آلان باديو: الحياة
الحقيقية وقلق الحضارة
كتابكم الأخير "الحياة الحقيقية" يتحدث عن الشباب في عالم اليوم والتشوش الكبير الذي يعيشونه وتلاحظون الهوس في زماننا بتمجيد الشباب من جهة والخوف منهم في الوقت نفسه. كيف تفسرون هذه المفارقة؟
حتى نفهم الوضع الراهن للشباب علينا رؤية وضع العالم كله كما هو عليه اليوم. منذ انتصار الرأسمالية المعولمة والمجتمع الذي بنته، تحوز قضية احتلال مكان في العالم والخروج منتصرين من سباق التنافس والمزاحمة (ضمن ديناميكية حركة رؤوس الأموال والبضائع والأفكار) أهمية كبرى. وتحقيق هذا هو صراع صعب ومؤلم عدا عن أن المنتصرين فيه هم في نهاية الأمر قليلو العدد دائماً. سيؤدي بنا رفضنا لقانون المنافسة إلى الاستسلام إلى الحنين لعالم قديم ذي ترتيب واضح، أقل تحركاً وأقل تنافساً، وقيم رمزية أكثر وضوحاً وتثبيتاً وتقليدية. أعتقد أن كلا الخيارين (مجتمع المنافسة أو مجتمع التقاليد) لا يقدم للشباب مستقبلاً واضحاً أو شغوفاً. في الأول، هناك التموضع التنافسي في العالم كما هو، وفي الثاني هناك التراجع نحو قيم كان يعتقد أنها ضعفت أو دمرت منذ وقت طويل. الشباب منقسم ضمن هذه الشروط، منقسم حول الخيار أو حول انعدام الخيار. أولئك الذين يقبلون الخيار الأول ينعمون بالتقدير (هم شباب العالم). إيديولوجيا هذا الخيار أنه يجب البقاء شاباً إلى الأبد حتى نبقى مقاتلين فعالين إلى الأبد في معركة التنافس. بالمقابل هناك شباب الضواحي والهوامش كـ"شبح ينتاب مجتماعتنا". الشباب منقسم بحدة إذاً. واختيار نمط حياة ذي معنى/اتجاه بات أمراً شديد التعقيد الأمر الذي يؤدي إلى أزمات يعرفها الجميع (المدرسة، التعليم المهني، المسار المهني... الخ).
حسناً، ما الذي ينقص هؤلاء الشباب أساساً؟ هل هي ما تسمونها في كتابكم "طقوس تلقين المبادئ"؟ تبدون في الكتاب نادمين حتى على إلغاء الخدمة العسكرية للذكور؟
"طقوس تلقين المبادئ" من الأمور القليلة الباقية من العالم القديم ولن نعود إليها. كانت مرحلة الشباب تستكمل بطقوس ترسم بوضوح الحدود بين مرحلتي الطفولة والبلوغ في عالم قديم مستقر نسبياً ومرتب تكون الخدمة العسكرية أحد آخر تمظهراته (كان المواطن يطلب ليكون في خدمة المجتمع/الوطن/العائلة... الخ). المطلوب اليوم ليس إيجاد "طقوس تلقين مبادئ" (هذا مسار متقادم) بل إيجاد طرق جديدة في الترميز: لا يمكن للشخص أن يكوّن نفسه دون الاعتماد على مجموعة قيم، أي دون أن يستطيع أن يعرف لماذا تستحق حياته أن تعاش. والقيمة اليوم هي أن تكون ناجحاً. لكن ماذا يعني ذلك؟ إذا لم تقبل بأن تكون مملكة العالم خاضعة لقانون النجاح المالي/الاجتماعي سيتم استبعادك لأن لا وجود لأي قيمة أخرى بديلة ما عدا تلك التي للعالم القديم، وهذه الأخيرة مدمِّرة وسطحية وعلى درجة كبيرة من العنف والقسوة.
ما هي إذاً تلك القيم الأخرى التي تكوّن حسب رأيكم "الحياة الحقيقية"؟
كان (أرتور) رامبو في نهاية القرن 19 قد قال بأسلوب تنبؤي إن "الحياة الحقيقية مفقودة". ما الذي كان يعنيه؟ كان يقصد أن الحياة الحقيقية المفقودة هي تلك التي تكون على مستوى الشاعر. الحياة الحقيقية هي التي يمكنها أن تكون بذاتها "شاعراً"، التي تكون بذاتها كثيفة، شغوفة، ومتفردة دون أن تدفع في الآن ذاته ثمن تدمير أو السيطرة على حيوات الآخرين أو أن تحاول أن تكون الأفضل بينها. بالنسبة لرامبو، ولنا كذلك، ما يفتقده العالم كما هو عليه اليوم هو نظام رمزي، نظام قيم، يعزز كل ما هو إبداعي ويثمّن الجديد (الفني، العلمي، السياسي... الخ) باعتماد عناصر على قدر كاف من الكليّة (universalisme) تمكن من الدفع باتجاه المساواة. العالم القديم، بمعنى عام، كان عالماً ينظم القيم بواسطة ترتيب صارم للتنظيم الاجتماعي (الأنظمة الملكية الكبرى، المؤسسات الكنسية الكهنوتية، القيم الأخلاقية، والقبول أنه لطالما كان هناك وسيبقى موجوداً الأغنياء والفقراء... الخ). الرأسمالية دمرت هذا العالم لأنها ببساطة وكما بيّن ذلك ماركس لا تعرف أبداً أياً من هذه الأشياء. شرح ماركس في "البيان" أن ما تعرفه الرأسمالية هو "أغراضها الأنانية المجرَّدة من العاطفة"، أي خضوع الجميع للقانون عديم الرحمة لازدهار الثروة. العالم القديم قد دمر والبحث الآن هو عن نظام قيم آخر لا يتقلص ليشبه النظام المقتصر على مواضيع المنافسة الكونية وتصنيف الناس بين ناجحين وفاشلين كما هو الأمر في الغرب. أعتقد أن من الواجب إعادة إنشاء نظام رمزي ما يمنح الحياة معنى فردياً خلاقاً ومتفرداً ويكون في الوقت نفسه ضمن مناخ عام أكثر مساواة مما هو عليه الحال اليوم. لذلك أستطيع القول بطريقة تجريدية بعض الشيء أن علينا توجيه شغلنا باتجاه ما أسميه "الرمز المساواتي" الذي يحل محل "الرمز الهيراركي للزمن الماضي" ويقف بالتعارض مع الفوضى العنيفة لعالم رأس المال.
تقولون إن "الرأسمالية هي آلة تفقد الأفراد الاتجاه". هل يمكن اعتبار ذلك تلخيصاً صحيحاً لموقفكم؟
نعم ويحصل ذلك بطريقتين. فإما تفقدهم الاتجاه "إيجابياً" بتوجيههم نهائياً نحو الفكرة التي تقول أنه في العمق لا يوجد في العالم شيء آخر غير النجاح المادي (وهذا في الحقيقة بمعنى ما هو كذلك إفقاد للاتجاه، لأن ذلك يعني "ادعس على الآخرين حتى تحقق ما تريد" وهو ما يتعارض بعمق مع وجود البشرية بكاملها). أو، بالمقابل، لدينا المحبطون الذين يشعرون بالمرارة لأنهم لم يجدوا مكاناً لهم في هذا التنافس العام والجاهزون لفعل أي شيء مقابل أن يشعروا أنهم بذلك ربما يفعلون شيئاً غريباً ورائعاً وخارج المألوف. هذا بحث مشلول لأنه مشدود إلى العالم القديم ومجبر على أن يجد لنفسه أسباباً تنتمي إلى هذا العالم القديم (دينية أو هيراركية أو سلطوية). ودائماً حين نقوم بالفعل استناداً إلى أفكار ميتة بالفعل نصبح نحن فريسة الموت وهذا ما يفسر أن الأسلوب الوحيد لتفعيل أي شيء في هذا الاتجاه هو الجريمة والانتحار في الوقت نفسه. لنلاحظ أن جميع الاعتداءات المرعبة والمجازر الجماعية التي شهدناها مؤخراً بذهول كانت تنتهي دائماً بانتحار أبطالها. إذاً فإن الموت بالنسبة لهؤلاء الأشخاص (موتهم هم وموت ضحاياهم في نوع من التضحية النهائية) يعطيهم انطباعاً سخيفاً لكنه حقيقي بأنهم بكل بساطة موجودون. علينا في الآن نفسه أن نسأل أنفسنا كيف يمكن للعالم أن ينتج هذا النوع من الأفراد؟ وهذا ما حاولت أن أوضحه بالتركيز على أن التجانس المطلق للتمثيلات المرسملة والمالية لعلاقات الإنتاج والاجتماع كلها تتضمن عالماً من التنافس والتزاحم وأن للافتقاد إلى رمز مساواتي نتائج قاتلة.
ما رأيكم بواقعة أن "داعش" يجند بإطراد شباباً وفي أحيان كثيرة قاصرين وكذلك فتيات؟
هذا يندرج فيما نتحدث عنه هنا. وأعتقد أنه كان من الممكن تجنب ذلك لو عُرض على الشباب وعلى نطاق واسع توجه إيجابي نحو عالم جديد رمزياً (عالم مساواتي قدر ما تتيحه الظروف) دون أن يشعروا بأنهم مجبرون على العودة والإشارة إلى عالم قد اختفى. هناك جانب يذكر بالزومبي في هذا النوع من الإرهاب والمجازر الجماعية، أي الميت/الحي، فهم يأتون في الحقيقة بعد موت الآلهة (موت الله خاصتهم على كل حال) ويدفعون بالموت نفسه ثمن هذا الموت. وهذا ببساطة ناتج عن انتفاء تقديم أي سبيل آخر أمام من لم يجد له مكاناً حقيقياً في عالم المنافسة. لا سبيل آخر معروضاً يجيب عن السؤال الأساس: هل من الممكن إقامة نظام قيم مترسخ في المساواة بين جميع الرجال والنساء ولا تتم تصفيته عبر المنافسة المتوحشة المحتومة بين الدول أو الشركات الكبرى... الخ حيث يكون الانتصار على الآخرين قاعدة مقبولة دائماً وعلى جميع مستويات التنظيم الاجتماعي.
كيف تردون على منتقديكم الذين يذكرون بالملايين من ضحايا الأنظمة الشيوعية عبر التاريخ؟
الفرضية الشيوعية، أي فرضية عالم لا يعود محكوماً بواسطة المالكين ووكلائهم وانعدام المساواة الرهيب الذي يرشح منهم، قد صيغت بشكل واضح منذ القرن 19. من المهم العودة دائماً إلى البدء لنعرف عن ماذا نتحدث. وتتكون هذه الفرضية من 4 مبادئ كبرى مرتبطة ببعضها:
1- لا يمكن القبول بأن يكون عالم الاقتصاد والإنتاج والعمل تحت قبضة أرستقراطية من مالكي رؤوس أموال شديدة الضيق وتصبح مع مرور الزمن أكثر ضيقاً بعد. بين ماركس أن رأس المال يتركز بالضرورة وأن مالكي ثروات العالم يصبحون أقل فأقل من حيث عددهم. نعرف اليوم وعبر إحصاءات رسمية أن أقل من 2% من البشر يملكون ما يملكه 3 مليارات آخرين، وهي بالتالي أرستقراطية أكثر انحصاراً من تلك التي كانت في ظل النظام القديم حيث كان النبلاء يشكلون حوالي 10% من مجمل السكان. الشيوعية تقول إن بالإمكان القيام بشيء مختلف وأن الإنتاج يمكن أن ينظم بشكل يمنع الخضوع لأرستقراطية بالغة التقييد.
2- وهنا مبدأ هام غالباً ما يتم نسيانه، لقد أكدت الشيوعية أنه لم يكن من الضروري أو من المحتم القيام بتنظيم هائل للعمل يقسمه إلى عمل يدوي وعمل ذهني، إلى مهام إدارة ومهام تنفيذ... الخ. ماركس تحدث عن العامل المتعدد الأشكال، أي ذلك الذي يمكنه التحرك بين مختلف أنظمة العمل معتبراً تحقيق ذلك المهمة التي على الشيوعية إنجازها.
3- لم يكن من المؤكد أنه كان من الواجب الإبقاء بأي ثمن على الشكل الشمولي والقومي للدولة، رغم أنه وخلال زمن طويل كان من الضروري ربما إقامة دولة مركزية لكن ذلك لم يكن المصير العام للدولة... وهذا ما يسميه ماركس صيرورة الهلاك المتعاظم للدولة، أي القيام بمجمل مهمات الدولة من قبل مجموع المنظمات الشعبية المحلية المتشعبة.
4- لم يكن من الضروري أن يكون البشر وإلى الأبد تحت رحمة الصراعات بين الأمم والتي تسببت بالحروب والمجازر الأكثر هولاً في كل التاريخ الإنساني.
هذه هي الشيوعية... هي سياسة تحاول أن تستند في كل حال من الأحوال المحددة والخاصة إلى هذه المبادئ الأربعة. بالطبع فإن ما جرى هو أن التفسير المعمم لكل هذا كان أنه لتحقيق ما تقدم ذكره يجب الاستيلاء على السلطة. مسألة السلطة أي الدولة باتت المسألة المركزية التي تختصر غيرها من المسائل. وهذا ما جرى بالفعل بدءاً من اللحظة التي وقعت فيها ثورات تستقي من النموذج الشيوعي. ما حصلنا عليه بنتيجة هذه الثورات هو تقريباً عكس ما كانت تعلنه المبادئ: إنشاء دول على درجة كبيرة من المركزية.. دول عنيفة مرعبة وإرهابية. يجب التذكير بالمقابل أن هذه الدول كانت محاطة بأعدائها وينظر إليها كشيء شاذ في العالم. رأينا إذاً العنف الهائل وتنظيم العمل القسري وزيادة الإنتاج مهما كلف الثمن... الخ ولكن كذلك الدخول في مسار منافسة متفاقمة مع الغرب لم يكن لديها أي حظ في كسبها لأنها كانت تقلّد دون أي عقلانية وعن بعد كثيراً من قواعد وأنظمة العالم الذي كانت تنتقده. الآن، هذه المرحلة انتهت.. وفشلت. فشلت فشلاً كاملاً وتاماً ونحن اليوم نواجه ما أسميه "المرحلة الثالثة". كان هناك مرحلة ابتكار الفكرة في القرن 19، ثم مرحلة محاولة التطبيق بوسائل دولتية وشمولية خالصة، واليوم علينا العودة إلى مبادئ القرن 19 وإيجاد سبل للعمل السياسي لا تكون خاضعة للسلطة المطلقة للدولة وقادتها. وهذا أمر علينا القيام به.. علينا نحن ابتكاره.
إذاً، فأنتم لا ترغبون بالديمقراطية كما هي عليه اليوم ولا تعتقدون أنها أفضل الأنظمة أو على الأقل أقلها سوءاً كما كان يقول تشرتشل؟
إن قضية النظام السياسي ليست القضية ذات الأولوية. ما يصدمني في كل الصراعات الانتخابية هو أن لا أحد أبداً يطرح المشكلة الأساس ألا وهي ما الذي نفهمه تماماً من كلمة مجتمع. فالجميع يتصرف كما لو كان ذلك بديهية، غير أن المجتمع الديمقراطي ليس بديهية أبداً. الديمقراطية اليوم هي عنصر شكلي ويجب النظر إليها باعتبارها كذلك، وهي أيضاً، وأعتقد أن الجميع قد مر بهذه التجربة، نظام خيبة الأمل المتواصلة. هنالك هيجان انتخابي معتبر ونتصرف كما لو أن ذلك على درجة كبرى من الأهمية وأن المتسابقين يطرحون خيارات راديكالية... الخ، ومن ثم نفهم بسرعة فيما بعد أنهم يقومون جميعاً بالشيء نفسه. لماذا؟ ليس لأنهم سيئون مثلاً أو غير ذلك، بل لأنهم بالأحرى وحين يحوزون السلطة يدركون أنه في هذا العالم (في العالم كما وصفته الآن) ليس هناك من هامش كبير للمناورة والفعل، هذا العالم الذي تقف بنيته الداخلية حائلاً أمام كل تنوع جدي. أعتقد إذاً أن في مناخات كهذه ليس هناك من فروق كبيرة... وهنا نرى أنه نظام خيبة الأمل المتواصلة لأنه وحتى يتم انتخاب شخص ما فإن عليه أن يقول أن هناك فروقاً كبيرة مع الآخرين، ثم ما نلبث نحن أن نفهم أن هذه الفروق ليست في الحقيقة إلا فروقاً صغيرة جداً. النتيجة هي أننا سنذهب في المرة المقبلة ونصوت للآخرين (أي ما نسميه نظام التناوب) والذي لن يكون إلا تسخيناً وتحضيراً ليعود الأولون وهكذا. أستطيع أن أفهم أن ينخرط البعض في هذه اللعبة.. لم لا.. يمكننا في نهاية المطاف أن نقول "حسناً لكن فرقاً صغيراً هو دائماً فرق صغير... الخ" لكننا نتعود مع مرور الوقت على أن يصبح هذا الفرق الصغير أصغر فأصغر... هذه هي القاعدة. على مستواي الشخصي ووضعي كفيلسوف وناشط ملتزم كان شاهداً على مراحل معقدة لا يمكن حل المشكلات الحقيقية في مجتمعاتنا بهذه الطريقة لأن تلك المشكلات تتطلب اعتماد خيار أكثر عمقاً وجذرية. وبالحديث عن مجتمعاتنا، فقد تكلم فرويد عن "قلق في الحضارة" حين وقعت الحرب العالمية الأولى والتي كانت بالنسبة له دليلاً ضارباً على ذلك. هذه هي المشكلة.. هناك قلق في الحضارة وهي أكثر عمقاً من مسألة ما إذا كنا سنفضل في الانتخابات (إيمانويل) ماكرون على (فرانسوا) بايرو.
تفضلون إذاً تركيز جهودكم على "إفساد الشباب"؟ ماذا يعني ذلك؟
للإجابة علينا العودة إلى أستاذنا المؤسس سقراط الذي حوكم بتهمة "إفساد الشباب" بالمعنى التالي: كان سقراط يحوّل الشباب ويبعدهم عن طريق العبادات في المدينة وكذلك حتى عن اللعبة السياسية (لم يكن سقراط راضياً عن الطريقة التي تعمل بها المجالس السياسية... الخ). لذلك، فقد اعتبره محاكموه شخصاً يبعد الشباب عن الانخراط في العالم كما هو. ورغم أن المجتمع هناك كان ديمقراطياً إلا أنه كان في الوقت نفسه مجتمعاً محافظاً بالنسبة لقوانينه. وسقراط في هذا الجو اعتبر خارجاً عن الشرعية الديمقراطية وحكم عليه تالياً بالإعدام. إذاً فإن مهمة الفلسفة تكمن في التوجه إلى الشباب في ظروف تتضمن نقداً راديكالياً للعالم الاجتماعي والسياسي والعام كما هو عليه. لا يمكن للفلسفة أن تتردد ولا تبادر بهذا النقد بحجة الخضوع والامتثال للقواعد العامة الاجتماعية أو الوطنية. هذا تراث ثمين وصلنا من ذلك الزمن وكان دائماً يتم تبريره بالوظيفة النقدية للفلسفة وبأن الفلسفة تعيّن إمكانية إنشاء حياة مختلفة عن تلك الموجودة، حياة تكون متجهة بشكل أكثر وضوحاً نحو قيم ذات معاني كليّة (universalisme) ولا تكون محكومة من قبل شخوص ذوي نزعات قومية معادية للأجانب وتتركز حول إرادة النجاح وشؤون الموازنة... وغيرها مما لا يعطي معنى حقيقياً للسياسة عموماً. هذا هو إذاً ما اعتبره المواطنون الأثينيون المتزمتون "فساداً" وباسمه أجبروا سقراط على تجرّع السم... الفرق بيني وبين سقراط هو أني لم أحاكم بالموت وهو ما يسأل عنه القضاة في زماننا.
تقدمون قراءات فلسفية على خشبة مسرح "La Commune" في ضواحي باريس وأنتم معروفون كذلك ككاتب مسرحي وعرضت أحد أعمالكم الأوبرالية بعنوان "الشال الأحمر". ما الذي يمثله المسرح في حياتكم وعملكم؟ وهل صحيح أنكم كنتم ترغبون في أن تصبحوا ممثلاً كوميدياً؟
هذا صحيح تماماً، وربما لقد أصبحت هذا الممثل الكوميدي رغم كل شيء. اللقاء بالمسرح كان بالنسبة لي لقاءاً مزلزلاً حين كنت شاباً (12-13 عاماً). ظهرت في تلك الفترة في مدينتي تولوز فرقة متأثرة بأفكار (جان) فيلار حول المسرح الشعبي تسمى "Le Grenier de Toulouse" قدمت عروضاً أثرت فيّ بشدة وتضمنت أفكاراً تجديدية (كاعتمادها خطاباً أكثر مواجهة مع الجمهور بالإضافة لبساطتها وتحطيمها للقوانين القديمة في الكوميديا... الخ). وكان أستاذي في تلك المرحلة قد أدخل المسرح في التعليم وقدم بعض العروض ومن ثم أصبحت كوميدياناً كما كثيرين في تلك المدرسة. قدمنا بعض المسرحيات لموليير مثل "غيرة المخدوع" و"الصقلي" وصولاً إلى "خيانات إسكابان" التي حظيت فيها بدور البطولة وبدأت أعي أن المسرح هو ذلك المكان المتفرد حيث تقدم ويعاد تقديم شخوص البشرية في حيواتهم، هو المكان الذي يوضح "اللعبة" الاجتماعية بمعنى مزدوج لكلمة "لعبة"... أي هو "اللعب" من جهة وكون اللاعبين يشكلون في الوقت نفسه "لعبة" في المجتمع... الخ من جهة أخرى. المسرح هو مكان هذه اللعبة المزدوجة والتي تتناسب بطريقة ما مع الفلسفة. ستحاول الفلسفة تبيان أن بإمكاننا أن "نلعب" بشكل مختلف في الحياة الشخصية والجماعية. هنالك برأيي نوع من التوافق بين المسرح والفلسفة وهنا أعارض أستاذي أفلاطون الذي لم يكن يثق كثيراً بالمسرح باعتباره مكاناً للتقليد والأوهام والشهوات المنفلتة... الخ. أعتقد أنه كان مخطئاً في ذلك.. ربما لأنه لم يتلق مثلي تعاليم بريشت فيقوم بإصلاح خطئه. أخطأ أفلاطون لأنه لم يدرك أن اللعب/التمثيل في المسرح يتم تناوله بشيء من التباعد الذي يسمح بتقييمه كواقع وكلعب/تمثيل في الآن ذاته... أو كلعب/تمثيل الواقع. للمسرح وفق وجهة النظر هذه وظيفة تعلمية وجوهرية. بالتالي، بقيت متعلقاً بالمسرح الذي لم يتعارض مع الفلسفة في حياتي... على العكس فقد قام بتنشيطها من الداخل.
وهل ما زلتم تكتبون للمسرح؟
نعم، لقد كتبت مؤخراً مسرحية إذاعية بعنوان "محاكمة سقراط الثانية" قدمتها إذاعة "فرنسا ثقافة" وسجلت في الاستديو الكبير لـ"بيت الإذاعة" ولعبت فيها دور سقراط.
أعرف أن واحداً من أحلامكم هو تنفيذ فيلم سينمائي على الطريقة الهوليودية عن حياة أفلاطون وأنكم تتمنون أن يقوم براد بيت بدور أفلاطون وشون كونري بدور سقراط. هل ما زلتم تفكرون بذلك؟
نعم لكنه لم يحرز أي تقدم وذلك خطئي لوحدي لأن علي بداية أن أحضر سكريبت كاملاً عن حياة أفلاطون باللغة الإنجليزية. لقد كتبت بالفعل 7 مشاهد من خطة عامة تتضمن 24 أو 25 مشهداً. لذا فإن أمامي عملاً كثيراً بعد لكنني أنوي فعلاً كتابة هذا العمل المهم لأننا لا نعرف تقريباً أي شيء عن حياة أفلاطون والبعض يطلق العنان لخياله وابتكاراته حول هذه الحياة. هناك الكثير من القصص الكاذبة حول حياته... الخ. نستطيع إذاً إعادة بناء قصة حياة أفلاطون من وجهة نظر أفلاطون نفسه وهذا هو الأمر المهم. أي إعادة كتابة قصة حياة أفلاطون انطلاقاً من حواراته نفسها ومحاولة تقديم حياته الفلسفية في فيلم يجب أن يكون إنتاجاً ضخماً جداً... لماذا؟ يجب علينا أن نتعامل بجدية مع القصص التي تروى عن أفلاطون. يقال مثلاً أن قراصنة قبضوا عليه خلال عودته من إحدى رحلاته إلى صقليا وذهبوا به إلى الجزائر.. إذاً، ترون أن الواجب تقديم معركة بحرية بإمكانيات معتبرة، فالفلسفة تستحق أن تنفذ من أجلها معارك بحرية جديرة بأن تسمى معارك.
ولذلك يجب إقناع هوليوود؟
طبعاً... وما زلت أعتقد أن براد بيت يمكن أن يقبل الاشتراك مجاناً دون مقابل في الفيلم... إنه لشرف عظيم أن يحظى أي شخص بتمثيل دور أفلاطون.
كتابكم "مديح الحب" كتاب صغير حظي بنجاح كبير وتمت ترجمته حول العالم. الآن وبعد عدة سنوات على صدوره، كيف تفسرون هذا النجاح وما الذي تغير في فلسفتكم وعلاقتكم بالجمهور بعد هذا الكتاب؟
أود في البداية أن أقول إنه ليس غريباً إحراز النجاح حين يتعلق الأمر بموضوع الحب... فهذا معروف من زمن طويل، لكن كان من الضروري أن أقدم شيئاً جديداً على هذا الصعيد حتى يثير الكتاب الاهتمام. في الحقيقية لقد دافعت ومنذ زمن طويل عن فكرة أن الحب، جنباً إلى جنب مع العلم والفن والسياسة التحررية، هو إحدى دعائم الحقيقة. لكن ما هي حقيقة الحب؟ هذا ما حاولت أن أبينه في الكتاب الصغير. وجاوبت أن حقيقة الحب هي حقيقة الاختلاف، بمعنى أن الحب هو أن يقبل المرء في حياته نفسها بوجود شخص آخر يكون مختلفاً إلى أبعد الحدود عنه، وذلك باعتبار أن كل الأشخاص مختلفون عن بعضهم إلى أبعد حد. وقلت إن الحب هو ذلك الشيء الذي يتغلب بشكل جذري على الصعوبة التي تطرحها الغيرية. هذا هو المسار الذي يجري فيه هذا التغلب رغم أنه ينطوي كذلك على صعوبات أو أزمات أو حتى على أحداث تراجيدية. وقلت كذلك إن الحب هو العالم وقد اختُبر لا من وجهة الواحد بل من وجهة نظر الاثنين معاً. إنه العالم وقد أعيد تشكيله وأعيد تكوينه وأعيد اختباره انطلاقاً من أننا اثنان وليس واحداً. إنه ومن خلال هذا القبول النهائي لغيرية متضمنة في وجودكم ذاته يأخذ الحب مساره. إذاً، فالحب في العمق فلسفياً هو ما يمنح الاختلاف حقيقته لكن ليس بأن نردد بأن "الاختلاف هو الاختلاف"، بل أن نرى أن الاختلاف فعل خلاق... فنحن حين نكون في علاقة حب مع أحد ما تتغير علاقتنا كلها بالعالم وتنتظم بطريقة مختلفة. هذا ما حاولت قوله في الكتاب، الذي هو في الأصل حوار مع نيكولا تريونغ في مدينة أفينيون، وانتبهت إلى أن لهذا النوع من الأفكار جمهوراً معتبراً ومهماً فهم الأطروحة التي يدافع عنها الكتاب وهي أن الحب بوصفه كذلك يتعرض للتهديد اليوم. الحب مهدد لأنه لا يتوافق في الحقيقة مع الفردانية التنافسية المطلوبة في مجتمعاتنا حتى يتم قبولنا فيها كمنتصرين. فالحب يتوقف على قبولنا التام للآخر في حياتنا الخاصة ويخضع فردانيتنا ليس لاختبار النجاح الشخصي والانتصار على الآخرين ولكن لاختبار الغيرية. هنالك بالتالي انعدام توافق خفي بين الحب والعالم كما هو اليوم. لقد انتبهت إلى أن انعدام التوافق هذا هو ربما قلق منتشر لدى كثيرين يتساءلون حول ما إذا كان للحب مكان اليوم ويقولون أليس الحب خطيراً؟ هل علاقة الحب ما زالت ممكنة؟ وذلك إذا أخذنا بالاعتبار أن نصف الأزواج ينفصلون بعد مضي عدة سنوات على حبهم وأننا نعيش أزمة في الشعر (لقد توقف رامبو كذلك عند موضوع أزمة الحب). هذه الأزمة تقلق كثيرين إذاً لأن لقاء الحب وتجربة الحب هو في نهاية الأمر تجربة كونية (universalisme). ونرى أن صعوبة الحب المحتملة اليوم أو فكرة أنه في نهاية الأمر من المستحسن ألا تكون علاقة الحب عميقة كثيراً ويكون بديلها نوعاً من العقد بين الطرفين... لقد انتقدت مثلاً طرق العثور المنظم عن طريق مواقع التعارف على شريك الحب حيث يقولون لنا "سنجد لكم الشريك الذي يشبهكم كثيراً.. الذي يتوافق معكم: لديه نفس ذوقكم ويحب الرحلات التي تحبونها... الخ". وقلت إن قصص الحب الحقيقية كانت دائماً مناقضة لهذا المسار. قصص الحب الحقيقية كانت دوماً اختباراً لاختلاف رئيسي ومسار حياة تقوم بدمج هذا الاختلاف الرئيسي. حين يصبح هذا عبارة عن عقد بالتراضي يعود بالمنفعة على الطرفين فمن الأفضل أن يتم توقيعه مسبقاً والقول إنه وبحسب ملف الشخص الذي عرضوه علي على الانترنيت سأختار هذه وذاك. أعتقد أن هذا يشكل عرضاً لأزمة الحب لأننا في النهاية نتعامل معه كما نتعامل مع حيازة السلعة أي بحسب مبدأ التوافق وإشباع رغبتنا التجارية. والآن لأجيب عن سؤالك تماماً، أنا أيضاً دهشت من نجاح هذا الكتاب وقلت لنفسي يبدو أنني قد لامست فيه مسألة تتعلق بصيانة الحب وفكرة أنه إذا كان الحب مهدداً... إن اختفى الحب من الحياة الاجتماعية سيشكل ذلك فقداً كبيراً لحيوات كثيرة تعيش وحيدة وفاقدة للاتجاه. حتى اليوم حين أعرض الكتاب يأتيني كثيرون لأوقع لهم الكتاب وتقريباً في أغلب الحالات يطلبون مني أن أوقعه باسم أحبائهم... يأتي مثلاً ألفريد ويقول لي "وقع لي الكتاب باسم بريجيت" أو بالعكس... والعكس هو ما يحصل في أكثر تلك الحالات أي أن القوة الكبرى التي تدعم الحب نسوية على ما أعتقد. وقد دافعت كذلك عن هذه الفكرة الأخيرة.. أعتقد أن هناك أسباباً رئيسية وليس ثانوية تجعل من النساء عناصر جيش الدفاع عن الحب.
هل يعود ذلك لكونهن من يسعين لتستمر مغامرة الحب عبر الزمن؟
أعتقد أن ذلك يعود إلى أنهن كن يشكلن رمزاً للغيرية لردح طويل من الزمن في العالم الهيراركي القديم. في ذلك الوقت كانت البشرية ذكورية ولسبب رئيسي هو أن "الله" نفسه كان مذكراً. حتى أستاذي (جاك) لاكان كان يقول أن الكلمة اليونانية التي تعني "الآخر" وهي héteros مرادفاً للقول أن hétérosexuel هو الشخص الذي يحب النساء ذكراً كان أم أنثى. من يحب النساء إذاً يحب الاختلاف. والنساء بقين أكثر انفتاحاً على فكرة الاختلاف هذه، رغم أنها أضرت بهن ووقعن ضحيتها خلال زمن طويل، وهذه الفكرة تبقى ذات قيمة إيجابية تقوم على احتضان الاختلاف وبناء العالم انطلاقاً منه. هم أكثر انفتاحاً من الرجال الذي يبقون محافظين فيما يتعلق بهويتهم... لكن عليهم أن يتغيروا.
---------------------------------------------------
الترجمة والمصدر: مونت كارلو الدولية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق