الجمعة، 18 مايو 2018

تنوع أم تعدد؟ في الفرق بين الاجتماع والجماعة؛ د. موسى وهبه.



 


تنوّعٌ أم تعددٌ؟
في الفرق بين الاجتماع والجماعة

 

( نصٌّ جميلٌ لموسى وهبه من كتاب "مقاطع من كتاب النّثر"، يتناول فيه وهبه الفرق بين التّنوّع والتّعدّد)

يحسب الواحدُ منا أنَّ التعدّد نوعُ خطأ أو خطيئة، في حين يحسبه الآخر تعبيرًا عن الوجود نفسه. فكيف يستقيمُ الواحد والآخر؟ وهل يشترط حوارُ التنوعِ والتعدد الوطنَ الإقامة؟ وأيّ حوار هو؟
صاحبي الجمعي يرد التهمة الجميعية على قول بعضهم، وتهمة الكتْلانية على قول آخر. وكلٌّ بمعنى. ويتبرأ من الولع بالطغيان، ويرذل أصحابه ومريديه إعلانًا وتصريحًا. فهو يعلن كل صباح أنه يتفهم الآخر. ويصرح أنه يدرك اختلافَ وجهات النظر واحتمالَ الخطأ واحتمال الصواب والرجوع الفضيلة والله أعلم و...
قال، ها قد حلت المسألة بينك وبين صاحبك إذًا، وعدتما متلاقيين على إقرار التنوع والتعدد وقبول الواحد للآخر، ومعترفين بطبيعة الخلاف ومشروعية الاختلاف. والهلمّ جرًا.
قلت، مهلًا، مهلًا، إنَّ صاحبي مع التنوع لا مع التعدد. وهو واضح متسق في ما يريد. قال، الفرق لغوي إذًا. ألا تراك مجادلًا في توهم! أليست الكثرة قائمة في التنوع أو في التعدد سواء بسواء؟ بصراحة، لا أرى جدوى الخلاف على لفظ والانحياز إلى واحد دون الآخر.
قلت، أراك طيب السريرية، راغبًا في الوئام وتسوية الخلاف بأي ثمن. فتسرع في إغفال الفروق. لكنَّك بذاك تقلل المعاني وتضيّق في شروطه إمكان الكلام. ألا ترى أن التنوع يشير إلى النوع، والتعدد إلى العدد.
قال، بلى. لكنَّ النوع يعني اختلاف المتنوع وتعدده. والعدد يعني كثرة المعدود وتنوعه.
قلت، امنحني بعض الوقت أيضًا. النوع في العربية تحت الجنس وأخصّ منه. فهو مهما تنوّع وتفصّل يعود أبدًا إلى وحدة الجنس. ألا ترى إلى أنواع الورق وأنواع الخط. بل إلى أنواع الطعام وأنواع النساء – ولولا العفة لزدتك زيادة – لكنها أنواع تتساوى في ليل الجنس وغروب اللون.
قال، أراك تنزل إلى حيث تشاء في التنويع فتخلط النوع بالصنف والفصل والباب والفرع والفخذ وما إلى ذلك.
قلت، أقول الجنس والنوع بالمعنى النسبي. فالجنس يتوزع أنواعًا. وكل ما توزع فهو جنس واحد وما تنوّع فهو مندرج تحت واحد. ولا أذهب الآن مذهب المناطقة ولا مذهب العلماء بل أبقى في سياق القول الدارج هذه الأيام.
أقول إذًا، ويقول أهل البلد، التنوع بمعنى والتعدد بمعنى آخر. فأنت حين تعدّ وتعدّد فإنما تعدّ أشياء مختلفة وليست متشابهة وحسب. وتعدّها وتعدّدها وتعدّدها في سياق ما ليس من طبيعتها بالضرورة. وحين تقول إن عدد سكان الجمهورية الثانية، كذا مليون نسمة فأنت تجمع كل هذه الخلائق جمعًا إحصائيًّا وحسب.
قال، ما الفرق بين هذا وذاك؟ إنك إذ تعدّ، توحدّ سكان البلد وأشياء الغرفة في عدد الأنفس أو عدد الأشياء. والإحصاء، عدّ وتجاوز للمعدود. أي صرف للنظر عن خصوصيته وفرادته. ألا ترانا نصف الاستبداد بأنه يحوّل الناس مجرد أعداد؟!
قلت، بل يحوّلها أرقامًا متسلسلة، والواقع أننا لسنا في صدد درس في معاني الألفاظ وفقه اللغة، وإلّا كان أمكن أن نشتق من العدد الشيء ونقيضه، فتقول عدّ واعتد وتعدد وتعادّ وكلٌّ بمعنى بل بمعانٍ، ولكان أمكن أن نشتق من نَوَع وناع ونوّع وتنوع، ونذهب من الحركة والتذبذب والعطش حتى إلى الطلب والتنوع والوجه والطريقة والـ...
قال، لا يختلف أهل البلد في اللغة إذن، فكيف يختلفون في التعدد والتنوع؟ بل كيف تختلف أنت وصاحبك الجمعي، وأراكما متفقين في الجوهر والأساس؟
قلت، بل مختلفان الاختلاف كله. فصاحبي يتسامح بالتنوع إذا كان التنوع وجوهًا مختلفة في المعنى الواحد والغاية الواحدة. وقل يتسامح به من تحت وينفيه من فوق. وهو إن أقرّ به أو أباحه بحسبانه اختلافًا في وجهات النظر، فلأنه يرى الخلاف قربًا أو بعدًا من المعنى الواحد عينه، وصوابًا أو خطأ في الشيء ذاته. فمع اختلاف وجهات النظر لا بدّ من أن تكون وجهة ما، يقول صاحبي، أصوب من وجهة وأقرب إلى الحق، لأن الحق واحد من أي الجهات أتيته. وحين تصفو النوايا وينبلج الحق تنتسخ الوجهات. وهكذا، فإذا لم أقدر على إقناعك بوجهة نظري، فذلك سيعود إلى أسباب ظرفية وموقتة ليس إلّا، كأن يكون ثمة تقصير في قدرتي على الإقناع أو تقصير في قدرتك على الفهم (أو وسوسة) أو قصور، لا سمح الله، في وجهة نظري نفسها. وتسامحي (تسامح صاحبي) مؤسس على هذا القصور البشري عن إدراك الحق في ذاته. إذ لو انكشف للجميع لما بقي اختلاف ولا خلاف.
قال، وجهة صاحبك وجيهة حقًّا على الوجه الذي بيّنت. وصاحبك رجل رحب الصدر، سمح، عارف عجز البشر عن بلوغ النهايات، حكيم في تدبير شؤون الخلق بالحسنى واللين والموعظة.
قلت، وهو ذو فضائل أخرى أيضًا. لكنّني مع ذلك أخالفه وأفرع منه، وخصوصًا حيث يغضب للحق. ولا أعود أفهم حين فجأة يشرق يقينه ببلوغ الحق مع إقراره بعجز البشر عن بلوغه.
قال، فهمنا جيِّدًا أنك حذرٌ إزاء الغضب المقدس، ومبالغ في التوجس من الكتْلانية المباغتة. كارز (كذا) أبدًا أن السلام عطوب والحرية هشة والحسن إلى اتصال الرعاية حاجته، لكننا لم ندرك بعد، على ماذا تؤسس تعدّدك فلا يرضيك تنوّع صاحبك.
قلت، ها أنا بعد الذي تقدم، مصرٌّ على التعدد، متمسكٌ بمشروعية الاختلاف، فالتعدد يعني اجتماعَ المختلف على بقائه على اختلافه. فإقراري بحقه في الاختلاف لا يصدر عن تسامحي وخلقي بل عن فهمي وإدراكي. ولا يصدر عن كونه قاصرًا عن إدراك الحق، أو ذاهبًا في مجرد وجهة نظر قد تكون خاطئة أو قريبة من الصواب، بل عن أن الاختلاف وجوده نفسه، وأنّ عليّ أن أقبل بوجوده. ولو كنت فقيهًا لقلت، على أن الحق ليس بهذا الفقر الذي يصوّره صاحبي الجمعي، لأن الحق غنيٌّ وكثير، أو لأنه على وجوهه ليس يفضل وجهٌ وجهًا لأن جميع الوجوه وجوهه، فهي متساوية إذًا في الأحقية.
قال، أحمده على أنك لست فقيهًا بل مجرد ناثر. والآن، كيف يتشكل الاجتماع والوطن والحكم من متعدد مع بقائه على عدده. ألا تراك مضطرًّا إلى الوحدة من فوق والتعدد من تحت؟!
قلت، يفرق الاجتماع عن الجماعة، وتباين الطائفية الوطن. والاجتماع الأمثل تعاقد بين أطراف. والحكم تدبيرٌ للعام وليس اختراعًا للجوهر. والوطن كثرةٌ وإقامة للكثرة والتعدد، وهو ليس ذاهبًا إلى أيّ محل، وليس بساعي بريد عند أحد. ألم يقل صاحبي إنه نهائي أيضًا؟
قال، ها أنت متفق معه على شيء على الأقل. قلت ليس المهم أن أتفق ويتفق بل أن أوضح وأتوضح. أن أقبل وأُقبَل من تحت ومن فوق. فالتعاقد يكون بين أحرار متساوين. وليس من أحد على عجلةٍ من أمره.

(عن صفحة الدكتور جمال نعيم)
 

ليست هناك تعليقات: