حوار موسى وهبه حول المثقف والمرحلة الجديدة
دروس الحرب... نحو الفرد والمعاصرة
السفير الأحد 16/1/1983
دروس الحرب... نحو الفرد والمعاصرة
السفير الأحد 16/1/1983
الحوار التالي مع موسى وهبه يتركز على المثقف بعد الحرب وعلى مجال الثقافة وعلاقة ذلك بالسلطات بحسب أحجامها. ويدخل الكلام إلى «داخلية» النتاج الثقافي وأسئلته الأولية عن الموقع والعلاقة ... وموسى وهبه مفكّر لبناني وأستاذ للفلسفة وكاتب.
في ما يلي نص الحوار:
يخيّل إليَّ أنَّ الأفكار التي كانت تحرك المثقفين في الفترة الماضية، فترة ما قبل الاجتياح الإسرائيلي، قد ولّت مع انقضاء تلك الفترة، الآن يبدو المثقفون وكأنهم يبحثون عن أفكارٍ جديدةٍ منطلقة من الوضع المتغيّر الجديد. فالفترة الماضية انقضت ولا يبدو أن أحدًا من المثقفين راغبٌ في إعادة إحياء النَّقد الذي وجِّه لها. هذه سمةٌ من سمات الثقافة العربية التي لا تتعاطى إلا مع «أزماتٍ راهنةٍ»، أو ساخنةٍ، أنت هل تشعر أنّك تتعافى من أفكار الحرب، أو هل تجد من الضرورة أن يقال حولها الكلام الذي يجب ألّا يضيع؟
- هناك حربان. الحرب التي ابتدأت في 1975، والحربُ الأخيرة أو بحسب ما أرغب أن أعبِّر، الفصلُ الأخير في الحرب التي ابتدأت سنة 1975.
وهناك نوعان من المثقفين، النّوع الطّاغي، الذي أسميه المتذهِّن العضوي، بحسب تعبير «غرامشي» أي المثقّف، الذي يركِّب ثقافته على مشروع سياسي. وهذا ما كنته أنا لفترةٍ طويلةٍ انتهت، بتصوري، نهايةَ حربِ السنتين. وهناك المثقّف العادي، المفرد، الذي كنَّا نسمِّيه: "ذاتيّ وانعزاليّ ويمينيّ وعدميّ، وإلى ما هنالك."
بتصوري إنّ سؤالك ينطبق على المتذهِّن العضوي، الذي أُسْقِطَ في يده من جرّاء الفصل الأخير من الحرب، والذي لا يرى مشروعًا ثقافيًّا إلّا كرديف لمشروعٍ سياسيٍّ. بهذا المعنى يصحّ أن تقول إنّ الثقافةَ العضويّةَ، أعني الثقافة التي لا ترى إلى نفسها إلا ثقافةً دعائيَّةً فقهيَّةً وكلاميّةً. لا ترى نفسها إلا من خلال هذا المشروعِ السياسيّ، يعني مشروعًا يتجاوز المتكلم ليدخلَ في الأنا الجمعيّة. يعني يقوم بعمليةِ استلابٍ أساسيّةٍ للمفرد كي لا يراه إلا رقمًا في مجموعة. هذه هي «الثقافةُ المنتميةُ».
أنا حاليًّا في «الثقافةِ اللامنتمية»، إنْ صح التعبير، يعني غير العضوية. فالثقافةُ عندي وسيلةٌ مكمِّلةٌ للحياةِ وليست مبررةً لها. والحياة لا تحتاجُ إلى تبريرٍ، بالعكس الثقافةُ هي التي تحتاجُ إلى تسويغٍ، تسويغ الثقافة، إنّها تجعلُ الحياةَ أخفَّ عبئًا. بهذا المنظور ومن هذا المنطلق، المثقفون الأفراد، ليس بإمكانهم أن يتخلّوا عن الأفكار التي برزت خلال الحرب وبفضلها. إذا كان للحروبِ من فضيلةٍ، ففضيلة الحرب اللبنانية أنّها جعلت هذه الفئةَ الأخيرة، جعلتني أنا، أرقى إلى مستوى العصر الثقافي، بمعنى آخر جعلتني أخرج من دائرة التخلّف الذي ما زالت الثقافة العضوية تدور فيها.
على سيرة التخلف والعصرية يمكن الاستطراد هنا أنَّ الثقافةَ العربيّة التي عرفت أعلاه بأنّها عضويةٌ، هي ثقافةٌ متخلِّفةٌ مع ادعائها بأنّها لم تكنْ إلا لقهرِ التخلف. والسببُ في ذلك بسيطٌ. هو زمنها المتأخِّرُ، بمعنى أن مستقبلها هو ماضي العالم المتقدِّم. قرأت هذه الثقافة العربية ماركس على سبيل المثال، وماركس ناقد البورجوازية، ناقدها، أساسًا لفردانيتها وأنانيّتها. وهو نقدٌ من ماركس الهامشيّ في المجتمع البورجوازي الفرديّ المتطور، لتعديل أنانيّة هذا المجتمع وفردانيته. عندما قرأت الثقافةُ العربيّةُ ماركس أو «هيغل المتمركس»، أخذتْ منه نقده للفرديّة، الذي لا يعارض البتّة، بل ويدعم المجتمعاتِ العربيّة التي هي أصلًا مجتمعاتٌ جمعيّةٌ، قبائليّة، عشائريّة، أو كما شئت، إنها مجتمعاتٌ تنفي الفردَ، إنها الثقافة التي أنتجت الصفر، بما هو عددٌ لا يقومُ إلا بإضافته إلى عددٍ آخر. بهذا المعنى كان ما نمي إلى الثقافة العربية من الماركسية أو ما شبّه لها منها، كان عنصرًا محافظًا؛ لأنّه بدل أن يفكِّك العلاقاتِ القائمةَ، دعمها بحججٍ وأسانيدَ كي تبقى على جمعيّتها. لا أريدُ هنا أن أدخلَ في نقاشٍ مع الماركسيّة التاريخيّة، لكن يبقى السؤالُ بسيطًا وواضحًا، لماذا لم تزدهر الماركسية إلا في ما يسمى الشرق؟
• الاستفادةُ من الحرب، أو عبرةُ الحرب، ما هي؟
- سؤالٌ أطرحه على نفسي، لماذا نقلتني الحرب، مع آخرين إلى المعاصرة. علمتني الحربُ أن لا قِوامَ في العالم المدني إلا للمفرد. وأنّ «النحن» ليست سوى شعارٍ سياسيٍّ سلطويٌّ يستخدمه المؤدلجون أو الأدالجة لاستردافِ الأفراد أو لإلحاقهم بفردٍ ما تطغى فرديّته، كان ذلك أبدًا في التاريخ وأعتقد أنّه سيبقى أبدًا؛ لأنَّ الجماعةَ عندما تتحول إلى قطيعٍ، لا بدّ أن تتمثلَ شخصَ الكرّاز أو القائد. فقط بهذا المعنى، الجماعاتُ لا تنشأ إلا وعلى رأسها زعيمٌ أو قائدٌ. هذا هو الدرس الأول.
الدرسُ الثاني من الحرب هو أن المنهج المفضل للثقافة العضويّة والأيديولوجية هو الديالتيك. فالديالتيك هو الأداةُ الأنجعُ بين السلطات لإسكات جميع الاعتراضات الفرديّة. ثقافة الفرد المتفرد تفترض طرفين: الأنا والكل بحسب الثقافةِ العائدة لعصر التنوير. الثقافة العضوية تخضع بين المفرد والكل حلقة وسطى هي الخاص [هل المقصود بالخاص هنا الحزب؟]. هذا الخاص هو دائرة السيطرة السياسية والتسويغ والتبرير والديالتيك الخاص مع الفعل السياسي.
خلاصة التجربة اللبنانية جاءت متوافقةً مع تجاربَ عالميّةٍ أخرى، لتنهي عصر الأيديولوجيات التغييرية، ولتعيد الاعتبار لقضايا كانت الحركة الثقافية العربية قد أملتها أمام فزّاعة الإمبريالية. ويبدو أنّنا بدأنا نخرج من فلك هيغل، مثلًا بولونيا، الفلاسفة الجدد في فرنسا، بدأت دائرة السياسة تضيق. لم تعد السياسة كلَّ شيءٍ. الثقافة العربية ما زالت في الزمن المحتضر، أي في زمن «السياسة كل شيء».
• أنت بدأت تخرج من فلك هيغل، ربما مع آخرين قليلين، لكن هل تلاحظ أن الجامعات [الجماعات] والطوائف ما زالت تتقاتل على نفس الأسس، يعني أنك خرجت من هيغل بينما هم يعيشون في زمن لا يتغير.أنا أقول إن العبر والدروس والأحلام والاحباطات هي خاصة بالمثقفين بينما الواقع والبشر والتاريخ شيء آخر
- أنا أوافقك تمام الموافقة مشكلة، هيغل، حتى بالنسبة لمن لم يسمعوا به، هي مشكلة مثقفين، لا علاقة للجماعات والطوائف وجميع التكتلات البشرية بالهيغيلية. أنها اختراع ثقافي، والديالتيك نوع من العزاء الذي يرتاح إليه المثقف ليخلق وحدة متوهمة بينه وبين الجماعة. الطوائف في لبنان استعادت بفضل الحرب لحمة تماسكها، عاد المؤمن إلى دفء الجماعة. وصيرورة الحرب أكدت رسوخ الطوائف في الشرق لأسباب كثيرة ليست ضرورية بل ناتجة عن مصادفات تاريخية.
الحرب حرّرت الطوائف مني ومن أمثالي المثقفين العضويين. كما حرّرتني في الوقت نفسه منها ومن طوائف جديدة مخترعة وعصرية . كالأحزاب مثلاً. بهذا المعنى انتصرت الطوائف وفشلت الثقافة العضوية. ولكنني أنا تحررت من وهم هذه الثقافة وعدت هامشيًّا واعيا لهامشيتي، وسعيداً بها – المثقف هامشي تعريفاً، وعندما يقنع بذلك ويرضى به يتخلص من طاغوت السياسة بهذا المعنى، واستكمالاً لسؤالك الأول، لا داعي أن تغير الحرب الأخيرة أو الفصل الأخير منها من [مـ]شروع المثقف الفرد.
بالنسبة لي قد يكون انتهاء الحرب، بعد أن كسر بشير الجميل منطق الحرب عندما قال: «شهداء لبنان هم الذين سقطوا من أجل وجهات نظر مختلفة في لبنان. قد يكون إنهاء الحرب، أمراً مسعداً، لماذا، لأني أفضل أن أكون على هامش الدولة. وليس على هامش طائفة أو قبيلة أو حزب. هامشية الدولة أمعن في الهامشية: التصعلك في القبيلة نصف تصعلك، في الدولة التصعلك مطلق. لأن الدولة هي الكل وبإمكان المثقف أن يتعامل مع الكلي لا مع الخاص. أنا مع الدولة دون أن أكون ضد الطوائف، بإمكان الدولة أن تستوعب الهامشيين والطوائف معاً.
• وكيف ذلك؟
ما الذي يمنعني عن التفكير بدولة لبنانية تقيم كل طائفة لنفسها دولة. أو دويلة أو فيديرالية، وتقيم الدولة للهامشيين عاصمة اتحادية، بتعبير آخر، ما الذي يمنع أن تكون بيروت الصغرى مثلاً عاصمة الدول الاتحادية. والهامشيين والعلمانيين والملحدين، والشعوبيين وصعاليك جميع الأمم وتعيش الطوائف راتعة على مجد تراثها؟
• هل حقاً يستطيع أحد أو تصريح أن يكفر منطق الحرب؟ يتراءى لي أن نزعة الحرب تجعل كل هدوء استعداداً لحرب أخرى. أنت الهامشي تقول أن بشير الجميّل كسر منطق الحرب بينما قوة الطوائف تقول شيئاً آخر؟
- يجب أن نتفق أولاً على ما هو منطق الحرب، أهم مسألة في منطق الحرب هي واحدية الحقيقة. والثنائية الحادة، يعني أبيض وأسود، خير وشر، حق وباطل: المحارب دائما على حق يحارب من هو حكما على باطل. متى يتكسر منطق الحرب؟ عندما يعي المحارب أن الحقيقة كثيرة ومتعددة، وأضيف، لا متناهية، عندما يقول زعيم جهة محاربة عمليًّا، أن جميع وجهات النظر هي على حق يكون قد رمى سلاحه جانباً، لأن لا أحد يحارب من هو على حق، عندما تعرف بأن حقيقتك جزئية مساوية لحقيقة الآخرين تكف عن كونك محاربا. لا يسعك أن تموت أو تحارب من أجل حقيقة جزئية. هذا يقودنا مباشرة إلى فكرة التعددية التي طرحها، ولم يعد ذلك بمستغرب الآن عندي. الطرف الآخر غير المتقدم، تاريخيًّا، التعددية تعني تجزؤ الحقيقة، لا نهائية الحقيقة، إذا كان الذين طرحوا فكرة التعددية يؤمنون بها فعلاً فمعنى ذلك أنهم غير محاربين.
وإن كانوا محاربين فمعنى ذلك أنهم طرحوها شعاراً سياسيًّا فقط. المهم أن الهامشي يلتقط هذه الفكرة يتشبث بها، يريدها فعلاً لأنها المسوغ الوحيد لوجوده كهامشي وعندما تقبل الطوائف بوجود الآخر الطائفي، أي بالتعدد الطائفي، معنى ذلك أنها قبلت فكرة التعايش شرط أن تقبل بتحول جميع الطوائف إلى مواقف نسبية إزاء الدولة.
أفهم من سؤالك أيضاً الطائفة بحاجة إلى أن تشعر بأنها تمتلك الحقيقة دون سواها أو على الأقل، الشكل الأعلى من الحقيقة الذي يلحق حقائق الطوائف الأخرى، به. هذا صحيح ويثير مشكلة عويصة لن أدخل بها الآن. ويؤدي إلى الحرب حتماً من أجل الحفاظ على التماسك الطائفي، أكرر، هذا صحيح في ما لو كان منطق الطائفة هو الغالب، لكنني لا أدعو، في اتحاد الطوائف الفيديرالي، إلى غلبة طائفة معينة أريد أن تكون الدولة المركزية لا طائفية، أي هامشية، ميتافيزيكية إن شئت، تغلب منطق جميع الطوائف.
في تراث كل طائفة ما يكفي من الحجج لإمكان استيعاب الطوائف الأخرى. إن الدخول في هذا الجدل معناه البقاء في منطق الحرب.
• المثقفون، المعبرون عن الهامشية وحاملوها، ألا ترى أنهم في الوقت نفسه غير بريئين من ولاءات الطوائف، ينتصرون حين تنتصر طائفة، ينهزمون أمام أخرى؟ ألا ترى أن الحرب جددت الانتماء الأهلي واستطراداً الطائفي والعشيري عند المثقف؟
أود لو، «أفوت» في جلد المؤمن. لكن لا أحد يغير جلده كما الحية. أنا هامشي وسأظل هامشيًّا. بما أنا مثقف، بتعبير آخر شعاري هو: لا ثقافة للسياسة، ولا سياسة للثقافة جديدة، لا علاقة للسياسة بالثقافة فهي ذاكرة وعضلات، والثقافة مخيلة وأحلام. ليس المثقف مثقفاً 24 ساعة على 24 . كما الشيوعي عند ليوتشاوتشي. شخص مثقف هو إنسان ومثقف في آن، يعني هو ذاكرة ومخيلة في الوقت نفسه. مخيلة وذاكرة يتنازعان ما يسميه أرسطو «العقل» أكرر: بما أنا مثقف، أنا هامشي إلى أبعد الحدود، ولا يمكن إلا أن أكون كذلك، بهذا المعنى لا ثقافة للطائفة ولا ثقافة للسياسة بل ايديولوجيا تدعي الثقافة لنزاعها مع هذه الأخيرة على العقل.
بمقدار ما دخلت الطوائف في المثقف تخلى عن كونه مثقفاً ليصبح مجرد مثقف عضوي، لا مثقف عضوياً خارج الطائفة أيًّا كان اسمها وأياً كانت المهارة في إبراز الانتماء العضوي، وأشدد على الاشتقاق اللغوي للكلمة، عضوي.
إذا أقمنا مثل هذا التمييز بين المثقف والمؤدلج يصح القول أن الحرب زادت من انتماء العضوي كما أوضحت هامشية المثقف. وإذا كان معظم المثقفين قد استعادوا النفس الطائفي عندنا، فلأنهم لم يكونوا مثقفين، بل مجرد ايديولوجيين يعانون من وهن الرابطة بطوائفهم كشفت الحرب زيف ثقافتنا وربما طرحت سؤالاً كبيراً، هل عندنا مثقفون؟ بمنعى آخر هل عندنا مدن لأن لا مثقف خارج المدينة؟ المثقف الريفي مجرد شاعر قبيلة.
• برأيي أن الحرب في لبنان طرحت على المثقف سؤالاً يختلف عن تلك الأسئلة التاريخية التي يدور في فلكها المثقف العربي. مثلاً، أظن أن المثقف في لبنان كان يطالب، طيلة الحرب، بما تدعو له الدولة وما تعنيه الدولة أصلاً. كان مثقفاً باحثاً في دولة، ألا تعتقد أن الدولة القادمة ستجعل من الهامشي عضواً فيها؟
ــ أعود إلى التمييز بين المثقف والعضوي، أتكلم الآن عن المثقف. الحرب في لبنان خلقت إطاراً للثقافة بالمعنى المعاصر. بفضلها غداً جميع المثقفين العرب مثقفين من العصر الماضي يتساءلون عن الأصالة والحداثة والتجديد والتراث والتمزق الحضاري والهوية وانجع الطرق الكفيلة بـ... بــ... ب... الخ... جميع هذه الأسئلة تهافتت كما تهافتت معها، في لبنان على الأقل، شعارات المرحلة المسابقة. مثل الوحدة، الاشتراكية، الحرية، الصراع ضد الامبريالية. الخ، اتاحت الحرب اللبنانية سقفاً للثقافة جديداً اسمه بكل بساطة «الديمقراطية». وآسف لهذه الكلمة العتيقة، الديمقراطية سلبا.
إذا اتفقنا على هذا الأمر، المثقف لا يطلب دولة معينة. لا يتصور شكلاً من أشكال الدولة يكون هو الأمثل، لأنه لا شكل أمثل للدولة. في سؤالك الدولة تعني السلطة، والدولة في ذهن المثقف. في ذهني أنا مجرد شأن عام، ساحة تتجاوز الأفراد والتجمعات والطوائف، تكون حكماً قادراً لمنع طغيان تجمع على آخر. الدولة تحفظ تعددية الحقيقة. وهذه الدولة لا منصب لي فيها ولا لأي مثقف. لسبب بسيط وهو أن الدولة تهتم بأمور عملية. بالسير مثلاً. وبالأسعار، بالمشاكل الزوجية بلقمة العيش وتنظيم العمل بسياسة الثقافة إن شئت... بينما الثقافة ليست عملية، كما سبق وقلت هي من المخيلة. إذا كنا نحلم بدولة، كمثقفين، فإنها دولة تظل بعيدة عنا، يغيب وجهها وشرطيها فلا نشعر به. كما لا نشعر، إن كنت صحيح الجسم، بحركة معدتك وقلبك.
• الدولة التي تحلم بها، هل هي حلم أم نموذج، نموذج من ذلك النوع الذي حار أمامه المثقفون العرب منذ بداية هذا القرن، أرى أن الدولة والديمقراطية يقعان أيضاً في قلب الاهتمامات التقليدية للمثقف العربي في بحثه عن الأصالة والحداثة. المثقف في لبنان يبحث اليوم عن الحداثة الخالصة، الحداثة غير المشروبة بقلق الأصالة.
ــ سؤال جميل جداً. يمكن للمثقف أن يحلم بنموذج متى صار الحلم نموذجاً لم يعد حلماً، يبقى حلم الدولة عنده مثالاً يحتذى به، «ينق» على أساسه، مثالاً افلاطونيًّا إن شئت يعرف سلفاً أنه لا يتحقق في الواقع. من هنا كانت الثقافة دائماً معارضة تأخذ موقفاً ولا تطلق شعاراً. أنا على وعي تام بأن أي دولة متحققة، أو ستتحقق في المستقبل ستكون ناقصة وقاصرة عن حلمي. وهذا ما يبرر استمرارية هامشيتي وهويتي الثقافية. أما القول أن الدول والديمقراطية قد كانا في قلب الاهتمام التقليدي ففيه تجنٍ على الحقيقة الثقافة العربية، بمجرد التسمية هي ثقافة ملتزمة بالسياسة، من الأفغاني إلى الطهطاوي وصولاً إلى آخر كتبه «Script» الحرف في لبنان. إلا إذا فهمت بالاهتمام التقليدي لهذه المسائل اهتماماً شعائريًّا. كانوا يطلبون الديمقراطية. وهم يصرون دائماً من أجل أهداف أخرى. من أجل التحرر من الاستعمار مثلاً. من أجل استعادة الهوية. أو كمطلب تكتيكي أي لي أنا ولجميع الهامشيين الذين، مهما تكاثروا، يبقون أنا مفرداً.
• أنت تقترح إعادة نظرية جذرية بالدور الذي لعبه المثقفون العرب منذ عصر النهضة، فبالإضافة إلى العضوية والالتزام أنت تلغي مواقع للمثقفين مثال الطليعة والزيادة والاستشراق: أنت تفصل المثقف عن أية صلة ومجال...
ــ لا يمتنع [يتمتع] المثقف بما هو مثقف، بأي دور فعلي سياسي لأن الفعل شيء، والقول شيء آخر، وإذا تسنى لبعض المثقفين أن يلعبوا دوراً فلأنهم كانوا قادة سياسيين في الوقت نفسه، فقادة الأحزاب المثقفون كالأفغاني مثلاً لعبوا دوراً في نضالهم العملي دون أن يكون لأقوالهم أيُّ دور. لم يقرأ الناس الأفغاني ولا محمَّد عبده. وكان فعلهما أو نتائج عملهما لا علاقة له البتة بما كتباه. كل المسألة عندي أن هناك فصلاً حاداً بين القول والفعل. كالفصل القائم بين العمل والذاكرة. أما ما تقوله عن الطليعة والريادة والاستشراف، وأضيف عليك، التضحية والخدمة العامة. والشمعة التي تذوب كما في الدروس الابتدائية فليست سوى عبارات تعويضية تلعب دور المحفّز والمعبئ لجعل المثقف ينسى ذاته ويلتحق بالآخر. متى كان المثقف ذاته لا يعود مفصولاً عن أي مجل فلا وجود لمجال لا يبدأ من ذاتك، ولا صلة بالآخر إن لم تمر فيك..
وتراني أغوص هنا في ما يسميه العضويون «الذاتية» والخلاف بيني وبينهم كالخلاف بين عصر التنوير وهيغل. الجماعة عندي مجموعة أفراد، المجموعة خارجة عن الأفراد، والفرد عندهم جزء من مجموعة لا معنى له إلا في الجماعة. العلاقة عندهم أساسية، أما العلاقة عندي فمضافة، يمكن أن تذهب العلاقة وتتغير، تصير علاقة أخرى، تبقى العناصر هي نفسها. ولهذا السبب يظل السياسي خارجاً عنا، وموقعه الطبيعي أن يحتل الطرقات العامة لا الأزقة الداخلية وكل مشكلتي مع الثقافة العضوية أنها تريد أن تدخل الشرطي إلى الأروقة الداخلية وغرف النوم ومع اعترافي بضرورة الشرطي والدولة وأبديتها فإنه يكفيها أن تهتم بإيصال الماء ونظافة الأرصفة والسهر على ألا تحل ذاتية الأفراد الشوارع العامة.
بكلام بسيط يفهمه كهان السياسة: ليست السياسة كل شيء. إنها جزء بسيط من أشياء حياتية لا تحصى، صحيح أن الثقافة المتوازية. من أرسطو أو الغزالي، تدعم مواقف الكهان ولكن الواقع أن أعظم الانتاج الثقافي قد أنشئ خارج الهم السياسي. أقرأ للجاحظ مثلاً الذي كتب أربعمائة صفحة للمفاضلة بين الكلب والديك هي من أجمل ما كتب في التراث العربي. إنها دفاع عن موقفه صحيح أن الجاحظ قد اعتذر لخوضه في هذا الموضوع مبرراً أن الكلام فيه مفيد لإظهار حكمة الباري، لكن ذلك كان لعبة إنشائية.
وأخيراً تسأل لماذا الثقافة؟ وماذا تصنع بالهامشية؟ أسألك بدوري وماذا تصنع أنت بالأشياء الأخرى؟ ماذا صنع المثقفون بالسياسي. لا شيء يذكر. إما أن تكون مثقفاً قارئاً أو مثقفاً كاتباً. في الحالة الأولى تقرأ، وهذا واضح لتستمتع. إلا إذا كنت حدثاً صغير السِّن. وفي الحالة الثانية تكتب أيضاً لتستمتع. لتَتَكَشَّف لِذَاتك وتستمتع. الذين يكتبون لإمتاع الآخرين أو للحظوة بإعجابهم مازالوا في مرحلة التهريج ولم يصلوا بعد إلى مرحلة التهكم. الكتابة أولاً وأخيراً تمرين في الإنشاء.
أجرى الحوار: حسن داوود
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق