نهاية الفلسفة
النسقية
عرض لوجهة نظر ريتشارد رورتي
ماذا تعني نهاية الفلسفة؟ إنها تعني تجاوز شكل معين من الفلسفة لفتح المجال أمام شكل جديد. وفي هذا الاتجاه يقدم الفيلسوف الأمريكي المعاصر ريتشارد رورتي Richard Rorty (ولد عام 1931) مراجعة تفكيكية لمفهوم الفلسفة ولحدوده. ويصوغ تمييزات ومفاهيم جديدة يتم على هامشها تحديد الفعل الفلسفي، ويكشف عن الانزياحات التي تتعرض لها الثنائيات التقليدية التي تحكمت لمدة طويلة في تمييز هذا الفعل. وفي هذا الإطار تتقمص الفلسفة عنوانا جديدا استلهمه رورتي من هيرمينوطيقية الفيلسوف الألماني هانزجورج غادامير H.G. GADAMER (ولد عام 1900)، ومن وجودية الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر J.P.SARTRE (1905-1980) والفيلسوف الألماني مارتن هايدغرM.Heidegger (1889-1976). وهذا العنوان ذو الأصل الهيرمينوطيقو-وجودي هو: "الفلسفة المنشِّئة" La philosophie édifiante(*) .
1 - الفلسفة المنشئة/الفلسفة النسقية.
ارتبطت الفلسفة مع إيمانويل كنط E. Kant (1724 - 1804) بنظرية المعرفة فأضحت تتبوأ رتبة "تأسيسية" جعلتها تنفرد بامتياز خاص عن بقية قطاعات الثقافة. وقبله مع رينه ديكارت R.Descartes (1596 -1650) وجون لوك J. Locke (1632-1704) تم اعتبار الفلسفة كحقل يمكن من تجاوز مستوى "الرأي" البسيط، ويفتح طرقا واضحة ومتميزة تقود نحو "اليقين". وقبل ذلك بكثير كانت الفلسفة مع أفلاطونPLATON ( حوالي: 427-347م) علما محصنا داخل أسوار أكاديمية رفعت على مدخلها جملة تخصيصية تقول: "لا يدخلها إلا من كان رياضيا". فحكم على الفلسفة أن تعيش على وتيرة الصرامة الرياضية والمنطقية التي تتعارض مع تفتح القول الشعري وحريته. إن هذه اللحظات الأفلاطونية والديكارتية والكنطية تؤكد أن تاريخ الفلسفة، ومعه تاريخ بقية المعارف، هو تاريخ لـ"نظرية المعرفة" ولاستبداداتها المرآوية(2).
وهكذا فإن الصورة المهنية التي تضفيها الكنطية الجديدة على
الفيلسوف هي، في نظر رورتي، صورة مقرونة باعتبار "العقل" و
"اللغة" مرآتين للطبيعة، أي أداتين للوصول إلى جوهر المعرفة. وفي هذا الاتجاه تتحول الفلسفة إلى
أداة للبحث عن البنيات الثابتة التي تتأطر داخلها المعرفة والثقافة والحياة.
ويتسنى لها ذلك من خلال قوالب التمثلات ذات الامتياز التي تختارها كموضوع لها.
إن النظر إلى الفلسفة من زاوية أقنوم "مرآة الطبيعة" لا ينفصل، حسب رورتي، عن تحديد الإنسان باعتباره كائنا يملك جوهرا مرآويا يتمكن بواسطته من الوصول إلى معرفة تخفي الكثير من الحقائق السامية. فالإنسان جوهر جوهره هو اكتشاف الجواهر. إن هذا التحديد الميتافيزيقي لمفهوم الإنسان يستدعي من الفلسفة أن تنظر إلى "الذات" باعتبارها "موضوعا" مثل باقي المواضيع الأخرى. وينتج عن هذا اعتبار كل الأوصاف الممكنة متقايسة، وذلك نظرا لوجود لغة وصفية وحيدة، هي لغة الفلسفة ذاتها. فعادة ما يفترض في هذه الأخيرة أن تزودنا بوصف كلي يمكننا من مطابقة "الكائنات البشرية كما يعرفنا بها وصف معين" مع "جوهر" الإنسان. يظهر إذن أن فكرة الإنسان باعتباره مرآة للطبيعة، أي كائنا يملك جوهرا مرآويا يتمثل بواسطته الحقيقة الجوهرية لما يوجد أمامه، تفترض خطابا فلسفيا "سويا"(*) يسع لاحتواء وتوحيد كل الخطابات الأخرى داخل لغة واحدة تلتحم مع الجوهر المرآوي وتقوم كقالب محايد لـ "مقايسة" جميع الخطابات.
فالانتقال من منظور الفلسفة المرآوية المؤسس على "نظرية المعرفة" إلى المنظور "اللامعرفي" للفعل الفلسفي يقتضي أولا، مع رورتي، هجرة مقولة الإنسان باعتباره "جوهرا مرآويا" يملك القدرة على معرفة باقي الجواهر الأخرى. وفي هذا السياق يستلهم رورتي بعض الأفكار "الوجودية" من الفيلسوف الفرنسي ج.ب. سارتر، والتي تتعلق بالوجود الإنساني. إن أهمية التصور الوجودي تنبع من كونه يسمح بالإعلان عن كون الإنسان لا يملك جوهرا ما. وبعبارة سارتر "إن جوهر الإنسان هو أن يكون بدون جوهر"، حيث إنه لا مجال للاعتقاد في كوننا نملك طبيعة ميتافيزيقية خفية وعميقة تمكن الفلاسفة من الحديث عن حقيقة ضرورية تتحكم في الوجود الإنساني. وذلك لأن محاولة معرفة العالم، وبالتالي معرفة أنفسنا، معرفة موضوعية هي، في نظر سارتر، محاولة للتخلص من مسؤولية اختيار مشاريع تخصنا لوحدنا، أي من مسؤولية الاختيار بين الأفكار والكلمات، أي عبر الجمود داخل الوجود "في-ذاته"، وبالتالي فهي محاولة لإنهاء حريتنا في إنشاء مقاربات ونظريات وخطابات أخرى.
عندما ينظر إلى الكائنات البشرية كمواضيع وليس كذوات، أي كموجودات "في-ذاتها" وليس "لذاتها" فإن هدف الفلسفة يصبح حينئذ هو اكتشاف هذه الحقيقة الجاهزة التي تزودنا بعبارات تسمح بمقايسات نهائية لكل الأبحاث والأنشطة الإنسانية. بعبارة أخرى، إن البحث عن المقايسة، أو أيضا محاولة إقصاء كل محاولة أخرى عبر إيجاد وسيلة لاختزال كل الأوصاف الممكنة إلى وصف واحد؛ هو، في نظر رورتي، تعبير عن إرادة الانفلات من القدر الإنساني المطبوع بالخلق والحرية.
يشير رورتي إلى أن سارتر يسمح لنا بفهم أن المصورة البصرية التي تتأسس عليها الفلسفة الغربية هي مصورة تفارق ذاتها باستمرار. وبلغة مجازية، إن "مرآة" الطبيعة متى كانت شفافة فإنه لا يمكن أن نميزها عن ذلك الشيء الذي تعكسه، إذ تفارق ذاتها وتتحول إلى عين ذلك الشيء. فإذا كانت "المرآة"، بهذا المعنى، تفقد مرآويتها، فإن الكائن الإنساني بدوره عندما يتحول عقله إلى "مرآة" تعكس الطبيعة وتتطابق معها، فإنه، حسب سارتر، يفقد إنسانيته ويتحول إلى صورة إله. إن هذا الكائن الإنساني لن يكون في حاجة إلى -ومن هنا لن يكون قادرا على- الاختيار بين مختلف الحالات والأوصاف. فهو من الناحية الإيجابية "إله"، لكنه من الناحية السلبية مجرد "آلة بسيطة" ما دام أنه يفقد القدرة على التصرف والاختيار.
يعلمنا هذا التأويل المجازي أن الإنسان المرآوي، في ظل الفلسفة المرآوية، يفقد إنسانيته كما تفقد المرآة المجلوة مرآويتها عندما تذوب في الشيء الذي تعكسه. والفلسفة التي تقوم على هذا التصور هي فلسفة "سوية" ينظر إليها باعتبارها تقدم قواعد لمقايسة بقية الخطابات. إنها ذلك المبحث الذي يراد منه أن "يسلك الطريق المضمونة للعلم" كما رسمها لها أفلاطون وديكارت وكنط وغيرهم. إنها فلسفة الرياضيات والفيزياء لا فلسفة الشعر والذوق. إنها عقيدة لبناء وتشييد حصون مغلقة للحقيقة واليقين وليست فلسفة مفتوحة للابتكار والتنشئة والإصلاح.
يقدم رورتي تصوره الجديد للفلسفة على أرضيته المعنى الذي يمنح للدائرة الهيرمينوطيقية عبر معارضتها بنظرية المعرفة. وبهذا الصدد تكفي الإشارة إلى أن الهيرمينوطيقا ليست لا منهجا للبحث، ولا خطابا سويا قابلا للمقايسة، ولا بديلا عن نظرية المعرفة، ولا أداة لبناء "حقل لا-تاريخي للاتفاق". إنها، عكس ذلك، خطاب شاذ ولا متقايس، ودعوة لترك أبواب النقاش والمحادثة مشرعة، ومجال للابتكار والتأويل وقول ما لم يسبق قوله. إنها حقل للاستئناس بكل ما هو غريب وأجنبي.
كي يدعم رورتي توجهه الهيرمينوطيقي في تحديد الفعل الفلسفي، يستلم بعض أفكار الفيلسوف الألماني هـ.ج. غادامير من خلال كتابه: الحقيقة والمنهج. والهيرمينوطيقا من خلال هذا الكتاب "ليست منهجا للوصول إلى الحقيقة"، إنها "ظاهرة لا علاقة لها بمشكل المنهج". وهذا التحديد يساعدنا على التخلص من النظر إلى الإنسان بصفته يحمل "جوهرا مرآويا" يقدم معجما سويا لمقاسية كل الخطابات. ويتناغم مع مفاهيم: اللامقاسية والشذوذ والانفتاح والتطوير. ويتعرض غادامير لمفهوم جديد ينسجم مع هذا الحقل المفاهيمي. وهو مفهوم الـ Bildung(*)وهو يتعارض مع مفهوم "المعرفة" ويحل محله.
يعني مفهوم الـ Bildung عند غادامير الـ"شيء الذي يكون غاية في ذاته" وهو يرتبط بالإطار التاريخي الذي ينبثق منه ولا يهتم بمفهوم "الجوهر" ولا بالفكرة التي تفيد أن اختزال فعل التربية إلى مجرد تعلم خالص وبسيط لنتائج البحث السوي، وإلى رفض التصور "الموضوعي" الذي يقصي كل محاولات البحث الشاذ بمبرر أنها محاولات لا تنضبط لقواعد البحث السوي. وفي سياق هذا المنظور الهيرمينوطيقي تؤول الحقيقة باعتبارها مكونا من مكونات التربية؛ حيث إن اكتسابها يظل نسبيا ومرتبطا بالسياق التربوي الذي ترد فيه. ويشير رورتي إلى أن هذا المنظور ليس ممكنا إلا إذا تموقعنا في جهة "الآخر"، ومن ثمة تضحى عملية التثاقف هي منطق كل عملية تربوية. لأن المشروع التربوي لا يمكن أن ينحصر داخل براديجم سوي ومغلق يزودنا بقواعد أخلاقية جاهزة وأبدية. فبدل " امتلاك" القواعد والحدود الموجودة trouvées والجاهزة، تدعو العملية التربوية -اقتداء بالهيرمينوطيقا- إلى فتح الأبواب أمام الخلق والإبداع والتحديد. ولعل هذا ما يؤكده ريتشارد رورتي عندما يقول: "إنه من وجهة النظر التربوية-بما هي تتعارض مع وجهة النظر المعرفية والتقنية-يعتبر فن التعبير عن الأشياء أهم من امتلاك الحقائق" L’art de formuler les choses prime sur la possession de verités.
هكذا يصبح جليا، مع رورتي، أنه ثمة تقاطع والتقاء بين التصور "الوجودي" الذي يؤكد على مسؤولية الإنسان واستقلالية اختياره عبر رفض جميع التحديدات الجوهرية والارتباطات الماهوية مع جوهر خارجي معين، وبين التوجه الهيرمينوطيقي و "التربوي" الذي يرفض، بدوره، الخضوع لأي معيار موضوعي أو عقلاني مستنبط من إطار لا-تاريخي وفوق-ثقافي. إن هذا التقاطع والالتقاء يشجعان الإنسان على صنع الأشياء وابتكارها، وليس على الخضوع لركام المعايير الموروثة. إن مواقف سارتر وهايدغر وغادامير اتجاه الموضوعية والعقلانية لا تأخذ، حسب رورتي، معناها إلا عبر التخلص من كل معيار يتم التمكن منه من الخارج. وبهذا المعنى فـ"الوجودية" [لا تكتسب] معناها إلا عبر التخلص من كل معيار يتم التمكن منه من الخارج. وبهذا المعنى فـ "الوجودية" هي تيار فكري ارتكاسي réactif لا يستمد صلاحيته إلا من خلال التعارض مع تراث معين.
عندما يستلهم رورتي بعض الأفكار الوجودية والهيرمينوطيقية فإنه يفعل ذلك لأجل تطعيم أحد المفاهيم الاصطلاحية التي يختارها لنعت تصوره الخاص للفلسفة. وهذا المفهوم الذي يحمل اسم "التنشئة" L’édification يتموقع، حسب ريتشارد رورتي، بين تخوم عبارة "التربية"l’éducation ومفهوم الـ Bildung. وقد اختاره "ليعين به عملية التنقيب عن الصياغات الجديدة والجيدة والأكثر أهمية وخصوبة". ولتوسيع معنى هذا المفهوم يقول: "إن فعل "التنشئة" يمكن أن يأخذ شكل نشاط هيرمينوطيقي يتمثل في ربط ثقافتنا مع كل الثقافات والمراحل التاريخية الأخرى، وفي ربط معرفتنا بمعرفة أخرى تبدو أنها تتبع أهدافا لا متقايسة في لغة لا متقايسة". كما أن "التنشئة" يمكن أن تأخذ شكل النشاط "الشعري" الذي يكمن في رسم غايات ومفاهيم ومعارف جديدة، ثم في إعادة تأويل عكسي لمحيطنا المألوف في لغة أجنبية عن سياقنا النظري الجديد. ويضيف أن مثل هذا النشاط هو- رغم اشتراك الكلمتين في المعنى- منشئ édifiant دون أن يكون بنائيا constructuf. لأن هذه العبارة الأخيرة تعني نوعا من التعاون الخاص بخطاب سوي يسمح بتحقيق برنامج معين للبحث. أما الخطاب المنشئ فيفترض فيه، حسب رورتي، أن يكون خطابا شاذا تجتثنا غرابته étrangeté من عاداتنا المهترئة وتقوم بتجديد وإنعاش وجودنا.
ولما كان قصد رورتي هو تطوير التعارض الذي يقيمه بين "نظرية المعرفة" وبين "الدائرة الهيرمينوطيقية" فإن التعارض الذي يقيمه الآن بين الفلسفة "النسقية" والفلسفة المنشئة" هو تعارض بين فلسفة نسقية تعتبر "نظرية المعرفة" جوهرها الأساسي وبين فلسفة منشئة تشك في كل خطاب معرفي يتقدم باعتباره خطابا "سويا" يمكننا من مقايسة عامة لكل الخطابات المختلفة عبر تقديم ميتا-قاعدة تدعي حل المشاكل الأبدية. وهذا التعارض هو تعارض بين فلسفة "مركزية مشروعة" وبين فلسفة "هامشية شاذة".
إن الفلسفة النسقية، في نظر رورتي، هي فلسفة تنسجم مع التراث الفلسفي الغربي الذي يعتبر "المعرفة" هي البراديجم الوحيد للنشاطات الإنسانية، حيث يتم تفسير مجموع الثقافة على ضوء النتائج المعرفية. وفي كنف هذا التراث يتم التركيز على فكرة "الإنسان-مرآة-الطبيعة" حيث ينظر إلى الإنسان باعتباره كائنا يملك جوهرا مرآويا يمكنه من معرفة بقية الجواهر الأخرى. غير أنه على "هوامش" هذا التراث الفلسفي نجد، حسب رورتي، أسرة من الفلاسفة لا ينضوون داخل "تراث محدد". وهؤلاء الفلاسفة "الهامشيون" يشكون -على نحو "وجودي" - في الفكرة التي تعتبر أن جوهر الإنسان هو معرفة الجواهر، ويشكون، أيضا، في إمكانية وجود مبحث يوضح "الطبيعة الإنسانية" ويجعل من العقل نورا يضيء بقية الثقافات الإنسانية. إن دور هؤلاء الفلاسفة، الذين يسميهم رورتي بالفلاسفة "المنشئين"، هو معالجة الوهم الذي يكمن - بعبارة سارتر- في اختزال الوجود الإنساني إلى الوجود-في-ذاته عبر إقصاء الوجود لـ-ذاته؛ وهم يؤكدون على تأويل الكائنات الإنسانية ليس باعتبارها مواضيع جامدة وإنما باعتبارها مصدرا لمزيد من الأوصاف الجديدة.
إن الفلسفة "المنشئة" على عكس الفلسفة "النسقية" لا تبحث عن تقديم إجابات للمشاكل الفلسفية التقليدية، وهي ضد البحث عن مقايسة كلية داخل خطاب نهائي. وهذا يعني أنها ترفض اعتبار الفلسفة كخطاب يكشف عن الحقيقة الموضوعية كيفما كان نوعها. وفلاسفتها يتصرفون بطريقة "شاذة" ضد كل قاعدة عامة تدعي حل المشاكل الأبدية. فإذا كان الفلاسفة النسقيون بنائيين constructifs في قضاياهم، أي يبنون براديجمات "سوية" ويقدمون براهينهم على ذلك، فإن "المنشئين"، وعلى غرار الوجوديين، هم فلاسفة ارتكاسيون réactifs، أي أنهم ينفعلون ويشكون في كل تراث أو عمل أبدي ولا-تاريخي، وهم مقتنعون أن صلاحية أعمالهم ستزول بزوال المرحلة التي ينفعلون اتجاهها. إنهم-على عكس النسقيين الذين يشيدون خطاباتهم من أجل الخلود- يتعمدون الهدم من أجل خير ومصلحة جيلهم الخاص. وبعبارة رورتي، إنهم فلاسفة "هامشيون" بصفة "قصدية"، بمعنى أنهم يستحسنون تجاوز وإصلاح خطابهم الخاص في أية لحظة تاريخية تستدعي ذلك.
ولما كانت الفلسفة النسقية منذ أفلاطون تحلم باقتفاء الطريق المضمونة للعلم فإن الفلسفة المنشئة-وعلى خطى نيتشه Nietzsche (1844-1900) وهايدغر- ترغب، كما يرى رورتي، في إطلاق العنان لتلك الدهشة التي يولدها الشعراء؛ وهذه الدهشة تكون أمام الأجنبي والغريب. وهم بذلك يفجرون تلك الحصون البرهانية والعقلانية التي طالما تقوقعت الفلسفة داخل أسوارها.
إن التخوم بين الفلسفة والشعر هي تخوم وهمية لا نستطيع أن نحدد من خلالها حدود الداخل والخارج، إذ الداخل قد يصبح خارجا والخارج داخلا. وبهذا الصدد، من المجدي الإشارة إلى تفكيك رورتي -من خلال مناقشته لجاك دريدا J.Derrida (ولد عام 1930)- للتمييز التقليدي بين الحقيقة والمجاز، بين الفلسفة والأدب. وفي هذا الإطار لا يقبل رورتي اعتبار الفلسفة كمبحث يرفض كل شكل "أدبي"، أو كمبحث يحتل رتبة مركزية داخل ثقافتنا. ف"من الأحسن اعتبار الفلسفة مجرد جنس أدبي بسيط". ومن هنا فلا معنى لدعوى الفلاسفة الذين ينفون عن أمثال نيتشه وهايدغر صفة "الفيلسوف".
من الواضح إذن أن الاختيار "الشعري" للفلسفة المنشئة يظل اختيارا ضد الممارسة السوية للعلم السوي، وضد اعتبار الفلسفة كل الأسئلة التي تهم الاختيارات الأخلاقية والتربوية. ما دام أن كل الأسئلة المفترضة تجد حلولها جاهزة داخل القواعد المعطاة للحقيقة وللموضوعية. ومن هنا فالفلسفة كما يتصورها رورتي هي أقرب إلى الانفتاح الشعري وإلى الخطابات الشاذة، لأن الفلسفة المنشئة لا تشترط تأشيرات صارمة لاستقبال الخطابات المغايرة. فكل شيء، وكيفما كان، يجوز أن يكون موضوعا يمكن تناوله من طرفها. أما الفلسفة التي تظل حبيسة التخصص الأكاديمي، فهي في نظره، فلسفة عديمة الفائدة. وأولى لها أن تكون منشئة ومهتمة بالاختيارات الأخلاقية. وجدير بها أن تنفتح على جميع الخطابات الممكنة بدل أن تنطوي نرجسيا على مركزيتها.
إن النظر إلى الفلسفة من زاوية أقنوم "مرآة الطبيعة" لا ينفصل، حسب رورتي، عن تحديد الإنسان باعتباره كائنا يملك جوهرا مرآويا يتمكن بواسطته من الوصول إلى معرفة تخفي الكثير من الحقائق السامية. فالإنسان جوهر جوهره هو اكتشاف الجواهر. إن هذا التحديد الميتافيزيقي لمفهوم الإنسان يستدعي من الفلسفة أن تنظر إلى "الذات" باعتبارها "موضوعا" مثل باقي المواضيع الأخرى. وينتج عن هذا اعتبار كل الأوصاف الممكنة متقايسة، وذلك نظرا لوجود لغة وصفية وحيدة، هي لغة الفلسفة ذاتها. فعادة ما يفترض في هذه الأخيرة أن تزودنا بوصف كلي يمكننا من مطابقة "الكائنات البشرية كما يعرفنا بها وصف معين" مع "جوهر" الإنسان. يظهر إذن أن فكرة الإنسان باعتباره مرآة للطبيعة، أي كائنا يملك جوهرا مرآويا يتمثل بواسطته الحقيقة الجوهرية لما يوجد أمامه، تفترض خطابا فلسفيا "سويا"(*) يسع لاحتواء وتوحيد كل الخطابات الأخرى داخل لغة واحدة تلتحم مع الجوهر المرآوي وتقوم كقالب محايد لـ "مقايسة" جميع الخطابات.
فالانتقال من منظور الفلسفة المرآوية المؤسس على "نظرية المعرفة" إلى المنظور "اللامعرفي" للفعل الفلسفي يقتضي أولا، مع رورتي، هجرة مقولة الإنسان باعتباره "جوهرا مرآويا" يملك القدرة على معرفة باقي الجواهر الأخرى. وفي هذا السياق يستلهم رورتي بعض الأفكار "الوجودية" من الفيلسوف الفرنسي ج.ب. سارتر، والتي تتعلق بالوجود الإنساني. إن أهمية التصور الوجودي تنبع من كونه يسمح بالإعلان عن كون الإنسان لا يملك جوهرا ما. وبعبارة سارتر "إن جوهر الإنسان هو أن يكون بدون جوهر"، حيث إنه لا مجال للاعتقاد في كوننا نملك طبيعة ميتافيزيقية خفية وعميقة تمكن الفلاسفة من الحديث عن حقيقة ضرورية تتحكم في الوجود الإنساني. وذلك لأن محاولة معرفة العالم، وبالتالي معرفة أنفسنا، معرفة موضوعية هي، في نظر سارتر، محاولة للتخلص من مسؤولية اختيار مشاريع تخصنا لوحدنا، أي من مسؤولية الاختيار بين الأفكار والكلمات، أي عبر الجمود داخل الوجود "في-ذاته"، وبالتالي فهي محاولة لإنهاء حريتنا في إنشاء مقاربات ونظريات وخطابات أخرى.
عندما ينظر إلى الكائنات البشرية كمواضيع وليس كذوات، أي كموجودات "في-ذاتها" وليس "لذاتها" فإن هدف الفلسفة يصبح حينئذ هو اكتشاف هذه الحقيقة الجاهزة التي تزودنا بعبارات تسمح بمقايسات نهائية لكل الأبحاث والأنشطة الإنسانية. بعبارة أخرى، إن البحث عن المقايسة، أو أيضا محاولة إقصاء كل محاولة أخرى عبر إيجاد وسيلة لاختزال كل الأوصاف الممكنة إلى وصف واحد؛ هو، في نظر رورتي، تعبير عن إرادة الانفلات من القدر الإنساني المطبوع بالخلق والحرية.
يشير رورتي إلى أن سارتر يسمح لنا بفهم أن المصورة البصرية التي تتأسس عليها الفلسفة الغربية هي مصورة تفارق ذاتها باستمرار. وبلغة مجازية، إن "مرآة" الطبيعة متى كانت شفافة فإنه لا يمكن أن نميزها عن ذلك الشيء الذي تعكسه، إذ تفارق ذاتها وتتحول إلى عين ذلك الشيء. فإذا كانت "المرآة"، بهذا المعنى، تفقد مرآويتها، فإن الكائن الإنساني بدوره عندما يتحول عقله إلى "مرآة" تعكس الطبيعة وتتطابق معها، فإنه، حسب سارتر، يفقد إنسانيته ويتحول إلى صورة إله. إن هذا الكائن الإنساني لن يكون في حاجة إلى -ومن هنا لن يكون قادرا على- الاختيار بين مختلف الحالات والأوصاف. فهو من الناحية الإيجابية "إله"، لكنه من الناحية السلبية مجرد "آلة بسيطة" ما دام أنه يفقد القدرة على التصرف والاختيار.
يعلمنا هذا التأويل المجازي أن الإنسان المرآوي، في ظل الفلسفة المرآوية، يفقد إنسانيته كما تفقد المرآة المجلوة مرآويتها عندما تذوب في الشيء الذي تعكسه. والفلسفة التي تقوم على هذا التصور هي فلسفة "سوية" ينظر إليها باعتبارها تقدم قواعد لمقايسة بقية الخطابات. إنها ذلك المبحث الذي يراد منه أن "يسلك الطريق المضمونة للعلم" كما رسمها لها أفلاطون وديكارت وكنط وغيرهم. إنها فلسفة الرياضيات والفيزياء لا فلسفة الشعر والذوق. إنها عقيدة لبناء وتشييد حصون مغلقة للحقيقة واليقين وليست فلسفة مفتوحة للابتكار والتنشئة والإصلاح.
يقدم رورتي تصوره الجديد للفلسفة على أرضيته المعنى الذي يمنح للدائرة الهيرمينوطيقية عبر معارضتها بنظرية المعرفة. وبهذا الصدد تكفي الإشارة إلى أن الهيرمينوطيقا ليست لا منهجا للبحث، ولا خطابا سويا قابلا للمقايسة، ولا بديلا عن نظرية المعرفة، ولا أداة لبناء "حقل لا-تاريخي للاتفاق". إنها، عكس ذلك، خطاب شاذ ولا متقايس، ودعوة لترك أبواب النقاش والمحادثة مشرعة، ومجال للابتكار والتأويل وقول ما لم يسبق قوله. إنها حقل للاستئناس بكل ما هو غريب وأجنبي.
كي يدعم رورتي توجهه الهيرمينوطيقي في تحديد الفعل الفلسفي، يستلم بعض أفكار الفيلسوف الألماني هـ.ج. غادامير من خلال كتابه: الحقيقة والمنهج. والهيرمينوطيقا من خلال هذا الكتاب "ليست منهجا للوصول إلى الحقيقة"، إنها "ظاهرة لا علاقة لها بمشكل المنهج". وهذا التحديد يساعدنا على التخلص من النظر إلى الإنسان بصفته يحمل "جوهرا مرآويا" يقدم معجما سويا لمقاسية كل الخطابات. ويتناغم مع مفاهيم: اللامقاسية والشذوذ والانفتاح والتطوير. ويتعرض غادامير لمفهوم جديد ينسجم مع هذا الحقل المفاهيمي. وهو مفهوم الـ Bildung(*)وهو يتعارض مع مفهوم "المعرفة" ويحل محله.
يعني مفهوم الـ Bildung عند غادامير الـ"شيء الذي يكون غاية في ذاته" وهو يرتبط بالإطار التاريخي الذي ينبثق منه ولا يهتم بمفهوم "الجوهر" ولا بالفكرة التي تفيد أن اختزال فعل التربية إلى مجرد تعلم خالص وبسيط لنتائج البحث السوي، وإلى رفض التصور "الموضوعي" الذي يقصي كل محاولات البحث الشاذ بمبرر أنها محاولات لا تنضبط لقواعد البحث السوي. وفي سياق هذا المنظور الهيرمينوطيقي تؤول الحقيقة باعتبارها مكونا من مكونات التربية؛ حيث إن اكتسابها يظل نسبيا ومرتبطا بالسياق التربوي الذي ترد فيه. ويشير رورتي إلى أن هذا المنظور ليس ممكنا إلا إذا تموقعنا في جهة "الآخر"، ومن ثمة تضحى عملية التثاقف هي منطق كل عملية تربوية. لأن المشروع التربوي لا يمكن أن ينحصر داخل براديجم سوي ومغلق يزودنا بقواعد أخلاقية جاهزة وأبدية. فبدل " امتلاك" القواعد والحدود الموجودة trouvées والجاهزة، تدعو العملية التربوية -اقتداء بالهيرمينوطيقا- إلى فتح الأبواب أمام الخلق والإبداع والتحديد. ولعل هذا ما يؤكده ريتشارد رورتي عندما يقول: "إنه من وجهة النظر التربوية-بما هي تتعارض مع وجهة النظر المعرفية والتقنية-يعتبر فن التعبير عن الأشياء أهم من امتلاك الحقائق" L’art de formuler les choses prime sur la possession de verités.
هكذا يصبح جليا، مع رورتي، أنه ثمة تقاطع والتقاء بين التصور "الوجودي" الذي يؤكد على مسؤولية الإنسان واستقلالية اختياره عبر رفض جميع التحديدات الجوهرية والارتباطات الماهوية مع جوهر خارجي معين، وبين التوجه الهيرمينوطيقي و "التربوي" الذي يرفض، بدوره، الخضوع لأي معيار موضوعي أو عقلاني مستنبط من إطار لا-تاريخي وفوق-ثقافي. إن هذا التقاطع والالتقاء يشجعان الإنسان على صنع الأشياء وابتكارها، وليس على الخضوع لركام المعايير الموروثة. إن مواقف سارتر وهايدغر وغادامير اتجاه الموضوعية والعقلانية لا تأخذ، حسب رورتي، معناها إلا عبر التخلص من كل معيار يتم التمكن منه من الخارج. وبهذا المعنى فـ"الوجودية" [لا تكتسب] معناها إلا عبر التخلص من كل معيار يتم التمكن منه من الخارج. وبهذا المعنى فـ "الوجودية" هي تيار فكري ارتكاسي réactif لا يستمد صلاحيته إلا من خلال التعارض مع تراث معين.
عندما يستلهم رورتي بعض الأفكار الوجودية والهيرمينوطيقية فإنه يفعل ذلك لأجل تطعيم أحد المفاهيم الاصطلاحية التي يختارها لنعت تصوره الخاص للفلسفة. وهذا المفهوم الذي يحمل اسم "التنشئة" L’édification يتموقع، حسب ريتشارد رورتي، بين تخوم عبارة "التربية"l’éducation ومفهوم الـ Bildung. وقد اختاره "ليعين به عملية التنقيب عن الصياغات الجديدة والجيدة والأكثر أهمية وخصوبة". ولتوسيع معنى هذا المفهوم يقول: "إن فعل "التنشئة" يمكن أن يأخذ شكل نشاط هيرمينوطيقي يتمثل في ربط ثقافتنا مع كل الثقافات والمراحل التاريخية الأخرى، وفي ربط معرفتنا بمعرفة أخرى تبدو أنها تتبع أهدافا لا متقايسة في لغة لا متقايسة". كما أن "التنشئة" يمكن أن تأخذ شكل النشاط "الشعري" الذي يكمن في رسم غايات ومفاهيم ومعارف جديدة، ثم في إعادة تأويل عكسي لمحيطنا المألوف في لغة أجنبية عن سياقنا النظري الجديد. ويضيف أن مثل هذا النشاط هو- رغم اشتراك الكلمتين في المعنى- منشئ édifiant دون أن يكون بنائيا constructuf. لأن هذه العبارة الأخيرة تعني نوعا من التعاون الخاص بخطاب سوي يسمح بتحقيق برنامج معين للبحث. أما الخطاب المنشئ فيفترض فيه، حسب رورتي، أن يكون خطابا شاذا تجتثنا غرابته étrangeté من عاداتنا المهترئة وتقوم بتجديد وإنعاش وجودنا.
ولما كان قصد رورتي هو تطوير التعارض الذي يقيمه بين "نظرية المعرفة" وبين "الدائرة الهيرمينوطيقية" فإن التعارض الذي يقيمه الآن بين الفلسفة "النسقية" والفلسفة المنشئة" هو تعارض بين فلسفة نسقية تعتبر "نظرية المعرفة" جوهرها الأساسي وبين فلسفة منشئة تشك في كل خطاب معرفي يتقدم باعتباره خطابا "سويا" يمكننا من مقايسة عامة لكل الخطابات المختلفة عبر تقديم ميتا-قاعدة تدعي حل المشاكل الأبدية. وهذا التعارض هو تعارض بين فلسفة "مركزية مشروعة" وبين فلسفة "هامشية شاذة".
إن الفلسفة النسقية، في نظر رورتي، هي فلسفة تنسجم مع التراث الفلسفي الغربي الذي يعتبر "المعرفة" هي البراديجم الوحيد للنشاطات الإنسانية، حيث يتم تفسير مجموع الثقافة على ضوء النتائج المعرفية. وفي كنف هذا التراث يتم التركيز على فكرة "الإنسان-مرآة-الطبيعة" حيث ينظر إلى الإنسان باعتباره كائنا يملك جوهرا مرآويا يمكنه من معرفة بقية الجواهر الأخرى. غير أنه على "هوامش" هذا التراث الفلسفي نجد، حسب رورتي، أسرة من الفلاسفة لا ينضوون داخل "تراث محدد". وهؤلاء الفلاسفة "الهامشيون" يشكون -على نحو "وجودي" - في الفكرة التي تعتبر أن جوهر الإنسان هو معرفة الجواهر، ويشكون، أيضا، في إمكانية وجود مبحث يوضح "الطبيعة الإنسانية" ويجعل من العقل نورا يضيء بقية الثقافات الإنسانية. إن دور هؤلاء الفلاسفة، الذين يسميهم رورتي بالفلاسفة "المنشئين"، هو معالجة الوهم الذي يكمن - بعبارة سارتر- في اختزال الوجود الإنساني إلى الوجود-في-ذاته عبر إقصاء الوجود لـ-ذاته؛ وهم يؤكدون على تأويل الكائنات الإنسانية ليس باعتبارها مواضيع جامدة وإنما باعتبارها مصدرا لمزيد من الأوصاف الجديدة.
إن الفلسفة "المنشئة" على عكس الفلسفة "النسقية" لا تبحث عن تقديم إجابات للمشاكل الفلسفية التقليدية، وهي ضد البحث عن مقايسة كلية داخل خطاب نهائي. وهذا يعني أنها ترفض اعتبار الفلسفة كخطاب يكشف عن الحقيقة الموضوعية كيفما كان نوعها. وفلاسفتها يتصرفون بطريقة "شاذة" ضد كل قاعدة عامة تدعي حل المشاكل الأبدية. فإذا كان الفلاسفة النسقيون بنائيين constructifs في قضاياهم، أي يبنون براديجمات "سوية" ويقدمون براهينهم على ذلك، فإن "المنشئين"، وعلى غرار الوجوديين، هم فلاسفة ارتكاسيون réactifs، أي أنهم ينفعلون ويشكون في كل تراث أو عمل أبدي ولا-تاريخي، وهم مقتنعون أن صلاحية أعمالهم ستزول بزوال المرحلة التي ينفعلون اتجاهها. إنهم-على عكس النسقيين الذين يشيدون خطاباتهم من أجل الخلود- يتعمدون الهدم من أجل خير ومصلحة جيلهم الخاص. وبعبارة رورتي، إنهم فلاسفة "هامشيون" بصفة "قصدية"، بمعنى أنهم يستحسنون تجاوز وإصلاح خطابهم الخاص في أية لحظة تاريخية تستدعي ذلك.
ولما كانت الفلسفة النسقية منذ أفلاطون تحلم باقتفاء الطريق المضمونة للعلم فإن الفلسفة المنشئة-وعلى خطى نيتشه Nietzsche (1844-1900) وهايدغر- ترغب، كما يرى رورتي، في إطلاق العنان لتلك الدهشة التي يولدها الشعراء؛ وهذه الدهشة تكون أمام الأجنبي والغريب. وهم بذلك يفجرون تلك الحصون البرهانية والعقلانية التي طالما تقوقعت الفلسفة داخل أسوارها.
إن التخوم بين الفلسفة والشعر هي تخوم وهمية لا نستطيع أن نحدد من خلالها حدود الداخل والخارج، إذ الداخل قد يصبح خارجا والخارج داخلا. وبهذا الصدد، من المجدي الإشارة إلى تفكيك رورتي -من خلال مناقشته لجاك دريدا J.Derrida (ولد عام 1930)- للتمييز التقليدي بين الحقيقة والمجاز، بين الفلسفة والأدب. وفي هذا الإطار لا يقبل رورتي اعتبار الفلسفة كمبحث يرفض كل شكل "أدبي"، أو كمبحث يحتل رتبة مركزية داخل ثقافتنا. ف"من الأحسن اعتبار الفلسفة مجرد جنس أدبي بسيط". ومن هنا فلا معنى لدعوى الفلاسفة الذين ينفون عن أمثال نيتشه وهايدغر صفة "الفيلسوف".
من الواضح إذن أن الاختيار "الشعري" للفلسفة المنشئة يظل اختيارا ضد الممارسة السوية للعلم السوي، وضد اعتبار الفلسفة كل الأسئلة التي تهم الاختيارات الأخلاقية والتربوية. ما دام أن كل الأسئلة المفترضة تجد حلولها جاهزة داخل القواعد المعطاة للحقيقة وللموضوعية. ومن هنا فالفلسفة كما يتصورها رورتي هي أقرب إلى الانفتاح الشعري وإلى الخطابات الشاذة، لأن الفلسفة المنشئة لا تشترط تأشيرات صارمة لاستقبال الخطابات المغايرة. فكل شيء، وكيفما كان، يجوز أن يكون موضوعا يمكن تناوله من طرفها. أما الفلسفة التي تظل حبيسة التخصص الأكاديمي، فهي في نظره، فلسفة عديمة الفائدة. وأولى لها أن تكون منشئة ومهتمة بالاختيارات الأخلاقية. وجدير بها أن تنفتح على جميع الخطابات الممكنة بدل أن تنطوي نرجسيا على مركزيتها.
2 - الفلسفة المنشئة: المحادثة ضد المجابهة.
ولما كانت الفلسفة المنشئة لا تقبل التمركز داخل نظرية المعرفة -وبالتالي داخل المجازات المرآوية التي تجعل من الإنسان "مرآة" مجلوّة تعكس الطبيعة وتتمثل إدراكيا موضوعات غير إنسانية- فإن رورتي يعتبرها محاولة لزحزحة العلاقة المرآوية بين الكائنات الإنسانية وبين مواضيع نظرها وتأملها؛ ليتم تحويلها إلى علاقة محادثاتية بين أشخاص معينين وبين نماذج تبريرية متنافسة. ولعل إجراءه هذا يدين بالفضل إلى التصور الشمولي holiste للغة. وهذا ما يؤكده عندما يعتبر أن أبطاله المنشئين (ديوي J. DEWY (1859-1952) وفيدجنشتين L. WITTGENSTEIN (1889-1951) وهايدغر - يدعون إلى تخليص أقوالنا من جميع المجازات البصرية والمرآوية، وذلك عبر النظر إلى الكلام خارج فكرة "التطابق" والتمثل. حيث إن الملفوظات في نظرهم لا تحيلنا إلى العالم وإنما إلى ملفوظات أخرى.
ومتى كانت الفلسفة مؤسسة على الإدراك المرآوي للعالم، يصبح الإنسان كائنا معزولا عن أقرانه، وتغدو اللغة التي يستعملها "شكلا" جامدا ينتظر "مضمونا" خارج الإنسان لتتطابق معه. أي أنها تتحول بدورها إلى مرآة تعكس الطبيعة. وفي هذه الحالة تحل "المجابهة" Confrontation La بين الإنسان/اللغة، من جهة، وبين العالم من جهة أخرى، محل "المحادثة" La conversation بين أكبر عدد ممكن من الكائنات البشرية. ولما كانت رغبة رورتي الأخلاقية والبراجماتية ترنو إلى توسيع العلاقة المحادثاتية-على مستوى أفقي- بين الكائنات البشرية، فإنه ينظر إلى الفلسفة المنشئة باعتبارها صوتا يهدف إلى إحياء المحادثة، وليس باعبتارها علما يهدف إلى اكتشاف الحقيقة. فالفلاسفة المنشئون لا يتوخون المساهمة في بحث ما، ولا يبحثون عن أجوبة لأسئلة تقليدية. إنهم، بدل ذلك، يشتاقون إلى متابعة المحادثة وإلى توفير الشروط لنجاحها. ومن هنا فالحكمة لا تعني محبة البرهان والحجاج، وكمالها لا يكمن في اكتشاف أحسن لغة لتمثل الجواهر. إنها، في تأويل رورتي، تعني الممارسة الضرورية لكل من يريد المشاركة في محادثة ما. إن الفلسفة المنشئة تصبح "مثل" محبة الحكمة عندما ينظر إليها باعتبارها تهتم بالتخلص من ربط المحادثات، بطريقة سوية، مع برنامج معين.
بالإضافة إلى أن الفلسفة المنشئة هي خطاب "شاذ" فإنها، وكما سبق الذكر، خطاب ارتكاسي. حيث لا معنى لها إلا كاحتجاج ضد المحاولات التي تهدف إلى عرقلة المحادثة عبر تقديم أشكال محددة للمقايسة العامة. واستلهام الفيلسوف المنشئ لواقع أو لإمكانية الخطابات الشاذة هو تقويض للثقة التي نزرعها في المعارف التي تقوم على خطابات سوية. وذلك لأن هذه الثقة السيئة، في نظر رورتي، هي ميزة الخطاب المعرفي السوي الذي يميل إلى عرقلة لعبة المحادثة عبر إعطاء لغة قواعدية canonoque لتناول مشكلة ما. أي لغة نهائية لمقايسة كل الخطابات الممكنة. والحال، فالفلسفة المنشئة تقف بالمرصاد في وجه هذه المقايسة التي هي روح الفلسفة النسقية.
وبالجملة، إن "المحادثة" في نظر رورتي هي السياق الأخير الذي يعطي للمعرفة وللفلسفة معناهما وقوامهما النظري والعملي. ولهذا نجده يركز على ضرورة النظر إلى النقاشات الفلسفية المعاصرة باعتبارها تحولا معينا خاصا بلحظة محددة من المحادثة، أو كنتاج للأحداث التاريخية وللأدوار التي يقوم بها الفلاسفة داخل محادثة ما. ولذا فالفلسفة في ظل هذا التحديد التربوي والمحادثاتي لا تفتأ تتحول إلى "مجرد جنس ثقافي" أو إلى "مجرد صوت داخل المحادثة الإنسانية". واستلهاما للحوار السقراطي الذي يعلن عنه أفلاطون -دون استعادة المشاكل التي تناولها هذا الأخير- يتضح لرورتي أن الفلسفة باعتبارها صوتا من أصوات المحادثة هي شيء مختلف عن اعتبارها مادة أو حقلا للأبحاث المهنية. وهذا يعني أن الخطاب الفلسفي لا يمكن أن يسلك الطريق المضمونة للعلم، أو أن يتقدم كبديل عن نظرية المعرفة أو كمركز لبقية الثقافات، أو أن يعين لها "أسسا" ويزودها بقوالب عقلية أبدية لا تاريخية وفوق -ثقافية. إن الفكرة التي مفادها أن الفلسفة تمثل مبحثا ينقب عن التمثلات المرآوية ذات الامتياز هي، حسب رورتي، فكرة غير مستساغة. وذلك لأن الفلسفة لا يمكن أن تملك "أسسا" لا تاريخية، ولا يمكن أن تعين مبحثا يتواجه مع مشاكل أبدية، بل إنها مجرد "صوت" محادثاتي يتفاعل مع شروطه وحيثياته التاريخية.
في سياق ما سلف، يبدو أن موقف رورتي من الفلسفة يتجه نحو إبعاد الفلسفة عن "مركز" الثقافة، ونحو نزع الهالة التأليهية التي طالما تمتعت بها في إطار التراث الغربي. وهذا الإجراء ينسجم مع قوله: " إنه لا يمكن لأي جهة من جهات الثقافة أن تملك امتيازا أكثر من الأخرى، سواء تعلق الأمر بجهة الأساقفة أو الفلاسفة أو بجهة رجال العلم أو الشعراء". ومن هنا، فالتخلص من الفكرة التي تقول إن الفيلسوف هو الوحيد الذي يحيط بمكونات المعرفة يسمح، في نظر رورتي، بالتخلص من الفكرة التي تقول إن صوته يجب أن يتفوق على صوت المشاركين الآخرين في المحادثة. فالفيلسوف لا يخفي معرفة خاصة به، تتعلق بالمعرفة أو بأي ميدان آخر ، تمكنه من استخلاص النتائج الكاملة والأبدية.
قد يتبادر إلى الذهن أن الفلسفة، مع رورتي، تأخذ طريقها نحو "النهاية". كيف لا، وقد تحولت معه إلى مجرد "جنس أدبي"، وإلى "مجرد صوت داخل المحادثة الإنسانية"! بيد أن هذا القلق سرعان ما يرتفع عندما يستدركنا رورتي ويقول: "ومع ذلك، إن الفلسفة في كل الحالات ليست مهددة بـ" الموت". وإنه طالما وجد هناك أساتذة قرأوا الفلاسفة الكبار فإنهم سيفرضون أنه ما بقيت هناك جامعات فستبقى فيها شعب للفلسفة. ورغم هذه التحولات التي عرفها تاريخ الفلسفة والتي تبدو فيها فلسفة القرن العشرين كخطوة انتقالية، فإنه سيبقى هناك دائما شيء ما يحمل اسم "الفلسفة". إننا -كما يقول رورتي- سنكون دائما في حاجة إلى فلاسفة، ولكن ليس بالنظر إليهم كأنبياء أو مخلصين وإنما فقط باعتبارهم مفسرين وواعظين. فالفلاسفة هم أشخاص متموقعون تاريخيا، ودورهم ينحصر في الاقتراحات التي يقدمونها للغتنا الخاصة. إنهم مواطنون صالحون سواء داخل جمهورية الثقافة أو داخل المجتمع المدني. ومن هنا يصبح الرهان الأخلاقي للفلاسفة هو تتبع المحادثة وليس البحث عن مكان للمشاكل الفلسفية الحديثة داخل هذه المحادثة.
إن المجال لا يسع للتعليق عل كل ما سبق عرضه بصدد الفلسفة. أولا، لأن الأمر لا يتعلق بمجرد رد فعل عدائي أصدره ريتشارد رورتي ضد الفلسفة، وإنما بقول يندرج في إطار خطابات "النهاية" التي سادت القرن العشرين والتي انخرط فيها نتيجة احتكاكه بالفلسفة القارية. وثانيا، لأن نقد رورتي للفلسفة النسقية وللمفاهيم المرتبطة بها يمهد لإشراك الفعل الفلسفي في سياقات لا تخلو من غايات إيديولوجية وبراجماتية، وفي هذا ظل وفيا للفلسفة الأمريكية التقليدية.
عبد المنعم البري
وُلِدَ المفكّر والفيلسوف الأمريكي ريتشارد رورتي، في نيويورك، سنة 1931م. درس في جامعتي شيكاغو وبيل، واشتغل أستاذًاً في جامعة برينستون، منذ سنة 1961م إلى حدود 1982م، حيث أصبح رئيساً لقسم العلوم الإنسانيّة في جامعة فيرجينيا، قبل الالتحاق بقسم الأدب المقارن في جامعة ستانفورد سنة 1998م. وقد استضافه عدد من الجامعات في العالم (ألمانيا، بريطانيا، إيطاليا، أستراليا...) أستاذاً زائراً اعترافاً بقيمته العلميّة؛ فقد عُدّ من أبرز فلاسفة ما بعد الحداثة، واشتهر بمؤلّفاته في الفلسفة، والسياسة، ونظريّة الأدب. وإليه يعود الفضل -حسب بعض الدارسين- في تحرير الفلسفة من قيودها التحليليّة، وإعادتها إلى النظر في الإشكالات الجوهريّة المتصلة بطبيعة الحياة ضمن مجتمع سياسي.
وتتجلّى أهمّيّة طرحه في دعوته إلى تجاوز الإبستمولوجيا، أو نظريّة المعرفة، لتصبح الفلسفة فعلاً منشِئاً ومؤسِّساً لتجديد الفكر الفلسفي، أو إعادة بنائه، وله، في هذا السياق، إسهام متميّز في تطوير البراغماتيّة.
وقد سجّل رورتي اعتراضه على عقيدة الموضوعيّة في العلم، وصرّح بما مفاده أنّ "البراغماتيّين يودّون استبدال الرغبة في الموضوعيّة؛ أي الرغبة في التماس مع الواقع، بالرغبة في التضامن مع المتّحد الاجتماعي الذي تنتمي هويّتنا إليه". (رورتي، 2009، ص 19).
وقد اهتمّ رورتي، في البداية، بفلسفة اللغة، اعتقاداً منه أنّ التحليل المنطقي الدقيق للغة يكفل الإجابة على معظم الإشكالات الفلسفيّة، إلاّ أنّه سرعان ما تحوّل إلى نقد هذا الاتّجاه بشراسة. واشتغل على عدد من المفاهيم؛ مثل: العدل، والمساواة، والذات، والذاتية، والثقافة، والتضامن، الذي بنى عليه تصوّره للحرّية الفرديّة؛ بل كان من أبرز دعائم البراغماتيّة الجديدة عنده، والتي أطلق عليها بعض الدارسين تسمية فلسفة التضامن.
لرورتي نحو 16 كتاباً؛ منها رسالتاه للدكتوراه، والماجستير، وله ما يناهز 249 مقالةً منشورة في دوريات، ومجلات متخصصة، وملخصات كتب.
من مؤلفاته، نذكر: (الفلسفة ومرآة الطبيعة) (1979م)، الذي يعدّ من أهمّ مؤلفاته، وقد تُرجِم إلى عدد من اللغات؛ مثل: الألمانيّة، والإيطاليّة، والبرتغاليّة، والفرنسيّة، والروسيّة، واليابانيّة، والعربيّة. (تروتسكي والأوركيد البرّي) (1992م)، (العارضيّة والسخرية والتضامن) (1989م)، وهو من أهمّ كتبه، أيضاً؛ إذ يضعه الدارسون في المرتبة الثانية بعد (الفلسفة ومرآة الطبيعة)، وقد تُرجِمَ، أيضاً، إلى عدد من اللغات. (عواقب البراغماتيّة) (1982م)، (الموضوعيّة والنسبيّة والحقيقة: أوراق فلسفيّة) (1991م).
توفّي ريتشارد رورتي في 8 حزيران/ جوان 2007م.
انظر:
- جبيلي، نجاح، (7/ تموز/ 2007)، رحيل الفيلسوف ريتشارد رورتي، المدى الثقافي. 987. 11.
- رورتي، ريتشارد، الفلسفة ومرآة الطبيعة، ترجمة حيدر حاج إسماعيل، المنظمة العربيّة للترجمة، بيروت – لبنان، ط1، 2009م.
(المعلومات عن رورتي عن "مؤمنون بلا حدود")
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق