قراءة في كتاب :
"الدين في حدود مجرّد العقل" للفيلسوف إيمانويل كانط؛
ترجمة فتحي المسكيني
كمال طيرشي
الكتاب الذي نحن بصدد تقديم قراءة حوله عنوانه: "الدين في حدود مجرّد العقل"[1]، للفيلسوف الألماني عيمانويل كانط*، وقد نقله للسان العربي الباحث التونسي فتحي
المسكيني**. ظهر هذا الكتاب لأول مرّة باللغة
الألمانية سنة 1793، لدى نيكولوفيوس في مدينة كونيجسبورغ الألمانية، وهو كتاب مؤلف من أربعة مقاطع أو قطع كما يحبّذ كانط تسميتها،
وكانت نيّة الفيلسوف أن ينشر هذه القطع على شكل مقالات صحافية، ولكن للأسف لم يكتب
له ذلك، إلا أنه ليس من السهولة بمكان ولوج فلسفة الدين، خصوصاً في الفترة التي
عاشها كانط، بحكم الرقابة الصارمة المفروضة على حرية البحث في المسألة الدينية،
وقد توجسّت خيفة السلطات الحاكمة في ألمانيا، ممّا كان يكتبه كانط في الدين، ممّا
اضطره إلى العدول عن أيّة مطارحة دينية مجدداً. وسؤال الدين في الفلسفة الكانطية لم يكن عرضياً البتّة، بل هو
سؤال ضروري أفرزه الواقع الديني في أوروبا (حروب دينية في فرنسا، والصراع بين
الكاثوليك والبروتستانت في بريطانيا، والحروب الصليبية[2] طبعاً، فطرح المسألة
الدينية سبقت إرهاصاته في كتب كانط النقدية (نقد العقل العملي)[3]، ونقد العقل النظري[4]، أو نقد ملكة الحكم[5] أو حتى في المرحلة ما
قبل النقدية، ولكنّ اهتمامه في تلك الكتب انصبّ حول
"الله"، لا على الدين من حيث هو نظام عقدي وسلوكي متكامل[6]، وترك إيمانويل كانط سؤاله النقدي الثالث ما
الذي أستطيع أن آمل للدين؟ معتبراً أنّ الفلسفة باتت غير قادرة على النظر في مسألة
الرجاء في الخلود و الطموح في السعادة القصوى.[7]
عرض كانط في كتاب "الدين في حدود مجرد العقل" الصلة الوثيقة بين الأخلاق والدين، معتبراً أنّ الأخلاق ليست بحاجة
إلى الدين من أجل قيامها، بل هي مكتفية بذاتها بحكم طبيعة العقل نفسه، وصحيح أنّ
القانون الأخلاقي يفترض وجود كائن أسمى، ولكنّ فكرة هذا الكائن صدرت من الأخلاق
دون أن تكون هي الأصل في ظهور الأخلاق[8]، واستهلّ كانط هذا الكتاب بعبارة مقتضبة تحمل
دلالات عميقة، إذ يقول: "إذا كان ثمة شيء يحق للإنسان الحديث أن يفخر به على
سائر البشر السابقين؛ فهو إيمانه العميق بالحرية، بأنه كائن حر، لا يدين بقدرته
على التفكير بنفسه، ومن ثمة على إعطاء قيمة خلقية لأفعاله أو لمصيره الخاص، إلى
أية جهة كانت مهما علت أو بسطت هيبتها على عقولنا".[9]
ويقول أيضاً: "إنّ ديناً يعلن الحرب على العقل، سيصبح مع مرور
الزمن غير قادر على الصمود أمامه".[10] والأطروحة المركزية التي يتبلور حولها الكتاب هي أنّ الأخلاق بحكم
طابعها الإنساني، والكوسمولوجي، لا تحتاج إلى الدين، بل لها قيومية ذاتها بذاتها،
والعكس هو الصحيح.[11]
لكن لماذا وضع كانط نظرية فلسفية في الدين؟ وما علاقة
الدين بفلسفته الخلقية؟ وكيف يتأتى لنا الخروج من الدين الطقوسي الشعائري إلى
الدين العقلي الكوسمولوجي؟ من دين يحمل بعداً تاريخانياً تعنى به طوائف معينة أو
شعوب خاصة إلى دين عقلي كوني صالح لكل شعوب العالم البشري؟
يتمفصل كتاب كانط إلى أربع قطع هي كالآتي:
1- القطعة الأولى: حول الشر الجذري
في الطبيعة البشرية.
2- القطعة الثانية: في صراع مبدإ
الخير مع مبدإ الشر من السيادة على الإنسان.
3- القطعة الثالثة: في انتصار مبدإ
الخير على مبدإ الشر، و تأسيس ملكوت الله على الأرض.
4- القطعة الرابعة: في العبادة
الصالحة والعبادة الباطلة (تحت سيادة مبدإ الخير أو في الدين والكهنوت).
يستهلّ كانط القطعة الأولى من كتابه بعبارة مستهترة يقول فيها:
"إنّ العالم خبيث، ولا يُطمأن له، هي شكوى قديمة، قدم التاريخ"[12].
ثم يردف قائلاً: "العالم يبدأ بالخير، بالعصر
الذهبي، والحياة في الفردوس، صحبة جماعة من الكائنات السماوية"[13]، ولكنّ هذا النعيم سرعان ما يأفل
نجمه ويتبدد ليعجل بالسقوط في براثن الشر، بحكم أنّ تاريخ الفيزيقا ابتدأ بالخير،
لأنها من صنع الله، بينما تاريخ الحرية بدأ بالشر، لأنها من عمل الانسان[14]. واعتبر بذلك الفيلسوف كانط أنّ
تجذرية الشر فينا المبطونة في كوامننا هي من باب النومين (الشيء في ذاته)، هذا
الشر يوجد في جوهر الطبيعة البشرية، وليس شيئا عرضياً، وهنا نتجلى نوعاً من
الاتفاقية مع توماس هوبز كون الإنسان شريراً بطبعه، ولكنّ هذا الشر بتجذريته، لا يدان له بتخريب الخير (الإرادة
الخيرة)، لأنها جذرية، بل أعمق تجذراً من الشر في حد ذاته، ولكن السؤال الذي يبقى مطروحاً هو هل الإنسان شرير بالفطرة على
المطلقية؟
حقيق أن يقر كانط بأنّ الشر جذري فينا، لأنه جزء من طبيعتنا كبشر،
ولكنه مردوف دوماً بالحرية؛ أي لا وجود لشر أخلاقي من دون الحرية، فالحرية هي التي
تخرج إمكان الخير والشر في الإنسان إلى الفعل؛ فالشر يحمل طابعاً نزوعياً، والخير يحمل طابعاً استعدادياً، كما يؤكد كانط أنه من المحال أن يمزج الإنسان بين الخيرية والشرية
في الآن عينه، فهو إما أن يكون خيراً أو شريراً، وبإدراج هذا الفيلسوف لمدلولية
"الشر الجذري" حصل في فلسفته الخلقية نوع من التوتر والاضطراب. أمّا
حينما نسعى لاستكناه الشريّة في المنظور الكانطي، نجد بأنه ليس خبثاً في الإنسان،
بل هو متمخّض عن الحيوانية فينا الذي ينجر هو الآخر عن الاستعمالات المبالغ فيها
لإرادتنا الحرة التي جنيناها على أنفسنا.
كما صرّح كانط في مستهل القطعة الثانية بجملة تحوي في طياتها
دلالات كثيرة تقول: ''إنه من أجل أن يصبح المرء إنساناً خيراً في خلقه، لا يكفي أن
يدع بذرة الخير الكامنة في جنسنا تنمو بلا عائق، بل عليه أن يصارع علّة الشر التي
توجد فينا[15]. فهذا الشر المتجذر فينا لا يد لنا
بالقضاء عليه بالمرة، بل الأفضل بالنسبة لنا أن ندينه ونقمعه، كما يجب على الإنسان
أن يأخذ في الحسبان مرارة ما يجبله من مشكلة الشر، وحقيق أن يقتدر الإنسان على
الانفلات من التناقضات التي تلفّ أخلاقه المترنحة بين الخير كاستعداد والشر كنزوع،
وهذه المقدرة يسلكها المرء عن طريق الرجوع إلى الإرادة الخيّرة، لأنّ الشر لا
يستطيع أن يفسدها ويخربها، صحيح أنّ الشر الجذري يحطم الاستعداد للخير فينا، لكنه
لا يستطيع أن يستأصل الحرية، ولذلك فعلى الإنسان أن يجدد الاستعداد للخير في النفس
البشرية. لكن هذا الخلق المتجدد، لا يستنجد بسماحة السماء والمدد الإلهي، طبعا
كانط يلحّ على ضرورة النهل من اللاهوت، ولكن يبقى الاعتماد على النفس هو الدأب
والديدن. إنّ الانسان بحكم جبلته الخلقية يسعى دوماً، بل ومطالب أن يكون الأفضل،
وبهذا نخلص إلى أنّ الشر أمر ممكن باعتباره محدداً بالإرادة الحرة، وهذه الأخيرة
تعرف كخير أو شر عن طريق القواعد الخلقية؛ فالنزوع إلى الشر بالمعنى الأخلاقي هو
الأساس الذاتي لإمكانية الانحراف عن قواعد القانون الخلقي، فقدرة الإرادة الحرة أو
عدم قدرتها في أن تأخذ أو لا تأخذ بالقانون الخلقي في قاعدتها ينبثق عنه هذا
النزوع.
والنزوع للشر له ثلاثة مستويات عند كانط:
1-المستوى الأول: كامن في ضعف قلب الإنسان.
2-المستوى الثاني: كامن في خلط الدوافع الأخلاقية بالدوافع اللا
أخلاقية.
3-المستوى الثالث: كامن في النزوع إلى تبني الشر، وإهمال قواعد القانون
الخلقي.
وبهذا يكون الإنسان شريراً لما يعكس النظام الخلقي للنزوع الذي
يتبناه في قاعدته.[16] وبهذا، لا يوجد في النزوع الطبيعي نزوع للشر الأخلاقي، لأن النزوع
للشر ينبثق عن الحرية.
ولا يقتدر الكائن البشري أن يتغلب على نزوعية الشر،
اللهم إلا بثورة عقلية داخلية، وفقاً لمؤهلاته الخاصة، ليصبح إنساناً جديداً، هذه
الثورة الداخلية تصبح نوعاً من إعادة الإحياء والخلق، ويصبح الخير حاضراً في
كوامننا عندما نقوم بهجران مبدإ الشرّية.
ويرى كانط في كتابه الدين في حدود مجرد العقل أنّ العقل
البشري في منحاه الكوسمولوجي، يسعى دوماً إلى التمييز بين دين طقوسي مصلحي أناني،
قائم على إقامة الصلوات وتصنع الابتهالات، والاعتناء بالمظهريات في الصوامع
والكنائس والمعابد، وبين دين أخلاقي يتجسّد في الأعمال السلوكية الطيبة الحسنة،
دين لا ينتظر من الإله أن يريه طريق مرضاته، بل يكون بسلوكياته وسيرته الحسنة
أهلاً لأن يعينه الله ويخلصه[17]. فهناك إيمان وثوقي قطعي تزمتي، يجزم أصحابه بالقطيعة ويعرفه صفوة
من الخلص، ودين مفكر عاقل لا يأتي بالخوارق ليعتقد به الناس، ولا يستعين بالطاقات
الغيبية الماروائية المستهينة بالعقل ليفرض سطوته، دين يدعي العمق في خباياه،
وتشجبه الحماسة، ويؤمن بالمعجزات والخرافات، ويقول بالألطاف الروحية الفياضة
الإلهية التي تنبجس عنها الرحمات ويتكشف معها المستور من الحجب، وينار القلب
بالأسرار الملكوتية، العرفانية، الصوفية، بخلاف الدين الذي يدعونا إليه كانط الذي
يقتدر بفضل الفكر والعقل أن يجعل الإنسان يعرف نفسه بنفسه، و يغير ما بداخله
ذاتياً، دين حر لا ينتظر معونة ملائكية خارجة عن فيزيقاه.
إنّ الدين الخلقي الذي دعانا إليه كانط ليس مأموراً به من لدن سلطة
قيدية، ليست له أسرار وطقوس ومعجزات. ليست له سجلات أو مزامير داود، ولا كتب مقدسة
ولا ألواح موسى، ولا يخضع لسلطان الأحبار والكهنة ورجال اللاهوت والقساوسة
والرهبان، إنه دين أخلاقي بامتياز مؤسس على الأخلاق الفاضلة، مخالف تماماً لكل
العقائد والملل والنحل التاريخية التي نقرأ عنها الفرقة والاختلاف والغلبة والحروب
والصراعات والفتن والتنافر بين البشر. إنّ تأسيس الإيمان على الأخلاق يجعل علاقة
الله بالبشر علاقة أخلاقية، الله هو المشرع الأسمى للقانون الأخلاقي فينا، إنه دين
يجنب البشرية كلّ أنواع الحروب والصراعات التي تمخضت عن العقائد الدينية ذات
المنحى التاريخي[18]، يقول كانط: "إنّ الوهم والتعصب الديني هو الموت الأخلاقي للعقل، وبدون العقل لا
يكون هناك دين ممكن".[19]
إنّ الدين الطقوسي هو دين العبيد يمارسونه في دور
العبادة، ولكنهم لا يحذقون معناه، ولا يستكنهون مغزاه. أمّا الدين الصحيح، فهو دين
الأحرار يؤمنون بمقدرات نفوسهم، فقط بالإرادة الخيرة التي هي مخلص العباد من كلّ
تصورات خرافية، حينما نستوعب مدارك وعينا الذاتي، نستطيع أن ننير طريقنا دون أن
ننتظر مهدياً منتظراً أو مخلصاً موعوداً. يتساءل كانط ما إذا كان بإمكاننا أن نفرض
معتقداً دينياً بقوة السيف والقهر والقسر؟ ليجيبنا قائلاً: إنه على كلّ مؤسسة
دينية أو سياسية أن تترك المواطن حراً في أن يختار ما يشاء من الأخلاقية الخاصة به.
إنّ فكرة الله التي في عقولنا هي وحدها القادرة على التشريع
الأخلاقي، شتان بين دين العبادات المسلط من لدن قانون نظامي مفروض بالقوة، وبين
دين خلقي خالص مستنبط من العقل الأنسي، فهذا العقل يمتاز بالكلية والضرورية
والشمولية، ويصلح لكل الكائنات العاقلة[20]. إنّ كل دين يقبل الخضوع للقوانين
اللاهوتية المدسترة هو إيمان ذو نزعة تاريخانية منقول إلينا بوساطة الوحي المتراتب
الواصل إلينا والمتوارث جيلاً عن جيل. أمّا دين العقل، فهو عقلي محض يبلغه أي كائن
يملك عقلاً، وفقاً لإرادة خيرة مطبوعة في قلوبنا. إنّ الكوسمولوجي فينا المتكنه في
خبايانا هو عقلنا، فالدين النظامي لا يكتسي البتة طابع الكونية، هو يعبّر دوماً عن
نحلة أو ديانة تمارس شعائرها طائفة محلية في قطر من أقطار الكون الفسيح[21]، فقط حينما نعود إلى العقل البشري بمجرده نقتدر
حينها على دعوة بني آدم على الخروج من إيمان رجل الكنيسة إلى أنموذج إيمان عقلي،
يتشكل في "الجماعة الأخلاقية" شاملة وكونية؛ فهذا ما يتجلاه كانط
مكتوباً في الكنائس ومنقوشاً في الألواح، تحت طائلة "إنّ الله يأمرك فأطع كما
تؤمر "هاته الصرامة اللاهوتية الرهبانية لا تبالي بتاتاً بالخلقي فينا[22]، ويحثنا كانط على أن نربي الإنسانية التي تقوم
مقام أنفسنا منا، على الدين الواحد الموحد، لا ضروب كثيرة من الملل والعقائد
والنحل، إنّ من يدّعي كونه متديناً هو في الحقيقة رجل دين لقرية أو بؤرة معينة في
العالم ولكنه لن يجرؤ على القول بأنه كائن متخلق، إنّ المعتقد الديني النظامي يصنف
الناس كفاراً زناديق ومؤمنين. هناك ما يطلق عليه كانط بالاستعداد للدين الخلقي،
المطمور في صلب العقل البشري، ولكن ليس يعني أنّ الإيمان العقلي الحر يرفض ويتنكر
للعقائد والملل، وإنما كونه لا يحتاج البتة إلى شعائر حتى يقتنع به رجال الدين.
ويؤكد كانط أيّما تأكيد على أنّ الدين النظامي قائم في قاعدته على المجاز تتلبس به
مصطلحات كالرحمة بدل النعمة، والخدمة بدل العبادة.
إنّ أجلّ قيمة في الإيمان الحر هي كونه لا يسعى إلا إلى ابتغاء
ذاته، وأن الإنسان عندما يؤمن بحرية فهو يعمد لتغيير حياته ويجدّدها، ليقوم
بالواجب الخلقي على أكمل وجه، العقل وحده هو القادر على تحريرنا من أي شعور
بالخطيئة والإثم، الواجب عليك ككائن عاقل، هو أن تسلك سلوكاً حسناً وفقاً للإرادة
الخيرة، إنّ الانسانية التي ترضي الإله الأعظم هي التي تبحث عن الخلاص في نفسها؛
فالسيرة الخلقية الحسنة المثلى هي الكفيلة بأن تجعل الله يرضى عنها.[23]
- لكن كيف يتأتّى للإنسان أن يشرّع لنفسه؟
إنّ الله يشرع فينا، وهذا بما نحمله من قوة عقلية قادرة على
التشريع لنفسها، ومتى وصل الإنسان إلى الحرية، طوعاً تمكن من بلوغ مرتبة الإيمان
العقلي الكوني، ويضرب لنا أمثلة بالديانات النظامية وعلى رأسها الديانة اليهودية
التي اختزلت الجنس البشري من دائرتها كشعب الله المختار[24]، ويشيد كانط في مقابل ذلك بالمسيحية كونها
اقتدرت أن تستوعب الطابع الكوسمولوجي في الدين عبر الكنيسة الكونية، وأدرجت الدين
الخلقي المحض بديلاً لها عن الطقوسي المهترئ، صالحاً للإنسانية جمعاء[25]، إنّ الدين النظامي يحتاج إلى توثيق تاريخي.
أمّا إيمان العقل الحر، فهو بمنأى عن هذا كله، بل يبرهن عن نفسه بنفسه، إنّ كلّ
تمظهرات الرهبانية والتعصب الديني وطقوس العبادات والحضرة والطلسمة، ما هي إلا حشد
لعدد هائل من البشر بلا جدوى وإرهاق كواهلهم بالتزامات عقدية تجبلها الخرافات،
وهذا بحكم ما نستشفه من لدن بعض الطوائف الدينية المتشددة، كالأرثوذكسية التي ترى
بقدرتها على فهم مقاصد الكتاب المقدس، ثم تعمد إلى فرض مفاهيمها على الناس
الأحرار، مما يؤدي إلى نشوب النزاعات والفرقة وتفشي الفتن، وبالتالي التشرذم
والضياع والتفكك[26]، إنّ الدين المستبد يعامل الإنسان كالطفل
الصغير، يهدده، ويزرع الكراهية بين القرناء تحت طائلة القوة "اتبع ولا
تبتدع"، ويعتبر كانط أنّ الكنيسة النموذجية التي حققت الإيمان العقلي الحر،
هي الكنيسة الكونية لأنّ عقيدة الكنيسة الاستبدادية هي ألدّ أعداء الدين، والأوفى
لها أن تجعل الدين مقاماً على نمط خلقي خالص، لكن هذا لا يعني أنّ كانط يدعو إلى
مقاطعة الكتاب المقدس، ولا أن نعبث به بهجمات متزلفة هرطقية، بل الأقدر ألا نفرض
على أي كائن حر عاقل، الإيمان بما ورد فيه ليحصل له الخلاص والتكفير عن الخطيئة[27]، وحمّل كانط الدولة المسؤولية كاملة في حماية
الدين، فعليها أن تحمي الكتاب المقدس من أن يحول إلى جهاز استبدادي، يفرض إملاءاته
الإلزامية القسرية على العقول الحرة، وتعمد كذلك إلى حماية عقول الناس حتى تقتدر
على الإيمان بالكتاب المقدس بطريقة حرة، وعلى الدولة كذلك ألا تفرض قراراتها
الزاجرة على الضمير الخلقي البشري.27*
والأخطر في سياسة الدولة هو كونها تمنع الفرد وتفرض عليه قيوداً
ردعية، حتى لا يقول قولته في السؤال الديني على المستوى العمومي، وتمنع التفكير في
الدين أو أن يخالف الديانة المعتمدة من لدن الدولة التي قامت بضبطها وتقنينها[28]، ولكن مع ذلك يبقى الأفراد يفكرون بطريقة سرّية
فردية، لأنّ الحريّة متجذرة في عقولهم، والعقائد المستبدة لا تنتج إلا متعصبين أو
كفاراً.
وكان مسعى كانط الكوسمولوجي هو تحقيق فكرة شعب الله، وذلك عن طريق
جماعة أخلاقية يعتمد فيها على قوانين وقواعد أخلاقية موحدة، ولتحقيق فكرة شعب الله
وملكوته في الأرض، لا بد من أن تجتمع هذه الجماعة الأخلاقية على فكرة موحدة عن
القوانين الأخلاقية يشتركون بها جميعاً، وأن تصفو هذه القوانين من كوادر التعصب
الديني والخرافة، إذ لا يفرض أيّ مذهب ديني أو عقدي على الناس، وبالتالي يسهل
انتقال البشرية من إيمان مستبد إلى الدين المحض والاقتراب من ملكوت الرب، ويقترح علينا كانط طريقة صاعدة في قراءة الكتاب المقدس، وذلك
بنمطية السرد؛ أي أن نسرد عظات الكتاب، لا لنفرضها على الناس، بل لتهذيب وإيقاظ
الضمير الخلقي الحر فينا، دين نحكيه للناس بغية
مساعدتهم على التحرر من الخرافة، وجعلهم يحذقون ما يخبو في ضمائرهم الخيرة والوصول
إلى الإيمان الحر، وتتحول الصلوات والابتهالات، ونطهر بها ضمائرنا الخلقية من
الطابع الوعظي الطقوسي إلى منحى صلوات عمومية تكتسي صبغة عمومية، إنّ الدين
الحقاني ليس سراً يصل إليه البعض من الناس فقط، بحكم صوفيتهم أو رهبانيتهم، بل
بممارسة حرّة كونية موصلة إلى المقدس الإلهي فينا، ونقيم ملكوت الرب في قلوبنا
الطاهرة النقية.[29]
إنّ الايمان العميق هو ألا تمارس معتقداتك الدينية بتطرف ومغالاة
وتنطع، بل أن تعمد للتفكير في الدين على نحو كوني نتقاسم فيه نحن البشر نقاوة
ضمائرنا، دين يستوعب الكل الحر المالك للعقل بدون أن نستثني أحداً من العالمين.[30]
ما الفرق بين العبادة الصحيحة والعبادة الباطلة عند كانط؟
يستهلّ كانط هذه القطعة بالجملة التالية (إنها لبداية لسيادة مبدإ
الخير، وأمارة على أنّ ملكوت الرب قد أتى إلينا)[31]، لوّح كانط إلى حقيقة العبادة
الصحيحة التي تخدم الله بشكل حقيقي، وليس عبادة تخدم الله بشكل باطل، تتشكل على
ضوء ديانة قائمة على أحكام شرعة ما، ولا تنحصر في نطاق شعب واحد، بل تتضمّن خدمة
الله وعباده بصورة عامة مخالفة تماماً لأيّ وهم في الدين يكون اتباعه ضرباً من
عبادة زائفة تزعم التقديس. ويضرب لنا كانط أمثلة عن هذه الديانة الزائفة التي
يجبلها الوهم الديني كأن يحج إلى مقدسات لوريتو، وهو هيكل مقدّس في وسط إيطاليا
يخلد مريم العذراء، أو يجاهر بصلاته، أو يظهر تديناً بواسطة ألاعيب تقوية كسولة،
أو أن يتحمّس دينياً عن طريق شطحات صوفية. إنّ المبدأ الأساسي للعبادة الصحيحة هو
أن تتضمن في ذاتها نشر دين السيرة الحسنة، لا أن يعمد لتقديس كائنات خرافية غيبية،
وهذا ما نتجلاه في حضرة البابوية التي هي هيئة مبجّلة في الكنيسة تقوم بعبادة
طلسمية و صناعة الشعوذة وتنتهي قريبة إلى الوثنية.[32]
إنّ العبادة الخلقية الحقيقية لله التي ينبغي على المؤمنين أن يؤدوها
من حيث هم رعايا ينتمون إلى ملكوته، إنها عبادة القلوب والنوايا النقيّة التي تصدر عن قوانين الحريّة،
نوايا نذرت نفسها إلى ملكوت الله في أنفسنا الراسخة في صلبه، إنها عبادة حقيقية
صادقة تنبجس عن النية الباعثة على الخير الموقظة لوجداننا، إنها صلاة خاصّة،
فمثلاً الصلاة من حيث هي عبادة باطنية شكلية لله ومفكر فيها
على أنها نعماء علينا، هي في الحقيقة وهم ناجم عن الإيمان بالخرافة والطلاسم،
بخلاف الصلاة الحقانية التي نتحلى فيها بالنيّة التي تصاحب كلّ أفعالنا، إنها روح
الصلاة التي توجد فينا بدون انقطاع، وليست مجرّد ألفاظ وكلمات، إنها إخلاص ونيّة
حقانية. "إنّ الضمير الخلقي وحده كفيل بهداية البشريّة إلى مسائل الإيمان".[33]
[1]-
إيمانويل كانط، الدين في حدود مجرد العقل، ترجمة فتحي
المسكيني، جداول للنشر والتوزيع، بيروت (لبنان)، الطبعة الأولى، فبراير 2012
* إيمانويل
كانت Immanuel Kant 1724 -
1804(وقد
يكتب «عمانوئل كانط») فيلسوف من القرن الثامن عشر ألماني من مدينة كونغسبرغ. كان
آخر فيلسوف مؤثر في أوروبا الحديثة في التسلسل الكلاسيكي لنظرية المعرفة خلال عصر
التنوير الذي بدأ بالمفكرين جون لوك وجورج بركلي وديفيد هيوم. من أهم مؤلفاته: نقد
العقل الخالص، نقد العقل العملي، نقد ملكة الحكم، الدين في حدود مجرد العقل.
** فتحي المسكيني: من
موالد 1961، في تونس، أستاذ التعليم العالي للفلسفة المعاصرة بجامعة تونس، بدأ
التدريس بالجامعة علم 1990، تحصل على دكتواره دولة في الفلسفة عام 2003، من أهم
مؤلفاته: هيجل ونهاية الميتافيزيقا، فلسفة النوابت، الهوية والزمان، نقد العقل
التأويلي، له ترجمات عديدة منها "الكينونة والزمان"، "الدين في
حدود مجرد العقل"، "جينيولوجيا الأخلاق".
[5]-إيمانويل كانط، نقد ملكة الحكم، ترجمة غانم هنا،
المنظمة العربية للترجمة، بيروت، لبنان، سبتمبر 2005
[6]-
مجموعة من المؤلفين،
إشراف علي عبود المحمداوي، فلسفة الدين، منشورات ضفاف، منشورات الاختلاف، دار أمان
بالرباط، ط 1، 2012، ص 71
[33]-
المصدر نفسه، ص 312
كانط ونموذجه المثالي لتأسيس جماعة أخلاقية كونية
مملكة الفضيلة والقواعد التي تعد
الإنسان بالتوافق عوض التضارب
محسن المحمدي
(عن
الشرق الأوسط)
بني ملال (المغرب): محسن المحمدي
اهتم الفيلسوف
الأنواري إيمانويل كانط (1724 - 1804)، بالشأن الديني في كتاب نود إلقاء نظرة
عليه، وهو بعنوان واضح جدا، يبرز تصور كانط لحدود الدين، وللطريقة التي يراها
مناسبة لوجوده في المجتمع الحديث. إنه، «الدين في حدود العقل وحده»، أو كما يحلو
لمترجم هذا الكتاب إلى العربية، فتحي المسكيني، أن يسميه «الدين في حدود مجرد
العقل»، على أساس أن التجريد المقصود في العنوان هو تعرية الدين من ملابس العقائد
السائدة والمختلفة والكشف عن نواته الصرفة، أي العقلي المحض.
لقد حاول كانط في كتابه هذا، الذي جاء في ذروة عصر الأنوار، أن يلون الدين بقالب الأخلاق فقط، وأن يحذف منه كل الطقوس والشعائر. بعبارة أخرى، عمل كانط على إفراغ الأديان من مضمونها التاريخي ليملأه بمضمون عقلاني متعال عن الزمان والمكان. لذلك، فإن فهم الكتاب بشكل جيد، لا يمكن أن يتأتى من دون العودة إلى تصور كانط للمسألة الأخلاقية.
كان الهم الأكبر لكانط، هو البحث عن مبادئ عامة توحد المقاييس الأخلاقية، بحيث تجد البشرية دربها الآمن للتعايش والسلم، دونما عنف تراه العين كل يوم. وحينما تأمل كانط الأمر، اكتشف أن الاعتماد على العاطفة والوجدان والانتماء التاريخي، أي تلك المكتسبات القادمة من التاريخ والمترسبة في جوف الإنسان، لا تحل القضية الأخلاقية نهائيا. بل هي من تسقط الإنسان في الشر، لأنها باختصار، متضاربة وتؤدي إلى التطاحن والتقاتل. وما الحروب باسم الدين أو باسم العرق أو المذهب، إلا من مؤشرات ذلك. فالعاطفة لا تأتي منها إلا الحماسة والاندفاع. فهي تغمض البصيرة وتعمي الحكمة. الأمر الذي دفع كانط إلى الاتجاه صوب العقل، معتبرا إياه «أعدل قسمة بين الناس توزيعا»، كما روج لذلك الفيلسوف ديكارت. ومن ثم ما على البشرية إلا التنقيب عن بعض القواعد العقلية التي يمكن الارتكان إليها وبوضوح تام، وتكون لها صفة المشترك والقبول عند كل حس سليم. فما هي هذه القواعد الأخلاقية الكانطية التي تعد الإنسان بالتوافق عوض التضارب؟
إن الأخلاق التي يعول عليها كانط، والتي سيرتكز عليها كأساس للدين الجديد الذي يبشر به، عوضا عن الدين النظامي التاريخي، تقوم على الواجب الخالي من المنفعة، البعيد عن العاطفة والوجدان، والذي يسمح للإرادة الطيبة (النية الصافية)، بالظهور في كامل نقائها. هذا الواجب يجب أن يستند إلى قواعد عقلية صارمة، واجبة الاحترام والتقدير. فهي بمثابة أوامر مطلقة وكونية وغير مشروطة. ويكفي لإدراك هذه القواعد، أن يطرح المرء السؤال على نفسه: هل يمكن أن ترغب في أن يغدو سلوكك قانونا كليا؟ إذا لم تكن ترغب فانبذ هذه القاعدة. فأي تشريع للقانون الأخلاقي يفتقد للشمولية فهو لا أخلاقي.
ويمكن حصر هذه القواعد الكونية في ثلاث، وهي:
قاعدة التعميم
يعتبر كانط هذه القاعدة، بمثابة القانون الأساسي للأخلاق. ويمكن صياغتها كالتالي: «افعل بحيث يمكن لمسلمة إرادتك أن تصح دائما، وفي الوقت نفسه مبدأ تشريع عام». بعبارة أخرى، ونحن نسلك في الحياة، لن يكون فعلنا فعلا أخلاقيا إلا إذا كانت له صبغة القانون العام. أي إن ما يمسني يجب أن يمس الآخرين. بعبارة أخرى، علي الحرص كي لا أجعل من نفسي استثناء في التشريع، وأن أقحم نفسي ضمن القانون المشرع. وهنا بالضبط صلاحية العقل وقدرته على توحيد المعيار نحو الفضيلة والخير.
قاعدة الغائية
يصوغ كانط هذه القاعدة على شاكلة أمر أخلاقي، وذلك كالتالي: «افعل بحيث تعامل الإنسانية في شخصك وفي شخص كل إنسان سواك، بوصفها، دائما وفي الوقت نفسه، غاية في ذاتها، ولا تعاملها أبدا كما لو كانت مجرد وسيلة». بعبارة أخرى، إذا كان المرء يريد أن يصدر عنه فعل أخلاقي حقيقي، فهو مطالب بأن يعامل ذاته وذات الآخرين كغاية لا كوسيلة. فإذا كانت الأشياء تكمن قيمتها في نفعيتها واستخدامها لأغراض ومصالح معينة، بالإضافة إلى أنها تقيّم بسعر، ومن ثم قابليتها للبيع والشراء، فإن الإنسان ليس بالشيء. فهو لا يمكن استغلاله لمصالح خاصة، لأن الإنسانية تجثم في جوفه. وهو كائن لديه الكرامة والعزة والحرمة، وهي أمور تجعله لا يقبل ولا يرضى لنفسه الاستخدام والاستغلال. فلا أحد يريد، أن يساق مثلا، إلى سوق الرق ليباع ويحدد له ثمن. فهناك صرخة في الباطن تمنعنا من ذلك.
إن هذه القاعدة الغائية منسجمة مع قاعدة التعميم الأولى. فإذا كان لا يمكن وضع الكذب ضمن قانون عام، ومن ثم بطلانه أخلاقيا، فإنه بالمثل، باطل، لأنه يجعل من الإنسان وسيلة ويضربه كغاية.
قاعدة الحرية
يمكن صياغة هذا القانون على الشكل التالي: «افعل بحيث تكون أنت مشرع نفسك». فإذا كانت القاعدة الأولى تضمن العمل وفق قانون عام، والقاعدة الثانية تجعل الإنسان غاية في ذاته، فإن المرء إذا اكتفى بالخضوع للقانون من دون أن يكون هو واضعه، فسيكون مجرد أداة وليس غاية في ذاته. وما دام أن العقل هو من يضع القانون، فإن الأمر ذاتي، مما سيجعل المرء يطيع نفسه. وطاعة الذات قمة الحرية. فعندما تضع القانون بنفسك، فإنك تكون أمام إكراه حر تتحمل فيه المسؤولية كاملة. وتخرج، بذلك، من القصور، وتربح كرامتك وعزتك، بعدم السماح للغير بأن يقودك لأنك سيد نفسك. إذن، حين أؤدي واجبي، لا أخضع في رأي كانط لقوة خارجية أيا كان سلطانها. وإنما أفعل الفعل بما يتفق مع قانون وضعته لنفسي بنفسي.
بعد هذه التوطئة التي كان القصد منها إبراز بعض ملامح النظرة الأخلاقية الكانطية، التي يعول عليها كانط كصورة جديدة للدين المأمول عنده، سنحاول الوقوف عند ملامح مجتمع الأخلاق كما يحلم به كانط، وانتقاء بعض الأفكار التي تبدو لنا جوهرية، في كتابه «الدين في حدود العقل وحده»
العمل والأمل لصناعة
مملكة الفضيلة
تكشف قراءة كتاب كانط في كل مرة، عن أمل وطموح متفائل وواقعي في الآن نفسه، لتأسيس ملكوت الله على الأرض، أو ما يسميه، في أحيان أخرى، بمملكة الفضيلة أو دولة الأخلاق. وذلك عنده، رهين بانتصار مبدأ الخير على مبدأ الشر، والعمل على الانتقال من المجتمع المدني القانوني نحو المجتمع المدني الأخلاقي. الأمر الذي يتطلب كفاحا وجهدا جهيدا، على كل البشرية العمل على تحقيقه. فبلوغ مجتمع الأخلاق، هو مشروع منتظر وليس قريب المنال، نظرا لإغواء الشر الملاحق للإنسان على الدوام. فكانط، يلح على أن الرابطة المأمولة بين البشر والمؤدية إلى اجتثاث الشر من الأرض، ليس أمرا جاهزا، بل هو صناعة على الإنسان السعي وراءها. إنها بناء شاق وجاد.
يضيف كانط أنه ينبغي لتحقيق هذه الجماعة الخلقية المنشودة، تجاوز الجماعة الدينية التاريخية. بعبارة أخرى، على البشرية الاجتهاد نحو ملكوت للرب، وذلك بالسعي من دون كلل، للانتقال - بتعبيره - من الكنيسة التاريخية إلى الكنيسة الخلقية، التي هي الكنيسة الحقيقية والمنتصرة، ذات السمة الكونية، حيث مبدؤها وجوهرها، الأخلاق العقلية المتعالية على الزمان والمكان، لا الشعائر التاريخية.
إن جماعة الأخلاق، لن تكون إلا بإقامة منظومة من الناس ذوي النوايا الحسنة، أو الإرادة الطيبة، التي يعتبرها كانط، بؤرة الأخلاق بامتياز. فهي الخير الأسمى من دون منازع، بحيث على كل فرد العمل على الخروج من حالة الطبيعة الأخلاقية، ليصبح عضوا في الجماعة الأخلاقية المأمولة.
يرى كانط أن الإنسان يحتاج إلى تقويم وتعديل. فهو كالعود المعوج، يحتاج إلى جهد لكي يصبح مستقيما تماما. فالذين يعملون على نشر الشر، ينطلقون من مبدأ كامن في أنفسنا. وبالمثل، فالذين يعملون على نشر الفضيلة، هم أيضا ينطلقون من مبدأ كامن أيضا في أنفسنا. لهذا فمملكة الأخلاق لن تتحقق إلا بمجابهة الشر القابع فينا. فالإنسان مطالب بأن يغالب نفسه للرفع من شق في كيانه على حساب شق آخر. ومن هنا نفهم أن جماعة الأخلاق ليست جاهزة، بل هي اجتهاد ونضال دائب. ويتلاءم هذا طبعا، والخلفية النظرية للزمن الحديث، القائم على أساس أن لا شيء جاهز، بل كل شيء يبنى. فكانط سيوجه الشأن الديني وجهة حداثية بوضوح تام. وبهذا العمل يكون وكأنه أراد سد النسق الحداثي، ما دامت كل جوانب الباراديغم (النموذج الذهني الموجه) الحداثي، في زمانه، قد أخذت دربها الآمن: معرفيا، وسياسيا، واقتصاديا، وأخلاقيا.
إذن كجواب على السؤال الكانطي الأساسي: كيف نصنع من عود معوج شيئا مستقيما؟
يعول كانط على شرطين أساسين، هما: العمل والأمل. العمل والجد نحو بناء مجتمع الأخلاق، وذلك بالسعي لأن تسود أوامر الله، التي هي، من وجهة نظره، القوانين الأخلاقية العقلية والأمل في حكمة عليا، سوف تكلل هذا الجهد بالتمام والكمال.
وما دام أن كانط فيلسوف متفائل جدا، ويثق بالإنسان بالمطلق، فإنه رغم ذلك، ليس بالطوباوي الحالم، دونما محاولة إرساء بعض الخطوط التي تجعل من طموحه قابلا للتحقيق. ولهذا، فإننا نجده يطرح سؤالا إجرائيا في حقيقته، عن ماهية النظام المؤطر للجماعة الأخلاقية المنشودة؟ ويجيب بأن هذه الجماعة الأخلاقية، التي ينظر إليها على أساس أنها الممثلة لدولة الرب، يجب ألا يكون تنظيمها شبيها بالدساتير السياسية المتداولة. فدستورها لا هو ملكي: أي تحت إمرة بابا أو بطريرك، ولا هو أرستقراطي، أي تحت إمرة الأساقفة والمطارنة، ولا هو بالديمقراطي، كما هو الحال عند الإشراقيين وأصحاب الفرق والإلهامات الفردية. بل يمكن مقارنة هذه الجماعة الأخلاقية بتعاونية منزلية أو عائلية، تحت إمرة أب خلقي، إلا أنه غير مرئي. هذا هو التنظيم الأكثر جدارة بحسب كانط لكي يسود ملكوت الرب.
لقد حاول كانط في كتابه هذا، الذي جاء في ذروة عصر الأنوار، أن يلون الدين بقالب الأخلاق فقط، وأن يحذف منه كل الطقوس والشعائر. بعبارة أخرى، عمل كانط على إفراغ الأديان من مضمونها التاريخي ليملأه بمضمون عقلاني متعال عن الزمان والمكان. لذلك، فإن فهم الكتاب بشكل جيد، لا يمكن أن يتأتى من دون العودة إلى تصور كانط للمسألة الأخلاقية.
كان الهم الأكبر لكانط، هو البحث عن مبادئ عامة توحد المقاييس الأخلاقية، بحيث تجد البشرية دربها الآمن للتعايش والسلم، دونما عنف تراه العين كل يوم. وحينما تأمل كانط الأمر، اكتشف أن الاعتماد على العاطفة والوجدان والانتماء التاريخي، أي تلك المكتسبات القادمة من التاريخ والمترسبة في جوف الإنسان، لا تحل القضية الأخلاقية نهائيا. بل هي من تسقط الإنسان في الشر، لأنها باختصار، متضاربة وتؤدي إلى التطاحن والتقاتل. وما الحروب باسم الدين أو باسم العرق أو المذهب، إلا من مؤشرات ذلك. فالعاطفة لا تأتي منها إلا الحماسة والاندفاع. فهي تغمض البصيرة وتعمي الحكمة. الأمر الذي دفع كانط إلى الاتجاه صوب العقل، معتبرا إياه «أعدل قسمة بين الناس توزيعا»، كما روج لذلك الفيلسوف ديكارت. ومن ثم ما على البشرية إلا التنقيب عن بعض القواعد العقلية التي يمكن الارتكان إليها وبوضوح تام، وتكون لها صفة المشترك والقبول عند كل حس سليم. فما هي هذه القواعد الأخلاقية الكانطية التي تعد الإنسان بالتوافق عوض التضارب؟
إن الأخلاق التي يعول عليها كانط، والتي سيرتكز عليها كأساس للدين الجديد الذي يبشر به، عوضا عن الدين النظامي التاريخي، تقوم على الواجب الخالي من المنفعة، البعيد عن العاطفة والوجدان، والذي يسمح للإرادة الطيبة (النية الصافية)، بالظهور في كامل نقائها. هذا الواجب يجب أن يستند إلى قواعد عقلية صارمة، واجبة الاحترام والتقدير. فهي بمثابة أوامر مطلقة وكونية وغير مشروطة. ويكفي لإدراك هذه القواعد، أن يطرح المرء السؤال على نفسه: هل يمكن أن ترغب في أن يغدو سلوكك قانونا كليا؟ إذا لم تكن ترغب فانبذ هذه القاعدة. فأي تشريع للقانون الأخلاقي يفتقد للشمولية فهو لا أخلاقي.
ويمكن حصر هذه القواعد الكونية في ثلاث، وهي:
قاعدة التعميم
يعتبر كانط هذه القاعدة، بمثابة القانون الأساسي للأخلاق. ويمكن صياغتها كالتالي: «افعل بحيث يمكن لمسلمة إرادتك أن تصح دائما، وفي الوقت نفسه مبدأ تشريع عام». بعبارة أخرى، ونحن نسلك في الحياة، لن يكون فعلنا فعلا أخلاقيا إلا إذا كانت له صبغة القانون العام. أي إن ما يمسني يجب أن يمس الآخرين. بعبارة أخرى، علي الحرص كي لا أجعل من نفسي استثناء في التشريع، وأن أقحم نفسي ضمن القانون المشرع. وهنا بالضبط صلاحية العقل وقدرته على توحيد المعيار نحو الفضيلة والخير.
قاعدة الغائية
يصوغ كانط هذه القاعدة على شاكلة أمر أخلاقي، وذلك كالتالي: «افعل بحيث تعامل الإنسانية في شخصك وفي شخص كل إنسان سواك، بوصفها، دائما وفي الوقت نفسه، غاية في ذاتها، ولا تعاملها أبدا كما لو كانت مجرد وسيلة». بعبارة أخرى، إذا كان المرء يريد أن يصدر عنه فعل أخلاقي حقيقي، فهو مطالب بأن يعامل ذاته وذات الآخرين كغاية لا كوسيلة. فإذا كانت الأشياء تكمن قيمتها في نفعيتها واستخدامها لأغراض ومصالح معينة، بالإضافة إلى أنها تقيّم بسعر، ومن ثم قابليتها للبيع والشراء، فإن الإنسان ليس بالشيء. فهو لا يمكن استغلاله لمصالح خاصة، لأن الإنسانية تجثم في جوفه. وهو كائن لديه الكرامة والعزة والحرمة، وهي أمور تجعله لا يقبل ولا يرضى لنفسه الاستخدام والاستغلال. فلا أحد يريد، أن يساق مثلا، إلى سوق الرق ليباع ويحدد له ثمن. فهناك صرخة في الباطن تمنعنا من ذلك.
إن هذه القاعدة الغائية منسجمة مع قاعدة التعميم الأولى. فإذا كان لا يمكن وضع الكذب ضمن قانون عام، ومن ثم بطلانه أخلاقيا، فإنه بالمثل، باطل، لأنه يجعل من الإنسان وسيلة ويضربه كغاية.
قاعدة الحرية
يمكن صياغة هذا القانون على الشكل التالي: «افعل بحيث تكون أنت مشرع نفسك». فإذا كانت القاعدة الأولى تضمن العمل وفق قانون عام، والقاعدة الثانية تجعل الإنسان غاية في ذاته، فإن المرء إذا اكتفى بالخضوع للقانون من دون أن يكون هو واضعه، فسيكون مجرد أداة وليس غاية في ذاته. وما دام أن العقل هو من يضع القانون، فإن الأمر ذاتي، مما سيجعل المرء يطيع نفسه. وطاعة الذات قمة الحرية. فعندما تضع القانون بنفسك، فإنك تكون أمام إكراه حر تتحمل فيه المسؤولية كاملة. وتخرج، بذلك، من القصور، وتربح كرامتك وعزتك، بعدم السماح للغير بأن يقودك لأنك سيد نفسك. إذن، حين أؤدي واجبي، لا أخضع في رأي كانط لقوة خارجية أيا كان سلطانها. وإنما أفعل الفعل بما يتفق مع قانون وضعته لنفسي بنفسي.
بعد هذه التوطئة التي كان القصد منها إبراز بعض ملامح النظرة الأخلاقية الكانطية، التي يعول عليها كانط كصورة جديدة للدين المأمول عنده، سنحاول الوقوف عند ملامح مجتمع الأخلاق كما يحلم به كانط، وانتقاء بعض الأفكار التي تبدو لنا جوهرية، في كتابه «الدين في حدود العقل وحده»
العمل والأمل لصناعة
مملكة الفضيلة
تكشف قراءة كتاب كانط في كل مرة، عن أمل وطموح متفائل وواقعي في الآن نفسه، لتأسيس ملكوت الله على الأرض، أو ما يسميه، في أحيان أخرى، بمملكة الفضيلة أو دولة الأخلاق. وذلك عنده، رهين بانتصار مبدأ الخير على مبدأ الشر، والعمل على الانتقال من المجتمع المدني القانوني نحو المجتمع المدني الأخلاقي. الأمر الذي يتطلب كفاحا وجهدا جهيدا، على كل البشرية العمل على تحقيقه. فبلوغ مجتمع الأخلاق، هو مشروع منتظر وليس قريب المنال، نظرا لإغواء الشر الملاحق للإنسان على الدوام. فكانط، يلح على أن الرابطة المأمولة بين البشر والمؤدية إلى اجتثاث الشر من الأرض، ليس أمرا جاهزا، بل هو صناعة على الإنسان السعي وراءها. إنها بناء شاق وجاد.
يضيف كانط أنه ينبغي لتحقيق هذه الجماعة الخلقية المنشودة، تجاوز الجماعة الدينية التاريخية. بعبارة أخرى، على البشرية الاجتهاد نحو ملكوت للرب، وذلك بالسعي من دون كلل، للانتقال - بتعبيره - من الكنيسة التاريخية إلى الكنيسة الخلقية، التي هي الكنيسة الحقيقية والمنتصرة، ذات السمة الكونية، حيث مبدؤها وجوهرها، الأخلاق العقلية المتعالية على الزمان والمكان، لا الشعائر التاريخية.
إن جماعة الأخلاق، لن تكون إلا بإقامة منظومة من الناس ذوي النوايا الحسنة، أو الإرادة الطيبة، التي يعتبرها كانط، بؤرة الأخلاق بامتياز. فهي الخير الأسمى من دون منازع، بحيث على كل فرد العمل على الخروج من حالة الطبيعة الأخلاقية، ليصبح عضوا في الجماعة الأخلاقية المأمولة.
يرى كانط أن الإنسان يحتاج إلى تقويم وتعديل. فهو كالعود المعوج، يحتاج إلى جهد لكي يصبح مستقيما تماما. فالذين يعملون على نشر الشر، ينطلقون من مبدأ كامن في أنفسنا. وبالمثل، فالذين يعملون على نشر الفضيلة، هم أيضا ينطلقون من مبدأ كامن أيضا في أنفسنا. لهذا فمملكة الأخلاق لن تتحقق إلا بمجابهة الشر القابع فينا. فالإنسان مطالب بأن يغالب نفسه للرفع من شق في كيانه على حساب شق آخر. ومن هنا نفهم أن جماعة الأخلاق ليست جاهزة، بل هي اجتهاد ونضال دائب. ويتلاءم هذا طبعا، والخلفية النظرية للزمن الحديث، القائم على أساس أن لا شيء جاهز، بل كل شيء يبنى. فكانط سيوجه الشأن الديني وجهة حداثية بوضوح تام. وبهذا العمل يكون وكأنه أراد سد النسق الحداثي، ما دامت كل جوانب الباراديغم (النموذج الذهني الموجه) الحداثي، في زمانه، قد أخذت دربها الآمن: معرفيا، وسياسيا، واقتصاديا، وأخلاقيا.
إذن كجواب على السؤال الكانطي الأساسي: كيف نصنع من عود معوج شيئا مستقيما؟
يعول كانط على شرطين أساسين، هما: العمل والأمل. العمل والجد نحو بناء مجتمع الأخلاق، وذلك بالسعي لأن تسود أوامر الله، التي هي، من وجهة نظره، القوانين الأخلاقية العقلية والأمل في حكمة عليا، سوف تكلل هذا الجهد بالتمام والكمال.
وما دام أن كانط فيلسوف متفائل جدا، ويثق بالإنسان بالمطلق، فإنه رغم ذلك، ليس بالطوباوي الحالم، دونما محاولة إرساء بعض الخطوط التي تجعل من طموحه قابلا للتحقيق. ولهذا، فإننا نجده يطرح سؤالا إجرائيا في حقيقته، عن ماهية النظام المؤطر للجماعة الأخلاقية المنشودة؟ ويجيب بأن هذه الجماعة الأخلاقية، التي ينظر إليها على أساس أنها الممثلة لدولة الرب، يجب ألا يكون تنظيمها شبيها بالدساتير السياسية المتداولة. فدستورها لا هو ملكي: أي تحت إمرة بابا أو بطريرك، ولا هو أرستقراطي، أي تحت إمرة الأساقفة والمطارنة، ولا هو بالديمقراطي، كما هو الحال عند الإشراقيين وأصحاب الفرق والإلهامات الفردية. بل يمكن مقارنة هذه الجماعة الأخلاقية بتعاونية منزلية أو عائلية، تحت إمرة أب خلقي، إلا أنه غير مرئي. هذا هو التنظيم الأكثر جدارة بحسب كانط لكي يسود ملكوت الرب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق