻳﺒﻴﺔ.
وإذا ﻛﺎن اﳊﻴﻮان ﻣﻬﺘﻤـﺎ ﻓـﻘـﻂ ﺑـﺎﻟـﻄـﻌـﺎم
واﻷﻣـﺎن2 ﻓـﺈن اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻣﻬﺘﻢ ^ﺸﻜﻠﺔ ﻋﻠﻤﻴﺔ ﻣﻌﻴﻨﺔ2 وﻋﻘﻠﻪ ﻟﻴﺲ ﻣﻘﺼﻮرا ﺑﺎﻟﻄﺒﻊ ﻋﻠﻰ اﻟﺘﻮﻗﻌﺎت
اﻟﻔﻄﺮﻳﺔ ــ ﻛﺤﺎﻟﺔ اﻹﻧﺴﺎن اﻟﺒﺪاﺋﻲ ــ ﻓﺜﻤﺔ أﻳﻀﺎ ﻋﻠﻤﻪ اﻟﺬي ﺟﻌﻠﻪ ﻋـﺎ@ـﺎ أي اﻟﻨﻈﺮﻳﺎت
اﻟﺘﻲ درﺳﻬﺎ وﻳﻘﺒﻠﻬﺎ ﻛﺨﻠﻔﻴﺔ ﻋﻠﻤـﻴـﺔ2 واﻻﻓـﺘـﺮاض اﻟـﺬي ﻳـﺘـﺼـﻮره ﳊﻞ ا@ﺸﻜﻠﺔ... ﺛﻢ ﻳﻬﺒﻂ ﻣﻦ
ﻛﻞ ﻫﺬا إﻟـﻰ وﻗـﺎﺋـﻊ اﻟـﺘـﺠـﺮﻳـﺐ2 أﻣـﺎ اﻟـﺘـﺼـﻮر اﻻﺳﺘﻘﺮاﺋﻲ ﺑﺄن ﻫﺬه اﻟﻮﻗﺎﺋﻊ ﻫﻲ ﻧﻘﻄﺔ
اﻟﺒﺪء اﻟﺘﻲ ﻧﺼﻌﺪ ﻣﻨﻬﺎ إﻟﻰ اﻟﻔﺮض2 ﻓﻘﺪ اﺗﻀﺢ أن ﻫﺬا ﻣﺴﺘﺤﻴﻞ ﺳﻴﻜﻮﻟﻮﺟﻴﺎ وﻣﻨﻄﻘﻴﺎ وﻣﻴﺜﻮدوﻟﻮﺟﻴﺎ
)ﻣﻨﻬﺠﻴـﺎ( ﻋﻠﻰ اﻟﺴﻮاء. (344)
ﻓﺄkﺎط اﻟﺴﻠﻮك أﻳﺎ ﻛﺎﻧﺖ2 ﺳﻠﻮك اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻓﻲ ﻣﻌﻠﻤـﻪ2 أو ﺳـﻠـﻮك اﻟـﻜـﺎﺋـﻦ
اﳊﻲ ﻓﻲ ﺻﺮاﻋﻪ ﻣﻊ اﻟﺒﻴﺌﺔ ﻣﻦ أﺟﻞ اﻟﺒﻘﺎء2 أو ﻣﺎ ﺑ
ﻫﺬا وذاك2 أي ﺳﻠﻮك ﻟﻴﺲ إﻻ ﻣﺤﺎوﻟﺔ ﳊﻞ ﻣﺸﻜﻠﺔ ﻣﻌﻴﻨﺔ. وا@ﻌﺮﻓﺔ ﺑﺪورﻫﺎ ﻟﻴﺴﺖ إﻻ ﻧﺸﺎﻃﺎ ﳊﻞ ﻣﺸﺎﻛﻞ ﻣﻌﺮﻓﻴﺔ. (346)
اﳋﻄﺄ داﺧﻞ ﻓﻲ ﺻﻤﻴﻢ ﻛﻞ ﻣﺤﺎوﻟﺔ
وﻳﺴﺘﺤﻴﻞ ﲡﻨﺒﻪ، وﻫﻮ ذاﺗﻪ ﻃﺮﻳﻖ اﻟﺘﻘﺪم المستمرّ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ اﺳﺘﺒﻌﺎده.
وإذا ﺳﺌﻞ ﺑﻮﺑﺮ ﻋﻦ ﻣﺴﺎر ا@ﻨﻬﺞ اﻟﻌﻠـﻤـﻲ2 أﺻـﺒـﺤـﺖ
اﻹﺟـﺎﺑـﺔ ﺳـﻬـﻠـﺔ ﻓـﻲ ﺻﻮرة اﳋﻄﻮات أو ﺑﺎﻷﺣﺮى
ا@ﺮاﺣﻞ اﻟﺘﺎﻟﻴﺔ: (: ﻳﺒﺪأ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﺑﺤﻮﺛﻪ ﻣﻦ ﻣﺸﻜﻠﺔ2 إﻣﺎ ﻣﺸﻜﻠﺔ ﻋﻤﻠﻴـﺔ ﲡـﺮﻳـﺒـﻴـﺔ2 وإﻣـﺎ١)م ﻣﺸﻜﻠﺔ
ﻧﻈﺮﻳﺔ2 أي ﻓﺮض وﻗﻊ ﻓﻲ ﺻﻌﻮﺑﺎت. اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻳﺠﺪ ﻓـﻲ اﻟـﻌـﻠـﻢ داﺋـﻤـﺎ ﻣﻮاﻗﻒ ﻣﻌﻴﻨﺔ
@ﺸﺎﻛﻞ2 ﻓﻴﺨﺘﺎر ﻣﻨﻬﺎ ا@ﺸﻜﻠﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺄﻣﻞ ﻓﻲ اﺳﺘﻄﺎﻋﺘﻪ ﺣﻠﻬﺎ. اﻟﺒﺪء إذن ﻟﻴﺲ ﺑﺎ@ﻼﺣﻈﺔ ﺑﻞ ﺑﺎ@ﺸﻜﻠﺔ.
وﻫﺬه ا@ﺸﻜﻠﺔ ﺑﺪورﻫﺎ ﻟﻴﺴﺖ ﻧﺘﻴﺠﺔ ﻟﻠﻤﻼﺣﻈﺔ أو ﺣﺘﻰ ﻟﻠﺘﺠﺮﻳﺐ2 ﺑﻞ ﻫﻲ ﻣﺄﺧﻮذة ﻣﻦ اﻟﺒﻨﺎء ا@ﻌﺮﻓﻲ
اﻟﺴﺎﺑﻖ. (347)
وأن اﻟﻌﺎﻟ ــ وﻻ أي ﻣﻨﻬﺞ آﺧﺮ ــ ﻳﺘﻤﻜﻦ ﻣﻦ
ﺗﺒﺮﻳﺮ ﺻﺪق اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ. وﻛﻴﻒ ﻧﺒﺤﺚ ﻋﻦ ﺗﺒﺮﻳﺮ اﻟﺼﺪق وﻧﺤﻦ ﻋﺎ@ﻮن أن اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ ﻗﺪ ﲡﺘﺎز ﺟﻤﻴﻊ اﺧﺘﺒﺎرات اﻟﻨﻘﺪ واﻟﺘﻜﺬﻳﺐ2 ﻓﻘﻂ ﻷن اﻟﻌﻠﻢ ﻟﻢ ﻳﺘﻮﺻﻞ ﺑﻌـﺪ إﻟـﻰ
اﻻﺧـﺘـﺒـﺎر اﳊـﺎﺳـﻢ ﻟـﻬـﺎ2 أي اﻟﻘﺎﻧﻮن
ا@ﻔﻨﺪ.
ﻓﻲ ﺿﻮء ﻣﺎ ﺳﺒﻖ2 Iﻜﻦ أن ﺗﺮاﻋﻰ اﻟﺘﻘﺎﻟﻴﺪ ا@ﻴﺜﻮدوﻟﻮﺟﻴﺔ2 ﻓﻨﺴﺘﺨﻠـﺺ ﻣﻦ ﻧﻈﺮﻳﺔ ﺑﻮﺑﺮ ا@ﻨﻬﺠﻴﺔ2
اﳋﻄﻮات اﻵﺗﻴﺔ ﻟﻠﻤﻨﻬﺞ اﻟﻌﻠﻤﻲ: ١ ــ ا@ﺸﻜﻠﺔ )وﻫﻲ ﻋﺎدة ﺗﻔﻨﻴﺪ ﻟﻨﻈﺮﻳﺔ ﻣﻮﺟﻮدة(.
٢ ــ اﳊﻞ ا@ﻘﺘﺮح )أي ﻧﻈﺮﻳﺔ ﺟﺪﻳﺪة(.
٣ ــ اﺳﺘﻨﺒﺎط اﻟﻘﻀﺎﻳﺎ اﻟﻘﺎﺑﻠﺔ ﻟﻼﺧﺘﺒﺎر ﻣﻦ اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ اﳉﺪﻳﺪة. ٤ ــ اﻻﺧﺘﺒﺎر2 أي ﻣﺤﺎوﻟﺔ اﻟﺘﻔﻨﻴﺪ ﺑﻮاﺳﻄﺔ ا@ﻼﺣﻈﺔ واﻟﺘﺠﺮﻳﺐ2 ﻣﻦ
ﺿﻤﻦ وﺳﺎﺋﻂ أﺧﺮى. ٥ ــ اﻷﺧﺬ ﺑﺄﻓﻀﻞ اﳊﻠﻮل2 أي اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ
اﻷﻓﻀﻞ ﻣﻦ ﺑ
ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ اﻟﻨﻈﺮﻳﺎت ا@ﻘﺘﺮﺣﺔ
ا@ﺘﻨﺎﻓﺴﺔ. (350)
ا@ﻌﺮﻓﺔ2 ﻓﻲ ﻫﺬا ا@ﺴﺎر اﻟﻄﻮﻳﻞ واﻟـﺒـﺎد ﻣـﻨـﺬ إﻧـﺴـﺎن ﻧـﻴـﺎﻧـﺪرﺗـﺎل ﺣـﺘـﻰ اﻟﻴﻮم2 Fﺮ ^ﺮﺣﻠﺘ
2 ﻫﻤﺎ: ﻣﺮﺣﻠﺔ
اﻟﺘﻔﻜﻴﺮ اﻟﺪوﺟـﻤـﺎﻃـﻴـﻘـﻲ ﻗـﺒـﻞ اﻟـﻌـﻠـﻤـﻲ2 وﻣﺮﺣﻠﺔ اﻟﺘﻔﻜﻴﺮ اﻟﻨﻘﺪي )اﻟﻌﻠﻤﻲ(.
المعرفة في هذا المسار الطويل والبادئ
منذ إنسان نياندرتال حتى اليوم، تمر بمرحلتين، هما: مرحلة التفكير الدوغمائي قبل
العلمي، ومرحلة التفكير النقدي (العلمي).
ﻣﺮﺣﻠﺔ اﻟﺘﻔﻜﻴﺮ اﻟﺪوﺟﻤﺎﻃﻴﻘﻲ أي اﻟﻘﻄﻌﻲ اﳉﺎﻣـﺪ اﳉـﺎزم ﺗـﺘـﻤـﺜـﻞ ﻓـﻲ اﳊﻀﺎرات اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ »اﻟﺴﺎﺑﻘﺔ ﻋﻠﻰ ﺣﻀﺎرة اﻹﻏـﺮﻳـﻖ« ﺑـﺘـﻌـﺒـﻴـﺮ ﺑـﻮﺑـﺮ!!
ﻓـﻬـﻮ ﻳﺠﻬﻞ Fﺎﻣﺎ ا@ﻴﺮاث ا@ﺸﺮﻗﻲ اﻟﻌﻈﻴﻢ
وﻛﻞ ﻣﺎ ﻫﻮ ﺧﺎرج ﺣﺪوده اﻟﻐﺮﺑﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺻﻨﻌﺖ اﻟﻌﻠﻢ اﳊﺪﻳﺚ!! ﻋﻠﻰ اﻟﻌﻤﻮم اﳊﻀﺎرات ﻣﻬﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ
ﺑﺪاﺋﻴﺔ ﻟﻬﺎ ﻣﻮﻗﻒ ﻣﻌﺮﻓﻲ ﻳﺘﻤﺜﻞ ﻓﻲ ﺗﻔﺴﻴﺮ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﺑﻮاﺳﻄﺔ اﻷﺳﺎﻃﻴﺮ واﳋﺮاﻓﺎت2 واﻟﺘـﻤـﺴـﻚ ﺑﻬﺎ ﻳﻜﻮن ﻗﻄﻌﻴﺎ ﺻﺎرﻣﺎ. ﺣﻴﺚ ﻳﻌﺘﺒﺮ اﻟﺸﻚ أو اﻟﻨﻘﺪ
ﺟﺮIﺔ. ﺑﻌﺒـﺎرة أﺧﺮى ﻻ (. و^ﺎ٢Fﺎرس اﳋﻄﻮة )أأ( ﻻ ﺗﺴﺘﺒﻌﺪ
اﳋﻄﺄ وﺑﺎﻟﺘﺎﻟﻲ ﻻ ﺗﺨﺮج ﺑﺠﺪﻳﺪ2 )م أﻧﻪ ﻻ ﺗﻐﻴﻴﺮ ﻟﻼﻋﺘﻘﺎد اﳋﺎﻃﺊ2 ﻓﺈن اﻟﻤﺨﻄﺊ ﻳﻬﻠﻚ ﺑﻬﻼك ﻋﻘﻴﺪﺗﻪ اﳋﺎﻃﺌﺔ. ﻓﻜﺎن اﻟﺘﻘﺪم ــ ﻛﻤﺎ ﻳﻘﻮل ﺑﻮﺑﺮ ــ ﻣﺄﺳﺎوﻳﺎ ﺧﻄﻴﺮا إن أﻣﻜﻦ أﺻﻼ
وﻫﻨﺎ ﻧﺘﻮﻗﻒ ﻫﻨﻴﻬﺔ ﻟﻨﻘﻮل: ﻟﻮ ﻛﺎن ﺑﻮﺑﺮ ﻗﺪ اﻃﻠﻊ ﻣﺜﻼ ﻋﻠﻰ ﺷﻜﻮك ﻗﺪﻣﺎء ا@ﺼـﺮﻳـ
ﻓـﻲ اﻵﻟﻬﺔ وﻧﻘﺪﻫﻢ ﻟﻠﺪﻳﺎﻧﺎت واﻷﻓﻜﺎر ا@ﻄﺮوﺣﺔ2 وﻋﻠﻰ ﺗﻘﺪﻣﻬﻢ اﻟﻌﻠﻤﻲ
@ـﺎ ﻗـﺎل ﻫﺬا و@ﺎ ﺟﺮؤ ﻋﻠﻰ ﺿﻢ ﻫﺬه اﳊﻀﺎرات إﻟﻰ ا@ﺮﺣﻠﺔ
اﻟـﺒـﺪاﺋـﻴـﺔ2 و@ـﺎ واﺻـﻞ ﻃﺮﻳﻘﻪ ﻟﻴﻌﺘﺒﺮ اﻹﻏﺮﻳﻖ ﻫﻢ اﻟﺬﻳﻦ ﺑﺪأوا ﻣﺮﺣﻠﺔ اﻟﺘـﻔـﻜـﻴـﺮ اﻟـﻌـﻠـﻤـﻲ
اﻟـﻨـﻘـﺪي2 واﻟﻨﻘﺪ ذاﺗﻪ ﻣﻦ اﻛﺘﺸﺎف ا@ﺪرﺳﺔ اﻷﻳﻮﻧﻴﺔ2 أول ﻣﺪرﺳﺔ ﻓﻠـﺴـﻔـﻴـﺔ إﻏـﺮﻳـﻘـﻴـﺔ
ﺣﻴﺚ ﻳﻨﻘﺪ أﻧﻜﺴﻤﻨﺪر أﺳﺘﺎذه ﻃﺎﻟﻴﺲ وﻳﻄﺮح ﻓﺮﺿﺎ أﻓﻀﻞ.
المهم أن اﻟﺘﻔﻜﻴﺮ اﻟﻌﻠﻤﻲ ﻫﻮ ذاﺗﻪ اﻟﺘﻔـﻜـﻴـﺮ
اﻟـﻨـﻘـﺪي2 ر^ـﺎ ﻳـﺼـﻨـﻊ اﻟـﻌـﻠـﻢ أﺳﺎﻃﻴﺮ2 ﻟﻜﻦ اﻷﺳﺎﻃﻴﺮ ﺗـﻈـﻞ ﺛـﺎﺑـﺘـﺔ ﻋـﻠـﻰ ﺣـﺎﻟـﻬـﺎ داﺋـﻤـﺎ ﺑـﺴـﺒـﺐ
اﻟـﺘـﻔـﻜـﻴـﺮ اﻟﺪوﺟﻤﺎﻃﻴﻘﻲ2 أﻣﺎ اﻻﲡﺎه اﻟﻨﻘﺪي ﻟﻠﻌﻠﻢ ﻓﻴﻐﻴﺮ اﻷﺳﺎﻃﻴﺮ
ﻓﻲ اﲡﺎه اﻟﺘﻘﺪم واﻻﻗﺘﺮاب اﻷﻛﺜﺮ ﻣﻦ
اﻟﺼﺪق2 ﻷن اﻟﻨﻘﺪ ﻳﺤﺬف اﳋﻄﺄ وﻳﻘﻠﻞ دوﻣﺎ ﻧﻄﺎﻗﻪ.
وﻟﻌﻠﻨﺎ ﻻﺣﻈﻨﺎ أن ﻣﻨﻬﺞ ﺗﻄﻮر اﻟﻌﻠﻢ ذاﺗﻪ Iﺎﺛﻞ إﻟﻰ ﺣﺪ ﻛﺒﻴﺮ ﻣـﺎ أﺳـﻤـﺎه دارون ﺑﺎﻻﻧﺘﺨﺎب اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ2 إﻧﻪ اﻻﻧﺘﺨﺎب
اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ ﺑ
اﻟﻔﺮوض. اﻟﻌﻠﻢ ﻳﺘﻜﻮن داﺋﻤﺎ ﻣﻦ ﺗﻠﻚ اﻟﻔﺮوض اﻟﺘﻲ أوﺿﺤﺖ ﻣﻼءﻣﺘﻬﺎ ﻓﻲ
ﺣﻞ ا@ﺸﺎﻛﻞ وﺻﻤﻮدﻫﺎ أﻣﺎم اﻟﻨﻘﺪ2 إﻧﻬﺎ اﻟﻔﺮوض اﻟﺘﻲ ﻧﺎﺿﻠﺖ ﻟﻠﺒﻘﺎء ﺣﺘﻰ اﻟﻮﻗﺖ اﻟﺮاﻫﻦ2 ﻛﻤﺎ
أﻧﻬﺎ اﺳﺘﺒﻌﺪت ﺗﻠﻚ اﻟﻔﺮوض اﻷﺿﻌﻒ ﻣﻨﻬﺎ2 أو اﻟﺘﻲ ﺣﺎول واﺿﻌﻮﻫﺎ أن ﻳﻌﺪﻟﻮﻫﺎ وﻳﻜﻴﻔﻮﻫﺎ2 ﻓﻠﻢ
ﻳﻜﻦ ﺗﻜﻴﻴﻔﺎ ﻣﻄﺎﺑﻘﺎ ﻟﻠﻤﻄﻠﻮب2 وﺣﻜﻤﺖ ﻋﻠﻴﻬﺎ اﻟﻔﺮوض اﻷﻗﻮى ﺑﺎﻟﻔﻨﺎء2 وﺑﻮﺑﺮ ﻓﻲ ﻫﺬا ﺗﻄﻮري
داروﻧﻲ وﻟﻴﺲ ﻻﻣﺎرﻛﻴﺎ.
(352)
ﻳـﻘـﻮل ﺑﻮﺑﺮ: »إذا ﺣﺎول أﺣﺪ أن ﻳﻔﻜﺮ ﻓﻲ ﻣﻨﻬﺞ
ﻋﻠﻤﻲ ﻳﻘـﻮده إﻟـﻰ اﻟـﻨـﺠـﺎح ﻓـﻼﺑـﺪ أن ﻳﺼﺎب ﺑﺨﻴﺒﺔ أﻣﻞ2 ﻟﻴﺲ ﻫﻨﺎك ﻃﺮﻳﻖ ﻣﻠﻜﻲ ﻟﻠﻨﺠﺎح.
وأﻳﻀﺎ إذا ﺣﺎول أﺣﺪ أن ﻳﻔﻜﺮ ﻓﻲ ﻣﻨﻬﺞ ﻋﻠﻤﻲ ﻛﻄﺮﻳﻖ ﻟﺘﺒﺮﻳﺮ اﻟﻨﻈﺮﻳﺎت اﻟﻌـﻠـﻤـﻴـﺔ ﻓـﺴـﻴـﺼـﺎب
أﻳـﻀـﺎ .(١٦)ﺑﺨﻴﺒﺔ أﻣﻞ2 اﻟﻨﻈﺮﻳﺎت اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ ﻻ Iﻜﻦ أن ﺗﺒﺮر2 إﻧﻬﺎ ﻓﻘﻂ ﺗﻨﻘﺪ وﺗﺨﺘﺒﺮ« (354)
ﻟﻘﺪ
اﺗﻀﺢ اﻵن ﻛﻴﻒ أﻃﺎح ﺑﻮﺑﺮ ^ﻨﻄﻖ اﻟﺘﺒﺮﻳﺮ وأﺣﻞ ﻣﺤﻠﻪ ﻣﻨﻄﻖ اﻟﺘﻘﺪم. وﻓﻲ ﻫﺬا ﻟﻴﺲ ا@ﻨﻬﺞ اﻟﻌﻠﻤﻲ
ﻃﺮﻳﻘﺎ ﻟﻠﻜﺸﻒ2 ﺑﻞ ﻫﻮ ﻣﻨﻄﻖ ﻟﻠﻌﻠﻢ2 وﻻ ﻳﺮﺳﻢ ﻃﺮﻳﻖ اﻟﻮﺻﻮل إﻟﻰ اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ ــ ﻛﻤﺎ ﺣـﺎول اﻻﺳـﺘـﻘـﺮاء
أن ﻳـﻔـﻌـﻞ ـــ ﺑـﻞ ﻳـﺮﺳـﻢ أﺳﻠﻮب اﻟﺘﻌﺎﻣﻞ ﻣﻊ اﻟﻔﺮض وﻛﻴﻔﻴﺔ اﺧﺘﺒﺎره واﻟﺘﺤـﻜـﻢ ﻓـﻲ ﻧـﺘـﺎﺋـﺞ
اﻻﺧـﺘـﺒـﺎر.
ﻧﻈﺮﻳﺔ ا@ﻨﻬﺞ ﺗﺒﺪأ ﻣﻦ اﻟﻔﺮض2 أﻣﺎ ﻣﺎ ﻗﺒﻠﻪ
وأﻓﻀﻰ إﻟﻴﻪ ﻓﻠﻴﺲ ﻣﻦ اﺧﺘﺼﺎص اﻹﺑﺴﺘﻤﻮﻟﻮﺟﻴﺎ وا@ﻴﺜﻮدوﻟﻮﺟﻴﺎ2 ﺑﻞ ﻣﻦ اﺧﺘﺼﺎص ﻋﻠﻢ اﻟﻨﻔﺲ اﻟﺘﺠﺮﻳﺒﻲ
اﻟﺬي ﻳﺪرس ﻇﺎﻫﺮة اﻹﺑﺪاع.
اﻟﻜﺸﻒ اﻟﻌﻠﻤﻲ ﻟﻴﺲ ﻋﻤﻠﻴﺔ آﻟﻴﺔ2 ﺑﻞ ﻋﻤﻠﻴﺔ ﺧﻠﻖ
وإﺑﺪاع2 واﻟﻌﺒﻘﺮﻳﺔ اﳋﻼﻗﺔ ^ﻨﺰﻟﺔ اﻟﻌﻨﺼﺮ اﻟﻔﺎﻋﻞ2 ﻓﻼ Iﻜﻦ اﻟﻮﺻﻮل إﻟﻰ اﻟﻔﺮض ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ ﺧﻄﻮات ﻣﻨﻬﺠﻴﺔ ﻣﺤﺪدة2 ﺑﻞ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ اﻹ@ﺎم
ﺑﺎﳊﺼﻴﻠﺔ ا@ﻌﺮﻓﻴﺔ اﻟﺴﺎﺑﻘﺔ2 ﺛـﻢ ﻗـﺪح ذﻫﻦ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻟﻴﺘﻮﺻﻞ إﻟﻰ ﺣﻞ ﻟﻠﻤﺸﻜﻠﺔ
ا@ﻄﺮوﺣﺔ ﻟﻠﺒﺤﺚ2 وﻫﺬا اﳊﻞ ﺣﺪس ﻻ ﺗﻨﺒﺘﻪ إﻻ ا@ﻮﻫﺒﺔ اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ
واﻟﻌﺒﻘﺮﻳﺔ اﳋﻼﻗﺔ ﻓﻲ اﻧﺸﻐﺎﻟﻬﺎ اﻟﻌﻤﻴﻖ ﺑﺎ@ﺸﻜﻠﺔ.
ﻫﻜﺬا ﳒﺪ ﻛﻞ ﻛﺸﻒ ﻋﻠﻤﻲ ﻳﺤﻮي ﻋﻨﺼﺮا إﺑﺪاﻋﻴﺎ
ﺣﺪﺳﻴﺎ ﻗﺎﺋﻤﺎ ﻋﻠﻰ اﳊﺐ اﻟﻌﻘﻼﻧﻲ @ﻮﺿﻮع اﻟﺒﺤﺚ. ﻟﻴﺲ
ﻫﺬا رأﻳﺎ ﻟﺒﻮﺑﺮ أو ﻏﻴﺮه ﺑﻞ ﻫﻮ اﻷﻣﺮ اﻟﻮاﻗﻊ.
جميع
الأعمال الفنية صنعها الإنسان الفنان، وكذلك عالَم العِلم من خلق الإنسان. وجميع
النظريات العلمية مخلوقات من صنع الإنسان العالِم، يخلقها ثم يحاول فرضها على
العالَم لتفسيره. فهي "شباك يحاول بها اصطياد الواقع التجريبي، والجهود
مستمرة دائماً لجعل ثقوبها أضيق وأضيق". (355)
ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ا@ﻨﺰﻟﺔ اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ ﻟﻠﻨﻈﺮﻳﺔ اﻟﻨﺴﺒﻴﺔ
ﻗﺪ ﺛﺒﺘﺖ ﺑﻌﺪ2 ﻛﺎن اﻹﻋﺠﺎب ﺷﺎﺋﻌﺎ ﺑﻌﻠﻤﻴﺔ اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ ا@ﺎرﻛﺴﻴﺔ2 وأﻳﻀﺎ اﻟﺘﺤﻠﻴﻞ اﻟﻨﻔﺴﻲ ﻟﻔﺮوﻳﺪ
وﻋﻠﻢ اﻟﻨﻔﺲ اﻟﻔﺮدي ﻵدﻟﺮ وﻫﻤﺎ kﺴﺎوﻳﺎن. ﺑﺪت ﻫﺬه اﻟﻨﻈﺮﻳﺎت
وﻛﺄﻧﻬﺎ ﻗﺎدرة ﻋﻠﻰ ﺗﻔﺴﻴﺮ ﻛﻞ ﺷﻲء ﻳﺤﺪث ﻓﻲ ﻣﺠﺎﻻﺗﻬﺎ2 وﻻﺑﺪ أن ﲡﺪ ﺣﺎﻻت ووﻗﺎﺋﻊ ﺗﺆﻛﺪﻫﺎ ﻓﻲ ﻛﻞ ﻣﻜﺎن. واﻣﺘﻸت اﻟﺪﻧﻴﺎ ﺑﺈﺛﺒﺎﺗﺎت ﻟﻬﺎ ﺣﺘﻰ
ﺑﺪا أن ا@ﻨﻜﺮﻳﻦ ﻗﻮم ﻻ ﻳﺮﻳﺪون أن ﻳﺮوا ﺻﺪﻗﻬﺎ اﳉﻠﻲ2 إﻣﺎ ﻷﻧﻪ ﺿﺪ ﻣﺼﺎﳊﻬﻢ اﻟﻄﺒﻘﻴﺔ أو ﺑﺴﺒﺐ
ﻋﻘﺪ ﻣﻜﺒﻮﺗﺔ ﻟﺪﻳﻬﻢ. وﻓﻲ ذﻟﻚ اﻟﻮﻗﺖ ــ ﺧﺮﻳﻒ ٩١٩١ ــ ﻛﺎن ﺑﻮﺑﺮ ﺿﻤﻦ ﻃﻠﺒﺔ ﻳﺪرﺳﻮن ﻧﺘـﺎﺋـﺞ
ﺑـﻌـﺜـﺔ إدﳒـﺘـﻮن اﻟـﺘـﻲ رأﻳـﻨـﺎﻫـﺎ اﻣﺘﺤﺎﻧﺎ
ﻋﺴﻴﺮا ﻟﻠﻨﻈﺮﻳﺔ اﻟﻨﺴﺒﻴﺔ2 وﻗﺎﻣﺖ ﺑﺘﺼﻮﻳﺮ اﻟﻨﺠﻮم إﺑﺎن ﻛﺴﻮف اﻟﺸﻤﺲ وﺗﻮﻗﻊ اﳉﻤﻴﻊ ﻧﺘﺎﺋﺞ ﻣﺨﺎﻟﻔﺔ ﻟﻠﻨﻈﺮﻳﺔ اﻟﻨﺴﺒﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻛﺎن ﻣﻦ ا@ﻤﻜﻦ أن ﺗﺒﺪو ﻏﻴﺮ ﻣﺘﻮاﻓﻘﺔ
ﻣﻊ ﻧﺘﺎﺋﺞ ﻣﻌﻴﻨﺔ ﻣﺤﺘﻤﻠﺔ ﻟﻠﻤﻼﺣﻈﺔ2 أي أﻧﻬﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﻗﺎﺑﻠﺔ ﻟﻠﺘﻜﺬﻳﺐ. ﻟﻜﻦ اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ اﻟﻨﺴﺒﻴﺔ
اﺟﺘﺎزت ﻫﺬا اﻻﺧﺘﺒﺎر اﻟﻌﺴﻴﺮ2 وﺛﺒﺘﺖ ﻣﻨﺰﻟﺘﻬﺎ اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ2 واﺟﺘﺎزت اﺧﺘﺒﺎرات ﲡﺮﻳﺒﻴﺔ ﻣﺘﻮاﻟﻴﺔ. (357)
ﻓﻜﻞ ﺗﻜﺬﻳﺐ ﻇﻔﺮ ﻋﻠﻤﻲ ﺟﺪﻳﺪ وﻟﻴﺲ ﺧﺴﺎرة ﻛﻤﺎ ﻗﺪ
ﻳﺒﺪو ﻟﻠﻨﻈﺮة اﻟﻌﺎﺑﺮة. (359)
اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ اﻷﻛﺜﺮ ﻋﻤﻮﻣﻴﺔ ذات ﻣﺤﺘﻮى ﻣﻌﺮﻓﻲ ﻳﻔﻮق
ﻣﺤﺘـﻮى اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ أو اﻟﻨﻈﺮﻳﺎت اﻷﻗﻞ ﻣﻨﻬﺎ ﻋﻤﻮﻣﻴﺔ. إذ إﻧﻬﺎ Fﻨﻊ ﻣﺎ Fﻨﻌﻪ ﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ إﻟﻰ ﻣﻨﻊ ﻣﺎ ﺟﻌﻠﻬﺎ
أﻋﻢ. ﻟﺬﻟﻚ ﻓﻬﻲ أﻛﺜﺮ ﻗﺎﺑﻠﻴﺔ ﻟﻠﺘﻜﺬﻳﺐ. وﻫﻲ أﻳﻀـﺎ أﻏـﺰر ﻓﻲ ﻣﺤﺘﻮاﻫﺎ ا@ﻌﺮﻓﻲ2 ﻷﻧﻬﺎ ﺗﻀﻢ ﻣﺤﺘﻮى
اﻟﻜﺜﻴﺮ ﻣﻦ اﻟﻌﺒﺎرات اﻟﺘﻲ ﺗﻌﻤﻤﻬﺎ. إن اﻟﻌﺒﺎرة اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ2 ﻫﻲ اﻟﻌﺒﺎرة ذات اﶈﺘﻮى ا@ﻌﺮﻓﻲ اﻹﺧﺒﺎري ﻋﻦ اﻟﻌـﺎﻟـﻢ
اﻟﺘﺠﺮﻳﺒﻲ2 وﻫﻲ ﻟﺬﻟﻚ اﻟﻌﺒﺎرة اﻟﻘﺎﺑﻠﺔ ﻟﻠﺘﻜﺬﻳﺐ. واﻟﻔﻴﺰﻳﺎء اﻷﻛﺜﺮ ﻗﺎﺑﻠﻴﺔ ﻟﻠﺘﻜﺬﻳﺐ ﻷﻧﻬﺎ
اﻷﻛﺜﺮ ﻋﻤﻮﻣﻴﺔ. (363)
وﻣﻔﻬﻮم )رﺟﺤﺎن اﻟﺼﺪق( ﻣﻔﻬﻮم ﻧﺴﺒﻲ2 ﻳﺘﻌﻠﻖ ﺑﺎ@ﻨﺎﻗﺸﺔ
اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ ا@ﻄﺮوﺣﺔ ﻓﻲ اﻟﻮﻗﺖ ا@ﻌ
2 وا@ﻨﺎﻓﺴﺔ ﺑ
اﻟﻔﺮوض وﺑﻌﻀﻬﺎ2 ﻟﺬﻟﻚ ﻓﻬﻮ أﺳـﺎﺳـﺎ ﻟـﻠـﺤـﻜـﻢ ﺑـﺘـﻔـﻮق ﻓﺮض ﻋﻠﻰ آﺧﺮ2 أو ﻧﻈﺮﻳﺔ ﻋﻠﻰ أﺧﺮى2 ﺣ
ﺗﺘﻤﻴﺰ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺑﺮﺟﺤﺎن ﺻﺪﻗﻬﺎ. ( ﻟﻪ ﺷﺮوط ﻣﻨﻄﻘﻴﺔ2٢( ﻋﻠﻰ اﻟﻨﻈـﺮﻳـﺔ
)ن١وﻃﺒﻌﺎ رﺟﺤﺎن ﺻﺪق اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ )ن ( اﻟﺘﻲ ﺗﻔﻮﻗﺖ ﻋﻠﻴﻬﺎ2 وإﻻ @ـﺎ أﻣـﻜـﻨـﺖ٢( ﻣﺘﻀﻤﻨﺔ ﻓـﻲ
)ن١وﻫﻲ: أن ﺗﻜـﻮن )ن ( ﺛﻢ ﺗﺘﺠﺎوزﻫﺎ ﻓﺘﻔﺴﺮ ﺟﻤﻴﻊ١( ﻛﻞ ﻣﺎ ﻗﺎﻟﺘﻪ )ن٢ا@ﻘﺎرﻧﺔ ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ.
وأن ﺗﻘﻮل )ن ( ﺛﻢ ﺗﺴﺘﻄﻴﻊ أﻳﻀﺎ أن ﺗﻔﺴﺮ ﺑﻌﺾ
اﻟﻮﻗﺎﺋﻊ اﻟﺘـﻲ١اﻟﻮﻗﺎﺋﻊ اﻟﺘﻲ ﺗﻔﺴﺮﻫﺎ )ن ( ﺗﻜﺬب٢( ﻓﻲ ﺗﻔﺴﻴﺮﻫﺎ. وﺑﺎﻟﺘﺎﻟﻲ ﺳﺘﻜﻮن أي ﻣﻌـﻠـﻮﻣـﺔ
ﺗـﻜـﺬب )ن١ﺗﻔﺸـﻞ )ن ( ﻻ ﻏﺒﺎر ﻋﻠﻴﻪ. وأﺧـﻴـﺮا ﻳـﺠـﺐ أن٢أﻳﻀﺎ )ن ١(2 ﻓﻴﻜﻮن اﳊﻜﻢ ﺑﺘـﻔـﻀـﻴـﻞ )ن ( أﻛﺜﺮ ﻣﻦ اﻟﺘﻲ Iﻜﻦ٢ﺗﻜﻮن اﻟﻌﺒﺎرات اﻟﺼﺎدﻗﺔ اﻟﺘﻲ Iﻜﻦ اﺷﺘﻘﺎﻗﻬﺎ ﻣﻦ )ن ( أﺟﺮأ٢( واﻟﻌﺒﺎرات اﻟﻜﺎذﺑﺔ أﻗﻞ. وﻛﻞ ذﻟـﻚ ﻳـﻌـﻨـﻲ أن )ن١اﺷﺘﻘﺎﻗﻬـﺎ
ﻣـﻦ )ن وأﻏﺰر ﻓﻲ اﶈﺘﻮى ا@ﻌﺮﻓﻲ2 أي أﻛﺜﺮ ﻗﺎﺑﻠﻴﺔ ﻟﻠﺘﻜﺬﻳﺐ.
ﻫﻜﺬا ﻳـﺘـﻀـﺢ ﻟـﻨـﺎ أن اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ اﻷﻛﺜﺮ ﻗﺎﺑﻠﻴﺔ ﻟﻠﺘﻜﺬﻳﺐ2 ﻫﻲ اﻷﻗﻞ ﻛﺬﺑﺎ.
(364) [فقرة فيها الكثير من الخلط
والأخطاء بين ن1 ون2]
[إن معيار القابلية للتكذيب] كفء تماماً في أداء
مهمته وهي تمييز المعرفة العلمية عن الميتافيزيقا واللاهوت وسواهما من مباحث ذات
معنى وأهمية، لكنها ليست علماً وليس مطلوب منها أن تخبرنا عن وقائع العلم
التجريبي. المهم فعلاً أن المعيار ﻗﺎدر ﻋﻠﻰ اﺳﺘﺒﻌﺎد اﻟﻌﻠﻮم اﻟﺰاﺋﻔﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺪﻋﻲ اﻹﺧـﺒـﺎر
ﻋﻦ اﻟﻮاﻗﻊ وﺗﺘﺬرع بما ﻳﺒﺪو ﻣﻦ ﺗﺄﻛﻴﺪ وﲢﻘﻴﻖ ﻟﻬﺎ ﻓﺘﺨﺘﻠﻂ ﺑﺎﻟﻌﻠﻢ، وﻫﺬا ﻫﻮ اﳋﻄﺮ المعرفي اﻟﺪاﻫﻢ.
ﻣﺜﻼ
ﻋﻠﻢ اﻟﺘﻨﺠﻴﻢ اﻟﻘﺎﺋﻢ ﻋﻠﻰ اﻓﺘﺮاض زاﺋﻒ وﻫـﻮ أن ﺣﺮﻛﺔ اﻟﻜﻮاﻛﺐ ﻟﻬﺎ ﺗﺄﺛﻴﺮ ﻓﻲ اﻷﺣﺪاث اﻷرﺿﻴﺔ،
ﻳﺴﻬﻞ اﻟﻌﺜﻮر ﻋﻠﻰ اﻟﻮﻗﺎﺋﻊالمؤيدة ﻟﻠﺘﺤﻘﻖ ﻣﻨﻪ. ﻓﻠﻮ ﻗﻴﻞ إن ﻣﻮاﻟﻴﺪ ﺑﺮج الميزان ﺳﻌﺪاء،
ﻓﺈﻧﻪ ﻣﻦ اﻟﺴﻬﻞ اﻹﺗﻴﺎن ﺑﺄﻟﻒ ﺷﺨﺺ ﻣﻦ ﻣﻮاﻟﻴﺪ ﻫﺬا اﻟﺒﺮج اﻟﺴﻌﺪاء. وطالما انخدع
المنجمون وخدعوا بما اﻋﺘﻘﺪوه ﻣﻦ وﻗﺎﺋﻊ ﻣﺆﻳﺪة ﻟﻨﻈﺮﻳﺎﺗﻬﻢ، وﻳﺘﻐﺎﺿﻮن ﻋـﻦ اﻟـﻮﻗـﺎﺋـﻊ
المفندة لها، ودع ﻋﻨﻚ اﻻﺧﺘﺒﺎر وﻣﺤﺎوﻟﺔ اﻟﺘﻔﻨﻴﺪ، إن اﻟﺒﻌﺪ المنهجي ﻟﻠﺘﻜﺬﻳﺐ ﻏﻴﺮ ﻗﺎﺋﻢ ﻓﻲ أﻣﺜﺎل ﻫﺬه اﻟﻌﻠﻮم اﻟﺰاﺋﻔﺔ.
وﻣﻦ اﻟﻮاﺿﺢ اﻵن أن المعيار وﻣﺤﺎوﻻت اﻻﺧﺘﺒﺎر اﻟﺘﺠﺮﻳﺒﻲ واﻟﺘﻜﺬﻳﺐ ﻛﻔﻴﻠﺔ ﺑﺎﺳﺘﺒﻌﺎدﻫﺎ.
وﻟﻴﺲ
اﻟﺘﺤﻠﻴﻞ اﻟﻨﻔﺴﻲ ﻟﻔﺮوﻳﺪ وﻋﻠﻢ اﻟﻨﻔﺲ اﻟﻔﺮدي ﻵدﻟﺮ ﻋﻠﻮﻣﺎً، ﻷﻧﻬﻤﺎ ﺑﺒﺴﺎﻃﺔ ﻧﻈﺮﻳﺎت ﻏﻴﺮ ﻗﺎﺑﻠﺔ
ﻟﻠﺘﻜﺬﻳﺐ إﻃﻼﻗـﺎ وﻟـﻴـﺲ ﻟـﻬـﺎ أي ﻓـﺌـﺔ ﻣـﻜـﺬﺑـﺎت ﻣﺤﺘﻤﻠﺔ. ﻓﻠﻴﺲ ﺛﻤﺔ أي ﺳﻠﻮك إﻧﺴﺎﻧﻲ يمكن
أن ﻳﻌﺎرﺿﻬﻤﺎ، وليس ثمة أي سلوك إلا ويمكن تفسيره وفقاً لمصطلحات هاتين النظريتين.
والمثال الذي يضربه بوبر على هذا هو رجل يدفع بطفل إلى الماء بقصد إغراقه، ثم رجلٌ
آخر يضحي بحياته محاولاً إنقاذ الطفل، كل من هذين السلوكين المتناقضين يمكن تفسيره
بالسهولة نفسها ونفس المصطلحات في نظرية فرويد، وأيضاً بالمصطلحات نفسها في نظرية
آدلر. فتبعاً لفرويد يمكن أن نفسر موقف الرجل الأول بأنه يعاني من الدوافع
المكبوتة، مثلاً إحدى مركبات عقدته الأوديبية، أما الرجل الثاني فنفسر سلوكه
بالدوافع المكبوتة نفسها ولكنها في حالة إعلاء وتسام. وطبقاً لنظرية آدلر نجد
الرجل الأول يعاني من شعور بالنقص سبب له الرغبة في إثبات جرأته على ارتكاب جريمة
ما، والشعور بالنقص نفسه سبب للرجل الثاني الرغبة فإثبات جرأته على إنقاذ الطفل!
على هذا النحو نجد النظريات التحليلية دائماً يمكن تطبيقها، دائماً يمكن تأكيدها،
تفسر كل شيء وتشرح كل شيء، ولو جاء رجل ليؤكد أنه لم يشعر إطلاقاً بعقدة أوديب ولم
يصدر عنه أي سلوك ينم عنها ـ وهذا ما لا بد أن يؤكده الأسوياء ـ فلن يعتبر
التحليليون هذا تفنيداً لنظرياتهم، بل على الفور سيتملصون من هذا التكذيب بأن عقدة
أوديب مكبوتة في اللاشعور، والنظرية بهذا غير قابلة للاختبار، وبالتالي غير قابلة
للتكذيب، ويمكن على هذا النحو إدخال كل الأحداث الممكنة وكل الوقائع الممكنة وكل
النماذج السيكولوجية الممكنة في نطاق هذه النظريات، بل وكتأكيدات لها، وهذه القدرة
الظاهرية على تفسير كل شيء، وأي شيء، بدت في نظر العوام معلماً على قوة النظرية
الفائقة، لكنها من وجهة نظر معيار القابلية للتكذيب تبدو سبب ضعفها الحقيقي نفسه
وخوائها، فالنظرية تشرح كل شيء وتفسر كل شيء، لذلك تعجز عن التنبؤ بأي شيء ولا
يترتب عليها ـ أو على الغالبية العظمى من أجزائها ـ نتائج تجريبية.
لا
ينكر بوبر أن فرويد وآدلر رأيا أشياء معينة بطريقة صحيحة، وأن بعضاً مما قالاه له
أهميته ويمكن تطويره ليلعب دوره في علم نفس قابل للاختبار والتكذيب، لكن
النظريتين، بالصورة المطروحة، من قبلهما تفتقران إلى السمة العلمية ولا تخبرانا
بشيء. (366)
أما
النظرية الماركسية فوضعها مختلف، فهي كما طرحها ماركس نظرية علمية، مادامت ترتبت
عليها تنبؤات معيّنة تجعلها قابلة للاختبار التجريبي والتكذيب، غير أن وقائع
التاريخ أتت لتنقض كل تنبؤات ماركس وتكذبها. لكن المأخوذين بها رفضوا الاعتراف
بهذا التكذيب ـ كما يقضي منطق العلم ـ وأعادوا تأويل كلٍ من النظرية والوقائع
المكذبة ليجعلوهما متوافقتين، ويعود كل شيء يؤكد النظرية ويحققها، فأصبحت
الماركسية على أيدي أنصارها غير قابلة للتكذيب، غير علمية، بل باتت ـ بتعبير بوبر
ـ عقيدة دوغماطيقية مقوّاة. وإذا شاء أنصارها يمكنهم الانصراف عن العلم والسمة
العلمية، فلا يستطيع معيار التكذيب التطاول عليهم، ولكنهم مع كل هذا يصممون على
الإبقاء عليها بوصفها نظرية علمية، بل والتفسير العلمي الوحيد للتاريخ. في أواسط
القرن العشرين ناضل بوبر كثيراً من أجل هذه القضية، ثم أتت نهيات القرن بتعزيزٍ
لموقفه يعفيه من مواصلة النضال.
وظل
بوبر حتى آخر لحظة يؤكد على القضية الأوسع وهي أن علم التاريخ ذو طبيعة مختلفة
ويتعامل مع وقائع منفردة ويستحيل أن نماثله بالعلوم الطبيعية لكي نصل فيه إلى
نظريات تنبؤية، فلا يمكن التنبؤ بمسار التاريخ أبداً.
لكن
العلوم الاجتماعية والإنسانية أمرها مختلف عن التاريخ، فيمكن دراسة ظواهرها دراسة
علمية قابلة للاختبار التجريبي والتكذيب، أي قابلة للتقدم، والطريق لوحيد المفتوح
أمامها هو أن تنسى تمماً النزعات الكلية والنبؤات التاريخية الواسعة النطاق، وتحيط
بالمشاكل المطروحة فعلاً، كل مشكلة على حدة، لتدرس النتائج غير المقصودة وغير
المرغوبة، فتضع تنبؤات مشروطة قابلة للاختبار التجريبي بدلاً من النبؤات التاريخية
الحتمية الواسعة النطاق غير القابلة لهذا. وقد أوضح بوبر أن الطبيعة التكذيبية
للنظرية العلمية تعني وقوع حوادث ممكنة، وهذا يعني أن القانون العلمي يمكن وضعه في
صورة نافية. والعلوم الاجتماعية بتلك الوظيفة ستستطيع التوصل إلى قوانين أو فروض
علمية نافية، ويعطي بوبر أمثلة على هذا: "لا يمكن فرض الرسوم الجمركية على
المنتجات الزراعية ونقلل في الوقت نفسه من تكاليف المعيشة" أو "لا يمكن
تحقيق العمالة الكاملة دون أن يتسبب ذلك في حدوث تضخم".. وهكذا.
وهذا
سعي مشكور من بوبر، لكن لا نستطيع الاكتفاء به، لأن مشكلة العلوم الإنسانية من
أمهات مشاكل فلسفة العلم، والمدهش حقاً أن معيار القابلية للتكذيب يفتح أمامها
آفاقاً مستقبلية لم يفطن إليها بوبر نفسه، وسنحاول أن نستكشفها، وربما نكون في هذا
بوبريين أكثر من بوبر نفسه! (367)
[تمت الإشارة] إلى العلاقة الواهية بين
العلم وتاريخه، والعلاقة التي كانت متوترة بل شبه منقعطعة بين فلسفة العلم وتاريخ
العلم. وعلى مدار الفصول السابقة، نشأت فلسفة العلم وتنامت وهي تولي ظهرها لتارخ
العلم، ولا تعتد كثيراً بدوره في تفهم الظاهرة العلمية، واقتصرت على النظر إلى
النسق العلمي من الداخل، لتتمثل فلسفة العلم في منهجه ومنطقه بغض النظر عن تاريخه.
فكما اتضح، كانت فلسفة العلم معنية بتبرير المعرفة العلمية، كمحصلة جاهزة ومعطاة،
استند التبرير أساساً إلى إحكام العلاقة بين الوقائع التجريبية والقانون العلمي أو
النظرية العلمية. وتصدرت النزعة الاستقرائية الميدان بوصفها أقوى صياغة لهذه
العلاقة القادرة على تبرير المعرفة العلمية وتمييزها. وفي إطار منطق التبرير
اللاتاريخي تنامت فلسفة العلم.
في القرن التاسع عشر علا نجم جون ستوارت
مل، الاستقرائي الكبير، وطغى على جهود وليم هيوول فتوارت فلسفته الثاقبة للعلم
الملتفتة إلى دورِ العقل الإنساني في خلق قصة العلم، والقائمة على الوعي بتاريخ
العلم. وبفضل سيادة النزعة الاستقرائية توارت بالمثل الاتجاهات التي أدركت أهمية
تاريخ العلم بالنسبة لفلسفته. وجاء القرن العشرون ليجد الاستقرائية بمنزلة التعبير
الرسمي عن فلسفة العلم لتغدو غير ذات صلة بتاريخ.
ولا يختلف هذا عما حدث في الردح الأول من
القرن العشرين، حين كانت الوضعية المنطقية والأداتية هما القطبين الكبيرين لفلسفة
العلم. إن الإنسان يتميز بأنه الكائن الوحيد الذي يصنع تاريخاً، والنظرة الإنسانية
التي تنطلق من دور الإنسان هي الأكثر إدراكاً لأهمية البعد التاريخي. هكذا كانت
الأداتية ـ خصوصاً الاصطلاحية ـ على عكس الوضعية المنطقية، تؤكد فعالية العقل
الإنساني إزاء الطبيعة ودوره في خلق قصة العلم، وبالتالي لم تفتقد تماماً الوعي
بتاريخ العلم. لكن مرة أخرى، سادت النزعة اللاتاريخية. وهاهنا بفضل سيادة الوضعية
المنطقية، ولا غروَ فهي امتداد للاستقرائية. (378)
كان
بيير دوهيم، الرائد الفعلي للاصطلاحية والأداتية، أكثر اهتماماً بتاريخ العلم. وله أبحاث مستفيضة فيه، خصوصاً الميكانيكا والفلك والفيزياء.
اعتقد أن المعرفة بتاريخ المفهوم العلمي أو المشكلة العلمية تفضي إلى فهم أعمق،
وأن كل عالم لا بد أن يضطلع بتاريخ مبحثه ليس كهواية، وإنما كجزء جوهري من عمله.
وأهم أعمال دوهيم في تاريخ العلم هي "تطور الميكانيكا ـ 1903" و"أصول
الإستاتيكا ـ 1905"، ثم كتابه "ليوناردو دافنشي ـ 1913" في ثلاثة
أجزاء يحاول أن يركد فيها أن العلم الحديث تطور عادي ونتيجة طبيعية للعلم في عصر
النهضة فلا قطائع ولا انفصالات في تاريخ العلم. (379)
[قراءات في تاريخ العلم]
ﻣﺎ ﻃﺒﻴﻌﺔ اﻟﺘﻘﺪم اﻟﻌﻠﻤﻲ? ﺑﺄي ﻣـﻨـﻮال ﻳـﺴـﻴـﺮ
وﻳﺘﻮاﺗﺮ? وﻛﻴﻒ Iﻜﻦ ﺗﻔﺴﻴﺮه? ﻓﻲ اﻹﺟﺎﺑﺔ ﻋﻦ ﻫﺬا
ﻳﻌﻄﻴﻨﺎ ﺑﻮﻟﻴﻜﺎروف أرﺑﻌﺔ 2 وﻫﻲ:(٤)آراء ﲡﻤﻞ ردود ﻓﻼﺳﻔﺔ اﻟﻌﻠﻢ
)أ( ﺗﺘﻌﺎﻗﺐ اﻷﺣﺪاث ﺑﻐﻴﺮ اﻃﺮاد ﻋﺎم وﺑﺎﻟﺘﺎﻟﻲ ﻻ Iﻜﻦ ﺗﻔﺴﻴـﺮ ﻃـﺒـﻴـﻌـﺔ اﻟﺘﻘﺪم اﻟﻌﻠﻤﻲ2 Iﻜﻦ ﻓﻘﻂ رﺻﺪه ووﺻﻔﻪ2 وﻫﺬا ﺗﺼﻮر ﻧﻔﺮ ﻣﻦ اﻟﻮﺿﻌﻴ
ا@ﻨﻄﻘﻴ
ا@ﺘﻄﺮﻓ
2 وﻫﻮ ﺗﺼﻮر ﺳﻠﺒﻲ
^ﺜﺎﺑﺔ اﻣﺘﻨـﺎع ﻋـﻦ اﻟـﺘـﺼـﻮﻳـﺖ وﻋـﻦ وﺿﻊ ﻓﻠﺴﻔﺔ ﻟﻠﺘﻘﺪم اﻟﻌﻠﻤﻲ. )ب( ﺗﻘﺪم اﻟﻌﻠﻢ ﻳﺘﻢ ﻛﺴﻠﺴـﻠـﺔ
ﻣـﻦ اﻟـﺘـﺤـﻮﻻت أو اﻟـﺜـﻮرات2 اﻟـﺘـﻲ ﲢـﺪث أﺣﻴﺎﻧﺎ ﺑﻐﻴﺮ
راﺑﻄﺔ داﺧﻠﻴﺔ2 وﻋﺒﺮ اﻧﻔﺼﺎﻻت ﺟﺬرﻳـﺔ وﻗـﻄـﺎﺋـﻊ ﻓـﻲ ﺻـﻴـﺮورة اﻟﺘﻘﺪم اﻟﻌﻠﻤﻲ. وﻫﺬه ﻫﻲ
اﻟﻨﻈﺮة اﻟﺜﻮرﻳﺔ اﻷﺣﺪث اﻟﺘﻲ ﺗﻮﺻﻒ ﺑﺄﻧﻬﺎ رادﻳﻜﺎﻟﻴﺔ. )ج( وﻛﻨﻘﻴﺾ ﻟﻠﺮأي اﻟﺴﺎﺑﻖ ﳒـﺪ اﻟـﺮأي »اﻟـﺘـﺮاﻛـﻤـﻲ« اﻟـﺬي ﻳـﺆﻛـﺪ ﻋـﻠـﻰ اﺳﺘﻤﺮارﻳﺔ ا@ﻌﺮﻓﺔ
اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ وأﻧﻬﺎ ﺧﻂ ﺻﺎﻋﺪ ﻣﺘﺼﻞ Iﺜﻞ ﺗﻘـﺪﻣـﻬـﺎ اﺗـﺼـﺎﻻ ﻣﺘﻨﺎﻣﻴﺎ.
وﻫﺬا ﻫﻮ رأي اﻻﺳﺘﻘﺮاﺋﻴ
ﺟﻤﻴﻌﺎ وﻣﺆرﺧﻲ
اﻟﻌﻠـﻢ اﻟـﻜـﻼﺳـﻴـﻜـﻴـ
أﻣﺜﺎل ﺟﻮرج ﺳﺎرﺗﻮن وﻛﺎرل ﺑﻴﺮﺳﻮن2 أﺧﺬ ﺑﻪ أﻳﻀﺎ إرﻧﺴﺖ ﻣﺎخ وﺑﻴﻴﺮ
دوﻫﻴﻢ. وﺟﻤﻠﺔ اﻟﻘﻮل أﻧﻨﺎ إزاء ﻧﻈﺮﺗ
ﻟﻄﺒﻴﻌﺔ اﻟﺘﻘﺪم
اﻟﻌﻠﻤﻲ: اﻷوﻟﻰ ﻫﻲ اﻟﻨﻈﺮة ﻨﻲ2ُاﻟﺘﺮاﻛﻤﻴﺔ اﻻﺗﺼﺎﻟﻴﺔ وﻫﻲ ﺷﺪﻳﺪة اﻻﺗﺴﺎق ﻣﻊ اﻟﻌﻠﻢ اﻟﻜﻼﺳﻴﻜـﻲ
اﻟـﻨـﻴـﻮﺗ واﻟﺜﺎﻧﻴﺔ ﻫﻲ اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ اﻟﺜﻮرﻳﺔ اﻻﻧﻔﺼﺎﻟﻴﺔ ا@ﺘﺴﻘﺔ ﻣﻊ ﺗﻘﺪم اﻟﻌﻠﻢ ﻓﻲ اﻟـﻘـﺮن
اﻟﻌﺸﺮﻳﻦ ــ ﺑﻌﺪ ﺛﻮرة اﻟﻨﺴﺒﻴﺔ واﻟﻜﻮاﻧﺘﻢ. ﻋﻠﻰ أن ﺛﻤﺔ ﻧﻈﺮة راﺑﻌﺔ آﺗﻴﺔ ﲢﺎول اﳉﻤﻊ ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ2 وﻫﻲ:
)د( اﻟﺘﺼﻮر اﳉﺪﻟﻲ )اﻟﺪﻳﺎﻟﻜﺘﻴﻜﻲ( ﻟﻬﻴﺠﻞ وﻣﺎرﻛﺲ
وإﳒﻠﺰ وأﺷﻴﺎﻋﻬﻢ. وﺗﺒﻌﺎ ﻟﻪ ﻳﺆدي اﻟﺘﻘﺪم اﻟﻜﻤﻲ اﻟﺘﺪرﻳﺠﻲ أي )اﻟﺘﺮاﻛﻤﻲ(
إﻟﻰ ﻗﻔﺰات ﻛﻴﻔﻴﺔ أو )ﺛﻮرﻳﺔ( ﺗﺼﺒﺢ ﺑﺪورﻫﺎ ﻧﻘﻄﺔ اﻟﺒﺪء ﻟﺘﺮاﻛﻢ ﻛـﻤـﻲ ﺟـﺪﻳـﺪ2 ﻳـﺆدي ﻋـﻨـﺪ
ﻧـﻘـﻄـﺔ ﻣﻌﻴﻨﺔ إﻟﻰ ﻗﻔﺰة ﻛﻴﻔﻴﺔ.. وﻫﻜﺬا2 وﻓﻘﺎ ﻟﻘﺎﻧﻮن »اﻟﻜﻢ واﻟﻜـﻴـﻒ« اﳉـﺪﻟـﻲ2 أي اﻟﺬي ﻳﻨﺘﻘﻞ ﻋﺒﺮ ﻣﺮاﺣﻞ اﳉﺪل اﻟﺜﻼث: ١ ــ اﻟﻘﻀﻴﺔ2 ﺛﻢ ٢ ــ ﻧﻘﻴﻀﻬﺎ2 ﺛﻢ ٣ ــ ا@ﺮﻛﺐ اﻟﺬي ﻳﺠﻤﻊ ﺧﻴﺮ ﻣﺎ ﻓﻴﻬﻤﺎ وﻳﺘﺠﺎوزﻫﻤﺎ
إﻟﻰ اﻷﻓﻀﻞ2 وﻳﺼﺒﺢ ا@ﺮﻛـﺐ ﺑـﺪوره2 ﻓـﻲ ﻣـﺮﺣـﻠـــﺔ أﻋـﻠـــﻰ ﻣـــﻦ اﳉـﺪل ــ ﻗﻀﻴﺔ ﺗﻨﻘﻠﺐ إﻟﻰ ﻧﻘﻴﻀﻬﺎ... وﻫﻠﻢ ﺟﺮا... وﻋﻠﻰ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ اﻟﻨﻘﺪ
اﻟﻌﻨﻴﻒ ﺑﻞ اﻟﺮﻓﺾ اﳊﺎد اﻟﺬي ﻳﻠﻘﺎه اﳉﺪل ﻣﻦ ﻗﺒﻞ ﻧﻔﺮ ﻣﻦ ﻓﻼﺳﻔﺔ اﻟﻌﻠﻢ ﻋﻠﻰ رأﺳﻬﻢ ﻛﺎرل ﺑﻮﺑﺮ2 ﻓﺈﻧﻨﺎ ﻧﺮى ﻓﻲ
اﻟﺘﺼﻮر اﳉﺪﻟﻲ ﻟﻄﺒﻴﻌﺔ اﻟﺘﻘﺪم اﻟﻌﻠﻤﻲ وﺳﻴﻠﺔ
ﻧﺎﺟﺤﺔ ﻟﻠﺮﺑﻂ ﺑ
اﻟﺘﺼﻮرﻳﻦ اﻟﺘﺮاﻛﻤﻲ واﻟﺜﻮري ﻓﻲ ﻣﺮﻛﺐ ﻣﺘﺴﻖ @ﻦ ﺷﺎء اﻻﺳﺘﻔﺎدة ﻣﻦ اﻟﺘﺼﻮرات
اﻟﺜﻼﺛﺔ2 اﻟﺘﺮاﻛﻤﻴﺔ واﻟﺜﻮرﻳﺔ واﳉﺪﻟﻴﺔ ﻣﻌﺎ ﻓﻲ ﻛﻞ ﻣﺘﺂزر.
وIﻜﻦ أن ﻧﻨﻈﺮ ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻌﺪ إﻟﻰ ﻓﻠﺴﻔﺔ ﺗﻮﻣﺎس ﻛﻮن ﺑﻬﺬا ا@ﻨﻈﻮر2 ﻓﻬﻲ ﺟﺪﻟﻴﺔ
ﲡﻤﻊ ﺑ
اﻟﺘﺼﻮرﻳﻦ اﻟﺘﺮاﻛﻤﻲ واﻟﺜﻮري.
(387)
يرافق
بوبر في هذا التصور الثوري المتطرف غاستون باشلار (1884ـ 1962) شيخ فلاسفة العلم
في فرنسا وواحد من أهم فلاسفة القرن العشرين. وفي العام 1934 صدر كتاب بوبر الأول
في طبعته الألمانية "منطق البحث [الكشف] العلمي"، وصدر أيضاً كتاب
غاستون باشلار "الفكر العلمي الجديد"، كلاهما حاول تثوير التقدم العلمي
بطريقته. لم ينعكس مفهوم "الثورة" حقاً على فلسفة العلم انعكاساً قوياً
إلا لاحقاً في الثلث الأخير من القرن العشرين. (388)
يعد باشلار من أشد فلاسفة العلم حرصاً
على إبراز الطابع الثوري للتقدم العلمي. إذ يرى أن الخطأ أساسي وأولي، وهو الذي
يظل مسيطراً على العقل البشري ما لم يعمل هذا العقل على إزاحته عن مواقعه واحداً
بعد الآخر بجهد وكفاح وصراع لا يتوقف. فكل حقيقة لا بد أن تُكتسب بنوع من النضال
والانتصار، وكل معرفة لا بد أن تحارب لكي تحتل مواقع الجهل. لذلك فالتقدم في العلم
يتم من خلال صراع بين الجديد والقديم، ولا يتحقق إلا بنوع من التطهير الشاق لهذه
الأخطاء. المعرفة لا تسير في طريق ميسر معبد مباشرة إلى الحقيقة، بل إن طريقها
ملتوٍ متعرج، تمتزج فيه الحقيقة بالبطلان، ويصارع فيه الصواب الخطأ صراعاً مريراً
كيما يخلص نفسه منه. (389)
يصر
باشلار إصراراً على رفض فكرة الاتصال في فلسفة العلم. فمراحل المعرفة العلمية تتصف
أساساً بالانفصال في صورتها أو في مضمونها. ولكي يتماسك الكيان العلمي، على الرغم
من الانفصالات المتوالية في حركيته، يلجأ باشلار إلى المنهج الجدلي، ويزعم أن
الفيلسوف الذي يتتبع بالتفصيل حياة الفكر العلمي سيدرك التزويجات غير المألوفة بين
اللزوم والجدلية. لذلك كان مصطلح الجدل (الديالكتيك) الذي يعبر عن عدم اتصال
المعرفة والانتقال من القضية إلى سلبها، شديد الشيوع في أعمال باشلار، ويحتل
عناوين فرعية جمة، وثمة كتابه "جدلية الزمان ـ 1951". (390)
يمكننا
الأن.. التوقف عند هذه الفكرة الجوهرية التي أبدعها باشلار في إطار فلسفته
الجدلية، لتلعب فيها دوراً محورياً، بحيث تناظر تكذيب النظرية المقبولة عند كارل
بوبر، وتكون من أقوى تجسيدات النظرية الثورية وأعتى رفض للنظرية التراكمية
الاتصالية، ألا وهي فكرة القطيعة المعرفية التي تكاد تكون تلخيصاً لما سبق من خطوط
فلسفة باشلار. ولكنها خرجت من أعطاف فلسفته، بل من حدود فلسفة العلم بأسرها، وشاعت
وذاعت وترددت في سائر جنبات الفكر في النصف الثاني من القرن العشرين، حتى كادت
تصبح من معالمه، لا سيما أنها أبدت خصوبةوفعالية في تفسير التحولات الحضارية. (391)
والقطيعة المعرفية تعني أن التقدم العلمي
مبني على أساس قطع الصلة بالماضي، فهي شق طريق جديد لم يتراءَ للقدامى ولم يرد لهم
بحالٍ بحكم حدودهم المعرفية الأسبق وبالتالي الأضيق والأكثر قصوراً. وليس هذا
بمعنى نفي الماضي وإنكاره والتنكر له، فذلك غير وارد في التقدم العلمي الذي يمتاز
عن أي تقدم آخر في حضارة البشر بأنه ليس أفقياً بل رأسياً، يرتفع طابقاً فوق طابق،
فلا يرى نيوتن ـ كما أكد هو نفسه ـ أبعد من سابقيه إلا لأنه يقف على أكتافهم..
القطيعة تعني أن التقدم [ليس] مجرد تواصل ميكانيكي أو استمرار تراكمي لمسار
الماضي، أو تعديلاً إو إضافةً كمية له، بل هو شق طريق جديد كل الجِدة. والمثال
الأثير لباشلار "المصباح الكهربي" فهو ليس استمراراً لأساليب الإضاءة
الماضية التي تقوم على الاشتعال والاحتراق، بل قطيعة لكل هذه الأساليب لحد الشروع
في مرحلة تعتمد الإضاءة فيها على الحيلولة دون أي اشتعال أو احتراق.. فهي خلق
وإبداع جديد تماماً. والجدة العلمية هي بؤرة التقدم والانفصال عن ماضي العلم
والإضافة الحقيقية لحاضره.
رأى باشلار أن الجدلية تجعل القطيعة
المعرفية مركباً من الانفصال والاتصال، إلا أنه جنح كثيراً ورفض فكرة الاتصال
تماماً، وركز على الانفصال في حركية العلم وتقدمه وكان تركيزاً يخل بجدلية باشلار
التي تجمع بين الطرفين ـ الاتصال والانفصال ـ مادام يجعل القطيعة انفصالات متوالية
في تقدم العلم. والواقع أن عنصر الاتصال واستمرارية المعرفة العلمية له أهميته ولا
بد أن يلعب دوراً ما، وليس من السهل بلإطاحة به تماماً على طريقة باشلار. (392)
أبدت
فكرة القطيعة المعرفية فعالية جمة في تجسيدها للتقدم كثورة تنفصل عن الماضي وتبدأ
طريقاً جديداً، وشهدت استغلالات وتطبيقات كثيرة في مجالات شتى عبر القرن العشرين،
استخدمها ميشيل فوكو (1909ـ 1984) للفصل بين الحقب المعرفية، واستخدها الماركسي
الفرنسي المجدد والبنيوي الثائر لوي ألتوسير بصورة موسعة في قراءاته البنيوية
للاشتراكية العلمية، أو محاولة صياغة تخطيط لهيكل الماركسية الثابت ووضعها بين
الإيديولوجيا والعلم، لتتخلص من الأولى وتبقى علماً على طريق القطيعة المعرفية.
فتنامت القطيعة مع ألتوسير لتقوم بدور جوهري للخلاص من تشويهات الأيديولوجيا
للعلم..
..
رأى ألتوسير أن المعرفة تبدأ من الأيديولوجيا، ثم يتعيّن التخلص منها وإحلال العلم
محلها عن طريق القطيعة المعرفية، فكانت القطيعة معه لإفساح الطريق أمام الاشتراكية
العلمية، وكان هذا الاستخدام إيذاناً بنموّ مفهوم "القطيثعة" أو تمثيلاً
لخروجه من أعطاف فلسفة العلم ومن قلب صيرورة التقدم العلمي، ليعم المفهوم ويسود
بعد ذلك، ويصبح بمنزلة "موضة شائعة" في القرن العشرين في مجالات الفكر
والفن وما إليه. وعبّر عنها لأدب تعبيراً رديئاً، بات قولاً مأثوراً هو "انظر
وراءك في غضب". وهذا إسفاف ما كان يداني مفهوم القطيعة وهي في موطنها الأصيل
فلسفة التقدم العلمي، حيث أنجبها غاستون باشلار. (393)
وبالعودة إلى فلسفة العلم، نجد باشلار ـ
ولا شك ـ قد أبلى بلاءً حسناً في فلسفته للتقدم العلمي التي استطاعت بلورة وتنقيح
مفهوم "لثورة". بيد أن باشلار لا يعبأ بالمنطق ويطلق رؤاه النافذة
المحيطة بأعماق ظاهرة العلم كشاعر ملهم، بينما القرن العرشرون هو العصر الذهبي
للمنطق، وفلسفة العلم فيه هي منطق العلم. من هنا كان كارل بوبر هو الأقدر على غرس
مفهوم الثورة، لأن بوبر منطقي من الطراز لأول، وعالج ثورية التقدم العلمي في إطار
معالجةٍ دقيقة لمنطق العلم، فأمكن "للثورة" أن تنموَ وتترعرع في فلسفة
العلم بعد بوبر وبفضله (394)
.. فضلاً عن ولع بوبر الخاص وباعه الطويل
في تاريخ الفلسفة الذي يكتسب على يديه حيوية لا تضاهى، تثبت أن كل محاولة للتأريخ
لنظرية فلسفية، ولو كانت المحاولة رقم ألف، تحمل إمكانات لبعث حياة جديدة لهذه
النظرية واستكشاف أبعاد ما كانت تخطر على بال. (397)
على
أساس الصراع مع الخطأ، السلب والجدلية، الانفصال.. يتضح لنا عمومية التصور الثوري.
ويغدو التقدم العلمي مرهوناً بحدوسات جريئة تمثل بدورها قفزات ثورية، تعقبها
أفكارٌ تصحح أفكاراً، فروح العلم هي تصحيح المعرفة وتوسيع نطاقها أو ما أسميناه
منطق التصحيح الذاتي. وهذا الأفق من الأفكار المصححة هو ما يميّز الفكر العلمي،
صاغه بوبر في التكذيب وتجاوزه، وصاغه باشلار في الخطأ وتصويبه. يقول باشلار:
"العلم لا يخرج من الجهل كما يخرج النور من الظلام، لأن الجهل ليس له بنية،
بل يخرج من التصحيحات المستمرة للبناء المعرفي السابق، حتى أن بنية العلم هي إدراك
أخطائه. والحقيقة العلمية هي تصحيح تاريخي لخطأ طويل، والاختبار هو تصحيح الوهم
الأولي المشترك". فيؤكد باشلار ـ تماماً ما أكد بوبر ـ على أهمية النقد، أو
حسب تعبيره "هذا الشك المسبق المنقوش على عتبة كل بحث علمي، وهو سمة أساسية
لا موقوتة في بنية التفكير العلمي". من هنا ينتهي باشلار إلى الانفصالات في
حركية العلم اللاتراكمية، إلى أن العقل العلمي يتنكر دائماً لما ينجزه من حيث دأبه
على نقده وتصويبه، من هنا كان منطق العلم منطقاً تكذيبياً ومنطق تصحيحٍ ذاتي. (390)
يظل تأكيد بوبر على مفهوم
"الثورة" من أثرى مواطن إسهامه. فسوف يلتقط توماس كون (1922ـ 1996)
أيقونة الثورة من كارل بوبر، ويقيم بنيانه لتاريخ العلم وفلسفته على أساس
"الثورة" التي هي انتقالٌ من نموذج قياس إرشادي paradigm إلى آخر، فيما يمكن اعتباره بمنزلة الإعلان الصريح لحلول الوعي
التاريخي في صلب فلسفة العلم. (397)
"النماذج الإرشادية"
لعلّ أبرز العوامل التي استحضرت الوعي
المتقد بتاريخ العلم في فكر كون أن علمه الغزير بهذا التاريخ كشف له عن اختلافات
حادة بين القواعد والمبادئ والمفاهيم، والأوليات التي يعمل بها العلماء في مرحلة
عن تلك التي يعملون بها في مرحلة أخرى، وما يبدو لجيل من العلماء بجهية أو مسلمة
أولية قد يبدو لجيل آخر خرافة أو مسألة ثانوية. (399)
نلاحظ أن توماس كون في طليعة السائرين في
ركاب الثورة على الوضعية المنطقية و ـ طبعاً ـ مفهومِها الضدتاريخي لفلسفة العلم.
ويسلم معنا بأن التقدم المستمر هو السمة المميزة للمعرفة العلمية، وأن دراسة تاريخ
العلم تفصح عن زيف مفهوم (التراكم) إذا أخذنا به على خط مستقيم. ويؤكد مع بوبر على
أن الثورة هي مفتاح هذا التقدم، لكنه يختلف عنه حين يرفض تطرف بوبر الثوري واعتبار
كل تقدم علمي ثورة. وفي كل حال نجد أن إشكالية التقدم العلمي قد تمركزت الآن حول
مصطلح الثورة/ الدورة.
في
البداية بحث كون نظرية كوبرنيكوس كمثال نموذجي للثورة العلمية. وكان هذا موضوع
محاضراته في جامعة هارفارد، ثم صدر في أول كتاب له العام 1957. وبعد هذا بخمس
سنوات صدر كتابُه الأشهر "بنية الثورات العلمية" الذي يحمل فلسفته
المتكاملة للعلم. تقوم فلسفة كون على التمييز في مسار العلم أو تقدمه بين مراحل
العلم العادي الذي يسير في إطار النموذج القياسي الإرشادي paradigm، وبين
المراحل الثورية في هذا التقدم التي هي انتقال من نموذج إرشادي إلى آخر. (400)
النموذج القياسي الإرشادي هو النظرية
العامة التي يلتزم بها المجتمع العلمي في مرحلة ما، وبلوغ النظرية مرتبة النموذج
الإرشادي يعني أنها أفضل من كل منافساتها، أي ثبتت ووجب التسليم بها وبكل مسلماتها
ومناهجها ومفاهيمها العلمية وخلفياتها الميتافيزيقية. فتغدو النظرية بكل هذه
الأبعاد بمنزلة نموذج إرشادي يحدد مدلول الوقائع التجريبية، يطرح معايير الاختبار
والتقويم والتنقيح، والتعديل إذا لزم الأمر. والأكثر فالعية أنه يطرح المشاكل التي
يجب دراستها وأنماط الحلول المطلوبة. المجتمع العلمي النضج يسهل نسبياً تحديد
نماذجه الإرشادية. وغني عن الذكر أن الرياضيات كانت أسبق العلوم طراً في اصطناع
نموذج إرشادي واضح المعالم. ولا بد للنموذج الإرشادي أن يثير مشكلات للبحث، وإذا
توقف عن هذا مع استمرار التسليم به لا يعود برنامج بحث علمي بل هو مجرد تقنية خاصة
بمهنة معينة.
إن مشكلات البحث العلمي مختلفة والنموذج
الإرشادي لا يثير منها إلا الألغاز، التي تفسح في المجال لإثبات قدرة الباحث
الخلاقة ومهارته الخاصة في الوصول إلى حلٍ لها. التسليم ينموذج إرشادي معيّن هو
الذي يطرح ألغازاً، بمعنى أنه يهيّئ للباحثين اختيار مشكلاتٍ يمكن الوصول إلى حلٍ
لها مادمنا نسلّم بهذا النموذج.
هكذا نلاحظ أن العلم العادي لا يقوم
باختبار النموذج [الإرشادي] ذاته أو محاولة تكذيبه كما يرى بوبر في ثورته الدائمة.
فالعلم ينمو ويتقدم في مراحله العادية من خلال حل الألغاز التي يثيرها النموذج
الإرشادي المسلّم به، والمعرفة هنا تزداد دقة واتساعاً وتوالي إحراز أهدافها
ليتمثل نجاح المشروع العلمي بصورة تدعو حقاً إلى الإعجاب، لكنها تخلو من
الابتكارات الجوهرية والإبداع العظيم. وعلى هذا النحو تنمو المعرفة العلمية في
إطار العلم العادي بصورة مطردة، صورة تراكمية.
وتظل الحال على هذا المنوال التراكمي حتى
يظهر الشذوذ، أي ظاهرةٌ لا يتوقعها النموذج الإرشادي المعمول به، لا يُتنبّأ بها
ولا يُهيأ الباحثُ للتعامل معها، فيبدأ الخروج عن أطر النموذج الإرشادي ومحاولات
تعديله. وهذا عادةً ما يلقى مقاومة ما في البداية. ولكن لنلاحظ مبدئياً كيف أن
النموذج الإرشادي ذاته هو الذي يفتح الطريق للخروج منه والبحث عن نموذج جديد. وهذه
هي صياغة توماس كون لخاصية التصحيح الذاتي التي نتفق على أنها من خواص المعرفة
العلمية.
ظهور الشذوذ تتلوه محاولة لاستكشاف
مجاله، والمواءمة بينه وبين النموذج الإرشادي، ومحاولة تعديل أدوات النموذج. ولكن
إذا بدا إسراف في هذا التعديل فههنا أزمة. الأزمة تعني أنه قد آن الأوان للخروج من
سياق العلم العادي وتعديل النموذج [الإرشادي]. المعرفة هنا ليست تراكمية بل ثورية.
تماماً كما تحدث الثورة السياسية حين يشعر أفراد المجتمع أن المؤسسات القائمة لم
تعد كافيةً لحلّ المشكلات أو قادرة على هذا. الثورة العلمية تحدث نتيجة تغيرات
لاستيعاب ظاهرةٍ من نوعٍ جديد من قبيل الإوكسجين أو الأشعة السينية، ظاهرة خلقت
أزمة، عن الأزمات تنبثق النظرية العلمية الجديدة التي تغير تقاليد البحث وأبعاد
الرؤية الميتافيزيقية ومدلولات المفاهيم العلمية والوقائع التجريبية. فإن تغلبت
النظرية الجديدة على منافساتها وأثبتت ذاتها يُسلَّم بها كنموذج إرشادي جديد، يطرح
ألغازاً تحتاج إلى مهارة الباحثين.. وهكذا دواليك.(402)
وما ينتج عن الأزمة من من انتقال إلى
نموذجٍ إرشادي جديد هو الثورة العلمية، التي تعني تغييراً في النظرة إلى العالم.
وهذا التغيير يبلغ حد اللامقايسة، أي عدم قابلية النظريات العلمية للقياس المتكافئ
للحكم عليها بالمقاييس نفسها وتقييمها بالمعايير نفسها. لكل نظرية إطارُها
ومفاهيمها وعالمها، حتى أن الحوار بين نظريتين في مرحلتين مختلفتين. أي في نموذجين
إرشاديين متعاقبين، هو بمنزلة حوار بين الصمّ، لن يسمع أحدهم الآخر. مفهوم الكتلة
أو مفهوم الجاذبية عند أينشتاين، فكيف يتحاوران؟! الحكم على النظرية العلمية
وتقييمها لا يكون البتة بالقياس إلى نظرية سابقة عليها أو تالية لها في صيرورة
التقدم العلمي، بل فقط في إطار عصرها وتحدياتها وظروفها العلمية، مما يجعل لكل
نظرية مقاييسها الخاصة في ضوء نموذجها الإرشادي الذي تعمل به. هكذا نجد مفهوم
اللامقايسة أو عدم قابلية النظريات العلمية للقياس المتكافئ بمنزلة بلورة للوعي
التاريخي في فلسفة العلم، واعتبار النظرية العلمية فقط في ضوء الموقع الذي احتلته
من تاريخ العلم، فلا تضاهيها نظرية أخرى في موقع تاريخي آخر.
اللامقايسة تكاد توازي مفهوم القطيعة
المعرفية عند غاستون باشلار. "اللامقايسة أو القطيعة مفاهيم تعبر عن فواصل
وانفصالات في التقدم العلمي تنقض الاستمرارية الآلية والاتصال التراكمي الذي كان
سائداً في القرن التاسع عشر وسايرته الوضعية المنطقية. إنها تنكر الاتصال في
العلم، بمعنى الطريق الممهد السائر قدماً للبحث العلمي، وتؤكد الانفصالية من حيث تؤكد
الوعي التاريخي، وتعيين المرحلة التارخية للنظرية العلمية.
وبلغت حدة استشعار كون لأهمية الوعي
التاريخي أن اهتم اهتماماً كبيراً بشأن المراجع العلمية، أو كتب تدريس العلوم،
لينحو باللائمة على افتقادها للبعد التاريخي، وكأنه أخذ على عاتقه أن يحل الوعي التاريخي
في كل أرجاء المعمورة العلمية.
إن هذه الكتب ـ فيما يرى كون ـ ذات هدف
إقناعي تربوي هو تعليم وتدريب دارسي العلوم على مزاولة حرفتهم في إطار العلم
العادي، فتعرض بنية المعرفة العلمية التي اكتملت وأُنجزت، أي تسجل الناتج الثابت
المستمر الثورات الماضي وتمثل الأساس لتقاليد العلم العادي الناتج عنها، ولا تعرض
للثورة نفسها فتبدأ بوأد إحساس طالب العلم وباحث المستقبل بالبعد التاريخي لمبحثه،
أو تكتفي بلمحات منه كمقدمة ومدخل، ولا تذكر من التاريخ إلا ما يؤدي في خط مستقيم
إلى النموذج الإرشادي المعمول به. وكأن الانتقاص من قيمة التاريخ يكاد يكون
متأصلاً في "أيديولوجيا الصنعة العلمية"، فما الحاجة "إلى بذل
الجهد من أجل ما تم نبذه ورفضه وتجاوزه. والنتيجة هي عرض تاريخ للعلم يؤدي في خط
مستقيم إلى النقطة التي أقف فيها ـ أي النموذج الإرشادي المعمول به ـ وهذا يفسد
تصور طبيعة العلم".
هكذا يعرج كون على ما أسماه
"أيديولوجيا المجتمع العلمي" ويهتم بها اهتماماً بالغاً. ولئن كان
المجتمع يغدو مجتمعاً وليس مجرد حاصل جمع آحاد من الأفراد عن طريق الأيديولوجيا،
فإنه يمكن اعتبار النموذج الإرشادي بمنزلة إيديولوجيا المجتمع العلمي التي تصنع
تماسكه وتجانسه في الحقبة التاريخية المعنية. فقد صدر "بينة الثورات
العلمية" العام 1962، وبعد فترة اختمار ومراجعة واستجابة لردود الفعل، أعقبه
توماس كون بدراسة صدرة العام 1971 هي "أفكار لاحقة بشأن النماذج الإرشادية
تدور حول مجموعتين من الفكار التي نستكشفها بواسطة النماذج الإرشادية. فأولاً هناك
العناصر المشتركة التي تفسر خاصية التواصل المهني في المجتمع العلمي الذي يسري
بسهولة نسبياً بغير مشاكل، وإجماع العلماء على الأحكام التي يصدرونها بشأن
النظريات وسواه، وهذا ما أسماه كون القالب الانضباطي. وثانياً مجموعة من الأفكار
حول ما يجعل المجتمع العلمي يقبل حلولاً عينية لمشكلة معينة قبولاً سلساً
ومتآلفاً، فيما أسماه كون قالب المثلية، وهاتان المجموعتان من الأفكار تبرزان إلى
أي حد يحمل النموذج الإرشادي أيديولوجيا تقولب المجتمع العلمي.
ومثل هذا الجنوح نحو
"الإيديولوجيا" والتعويل عليها دفع جون واتكينز إلى إخراج دراسة بعنوان
"ضد العلم العادي" فحواها أن كون خرج من أعطاف كارل بوبر، وبقدر ما
ابتعد عن بوبر بقدر ما ضل الطريق، وانتهى واتكينز إلى أن العلم العادي يماثل ـ من
المنظور البوبري ـ أداء العقول المغلقة في قلب المجتمع المغلق. وبصرف النظر عن
تفاصيل ردود كون على واتكينز فإن كون بعامة يبدو أكثر استيعاباً ومجاراةً لتطور
العلم في النصف الثاني أو الربع الأخير من القرن العشرين. فصحيح أن العلم الحديث
ممنذ نشأته يتسم بطابع جمعي تعاوني، إلا أنه في الآونة الأخيرة تزايدت حدة هذه إلى
درجة غير مسبوقة، بحكم تصاعد متوالية المعرفة ومدى الأبحاث العلمية واتساع نطاقها
وارتفاع تكاليفها. وكما سنوضح حين نتوقف لاحقاً عند سوسيولوجية العلم التي يتحمل
كون الآن أعباءها ويرفع لواءها، فقد انتهت تقريباً صورة العالم الفرد المنعزل
بأبحاثه وعبقريته العلمية، وأصبح الشكل العام للبحث العلمي الآن في صورة برنامج
ضخم يعكف على إنجازه فريق من الفنيين والدارسين والباحثين والعلماء. (404)
قد يقودهم عالم أكثر عبقريةً وقدراتٍ
عقلية تكون السبب المباشر في الإنجاز العلمي. لكن لا بد أن يعملواجميعاً في إطار
مؤسسة كبرى ـ جامعة أو مركز أبحاث أو شركة عملاقة أو هيئة قومية ـ قادرة على تمويل
برنامج البحث وتوفير متطلباته.
والحق أن العلماء أنفسهم بهيئاتهم
وأجهزتهم ومجالات عملهم وموضوعاته وأهدافه، يمثلون أهم مؤسسات الحضارة المعاصرة
بالمعنى الاعتباري أو الاجتماعي لمفهوم مؤسسة. وكان توماس كون أشد فلاسفة العلم
إدراكاً لهذا الطابع الجمعي الذي لازم العلم الحديث منذ نشأته وتزايد في الوقت
الراهن. لم يعن كون كثيراً ـ كما فعل كارل بوبر مثلاً ـ بدور العبقرية الفردية في
خلق قصة العلم، وانصب اهتمامه على المجتمع العلمي أو الجماعة العلمية أو بالأحرى
المؤسسة العلمية التي تعمل في إطار النموذج الإرشادي المطروح، حتى نعتت فلسفته
للعلم بأنها "عقلانية مؤسساتية"(405)
ﻳﺮى ﻛﻮن أن ﺗﻔﺴﻴﺮ اﻟﺘﻘﺪم اﻟﻌﻠـﻤـﻲ ﻻﺑـﺪ
وأن ﻳـﺮﺳـﻮ ﻓـﻲ ﻧـﻬـﺎﻳـﺔ المطاف ﻋﻠﻰ ﻋﻮاﻣﻞ ﺳﻮﺳﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺔ وﺳﻴﻜﻮﻟﻮﺟﻴﺔ وﻋﻠﻰ ﺗﻮﺻﻴﻒ ﻟﻨﺴﻖ
اﻟﻘﻴﻢ أو اﻷﻳﺪﻳﻮﻟﻮﺟﻴﺎ، بمعيّة ﲢﻠﻴﻞ وﺗﻮﺻﻴﻒ المؤسسات
اﻟﺘـﻲ ﻳـﺘـﻘـﺪم اﻟـﻌـﻠـﻢ ﻣـﻦ ﺧﻼﻟﻬﺎ. وإذا ﻋﺮﻓﻨﺎ ﻗﻴﻢ اﻟﻌﻠﻤﺎء يمكن أن ﻧﺘﻔﻬﻢ المشاكل
اﻟﺘﻲ ﻳﻀﻄﻠﻌﻮن ﺑﻬﺎ واﳊﻠﻮل اﻟﺘﻲ ﻳﺮﺳﻮن ﻋﻠﻴﻬﺎ. وﻳﻨﻜﺮ
ﻛﻮن إﻣﻜﺎن ﻃﺮح ﻫﺬه اﻟﻌﻮاﻣﻞ اﻷﻳﺪﻳﻮﻟﻮﺟﻴﺔ واﻟﺴﻮﺳﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺔ واﻟﺴﻴﻜﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﻣﻦ أي إﺟﺎﺑﺔ ﻋﻦ
ﺳﺆال اﻟﺘـﻘـﺪم اﻟـﻌـﻠـﻤـﻲ . ﻓﻜﺎن ﻛﻮن ﺷﺪﻳﺪ اﻟﻌﻨﺎﻳﺔ ﺑﻬﺬه اﻟﻨﻮاﺣﻲ ﻣﺆﻛﺪا ﻋﻠﻰ ﺗﺂﺧﻲ اﻟﻌﻠﻢ
ﻣﻊ اﻟﻈﻮاﻫﺮ اﳊﻀﺎرﻳﺔ اﻷﺧﺮى. ﻟﻘﺪ ﻗﺎﻣﺖ ﻓﻠﺴﻔﺘـﻪ ﻟـﻠـﻌـﻠـﻢ
ـــ ﻛـﻤـﺎ رأﻳـﻨـﺎ ـــ ﻋـﻠـﻰ أﺳـﺎس اﻟﺘﺤﻘﻴﺐ اﻟﺘﺎرﻳﺨﻲ ﻟﻠﻌﻠﻢ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ ﺗﻮاﻟﻲ اﻟﻨﻤﺎذج
اﻹرﺷﺎدﻳﺔ، وﻳﺸﻴﺮ ﺻﺮاﺣﺔ إﻟﻰ أن ﻣﺆرﺧﻲ المناشط اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ﻛـﺎﻵداب والموسيقى واﻟـﻔـﻨـﻮن واﻟـﺘـﻄـﻮر اﻟﺴﻴﺎﺳﻲ... ﻗﺪ ﺳﺒﻘﻮه، ﻓﻜﺜﻴﺮا
ﻣﺎ اﺳﺘﻌﺎﻧﻮا ﺑﺘﺤﻘﻴﺐ ﺗﺎرﻳﺦ ﻫـﺬه اﻷﻧـﺸـﻄـﺔ ﻋﺒﺮ ﻗﻄﺎﺋﻊ ﺛﻮرﻳﺔ ﻓﻲ اﻟﻄﺮز واﻷذواق وﺑﻨﻴﺔ
المؤسسات، وﻛﺎن ﻫﺬا اﻟﺘﺤﻘﻴﺐ أداة أﺛﻴﺮة ﻣﻦ أدواﺗﻬﻢ المعيارية. وﻛﻞ أﺻﺎﻟﺔ ﻳﻨﺴﺒﻬﺎ ﻛﻮن
إﻟـﻰ ﻧـﻔـﺴـﻪ ـــ ﻛـﻤـﺎ ﻳﻘﻮل ــ ﻓﻘﻂ ﻓﻲ أﻧﻪ أول ﻣﻦ ﻃﺒﻖ ﻫﺬا ﻋﻠﻰ اﻟﻌﻠﻢ اﻟﺬي ﻛﺎن ﻳﻈﻦ
أن ﺗﻄﻮره في طريقٍ مخالفٍ تماماً. إذاً لا يقنع كون بأي خلاف جوهري بين التطور في
الفنون واﻵداب واﻟﻨﻈﻢ اﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ واﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺎت واﻟﺘﻄﻮر ﻓﻲ اﻟﻌﻠﻢ. وﻟﻪ ﺻﺮاﺣﺔ دراﺳﺔ ﺣﻮل
اﻟﻌﻼﻗﺔ أو اﻟﺘﺸﺎﺑﻪ واﻟﺘﻤﺎﺛﻞ بين ﻫﺬا وذاك.
ﻫـﻜـﺬا ﻛـﺎن ﺗـﻮﻣـﺎس ﻛـﻮن ﺷـﺪﻳـﺪ اﻟـﻌــﻨــﺎﻳــﺔ
ﺑــﺎﻟــﻨــﻮاﺣــﻲ اﻷﻳــﺪﻳــﻮﻟــﻮﺟــﻴــﺔ واﻟﺴﻮﺳﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺔ واﻟﺴﻴﻜﻮﻟـﻮﺟـﻴـﺔ واﻻﻟـﺘـﺰاﻣـﺎت
اﳋـﻠـﻘـﻴـﺔ وأﺻـﻮل اﻟـﺘـﻨـﻈـﻴـﻢ واﻹدارة... إﻟﺦ ﻟﻠﻈﺎﻫﺮة اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ،
ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﻫﻲ ــ ﺑﺒﺴﺎﻃﺔ ــ ﻇﺎﻫﺮة ﻓﻲ ﻋﺎﻟﻢ اﻹﻧﺴﺎن، ﻓﺘﻠﻚ ﻫﻲ اﻷﺑﻌﺎد اﳊﻤﻴﻤﺔ ﻟﻠﻈﻮاﻫﺮ اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ. وﻗﺪ ﻻم ﻛﺎرل ﺑﻮﺑﺮ ﻛﻮن ﻋﻠﻰ ﻛﺜﺮة اﻧﺸﻐﺎﻟـﻪ ﺑـﻬـﺬه
اﻷﺑـﻌـﺎد. وﻓـﻲ المقابل تماماً ﻟﻴﻢ ﻛﻮن ﻋﻠﻰ أن ﻧﻈﺮﺗﻪ اﻟﺴﻮﺳﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﺷﺎﻣﻠﺔ ﻣﺎ
ﻳﻜﻔﻲ ﻓﻘـﺪ ﻗﺼﺮ اﻫﺘﻤﺎﻣﻪ ﻋﻠﻰ ﻣﺎ أﺳﻤﺎه اﳉﻤﺎﻋﺔ اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ أو
المؤسسة العلمية، واﻗﺘﻄﻌﻬﺎ ﻋﻦ ﺳﺎﺋﺮ اﻟﻤﺠﺘﻤﻊ اﻟﺬي ﲢﻴﺎ ﻓﻲ ﺳﻴﺎﻗﻪ اﻟﺜﻘﺎﻓﻲ، ﻓﻌﺰل اﻛﺘﺸﺎﻓﺎت اﻟﻮﻗﺎﺋﻊ واﻻﺑﺘﻜﺎرات اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ ﻋﻤﺎ
ﻳﺤﻔﺰ إﻟﻴﻬﺎ ﻓﻲ اﻟﻮاﻗﻊ المتغيّر ﻟﻠﻤﺠﺘﻤﻊ واﻟﺜﻘﺎﻓـﺔ،
ﻓﺄوﺷﻜﺖ اﳉﻤﺎﻋﺔ اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ أو المؤسسة اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ أن ﺗﻜﻮن ﺻﻮﻣﻌﺔ رﻫـﺒـﺎن أو ﺗﻜﻴﺔ ﻟﻠﺼﻮﻓﻴﺔ
ﻳﺪﻳﺮوﻧﻬﺎ ﺑﺄﻧﻔﺴﻬﻢ، وﻻ ﺗﺨﺘﻠﻒ ﻋﻨﻬﻤﺎ إﻻ ﻓﻲ أن اﻻﻧﻘﻼﺑـﺎت والثورات تقع فيها بين الحين
والآخر.
(407)
اﻧﻜﺐ ﻻﻛﺎﺗﻮش
ﻋﻠﻰ ﺗﺨﻄﻴﻂ ﻋﺎم واﺳﺘﻌﺮاض ﻟﻠﻤﻴﺜﻮدوﻟﻮﺟﻴﺎت أو ا@ﺬاﻫﺐ اﻷرﺑﻌﺔ اﻟﻜﺒﺮى ﻓﻲ ﻓﻠﺴﻔﺔ اﻟﻌﻠﻢ2
أي اﻟﺼﻴﺎﻏﺎت اﻟﺮﺋﻴﺴﻴﺔ ﻟﻌﻘﻼﻧﻴﺔ اﻟﺘﻘـﺪم اﻟﻌﻠﻤﻲ ﺑﻮﺻﻔﻬﺎ ﺑﺮاﻣﺞ ﺑﺤﺚ ﻓﻲ ﺗﺎرﻳﺦ اﻟﻌﻠﻢ2 ﲢﺪد ﻟﻠﻤــﺆرخ ا@ـﻨـﻈـﻮر اﻟـﺬي ﻳﺘﺨﺬه
وا@ﻌﺎﻟﻢ اﻟﺘﻲ ﻳﺘﻮﻗﻒ ﻋﻨﺪﻫﺎ واﻧﺘﻘﺎءه أﺣﺪاﺛﺎ ﻣﻌﻴﻨﺔ. Inductivismﻫﻨﺎك ــ أوﻻــ اﻟﻨﺰﻋﺔ اﻻﺳﺘﻘﺮاﺋﻴﺔ
أي ا@ﺬﻫـﺐ اﻻﺳـﺘـﻘـﺮاﺋـﻲ اﻟﺬي ﺗﻨﻀﻮي ﲢﺖ ﻟﻮاﺋﻪ اﻟﺘﺠﺮﻳﺒﻴﺔ ا@ﺘﻄﺮﻓﺔ واﻟﻮﺿـﻌـﻴـﺔ ا@ـﻨـﻄـﻘـﻴـﺔ2 ﺣـﻴـﺚ ﻳﺘﺤﻮل اﻟﺘﺎرﻳﺦ
اﻟﺪاﺧﻠﻲ ﻟﻠﻌﻠﻢ إﻟﻰ وﻗﺎﺋﻊ ﲡﺮﻳﺒﻴـﺔ ﺻﻠﺒـﺔ ﺗﻌﻘـﺒﻬـﺎ ﺗﻌﻤﻴﻤـــﺎت Conventionalismاﺳﺘـﻘـﺮاﺋـﻴـﺔ. وﻫـﻨـﺎك ـــ ﺛـﺎﻧـﻴـﺎ
ـــ ﻣـﺬﻫـــﺐ اﻻﺻـﻄـﻼﺣـﻴـــ
واﻷداﺗﻴـ
ﻟﻴﺘﺤـﻮل ﺗﺎرﻳﺦ اﻟﻌﻠـﻢ إﻟـﻰ ﺗﺸﻴﻴـﺪ
ﻷﻧﺴـﺎق ﻣﻔﺘﻮﺣـﺔ2 ﺣﻴـﺚ اﻟﻨﻈﺮﻳـﺔ ﲢﻞ ﻣﺤﻠﻬﺎ ﻧﻈﺮﻳﺔ أﺧﺮى أﺑﺴﻂ ﻣـﻨـﻬـﺎ ﺗـﺒـﻌـﺎ ﻟـﻮﻟـﻊ اﻻﺻـﻄـﻼﺣـﻴـ
^ـﻌـﻴـﺎر اﻟﺒﺴﺎﻃﺔ. وﺧﻼﺻﺘﻪ أن أﺑﺴﻂ
ﺗﻔﺴﻴﺮ ﻳﺘﻔﻖ ﻣﻊ ا@ﻼﺣﻈﺎت ا@ﺘﻌﻠﻘﺔ ﺑﺎ@ﻮﺿـﻮع ﻫـﻮ اﻟﺼﺤﻴﺢ ﻋﻠﻰ اﻷرﺟﺢ2 وﻫﻮ ا@ﻔﻀﻞ ﻋﻦ ﺳﻮاه.
ﻛﺎﻧﺖ اﻟﺒﺴﺎﻃﺔ ﻣﻦ ﻣﺴﻠﻤﺎت اﻟﺘﻔﻜﻴﺮ اﻟﻌﻠﻤﻲ وﻓﻠﺴﻔﺔ اﻟﻌﻠﻢ ﺑﺼﻔﺔ ﻋﺎﻣﺔ2 إﻻ أﻧﻬﺎ ﺗﻜﺘﺴﺐ أﻫﻤـﻴـﺔ
ﺧـﺎﺻـﺔ ﻋﻨﺪ اﻻﺻﻄﻼﺣﻴ
واﻷداﺗﻴ
ﻛﻤﺎ رأﻳﻨﺎ2 ﺣﻴﺚ ﺗﻌﻨﻲ اﻟﻘﺪرة
ﻋـﻠـﻰ ﺗـﺒـﺴـﻴـﻂ اﻟﻈﻮاﻫﺮ اﻟﺘﻲ ﻫﻲ ﻣﻌﻘﺪة. واﻟﺘﺒﺴﻴﻂ ﻫﻨـﺎ ﻻ ﻳـﺨـﻠـﻮ ﻣـﻦ ﻣـﻐـﺰى أﺳـﺘـﻄـﻴـﻘـﻲ
ﺟﻤﺎﻟﻲ. وﻛﻤﺎ أﺷﺮﻧﺎ إﺑﺎن اﳊﺪﻳﺚ ﻋﻦ اﻷداﺗﻴﺔ2 ﲢﺘﻜﻢ ا@ﺪرﺳﺔ اﻻﺻﻄﻼﺣﻴﺔ إﻟﻰ ﻣﻌﺎﻳﻴﺮ ﻣﻨﻄﻘﻴﺔ وﺟﻤﺎﻟﻴﺔ2 أﻣﺎ اﻟﻮﻗﺎﺋﻊ اﻟﺘﺠﺮﻳﺒﻴﺔ ذاﺗﻬﺎ
ﻓﺘﻘﺒﻞ أو ﺗﺮﻓﺾ ﺑﻘﺮار ﻣﻨﻬﺠﻲ ﺗﺒﻌﺎ ﻟﺘﻠﻚ ا@ﻌﺎﻳﻴﺮ. وﻣﻦ ﻫﻨﺎ ﻧﺘﻔﻬﻢ وﻟﻊ اﻷداﺗﻴ
^ﻌﻴﺎر اﻟﺒﺴﺎﻃﺔ ﻓﻲ ا@ﻔﺎﺿﻠﺔ ﺑ
اﻟﻨﻈﺮﻳﺎت2 إﻧﻪ ﻳﻠﺒﻲ ا@ﻄﻠﺒ
: ا@ﻨﻄﻘﻲ واﳉﻤﺎﻟﻲ. ﻟﻜﻞ ذﻟﻚ ﻳﺬﻫﺐ إﻣﺮي ﻻﻛﺎﺗﻮش إﻟﻰ أن ﺗﺎرﻳﺦ اﻟﻌﻠﻢ ﻣﻌﻬﻢ ﺳﻮف ﻳﺼﺒﺢ ﺗﺎرﻳﺦ اﻧﺘﺼﺎرات
ﻣﻌﻴﺎر اﻟﺒﺴﺎﻃﺔ. أﻣﺎ ﻋﻨﺪ اﻟﻔﺮﻳﻖ اﻟﺜﺎﻟﺚ2 وﻫﻢ اﻟﺘﻜﺬﻳﺒﻴـﻮن اﻟـﺒـﻮﺑـﺮﻳـﻮن2 ﻓـﺈن اﻟﺘﺎرﻳﺦ
اﻟﺪاﺧﻠﻲ اﻟﻌﻘﻼﻧﻲ ﻟﻠﻌﻠـﻢ ﻫـﻮ ﺗـﺎرﻳـﺦ اﳊـﺪوس اﳉـﺮﻳـﺌـﺔ وﺗـﺼـﻮﻳـﺒـﻬـﺎ ﻟﺘﻜﺘﺴﺐ ﻣﺤﺘﻮى ﻣﺘﺰاﻳﺪا2 واﻷﻫﻢ اﻟﻠﺤﻈﺎت اﻟﺪراﻣﺎﺗﻴﻜﻴﺔ
اﻟﻜﺒﺮى ﻟﺘﻜﺬﻳـﺒـﻬـﺎ وﺗﻔﻨﻴﺪﻫﺎ2 وﻇﻬﻮر ﺣﺪوس أﺟﺮأ وأﻏﺰر ﻓﻲ اﶈﺘﻮى ا@ﻌﺮﻓﻲ... إﻟﺦ ﺛﻢ ﻳﺠﻌﻞ ﻻﻛﺎﺗﻮش ﻣﺬﻫﺒﻪ اﳋﺎص ﺑﻪ ــ أي ﻣﻴﺜﻮدوﻟﻮﺟﻴﺎ ﺑﺮاﻣـﺞ اﻷﺑـﺤـﺎث اﻟـﻌـﻠـﻤـﻴـﺔ ـــ ﺜﻼ ﻟﻼﲡﺎه اﻟﺮاﺑﻊ واﻷﺧﻴﺮ2 وﻫﻮ اﲡﺎه ﻳﺆﻛﺪ ﻋﻠﻰ ا@ﻨﺎﻓﺴﺔ ﻃﻮﻳﻠـﺔ ا@ـﺪى ﻧﻈﺮﻳﺎ وﲡﺮﻳﺒﻴﺎ ﺑ
ﺑﺮاﻣﺞ اﻷﺑﺤﺎث وﻣﺘﻐﻴﺮات ا@ﺸﺎﻛﻞ
اﻟﺘﺪﻫﻮرﻳﺔ واﻟﺘﻘﺪﻣﻴﺔ2 ﺛﻢ اﻟﻨﺼﺮ اﻟﺬي ﻳﺒﺰغ روﻳﺪا روﻳﺪا ﻟﺒﺮﻧﺎﻣﺞ ﺑﺤﺚ ﺗﻘﺪﻣﻲ ﻋﻠﻰ آﺧﺮ ﺗﺪﻫﻮري.
(415)
وﻛﻤﺎ ﻫﻮ ﻣﻌﺮوف، اﳊﻴﺎد المطلق مستحيل في التاريخ. ولما كان المؤرخ ـ أي مؤرخ ـ ﻳﻨﺰع إﻟﻰ إﻋﺎدة ﺗﺮﺗﻴﺐ اﻷﺣﺪاث... إﻟﻰ إﻋﺎدة ﺑﻨﺎء ﻣﻮﺿﻮﻋﻪ،
ﻛﺎن ﻣﻦ اﻟﻌﺴﻴﺮ أن ﻳﺸﺮع أﺣﺪ ﻓﻲ اﻟﺘﺄرﻳﺦ ﻟﻠﻌﻠﻢ ﻣﻦ دون ﻓﻠﺴﻔﺔ ﻟﻠﻌﻠﻢ... ﻣﻦ دون ﻧﻈﺮﻳﺔ ﻓﻲ
إﻋﺎدة ﺑﻨﺎﺋﻪ اﻟﻌﻘﻼﻧﻲ، ﺳﻮاء أﻛـﺎن المؤرخ ﻋـﻠـﻰ وﻋـﻲ ﺑـﻬـﺬا أم ﻻ. وﻛﻤﺎ أوﺿﺢ ﻻري ﻟﻮﺿﺎن،
ربما كان ﺗﺎرﻳﺦ اﻟﻌﻠﻢ ﻛﻮﻗﺎﺋﻊ ﺣﺪﺛﺖ ﻣﺴﺄﻟﺔ ﻣﺤﺎﻳﺪة، لكن المؤرخ يسجلها على أساس
فلسفي، ولإحراز أهدافٍ فلسفية. (416)
وﺑﻬﺬا ﻳﺴﻔﺮ ﺗﻄﻮر ﻧﻈﺮﻳﺔ ا@ﻨﻬﺞ اﻟﻌﻠﻤﻲ ﻋﻦ ﺻﻴﺮورة
ﺟﺪﻟﻴﺔ ﻓﻘﺪ ﻛﺎﻧـﺖ اﻻﺳﺘﻘﺮاء اﻟﺬي ﻳﺒﺪأ ﺑﺎ@ﻼﺣﻈﺔ2 ﺛﻢ اﻧﻘﻠﺒﺖ إﻟﻰ اﻟﻨﻘﻴﺾ اﻟﺬي ﻳﺒﺪأ ﺑﺎﻟﻔﺮض.
وﻋﻠﻰ ﻣﺸﺎرف اﻟﻘﺮن اﳊﺎدي واﻟﻌﺸﺮﻳﻦ اﺗﺨﺬت ﻧﻈﺮﻳﺔ
ا@ﻨﻬﺞ اﻟﻌﻠﻤﻲ ﺻﻮرة ا@ﺮﻛﺐ اﳉﺪﻟﻲ اﻟﺬي ﻳﺠﻤﻊ ﺧﻴﺮ
ﻣﺎ ﻓﻲ ﻫﺬﻳﻦ اﻟﻨﻘﻴﻀ
وﻳﺘﺠﺎوزﻫـﻤـﺎ إﻟـﻰ اﻷﻓﻀﻞ2 إﻟﻰ ﻧﻈﺮة ﺗﺮى اﻟﻔﺮض وا@ﻼﺣﻈﺔ ﻛﻼ ﻣﺘﻜﺎﻣﻼ.
(421)
أن اﻟـﺴـﺆال ﻋﻦ ا@ﻨﻬﺞ ﺳﺆال زاﺋﻒ2 وأن اﻟﻌﻠﻢ
ﻟﻢ ﻳﻜﻦ أﺑﺪا أﺳﻴﺮ ﻣﻨﻬﺞ واﺣﺪ ﻣﺤﺪد2 ﺑﻞ ﻫﻮ ﻣـﺸـﺮوع ﻓـﻮﺿـﻮي، أي لا يعترف بأي سلطة،
وكل المناهج يمكن أن تجدي فيه تبعاً لشعار فيير آبند الشهير:
كل شيءٍ مقبول. وكانت أسانيد فيير آبند
الأساسية في فحص تسلسل الأحداث الكبرى التي شكلت تاريخ العلم ﻟﻴﻮﺿﺢ أﻧـﻬـﺎ ﻟـﻢ ﺗـﺄت ﻋـﻦ ﻃـﺮﻳـﻖ ﻣﻨﻬﺞ واﺣﺪ ﻣﺤﺪد،
ﺑﻞ ﻣﻨﺎﻫﺞ ﻋﺪة، واﻧﻜﺐ ﻓﻴﻴﺮ آﺑﻨﺪ ﻋﻠﻰ ﺗﺄﻛﻴﺪ اﻟﺘـﻌـﺪدﻳـﺔ المنهجية. ﻛﻞ ﻣﻨﻬﺞ ﻣﻘﺒﻮل ﻋﻠﻰ
اﻟﺮﺣﺐ واﻟﺴﻌﺔ ﻣﺎدام ﻳﻼﺋﻢ ﻃﺒﻴﻌﺔ المشكلة المطروحة للبحث، ﻓﻴﺆدي إﻟﻰ ﺣﻠﻬﺎ واﻹﺿﺎﻓﺔ إﻟﻰ
رﺻﻴﺪ اﻟﻌﻠﻢ. أﻣﺎ ﺗﻜـﺒـﻴـﻞ اﻟﺒﺤﺚ اﻟﻌﻠﻤﻲ بمنهج واﺣﺪ ﻣﺤﺪد، ﻓﻬﺬا ﺿﺪ اﻹﺑﺪاع ﻳﺨﻨﻖ روﺣﻪ
اﻟﻀﺮورﻳﺔ ﻟﻺﳒﺎز ﻓﻲ اﻟﻌﻠﻢ. واﻹﺟﻤﺎع ﻋﻠﻰ
رأي واﺣﺪ ــ ﺑﺸﺄن ﻣﻨﻬﺞ واﺣﺪ ــ ﻳﻨﺎﻗـﺾ ﻃﺒﻴﻌﺔ اﻟﻨﺸﺎط اﻟﻌﻘﻼﻧﻲ ﻋﻠﻰ اﻷﺻﺎﻟﺔ ﻛﺎﻟﻌﻠﻢ اﻟﺘﺠﺮﻳﺒﻲ.
ﻣﻦ ﻫﻨﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﻧﻈﺮﻳﺔ ﻓﻴﻴﺮ آﺑﻨﺪ ا@ﻴﺜﻮدوﻟﻮﺟﻴﺔ
ﻫﻲ »اﻟﺘﻌﺪدﻳﺔ ا@ـﻨـﻬـﺠـﻴـﺔ« اﻟﺘﻲ ﻫﻲ ذاﺗﻬﺎ اﻟﻔﻮﺿﻮﻳﺔ أو اﻟﻼﺳﻠﻄﻮﻳﺔ ا@ﻌﺮﻓﻴﺔ. ﻓﺈن ﺷﺌﻨﺎ
ﻋﻨﻮاﻧﺎ ﻟﻔﻠﺴﻔﺘﻪ ﻟﻠﻌﻠﻢ ﻓﻬﻮ »اﻟﻌﻘﻼﻧﻴﺔ اﻟﻔﻮﺿﻮﻳﺔ« اﻟﺘﻲ ﺗﺮﻓﺾ ﺑﺸﺪة ﺗﻨﺼﻴﺐ اﻟﺴﻠﻄﺔ ا@ﻌﺮﻓﻴﺔ
@ﻨﻬﺞ ﻣﺤﺪد2 وﺗﺮﻓﺾ أﻳﻀﺎ ﺗﻨﺼﻴﺐ اﻟﺴﻠﻄﺔ ا@ﻌﺮﻓﻴﺔ ﻟﻠـﻌـﻠـﻢ ﺑـﺎﻟـﺬات! ﻋـﻠـﻰ أﺳﺎس أن اﻟﺘﻘﺪم
ا@ﻌﺮﻓﻲ ﻳﺄﺗﻲ ﻋﻦ ﻃﺮﻳـﻖ إﻃـﻼق ﻃـﺎﻗـﺎت اﻹﺑـﺪاع واﳋـﻠـﻖ واﻻﺑﺘﻜﺎر2 وﻟﻴﺲ اﻟﺒﺘﺔ ﺑﺎﻟﺘﺸﺪﻳﺪ ﻋﻠﻰ اﺗﺒﺎع ﻣـﻨـﻬـﺞ ﻣـﻌـ
2 أو اﻗـﺘـﻔـﺎء ﺧـﻄـﻰ ﻧﻈﺎم ﻣﻌﺮﻓﻲ ﻣﺤﺪد دون ﺳﻮاه. (422)
ﻛﺎن ﺑﺎﺷﻼر ﺻﺎﺣﺐ ﻓﻀﻞ ﻛﺒﻴﺮ ﻓﻲ إﻧﻬﺎء اﻟﻨﻈﺮة
إﻟﻰ ﺗﺎرﻳﺦ اﻟﻌﻠﻢ أو ﻣﺎﺿﻴﻪ ﻛﺴﺠﻼت ﻹزاﺣﺔ اﳉﻬﻞ2
وإذا ﻛﺎن ﻋﺎﻟﻢ ﻧﻴﻮﺗﻦ2 ﺗﻠﻚ اﻵﻟﺔ ا@ﻴﻜﺎﻧﻴﻜﻴﺔ
اﻟﻌﻈـﻤـﻰ اﻟـﺘـﻲ ﺗـﺴـﻴـﺮ وﻓـﻘـﺎ ﻟﻘﻮاﻧﻴﻨﻬﺎ اﻟﺬاﺗﻴﺔ وﺑﻔﻌﻞ ﻋﻠﻠﻬﺎ اﻟﺪاﺧﻠﻴﺔ ﻓﻲ زﻣﺎن وﻣﻜﺎن
ﻣﻄـﻠـﻘـ
2 إزاء أي ﻣﺮاﻗﺐ ﻓﻲ أي
وﺿﻊ ﻛﺎن وﺑﺄي ﺳﺮﻋﺔ ﻛﺎﻧﺖ2 وﻛﻞ ﻣﺎ ﻋﻠﻴﻪ ﻓﻘﻂ أن ﻳﺮاﻗﺒﻪ ﻣﻦ وراء ﺳﺘﺎر ــ إذا ﻛﺎن ﻫﺬا ﻫﻮ
ﻋﺎﻟﻢ ﻧﻴﻮﺗﻦ2 ﻓﺈن ﻋﺎﻟﻢ اﻟﻨﺴﺒﻴﺔ ﻟﻴﺲ ﻫﻜﺬا اﻟﺒﺘﺔ وﻻﺑﺪ ﻣﻦ ﺧﻠﻖ أو ﻋﻠﻰ اﻷﻗﻞ ﲢﺪﻳـﺪ ﻣـﻨـﻈـﻮر وﺳـﺮﻋـﺔ ا@ـﺮاﻗـﺒـﺔ. وﻻ ﺗـﺘـﺄﺗـﻰ ا@ﻼﺣﻈﺔ أﺻﻼ ﻓﻲ اﻟﻌﺎﻟﻢ
اﻟﻜﻤﻮﻣﻲ ــ أو ﻋﺎﻟﻢ اﻹﻟﻜﺘﺮوﻧﺎت واﳉﻴﻨﺎت ﺑﻐﻴـﺮ ﻓﺮض ﻳﻔﺘﺮﺿﻪ
اﻟﻌﻘﻞ وﻳﺴﺘﻨﺒﻂ ﻣﻨﻪ وﻗﺎﺋﻊ ا@ﻼﺣﻈﺔ. ﻫﻜﺬا أﺻﺒﺤﺖ ﻓﺼﻮل ا@ﺴﺮﺣﻴﺔ اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ ﺗﻨﺒﺜﻖ ﻣﻦ ﻗﻠﺐ اﻟﻮاﻗﻊ
اﻹﻧﺴﺎﻧﻲ ﺑﺤﺪوده ا@ﻌﺮﻓﻴﺔ وﻣﺘﻐﻴﺮاﺗﻪ اﻟﺘﺎرﻳﺨﻴﺔ2 وأﺻﺒﺢ اﻟﻌﻠـﻤـﺎء ﻛـﻤـﺎ أﺷـﺎر ﻧـﻴـﻠـﺰﺑـﻮر.
ﻟـﻴـﺴـﻮا ﻓـﻘـﻂ ﻣـﺮاﻗـﺒـ
أو ﻣﺸﺎﻫﺪﻳﻦ2 ﺑﻞ ﻫﻢ أﻳﻀﺎ ا@ﻤﺜﻠﻮن واﻟﻤﺨﺮﺟﻮن وا@ﺆﻟﻔﻮن. ﻓﻜﺄن اﻟﻌﻤﻞ
اﻟﻌﻠﻤﻲ ﻛﺎﻟﻌﻤﻞ ا@ﺴﺮﺣﻲ ﻣﺤﺾ ﺻﻨﻴﻌﺔ ﻟﻺﻧـﺴـﺎن2
إذا كان عالم نيوتن، تلك الآلة
الميكانيكية العظمى التي تسير وفقاً لقوانينها الذاتية وبفعل عللها الداخلية في
زمان ومكان مطلقين، إزاء أي مراقب في أي وضع كان وبأي سرعةٍ كانت، وكل ما عليه فقط
أن يراقبه من وراء ستار ـ إذا كان هذا هو عالم نيوتن، فإن عالم النسبية ليس هكذا
البتة ولا بد من خلق أو على الأقل تحديد منظور وسرعة المراقبة. ولا تتأتي الملاحظة
أصلاً في العالم الكمومي ـ أو عالم الإلكترونات والجينات بغير فرض يفترضه العقل
ويستنبط منه وقائع الملاحظة. هكذا أصبحت فصول المسرحية العلمية تنبثق من قلب
الواقع الإنساني بحدوده المعرفية ومتغيراته التاريخية. وأصبح العلماء كما أشار
نيلزبور، ليسوا فقط مراقبين أو مشاهدين، بل هم أيضاً الممثلون والمخرجون
والمؤلفون، فكان العمل العلمي كالعمل المسرحي محض صنيعة الإنسان. (441)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق