الديمقراطية والتعدّدية: تقاطع وافتراق
الدكتور محمد الوقيدي
هناك تلازم في الوجود بين الديمقراطية والتعدّدية. فالديمقراطية
توجد حيث تكون هنالك تعدّدية سياسيّة في المجتمع، وتغيب حيث تغيب هذه التعدّدية.
وقد تظهر بعض الفروق النسبيّة في هذا التلازم في الوجود بين الظاهرتين.
لكن هذا التلازم في الوجود، وهذه الحاجة المتبادلة التي نجدها بين الديمقراطية والتعدّدية، لا يعني أبداً أن هنالك تطابقاً بينهما. فهناك حالات لا تستجيب فيها الديمقراطية للتعدّدية، فتضيق حينئذٍ التعدّدية القائمة بالديمقراطية التي يُفترض أن تعبّر عنها، وهناك حالاتٌ أخرى لا تعبّر فيها التعدّدية بالضرورة عن وجود نظام ديمقراطي، بل قد تكون بمثابة العائق في سبيل بلوغ هذا النظام. هناك الديمقراطية الزائفة بالنسبة لتعدّدية واقعيّة أكثر غنىً، وهناك التعدّدية الزائفة بالنسبة لديمقراطية أكثر عمقاً، تظل دائماً مطلباً ملحّاً بالنسبة إلى المجتمع مع وجود تعدّدية سياسية ظاهرة.
ما نريد أن نوجّه نحوه النظر في هذه الدراسة بصفةٍ خاصةٍ هو حالات عدم التطابق بين التعدّدية السياسيّة والديمقراطية.
أولى الحالات وضوحاً في عدم التطابق هي التي لا تستطيع فيها الديمقراطية أن تحتوي التعدّدية القائمة. ونحن لا نعني هنا بالتعدّدية مجرّد التنوّع في التصوّرات السسياسيّة، بل نعني أكثر من ذلك التعدّدية في مستواها المجتمعي الشامل بأبعادها الإثنيّة، والدينيّة، واللغويّة والثقافيّة. وبما أن كل مجتمعات عالمنا المعاصر هي نتيجة تكوّن تاريخي طويل فيه تلاقحات بين عناصر إثنيّة وثقافيّة متعدّدة، يصعب الحديث عن وحدة مطلقة لأيّ مجتمع، إلا إذا كان في ذلك نسيان لتاريخ هذا المجتمع. لكن ما أثبتته تجارب مجتمعاتٍ عديدة هو أن الوحدة المطلقة هذه تكون من نتائج الأيديولوجيا أو تكون من نتائج القوّة، لكنها لا تكون أبداً، خارج هذين المستويين، المجتمع في حالته الطبيعيّة.
الأيديولوجيا والقوّة معاً، وعلى رغم اختلافهما، تقودان إلى إظهار الاختلال بمظهر التوازن. إنهما تتفقان على فرض وضعٍ قهريّ بوصفه ديمقراطية قائمة. وقد تنجح فئات مجتمعيّة أو فئاتٌ تتبنّى أيديولوجيا معيّنة في تحديد الديمقراطية بالنسبة إلى مجتمعها بما يتوافق وأصولها المجتمعيّة أو الإثنيّة، أو بما يتلاءم وتصوّراتها الإيديولوجيّة. وفي هذه الحالة، توجد الديمقراطية في خطاب السلطة والفئات المهيمنة عليها، من دون أن يكون لها ما يكفي من الانعكاس في واقع المجتمع.
إن الاختلافات الإثنيّة والمجتمعية التي لا تستطيع ديمقراطية شكليّة احتواءها هي التي تقود في نهاية الأمر إلى توفير الشروط من أجل بيان حدود مثل هذا البناء الديمقراطي للمجتمع. وهكذا، فإن الشروط التي تحتويها ديمقراطية ما، هي التي تبرز ما يبرّر قيامها، غير أن الشروط التي تظل خارج هذه الديمقراطية هي التي تبرز حدودها.
هذا هو الإطار الذي يمكن أن نفهم ضمنه الكيفيّة التي تنفجر بها، ضمن مجتمع ما، تناقضات يكون مظهر الديمقراطية القائمة يوحي بعدم وجودها أو بتجاوزها على الأقل. فلا سبيل أمام المجتمعات التي تتكوّن من أصول مجتمعيّة مختلفة، ومن جماعات مختلفة من حيث اعتقاداتُها الدينيّة واللغويّة والإيديولوجيّة، إلا الاعتراف بهذه الاختلافات وإقامة بناء المجتمع على التوازن بينها. فالديمقراطيّة هي مظهر من مظاهر التوازن داخل المجتمع واحتواءٌ إيجابي لكل مظاهر الاختلاف فيه. وكل محاولة لا تحقّق هذا الاحتواء الإيجابي لن تتمكّن، في الواقع، من إقصاء هذه الاختلافات العميقة داخل المجتمع الواحد، ولن تمنع ديناميتها في سسيرورته، بل ستجعل منها مكبوت هذا المجتمع الذي يبحث دائماً عن مناسباتٍ للظهور والتعبير عن ذاته، وهو المكبوت الذي يغدو في كثيرٍ من الأحيان عائقاً أمام تطوّر المجتمع وسيره الطبيعي.
تظل الاختلافات المكبوتة بمثابة القنبلة القابلة للانفجار داخل المجتمع، وتظل العاملَ الذي يبرز باستمرار أن الديمقراطية التي لم تستطع احتواءها غير مطابقة لواقع المجتمع الذي أقيمت فيه. فالجدال يظل دائماً بين ديمقراطية تريد أن تُخضِع المجتمع لتصوّرها، ومجتمع يبني نقده لها بناء على شروطه الواقعية. والوحدة التي تقيمها هذه الديمقراطية قد تصبح بفضلها اختلافاً عنيفاً تزيد هي ذاتها من درجة عنفه. ويقدّم التاريخ المعاصر لنا شواهدَ من مجتمعات انتقلت من ديمقراطية كانت تتأسّس على وحدةٍ تغفل الاختلاف، إلى تعدّدية تلغي تلك الديمقراطية وتسير ضدّ أهدافها السياسية والمجتمعيّة. فما حدث في هذا القرن في دول أوروبا الشرقية ثم في الاتحاد السوفييتي ثم في بعض الدول الأخرى لَجدير بأن يكون موضوع تأمّل من زاوية ديمقراطية المجتمع.
إذا كان الافتراق الأول بين الديمقراطية والتعدّدية هو عدم الاحتواء الديمقراطي لكل مستويات التتنوّع القائمة في مجتمعٍ ما، وإذا كان هذا الافتراق هو ما يجعل الديمقراطية غير ملائمة للواقع الذي تقوم فيه، فإن هنالك أشكالاً أخرى لهذا الافتراق. ومن بين هذه الأشكال التعدّدية التي لا تكون في خدمة الديمقراطية ولا تكون مبنيّة على أساسها، فقد نجد أنفسنا في كثير من الحالات في مواجهة تعدّدية لا تحقّق توازن المجتمع، بل هي، على العكس من ذلك، مظهر من مظاهر اختلاله وأزماته. نقصد هنا التعدّدية التي يفوق التنوع فيها ما هو ضروري من أجل السير الطبيعي للمجتمع. وفي هذه الحالة، فإن التعدّدية التي تكون في وضعها الطبيعي إحدى ضرورات البناء الديمقراطي للمجتمع، تصبح أحد عوائق هذه السيرورة، وأحد المظاهر الدالّة على أن المجتمع في زمن سيادتها لا يسير في الطريق القوّيم المؤدّي إلى الديمقراطية.
التضخّم في التعدّدية يفقدها قيمتها ويخرج بها عن إطارها الطبيعي، فتكون غير عاكسة بأمانةٍ للواقع المجتمعي الذي توجد فيه. وأكثر المفارقات بروزاً في هذا الوضع أن هذا النمط من التعدّدية يظهر في الغالب في المجتمعات التي كانت تعاني قبل ذلك مباشرةً من سيادة حكمٍ غير قائم على نظام تعدّدي، سواء كان ذلك باسم ديكتاتورية أو كان باسم ديمقراطية ذات دعوى بعدالة المجتمع وتساوي الفرص فيه مع التأكيد على ضرورة إنجاز ذلك عبر وحدة في التصوّر والمؤسّسات. وتبرز هذه المفارقة بصورة أكثر وضوحاً في البلدان في طريق النموّ، حيث انتقل الكثيرمنها من نظام الحزب الواحد إلى نظام التعدّدية المتوحّشة. وهذا يوضح لنا إلى أيّ حدّ يؤدي النظام السيياسي التحكّمي إلى خللٍ في المجتمع في زمن قيامه وبعد نهايته على السواء. إنه عند قيامه يمنع شروط الديمقراطية من التحقّق، ولكن هذه الشروط لا تقوم مباشرة بعد نهايته، بل إن هذه النهاية قد تكون بداية لأزمةٍ جديدة في شروط الديمقراطية يكون على المجتمع تجاوزها.
هناك حالة طبيعيّة للتعدّدية السياسية هي التي تكون فيها انعكاساً موضوعياً للقوى المجتمعية وللتصوّرات الكبرى السائدة في المجتمع. وإذا كان من الأكيد أن سيادة التصوّر الواحد مضادّة للنموّ الطبيعي لأيّ مجتمع، فإن الخروج من هذا التصوّر الواحد إلى تعدّدية تكثر فيها التنظيمات السياسية بشكل يفوق واقع الاختلاف في المجتمع أمر لا يخدم بدوره البناء الديمقراطي للمجتمع ولا يعبّر عنه في الوقت نفسه، فخروج مجتمع ما من هيمنة التصوّر الواحد لا يعني بالضرورة أن الاتجاه ينبغي أن يكون نحو تعدّدية تسمح بتنظيمات لا حصر لها، وذلك لأن قيام تنظيمات سياسيّة لا يعكس في جميع الأحوال الموضوعية لها بقدر ما يعكس الرغبات والطموحات الذاتية لبعض الأفراد أو لبعض الجماعات الصغيرة. فالتعدّد بهذه الكيفيّية يكون عائقاً للحوار المجتمعي الجاد الباحث عن سبل تنمية المجتمع وتطوّره. وذلك لأن هذه الانقسامات التي تقوم عل أساس قضايا جزئية أو قطاعيّة أو جهويّة أو إثنيّة أو لغويّة تمنع من النظر إلى المشكلات المجتمعيّة في شموليتها، كما تعوق الحوار بين تصوّراتٍ شاملة حول سيرورة المجتمع ومصيره. إن ما يجري في بعض البلدان الساعية إلى النموّ من صراعات مريرة لم يستطع أيّ تصوّر للمجتمع أن يفرض فيها ذاته بكيفيّة موضوعيّة لدليل على هذا الذي نشير إليه. وهكذا فإن التعدّدية السياسيّة التي لا تكون مؤسّسة على قاعدة موضوعيّة متمثّلة في التنوّع المجتمعي القائم، تُفقِد هذا التنوّع غناه ودوره الدينامي في تطوّر المجتع. فتضخّمها بالنسبة إلى هذا التنوّع يجعل منها عائقاً للديمقراطية لا مظهراً من مظاهرها أو سبيلاً من سبل بلوغها.
هناك شكل آخر من التعدّدية، يبدو معارضاً لهذا الذي حلّلناه في الفقرات السابقة، وهو الذي نجد أن المجتمع فيه خاضع لديناميّة أساسها تنظيمان سياسيان أساسيان أو ما هو أكثر من ذلك بقليل. وهذا ما يجعل هذه التعدّدية تبدو بمثابة التعبير عن قيام نظام ديمقراطي. والواقع أن هذا الشكل من التعدّدية السياسية هو، من حيث المظهر على الأقلّ، أقرب إلى الديمقراطية من غيره. لكن هنالك حالات تجعله، مع ذلك، بعيداً عن هذا الأمر.
نلاحظ هذا في الدول المتقدّمة التي لها اليوم مكانة في العالم، بفعل ما لها من هيمنة على أصعدةٍ كثيرة وبفعل النظر إليها بوصفها نموذجاً تسعى إلى بلوغه دول أخرى فالتعدّدية المحدودة هي الحالة القائمة في بعض الدول الكبرى حيث نلاحظ أن ديناميّة المجتمع تتأسّس على صراع بين تنظيمين يتناوبان على المكانة التي تجعلهما يشرفان على تدبير شؤون المجتمع وتوجيه مساره. ولا شك لدينا في أن هنالك ممارسة ديمقراطية في هذا الإطار تتمثّل في حدّها الأدنى والأكثر وضوحاً في كون أساس الوصول إلى قمّة التسيير في المجتمع قائم على العودة إلى هذا المجتمع ذاته عن طريق الانتخاب. ولا شك لدينا أيضاً في أن انتقال السلطة من طرف إلى آخر تبعاً لهذا المبدإ أمر يشهد بقيام حياة ديمقراطية. كما أننا لا نشك أخيراً في أن استمرار هذا التناوب من دون توقّف منذ زمنٍ طويل لهو دلالةٌ على أن الحياة الديمقراطية أصبحت مكوّناً من مكوّنات المجتمعات التي تسود فيها هذه الممارسة. لكن دلالة ما ذكرناه كله على وجود حياة ديمقراطية مظهرها الأساسي التناوب على السلطة، لا ينفي بعض المظاهر التي تدلّ على عدم التطابق التام بين الديمقراطية وبين الحياة المجتمعيّة التي تتخذ اسمها. ذلك أن التناوب الديمقراطي على السلطة، وخاصةً إذا استمرّ بين تنظيمين سياسيين لا يتجاوزهما، قد يدلّ على حصر الحياة الديمقراطية بين الفئات المجتمعيّة نفسها التي تتوصّل إلى تهميش أدوار الفئات الأخرى في المجتمع. نلاحظ مثلاً، أن هنالك في كثيرٍ من الحالات بعض الثوابت في سياسة المجتمع التي تجد لها استمراراً على رغم انتقال السلطة من طرفٍ إلى آخر عبر تناوب يدلّ مظهرُه على وجود حياة ديمقراطية. تتعلّق هذه الثوابت في كثيرٍ من الأحيان بالسياسة التي تهمّ المجتمع، في علاقات فئاته وتنظيم السلطة داخله، ولكنها قد تتعلّق في أحيانٍ أخرى بتصوّرات مكانة هذا المجتمع ضمن العالم المعاصر وعلاقاته ضمن هذا العالم.
نستنتج من كل ما سلف ذكرُه أن هناك حالاتٍ مختلفة تفقد فيها التعدّدية قيمتها الدلالية بالنسبة إلى الديمقراطية، فلا تدلّ عليها، بل وقد تكون من مظاهر إعاقتها. ضرورة التعدّدية لا تعني، إذاً، أنها دالّة بالضرورة على قيام الديمقراطية. ويمكن أن نضيف إلى الحالات السالفة الذكر حالةً أخرى هي ما نقترح دعوته بالتعدّدية المختلفة. مصدر هذه التعدّدية هو الرغبة في الاستجابة المظهريّة للديمقراطية من أجل إقصائها عبر تلك الاستجابة ذاتها. فالقوى المناهضة للديمقراطية من أجل إقصائها والماسكة بزمام الأمور في بلدها، تسعى نتيجة لمطلب الديمقراطية في هذا البلد إلى دفع القوى والتنظيمات الكبرى إلى مزيد من الانقسامات، وذلك حتى تتمكّن من السيطرة على الوضع. كما أنها تساهم في تأسيس تنظيمات سياسيّة جديدة قصد وضعها في مجابهة مع ما هو موجود منها. وقد يتزايد الوعي بضرورته، إذ في هذه الحالة لا يتمّ التنكر للتعدّدية، بل يتمّ اختلاق المزيد منها من أجل دفعها إلى ألا تكون عاكسةً للواقع المجتمعي الذي تمثّله. تجد هذه التنظيمات صعوبةً في تجاوز تأثير شروط وجودها، وتظل رهينةً لهذه الشروط التي تحدّد لها منذ البداية تصوّرها والغاية من وجودها. إنها تظلّ دائماً متّسمةً بالتبعيّة للجهات أو الفئات التي أنشأتها. وبفعل كونها مختلفةً من أجل إعاقة نظام ديمقراطي حق، يصعب عليها أن تنقلب إلى تنظيمات تعكس الديمقراطية أو تسعى إلى توفير الشروط الحقيقية لها.
وهكذا نرى أنه إذا كان وجود التعدّدية ضرورياً لبلوغ الديمقراطية، فإنه ليس دالاً، مع ذلك، على قيامها في جميع أحواله. وإذا كان انتقال بعض المجتمعات من الوحدة المتعسّفة إلى التعدّدية يعني اتجاهها إلى الديمقراطية، فإن انتقال بعض المجتمعات الأخرى إلى هذا النظام يكون عبر تجاوز تعدّدية مختلفة يكون الهدف منها إقامة حاجز بين المجتمع وبين هذا النظام.
لكن هذا التلازم في الوجود، وهذه الحاجة المتبادلة التي نجدها بين الديمقراطية والتعدّدية، لا يعني أبداً أن هنالك تطابقاً بينهما. فهناك حالات لا تستجيب فيها الديمقراطية للتعدّدية، فتضيق حينئذٍ التعدّدية القائمة بالديمقراطية التي يُفترض أن تعبّر عنها، وهناك حالاتٌ أخرى لا تعبّر فيها التعدّدية بالضرورة عن وجود نظام ديمقراطي، بل قد تكون بمثابة العائق في سبيل بلوغ هذا النظام. هناك الديمقراطية الزائفة بالنسبة لتعدّدية واقعيّة أكثر غنىً، وهناك التعدّدية الزائفة بالنسبة لديمقراطية أكثر عمقاً، تظل دائماً مطلباً ملحّاً بالنسبة إلى المجتمع مع وجود تعدّدية سياسية ظاهرة.
ما نريد أن نوجّه نحوه النظر في هذه الدراسة بصفةٍ خاصةٍ هو حالات عدم التطابق بين التعدّدية السياسيّة والديمقراطية.
أولى الحالات وضوحاً في عدم التطابق هي التي لا تستطيع فيها الديمقراطية أن تحتوي التعدّدية القائمة. ونحن لا نعني هنا بالتعدّدية مجرّد التنوّع في التصوّرات السسياسيّة، بل نعني أكثر من ذلك التعدّدية في مستواها المجتمعي الشامل بأبعادها الإثنيّة، والدينيّة، واللغويّة والثقافيّة. وبما أن كل مجتمعات عالمنا المعاصر هي نتيجة تكوّن تاريخي طويل فيه تلاقحات بين عناصر إثنيّة وثقافيّة متعدّدة، يصعب الحديث عن وحدة مطلقة لأيّ مجتمع، إلا إذا كان في ذلك نسيان لتاريخ هذا المجتمع. لكن ما أثبتته تجارب مجتمعاتٍ عديدة هو أن الوحدة المطلقة هذه تكون من نتائج الأيديولوجيا أو تكون من نتائج القوّة، لكنها لا تكون أبداً، خارج هذين المستويين، المجتمع في حالته الطبيعيّة.
الأيديولوجيا والقوّة معاً، وعلى رغم اختلافهما، تقودان إلى إظهار الاختلال بمظهر التوازن. إنهما تتفقان على فرض وضعٍ قهريّ بوصفه ديمقراطية قائمة. وقد تنجح فئات مجتمعيّة أو فئاتٌ تتبنّى أيديولوجيا معيّنة في تحديد الديمقراطية بالنسبة إلى مجتمعها بما يتوافق وأصولها المجتمعيّة أو الإثنيّة، أو بما يتلاءم وتصوّراتها الإيديولوجيّة. وفي هذه الحالة، توجد الديمقراطية في خطاب السلطة والفئات المهيمنة عليها، من دون أن يكون لها ما يكفي من الانعكاس في واقع المجتمع.
إن الاختلافات الإثنيّة والمجتمعية التي لا تستطيع ديمقراطية شكليّة احتواءها هي التي تقود في نهاية الأمر إلى توفير الشروط من أجل بيان حدود مثل هذا البناء الديمقراطي للمجتمع. وهكذا، فإن الشروط التي تحتويها ديمقراطية ما، هي التي تبرز ما يبرّر قيامها، غير أن الشروط التي تظل خارج هذه الديمقراطية هي التي تبرز حدودها.
هذا هو الإطار الذي يمكن أن نفهم ضمنه الكيفيّة التي تنفجر بها، ضمن مجتمع ما، تناقضات يكون مظهر الديمقراطية القائمة يوحي بعدم وجودها أو بتجاوزها على الأقل. فلا سبيل أمام المجتمعات التي تتكوّن من أصول مجتمعيّة مختلفة، ومن جماعات مختلفة من حيث اعتقاداتُها الدينيّة واللغويّة والإيديولوجيّة، إلا الاعتراف بهذه الاختلافات وإقامة بناء المجتمع على التوازن بينها. فالديمقراطيّة هي مظهر من مظاهر التوازن داخل المجتمع واحتواءٌ إيجابي لكل مظاهر الاختلاف فيه. وكل محاولة لا تحقّق هذا الاحتواء الإيجابي لن تتمكّن، في الواقع، من إقصاء هذه الاختلافات العميقة داخل المجتمع الواحد، ولن تمنع ديناميتها في سسيرورته، بل ستجعل منها مكبوت هذا المجتمع الذي يبحث دائماً عن مناسباتٍ للظهور والتعبير عن ذاته، وهو المكبوت الذي يغدو في كثيرٍ من الأحيان عائقاً أمام تطوّر المجتمع وسيره الطبيعي.
تظل الاختلافات المكبوتة بمثابة القنبلة القابلة للانفجار داخل المجتمع، وتظل العاملَ الذي يبرز باستمرار أن الديمقراطية التي لم تستطع احتواءها غير مطابقة لواقع المجتمع الذي أقيمت فيه. فالجدال يظل دائماً بين ديمقراطية تريد أن تُخضِع المجتمع لتصوّرها، ومجتمع يبني نقده لها بناء على شروطه الواقعية. والوحدة التي تقيمها هذه الديمقراطية قد تصبح بفضلها اختلافاً عنيفاً تزيد هي ذاتها من درجة عنفه. ويقدّم التاريخ المعاصر لنا شواهدَ من مجتمعات انتقلت من ديمقراطية كانت تتأسّس على وحدةٍ تغفل الاختلاف، إلى تعدّدية تلغي تلك الديمقراطية وتسير ضدّ أهدافها السياسية والمجتمعيّة. فما حدث في هذا القرن في دول أوروبا الشرقية ثم في الاتحاد السوفييتي ثم في بعض الدول الأخرى لَجدير بأن يكون موضوع تأمّل من زاوية ديمقراطية المجتمع.
إذا كان الافتراق الأول بين الديمقراطية والتعدّدية هو عدم الاحتواء الديمقراطي لكل مستويات التتنوّع القائمة في مجتمعٍ ما، وإذا كان هذا الافتراق هو ما يجعل الديمقراطية غير ملائمة للواقع الذي تقوم فيه، فإن هنالك أشكالاً أخرى لهذا الافتراق. ومن بين هذه الأشكال التعدّدية التي لا تكون في خدمة الديمقراطية ولا تكون مبنيّة على أساسها، فقد نجد أنفسنا في كثير من الحالات في مواجهة تعدّدية لا تحقّق توازن المجتمع، بل هي، على العكس من ذلك، مظهر من مظاهر اختلاله وأزماته. نقصد هنا التعدّدية التي يفوق التنوع فيها ما هو ضروري من أجل السير الطبيعي للمجتمع. وفي هذه الحالة، فإن التعدّدية التي تكون في وضعها الطبيعي إحدى ضرورات البناء الديمقراطي للمجتمع، تصبح أحد عوائق هذه السيرورة، وأحد المظاهر الدالّة على أن المجتمع في زمن سيادتها لا يسير في الطريق القوّيم المؤدّي إلى الديمقراطية.
التضخّم في التعدّدية يفقدها قيمتها ويخرج بها عن إطارها الطبيعي، فتكون غير عاكسة بأمانةٍ للواقع المجتمعي الذي توجد فيه. وأكثر المفارقات بروزاً في هذا الوضع أن هذا النمط من التعدّدية يظهر في الغالب في المجتمعات التي كانت تعاني قبل ذلك مباشرةً من سيادة حكمٍ غير قائم على نظام تعدّدي، سواء كان ذلك باسم ديكتاتورية أو كان باسم ديمقراطية ذات دعوى بعدالة المجتمع وتساوي الفرص فيه مع التأكيد على ضرورة إنجاز ذلك عبر وحدة في التصوّر والمؤسّسات. وتبرز هذه المفارقة بصورة أكثر وضوحاً في البلدان في طريق النموّ، حيث انتقل الكثيرمنها من نظام الحزب الواحد إلى نظام التعدّدية المتوحّشة. وهذا يوضح لنا إلى أيّ حدّ يؤدي النظام السيياسي التحكّمي إلى خللٍ في المجتمع في زمن قيامه وبعد نهايته على السواء. إنه عند قيامه يمنع شروط الديمقراطية من التحقّق، ولكن هذه الشروط لا تقوم مباشرة بعد نهايته، بل إن هذه النهاية قد تكون بداية لأزمةٍ جديدة في شروط الديمقراطية يكون على المجتمع تجاوزها.
هناك حالة طبيعيّة للتعدّدية السياسية هي التي تكون فيها انعكاساً موضوعياً للقوى المجتمعية وللتصوّرات الكبرى السائدة في المجتمع. وإذا كان من الأكيد أن سيادة التصوّر الواحد مضادّة للنموّ الطبيعي لأيّ مجتمع، فإن الخروج من هذا التصوّر الواحد إلى تعدّدية تكثر فيها التنظيمات السياسية بشكل يفوق واقع الاختلاف في المجتمع أمر لا يخدم بدوره البناء الديمقراطي للمجتمع ولا يعبّر عنه في الوقت نفسه، فخروج مجتمع ما من هيمنة التصوّر الواحد لا يعني بالضرورة أن الاتجاه ينبغي أن يكون نحو تعدّدية تسمح بتنظيمات لا حصر لها، وذلك لأن قيام تنظيمات سياسيّة لا يعكس في جميع الأحوال الموضوعية لها بقدر ما يعكس الرغبات والطموحات الذاتية لبعض الأفراد أو لبعض الجماعات الصغيرة. فالتعدّد بهذه الكيفيّية يكون عائقاً للحوار المجتمعي الجاد الباحث عن سبل تنمية المجتمع وتطوّره. وذلك لأن هذه الانقسامات التي تقوم عل أساس قضايا جزئية أو قطاعيّة أو جهويّة أو إثنيّة أو لغويّة تمنع من النظر إلى المشكلات المجتمعيّة في شموليتها، كما تعوق الحوار بين تصوّراتٍ شاملة حول سيرورة المجتمع ومصيره. إن ما يجري في بعض البلدان الساعية إلى النموّ من صراعات مريرة لم يستطع أيّ تصوّر للمجتمع أن يفرض فيها ذاته بكيفيّة موضوعيّة لدليل على هذا الذي نشير إليه. وهكذا فإن التعدّدية السياسيّة التي لا تكون مؤسّسة على قاعدة موضوعيّة متمثّلة في التنوّع المجتمعي القائم، تُفقِد هذا التنوّع غناه ودوره الدينامي في تطوّر المجتع. فتضخّمها بالنسبة إلى هذا التنوّع يجعل منها عائقاً للديمقراطية لا مظهراً من مظاهرها أو سبيلاً من سبل بلوغها.
هناك شكل آخر من التعدّدية، يبدو معارضاً لهذا الذي حلّلناه في الفقرات السابقة، وهو الذي نجد أن المجتمع فيه خاضع لديناميّة أساسها تنظيمان سياسيان أساسيان أو ما هو أكثر من ذلك بقليل. وهذا ما يجعل هذه التعدّدية تبدو بمثابة التعبير عن قيام نظام ديمقراطي. والواقع أن هذا الشكل من التعدّدية السياسية هو، من حيث المظهر على الأقلّ، أقرب إلى الديمقراطية من غيره. لكن هنالك حالات تجعله، مع ذلك، بعيداً عن هذا الأمر.
نلاحظ هذا في الدول المتقدّمة التي لها اليوم مكانة في العالم، بفعل ما لها من هيمنة على أصعدةٍ كثيرة وبفعل النظر إليها بوصفها نموذجاً تسعى إلى بلوغه دول أخرى فالتعدّدية المحدودة هي الحالة القائمة في بعض الدول الكبرى حيث نلاحظ أن ديناميّة المجتمع تتأسّس على صراع بين تنظيمين يتناوبان على المكانة التي تجعلهما يشرفان على تدبير شؤون المجتمع وتوجيه مساره. ولا شك لدينا في أن هنالك ممارسة ديمقراطية في هذا الإطار تتمثّل في حدّها الأدنى والأكثر وضوحاً في كون أساس الوصول إلى قمّة التسيير في المجتمع قائم على العودة إلى هذا المجتمع ذاته عن طريق الانتخاب. ولا شك لدينا أيضاً في أن انتقال السلطة من طرف إلى آخر تبعاً لهذا المبدإ أمر يشهد بقيام حياة ديمقراطية. كما أننا لا نشك أخيراً في أن استمرار هذا التناوب من دون توقّف منذ زمنٍ طويل لهو دلالةٌ على أن الحياة الديمقراطية أصبحت مكوّناً من مكوّنات المجتمعات التي تسود فيها هذه الممارسة. لكن دلالة ما ذكرناه كله على وجود حياة ديمقراطية مظهرها الأساسي التناوب على السلطة، لا ينفي بعض المظاهر التي تدلّ على عدم التطابق التام بين الديمقراطية وبين الحياة المجتمعيّة التي تتخذ اسمها. ذلك أن التناوب الديمقراطي على السلطة، وخاصةً إذا استمرّ بين تنظيمين سياسيين لا يتجاوزهما، قد يدلّ على حصر الحياة الديمقراطية بين الفئات المجتمعيّة نفسها التي تتوصّل إلى تهميش أدوار الفئات الأخرى في المجتمع. نلاحظ مثلاً، أن هنالك في كثيرٍ من الحالات بعض الثوابت في سياسة المجتمع التي تجد لها استمراراً على رغم انتقال السلطة من طرفٍ إلى آخر عبر تناوب يدلّ مظهرُه على وجود حياة ديمقراطية. تتعلّق هذه الثوابت في كثيرٍ من الأحيان بالسياسة التي تهمّ المجتمع، في علاقات فئاته وتنظيم السلطة داخله، ولكنها قد تتعلّق في أحيانٍ أخرى بتصوّرات مكانة هذا المجتمع ضمن العالم المعاصر وعلاقاته ضمن هذا العالم.
نستنتج من كل ما سلف ذكرُه أن هناك حالاتٍ مختلفة تفقد فيها التعدّدية قيمتها الدلالية بالنسبة إلى الديمقراطية، فلا تدلّ عليها، بل وقد تكون من مظاهر إعاقتها. ضرورة التعدّدية لا تعني، إذاً، أنها دالّة بالضرورة على قيام الديمقراطية. ويمكن أن نضيف إلى الحالات السالفة الذكر حالةً أخرى هي ما نقترح دعوته بالتعدّدية المختلفة. مصدر هذه التعدّدية هو الرغبة في الاستجابة المظهريّة للديمقراطية من أجل إقصائها عبر تلك الاستجابة ذاتها. فالقوى المناهضة للديمقراطية من أجل إقصائها والماسكة بزمام الأمور في بلدها، تسعى نتيجة لمطلب الديمقراطية في هذا البلد إلى دفع القوى والتنظيمات الكبرى إلى مزيد من الانقسامات، وذلك حتى تتمكّن من السيطرة على الوضع. كما أنها تساهم في تأسيس تنظيمات سياسيّة جديدة قصد وضعها في مجابهة مع ما هو موجود منها. وقد يتزايد الوعي بضرورته، إذ في هذه الحالة لا يتمّ التنكر للتعدّدية، بل يتمّ اختلاق المزيد منها من أجل دفعها إلى ألا تكون عاكسةً للواقع المجتمعي الذي تمثّله. تجد هذه التنظيمات صعوبةً في تجاوز تأثير شروط وجودها، وتظل رهينةً لهذه الشروط التي تحدّد لها منذ البداية تصوّرها والغاية من وجودها. إنها تظلّ دائماً متّسمةً بالتبعيّة للجهات أو الفئات التي أنشأتها. وبفعل كونها مختلفةً من أجل إعاقة نظام ديمقراطي حق، يصعب عليها أن تنقلب إلى تنظيمات تعكس الديمقراطية أو تسعى إلى توفير الشروط الحقيقية لها.
وهكذا نرى أنه إذا كان وجود التعدّدية ضرورياً لبلوغ الديمقراطية، فإنه ليس دالاً، مع ذلك، على قيامها في جميع أحواله. وإذا كان انتقال بعض المجتمعات من الوحدة المتعسّفة إلى التعدّدية يعني اتجاهها إلى الديمقراطية، فإن انتقال بعض المجتمعات الأخرى إلى هذا النظام يكون عبر تجاوز تعدّدية مختلفة يكون الهدف منها إقامة حاجز بين المجتمع وبين هذا النظام.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق