نقد فوكو للنظرية
الليبرالية في السلطة
مقدمة:
تستند النظرية السياسية الليبرالية على مسلمة أساسية وهي أن الفرد هو العنصر الأساسي في تكوين وبنية أي نظام سياسي، وأن ظهور النظام السياسي نفسه، وأي نظام اجتماعي آخر، يكون نتيجة إجماع واتفاق بين الأفراد المكونين له، ويتجسد هذا الاتفاق في صورة عقد. السلطة السياسية إذن تنبني على تعاقد أفراد يتخلون بمقتضاه عن جزء من حرياتهم المطلقة لهذه السلطة كي تستطيع تنظيم المجتمع وممارسة مهامها. كما أن العقد هو اتفاق على ضمان حقوق الأفراد الداخلين فيه في ظل النظام السياسي الذي ينشأ من هذا العقد. ونستطيع أن نتبين من هذه الخطوط العامة للنظرية السياسية الليبرالية أنها تسلم بوجود فرد جاهز التكوين ومحدد بطريقة أولية وسابق في وجوده على أي سلطة أو تنظيم سياسي. لكن هل هذا صحيح فعلا؟
الحقيقة أن نظرية فوكو(1 ) في السلطة وتحليله للمؤسسات الانضباطية ولنظم العقاب في عصر الحداثة الأوروبية يقدح في صحة هذه المسلمات ويشكك فيها. يذهب فوكو إلى أن مؤسسات مثل المدرسة والجيش والسجن والمستشفى هي التي تعمل على تكوين الفرد، أو بالأصح على إنتاجه، وبالتالي فلا يمكن الحديث عن هذا الفرد باعتباره أساسا لعقد اجتماعي أو لنظرية سياسية. ومن هنا يمكن النظر إلى تحليلات فوكو هذه على أنها نقد لليبرالية وتحطيم لمسلماتها الأساسية حول الفرد. كما أن فوكو يضع العناصر المكونة للنظرية الليبرالية مثل نظرية الحق ونظرية العقد ومفهوم الفرد إزاء الصورة الحقيقية للمجتمع الأوروبي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ويفندها باكتشاف آليات ممارسة السلطة الانضباطية التي تكذب جميع مسلمات الفكرالليبرالي.
إذا كانت الليبرالية تفترض وجود الفرد، فإن فوكو يوضح أن الفرد لم يكن كيانا مكتملا موجودا قبل نشأة السلطة، بل كان من إنتاج هذه السلطة نفسها. إن عملية تكوين الفرد في الحداثة الأوروربية كانت إحدى وظائف السلطة، تلك التي يسميها فوكو بالفردنة Individuation، والتي كان هدفها خلق موضوعات للسلطة أسهل في السيطرة والتحكم. ولكن قبل أن يتمكن فوكو من الكشف عن آليات السلطة في إنتاج الفرد كان قد وضع نظرية جديدة في السلطة، ولذلك فمن الضروري البدء بعرض سريع لها.
تستند النظرية السياسية الليبرالية على مسلمة أساسية وهي أن الفرد هو العنصر الأساسي في تكوين وبنية أي نظام سياسي، وأن ظهور النظام السياسي نفسه، وأي نظام اجتماعي آخر، يكون نتيجة إجماع واتفاق بين الأفراد المكونين له، ويتجسد هذا الاتفاق في صورة عقد. السلطة السياسية إذن تنبني على تعاقد أفراد يتخلون بمقتضاه عن جزء من حرياتهم المطلقة لهذه السلطة كي تستطيع تنظيم المجتمع وممارسة مهامها. كما أن العقد هو اتفاق على ضمان حقوق الأفراد الداخلين فيه في ظل النظام السياسي الذي ينشأ من هذا العقد. ونستطيع أن نتبين من هذه الخطوط العامة للنظرية السياسية الليبرالية أنها تسلم بوجود فرد جاهز التكوين ومحدد بطريقة أولية وسابق في وجوده على أي سلطة أو تنظيم سياسي. لكن هل هذا صحيح فعلا؟
الحقيقة أن نظرية فوكو(1 ) في السلطة وتحليله للمؤسسات الانضباطية ولنظم العقاب في عصر الحداثة الأوروبية يقدح في صحة هذه المسلمات ويشكك فيها. يذهب فوكو إلى أن مؤسسات مثل المدرسة والجيش والسجن والمستشفى هي التي تعمل على تكوين الفرد، أو بالأصح على إنتاجه، وبالتالي فلا يمكن الحديث عن هذا الفرد باعتباره أساسا لعقد اجتماعي أو لنظرية سياسية. ومن هنا يمكن النظر إلى تحليلات فوكو هذه على أنها نقد لليبرالية وتحطيم لمسلماتها الأساسية حول الفرد. كما أن فوكو يضع العناصر المكونة للنظرية الليبرالية مثل نظرية الحق ونظرية العقد ومفهوم الفرد إزاء الصورة الحقيقية للمجتمع الأوروبي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ويفندها باكتشاف آليات ممارسة السلطة الانضباطية التي تكذب جميع مسلمات الفكرالليبرالي.
إذا كانت الليبرالية تفترض وجود الفرد، فإن فوكو يوضح أن الفرد لم يكن كيانا مكتملا موجودا قبل نشأة السلطة، بل كان من إنتاج هذه السلطة نفسها. إن عملية تكوين الفرد في الحداثة الأوروربية كانت إحدى وظائف السلطة، تلك التي يسميها فوكو بالفردنة Individuation، والتي كان هدفها خلق موضوعات للسلطة أسهل في السيطرة والتحكم. ولكن قبل أن يتمكن فوكو من الكشف عن آليات السلطة في إنتاج الفرد كان قد وضع نظرية جديدة في السلطة، ولذلك فمن الضروري البدء بعرض سريع لها.
منهج فوكو في دراسة السلطة:
لن يبحث فوكو عن السلطة في النقاط التي تتركز فيها، أي في رأس الدولة سواء كانت ملكا أو نظاما سياسيا، ولن يبحث عن كيفية تشكل السلطة ونشأة السيادة Sovereignty كما فعل هوبز مثلا في كتابه "التنين" Leviathan، أو كما بحث عنها لوك في العقد الاجتماعي الذي يخرج المجتمع من حالة الطبيعة الأولى، أو كما بحث عنها جان جاك روسو في مفهوم الإرادة العامة General Will، بل سيبحث عنها وهي في حالة الممارسة، في أسفل المجتمع، في الشارع والسجن والمدرسة والمستشفى والجيش، لا في القصر الملكي أو الجمهوري، ولا في مبنى البرلمان أو في قاعة المحكمة.
ويتضح الاختلاف بين طريقة فوكو في دراسة السلطة والطريقة الليبرالية التي تنشغل بقضايا الشرعية ونشأة السلطة ومصادر القوة والتي تضمها نظرية العقد الاجتماعي، في ذهابه إلى أن السلطة يجب البحث عنها في الممارسات اليومية والجزئية، وكذلك في الموضوعات التي تقع خارج العقد الاجتماعي، أي في العلاقات التي لا يربطها أي تعاقد، مثل العلاقة بين الطبيب والمريض، والمستشفى باعتبارها تنظيما سلطويا والمرضى باعتبارهم موضوعات تمارس عليها التقنيات العلاجية والإدارية الطبية، والعلاقة بين إدارة السجن والسجناء، والمدرسة والتلاميذ، والجيش و الجنود. هذه المواقع السلطوية تقدم لفوكو نماذج من البشر الذين لا يضمهم أي عقد اجتماعي، بل هم خارجه، ويسميهم فوكو ذوات لاتعاقدية non-contractual subjects،) 2( وهي المنحرف والمريض والتلميذ والجندي والعامل. كان يعتقد دائما أن هؤلاء الذين يقعون خارج العقد الاجتماعي – نظرا لهامشيتهم وبعدهم عن السلطة بالمعنى الليبرالي باعتبارها اتفاقا بين أفراد كاملي الأهلية يتمتعون بحقوق – ليست لهم أية أهمية في الكشف عن حقيقة السلطة وآليات عملها، لكن فوكو يقلب الآية ويبحث عن السلطة في هؤلاء الأشخاص.
وبدلا من أن تكون السلطة التعاقدية الليبرالية وأبعادها الحقوقية هي الأساس في البحث عن السلطة في الغرب وكل ما عداها من تنظيمات اجتماعية هو الهامش بالنسبة لها، يضع فوكو العلاقات اللاتعاقدية مع المهمشين في مركز تحليلاته، ويذهب إلى أن المؤسسات التي تتعامل معهم هي المصدر الحقيقي للكشف عن طبيعة القوة وآليات ممارستها؛ لأن هذه المؤسسات في نظره هي المواقع السلطوية الحقيقية، لا المواقع التقليدية التي درسها علم السياسة دائما من أحزاب وبرلمان ورأي عام وإعلام ومؤسسات سياسية وهيكل إداري حكومي ووزارات..إلخ.
كانت مأثرة
ماركس الكبرى أنه بحث عن أساس تنظيم المجتمع وعن الخلية الأولى التي تنبع منها
السلطة في المصنع، الذي قدم له نموذجا لعلاقة غير تعاقدية وغير ليبرالية يتم تشكيل
السلطة كلها بناء عليه. وفوكو أيضا يتبع طريقا شبيها بطريق ماركس، لكن لا انطلاقا
من المصنع، بل انطلاقا من المؤسسات الانضباطية والعقابية.
ويبدأ فوكو في دراسة السلطة بوضع عدد من الموجهات التي سوف يهتدي بها، منها أنه لن يبحث في أسباب خضوع الذوات للسلطة أو قبولها لها، بل في كيفية صنع علاقات السلطة أو الإخضاع الفعلية للذوات؛ أي الذوات باعتبارها نتاجا للسلطة. وثاني هذه الموجهات ينص على أن السلطة استراتيجية عامة وكلية، وهي لا تفعل فعلها إلا من خلال "تقنيات محلية للهيمنة" ( 3). أما الموجه الثالث فينص على أنه إذا كان الإخضاع والهيمنة لا يظهران إلا على مستوى العلاقات والتقنيات والأدوات، فهذا هو ما يجب دراسته في البحث عن السلطة وطرق تكوينها وانتشارها وتركزها، لا مصدر السيادة. وتعد هذه الطريقة في البحث في السلطة مختلفة تماما عن الطريقة الليبرالية المعتادة التي تركز دائما على السيادة، منذ هوبز ولوك، وحتى روبرت نوزيك وجون رولز.
ويطرح فوكو تساؤلا تعد إجابته عليه الموجه الرابع لبحثه في السلطة، إذ يقول: "هل تعد الحرب وما يرتبط بها من مفاهيم كالاستراتيجية والتكتيك وسيلة مقبولة وكافية لتحليل العلاقات السلطوية؟ وهل يمكن أن نزعم أن المؤسسات العسكرية والمؤسسات التي من حولها.. هي من قريب أو من بعيد بشكل مباشر أو غير مباشر، نواة المؤسسات السياسية؟" ( 4) ويجيب فوكو بالإيجاب بالطبع. ويذهب إلى أن عبارة كلاوزفيتز الشهيرة أن الحرب استمرار للسياسة بوسائل أخرى تعد في ذاتها قلبا لما كان معروفا في القرنين السابع عشر والثامن عشر، إذ كانت السياسة ذاتها استمرارا للحرب بوسائل أخرى؛ أما كلاوزفيتز فقد عكس ما كان معمولا به، وما كان على فوكو إلا أن أعاد المبدأ القديم الذي عكسه كلاوزفيتز. ويتفق مبدأ فوكو هذا مع تعريف ماكس فيبر للدولة بأنها مؤسسة سياسية تحتكر استخدام العنف الشرعي في رقعة جغرافية معينة؛ وبعبارة آخرى فالدولة حسب تعريف فيبر هذا استمرار ومأسسة للحرب Institutionalization ، مؤسسة تمارس العنف المنظم وتحتكره. والمدهش في الأمر أن مبدأ فوكو وتعريف فيبر يتفقان مع النظرية الماركسية في الدولة من أنها أداة لممارسة العنف الطبقي المنظم وممارسة للحرب الطبقية ضد طبقات اجتماعية معينة لصالح طبقات أخرى. لكن يجب أن نتذكر أن نظرية هوبز في نشأة السلطة تنص على أن الدولة تنشأ لرغبة أطراف العقد الاجتماعي القضاء على حالة حرب الكل ضد الكل والتي تسود حالة الطبيعة الأولى. لكن كيف ستقضي الدولة على حالة حرب الكل ضد الكل دون أن تمارس هي ذاتها الحرب ضد هذا الكل المتحارب وتحتكر وحدها حق استخدام العنف؟ إن ما سكتت عنه نظرية العقد الاجتماعي حول نشأة الدولة هو هذا الأصل الحربي العسكري العنيف للدولة. إن الدولة ما هي إلا العنف الشرعي المُمَأسس. وهذا ما يكشف عنه فوكو في دراسته للسلطة.
صحيح أن المأسسة التي تمارسها الدولة للحرب تطهر المجتمع من العنف بأن تحتكره وتعزل الحرب عن المجتمع وتقذف بها بعيدا خارج الجسد الاجتماعي إلى الحدود الخارجية كما يذهب فوكو، إلا أن الحرب بذلك تصبح هي الوظيفة الأساسية للدولة خارج أراضيها، وتنتقل حالة حرب الكل ضد الكل من المجتمع نفسه إلى الخارج، بحيث تصبح الساحة الدولية ساحة صراع عسكري دائم بين الدول. ويلفت فوكو الانتباه إلى أن الخطاب الفلسفي – القانوني – التشريعي حول السلطة (أي الخطاب الليبرالي المعتمد على نظرية العقد الاجتماعي) لم تكن له السيادة التامة طوال عصر الحداثة الأوروبية؛ ففي فترة الاضطرابات السياسية والثورات والحروب الأهلية كان يسود خطاب آخر يؤكد على أن السلطة استمرار للحرب، وأن مصدر شرعية القانون هو القوة القاهرة التي تفرضه، وأن القانون هو قانون الأقوى، وهو أيضا قانون الغزو.
ويبدأ فوكو في دراسة السلطة بوضع عدد من الموجهات التي سوف يهتدي بها، منها أنه لن يبحث في أسباب خضوع الذوات للسلطة أو قبولها لها، بل في كيفية صنع علاقات السلطة أو الإخضاع الفعلية للذوات؛ أي الذوات باعتبارها نتاجا للسلطة. وثاني هذه الموجهات ينص على أن السلطة استراتيجية عامة وكلية، وهي لا تفعل فعلها إلا من خلال "تقنيات محلية للهيمنة" ( 3). أما الموجه الثالث فينص على أنه إذا كان الإخضاع والهيمنة لا يظهران إلا على مستوى العلاقات والتقنيات والأدوات، فهذا هو ما يجب دراسته في البحث عن السلطة وطرق تكوينها وانتشارها وتركزها، لا مصدر السيادة. وتعد هذه الطريقة في البحث في السلطة مختلفة تماما عن الطريقة الليبرالية المعتادة التي تركز دائما على السيادة، منذ هوبز ولوك، وحتى روبرت نوزيك وجون رولز.
ويطرح فوكو تساؤلا تعد إجابته عليه الموجه الرابع لبحثه في السلطة، إذ يقول: "هل تعد الحرب وما يرتبط بها من مفاهيم كالاستراتيجية والتكتيك وسيلة مقبولة وكافية لتحليل العلاقات السلطوية؟ وهل يمكن أن نزعم أن المؤسسات العسكرية والمؤسسات التي من حولها.. هي من قريب أو من بعيد بشكل مباشر أو غير مباشر، نواة المؤسسات السياسية؟" ( 4) ويجيب فوكو بالإيجاب بالطبع. ويذهب إلى أن عبارة كلاوزفيتز الشهيرة أن الحرب استمرار للسياسة بوسائل أخرى تعد في ذاتها قلبا لما كان معروفا في القرنين السابع عشر والثامن عشر، إذ كانت السياسة ذاتها استمرارا للحرب بوسائل أخرى؛ أما كلاوزفيتز فقد عكس ما كان معمولا به، وما كان على فوكو إلا أن أعاد المبدأ القديم الذي عكسه كلاوزفيتز. ويتفق مبدأ فوكو هذا مع تعريف ماكس فيبر للدولة بأنها مؤسسة سياسية تحتكر استخدام العنف الشرعي في رقعة جغرافية معينة؛ وبعبارة آخرى فالدولة حسب تعريف فيبر هذا استمرار ومأسسة للحرب Institutionalization ، مؤسسة تمارس العنف المنظم وتحتكره. والمدهش في الأمر أن مبدأ فوكو وتعريف فيبر يتفقان مع النظرية الماركسية في الدولة من أنها أداة لممارسة العنف الطبقي المنظم وممارسة للحرب الطبقية ضد طبقات اجتماعية معينة لصالح طبقات أخرى. لكن يجب أن نتذكر أن نظرية هوبز في نشأة السلطة تنص على أن الدولة تنشأ لرغبة أطراف العقد الاجتماعي القضاء على حالة حرب الكل ضد الكل والتي تسود حالة الطبيعة الأولى. لكن كيف ستقضي الدولة على حالة حرب الكل ضد الكل دون أن تمارس هي ذاتها الحرب ضد هذا الكل المتحارب وتحتكر وحدها حق استخدام العنف؟ إن ما سكتت عنه نظرية العقد الاجتماعي حول نشأة الدولة هو هذا الأصل الحربي العسكري العنيف للدولة. إن الدولة ما هي إلا العنف الشرعي المُمَأسس. وهذا ما يكشف عنه فوكو في دراسته للسلطة.
صحيح أن المأسسة التي تمارسها الدولة للحرب تطهر المجتمع من العنف بأن تحتكره وتعزل الحرب عن المجتمع وتقذف بها بعيدا خارج الجسد الاجتماعي إلى الحدود الخارجية كما يذهب فوكو، إلا أن الحرب بذلك تصبح هي الوظيفة الأساسية للدولة خارج أراضيها، وتنتقل حالة حرب الكل ضد الكل من المجتمع نفسه إلى الخارج، بحيث تصبح الساحة الدولية ساحة صراع عسكري دائم بين الدول. ويلفت فوكو الانتباه إلى أن الخطاب الفلسفي – القانوني – التشريعي حول السلطة (أي الخطاب الليبرالي المعتمد على نظرية العقد الاجتماعي) لم تكن له السيادة التامة طوال عصر الحداثة الأوروبية؛ ففي فترة الاضطرابات السياسية والثورات والحروب الأهلية كان يسود خطاب آخر يؤكد على أن السلطة استمرار للحرب، وأن مصدر شرعية القانون هو القوة القاهرة التي تفرضه، وأن القانون هو قانون الأقوى، وهو أيضا قانون الغزو.
نقد النظرية الليبرالية في السلطة:
يصف فوكو النظرية الليبرالية في السلطة بأنها ذات نزعة اقتصادية Economism؛ فهي تنظر إلى السلطة على أنها حق يمكن للمرء أن ينقله إلى فرد آخر أو أن يحصل عليه من آخرين من خلال عقد أو إجراء قانوني. والسلطة بهذا المعنى عبارة عن ملكية يمتلكها المرء كما يمتلك أي سلعة أخرى، وهي تنتقل بين الأفراد كما تنتقل السلع، وتتركز في يد أشخاص معينين كما تتركز السلع، ويحدث لها تراكم مثل السلع تماما، كما يمكن أن ُتحتكر من قبل فرد أو مؤسسة مثلما ُتحتكر أي سلعة أخرى. ويأتي تأسيس السلطة من تعاقد الأفراد فيما بينهم على تكوين كيان سياسي يركزون فيه بعضا من حقوقهم الطبيعية، تماما مثلما يتم تأسيس شركة مساهمة( 5). وبناء على هذه النظرة فإن تأسيس السلطة وفقا لليبرالية يتم وفقا لنظام تبادلي يحاكي التبادل الاقتصادي في عالم السوق الرأسمالي. فلم تكن مصادفة أن كانت الليبرالية هي التعبير السياسي عن الرأسمالية.
ولأن الليبرالية تنظر إلى السلطة على أنها ملكية، فقد نظرت إلى النظام الانتخابي على أنه آلية لنقل قوة الناخبين السياسية إلى ممثلهم، تلك القوة التي يحوزون عليها بطريقة طبيعية، وهي ملكهم بالكامل في حالة الطبيعة الأولى، ويتخلون عن جزء منها للنظام السياسي عن طريق عقد اجتماعي( 6). ومعنى ذلك أنه إذا كانت الليبرالية تصر على أن الفرد الواحد هو صوت انتخابي واحد فإن هذا أيضا يعد علامة على نظرتها الكمية والسلعية للقوة على الرغم من الطابع المساواتي والعادل الذي تظهر به هذه الفكرة.
وفي مقابل النظرية الليبرالية التي تنظر إلى السلطة على أنها ملكية تنتقل بين الأفراد وتُنتزع منهم ويمكن أن تُحتكر من قبل فرد أو نظام، يذهب فوكو إلى أن السلطة "ليست ملكية، بل استراتيجية". فالسلطة هي القدرة على أن تجعل الآخر يقوم بأفعال تحددها أنت له أو تكون متفقة مع أهدافك، ولذلك فهي علاقة بين طرفين على الأقل. وكي تجعل الآخر يقوم بأفعال محددة يلزمك استراتيجية، أي إطار عام يوضع فيه هذا الآخر ويتحرك من خلاله، ويمكن أن يختار في نطاقه أفعالا معينة بإرادته الحرة، إلا أن اختياره يكون محكوما بالإطار العام الموضوع له، وبالتالي يصبح خاضعا للسلطة في الوقت الذي يتوهم فيه أنه حر مخير، وهذه هي أعلى درجة يمكن أن تصل إليها السلطة في إخضاع الذوات.
إن العلاقة السلطوية يمكن أن تظهر على المستوى الشخصي الذي يضم فردين وحسب، وليس شرط فيها أن تكون علاقة بين مؤسسة سياسية كبيرة من جهة وجماهير غفيرة من جهة أخرى. إن ظهور العلاقة السلطوية في المجال الشخصي الجزئي الصغير هو ما أطلق عليه فوكو "السلطة الصغرى" Micropower. هذه السلطة الصغرى هي الوحدة الأولى في التحليل لدى فوكو، وهو يبحث عن ظهورها في أماكن انتشارها الأساسية، مثل السجن والمستشفى والعيادة والمدرسة.
كما لا يعالج فوكو السلطة باعتبارها كيانا يقف على رأس المجتمع ويشرف عليه بطريقة تراتبية، بل يعالجها باعتبارها شبكة علاقات ممتدة دائما ومنتشرة عبر جميع خلايا ومسام المجتمع. وهذا ما يتيح لفوكو تناول السجن والعيادة والمستشفى والجيش والمدرسة باعتبارها شبكات من العلاقات السلطوية. لا تكمن السلطة في تنظيم سياسي معين أو في أجهزة الدولة وحسب، بل تمتد عبر العلاقات الاجتماعية كلها. فعلاقة المدرس بالتلاميذ سلطة، وعلاقة الطبيب بالمرضى سلطة، وعلاقة الضباط بالجنود سلطة، وعلاقة راعي الكنيسة الذي يتلقى الاعتراف بمن يعترف له سلطة( 7).
وتحمل نظرية فوكو في السلطة مبدأ هاما وهو أنه ليست هناك سلطة بدون صراع. فلأنها علاقة، فإن أطراف هذه العلاقة يتبادلون الشد والجذب والإلزام والمقاومة ومقاومة المقاومة( 8)؛ فلا يمكن أن توجد سلطة في حالة الإذعان الكامل والطاعة العمياء، لأنها في هذه الحالة لن تكون سلطة بل هيمنة كاملة. العلاقة السلطوية إذن علاقة صراعية، وفي ذلك يقول فوكو: "إن نموذج السلطة هو الصراع المستمر لا العقد الذي يتم بموجبه التخلي عن الممتلكات أو الاستيلاء عليها.. السلطة ُتمارس أكثر مما تمتلك، وهي ليست امتيازا بالإمكان الإمساك به بل هي استعدادات.. ومناورات.. وتكتيكات"( 9).
ولأن السلطة استراتيجية يوضع فيها الفاعل للقيام بأفعال معينة، فليس شرطا فيها أن تمارس القمع والنهي والعنف. السلطة تضع الإطار العام الذي يجب على الفرد القيام فيه بأفعاله، وليس في وضع وتحديد هذا الإطار العام أي نوع من العنف أو القهر أو القمع. وعندما يتم اللجوء إلى العنف يكون ذلك علامة على فشل السلطة ذاتها، إذ لم تنجح في إدراج الأفراد في الأطر المحددة لهم بطريقة طوعية تتجنب تمردهم. كما أن استخدام العنف يخرجنا عن العلاقة السلطوية ويجعلنا أمام حالة الهيمنة الكاملة.
السلطة بين العقد الاجتماعي والحرب:
السلطة عند فوكو تتأسس على حق الأقوى، أي على الغزو والإخضاع، لا على العقد الاجتماعي. صحيح أن فلاسفة العقد الاجتماعي وأهمهم هوبز قد تحدثوا عن الحرب، إلا أن الهدف الحقيقي من تناولهم لها هو استبعادها باعتبارها أصلا للدولة؛ ذلك لأنه بقيام الدولة في نظر الأدبيات الحقوقية والقانونية التعاقدية تتأسس سلطة سياسية قوامها العقد الاجتماعي، وقيام صاحب السيادة بتمثيل الشعب أو أطراف التعاقد. فسواء نشأت الدولة بالحرب أو الغزو والقهر والإخضاع، فإنها بمجرد تأسيسها تتأسس معها السلطة التعاقدية والسلطة التمثيلية؛ وهدف هوبز الحقيقي من هذه النظرية هو تحييد الحرب كأصل للشرعية السياسية، وجعل هذه الشرعية تكمن لا في الخضوع القهري للمنتصر بل في الخضوع الطوعي للعقد الاجتماعي ولصاحب السيادة. وقد وضع هوبز نظريته السياسية هذه في مقابل خطاب سياسي كان سائدا منذ أواخر العصور الوسطى يعطي الشرعية للأقوى وللمنتصر. وهكذا نرى كيف أن نظرية العقد الاجتماعي ابتداء من هوبز كانت مصاغة بهدف استبعاد الحرب كمصدر للشرعية على الرغم من تناول تلك النظرية للحرب باستفاضة( 10). وبذلك نرى كيف أن فوكو يوضح الخلفيات التاريخية والاجتماعية التي أدت إلى ظهور نظرية العقد الاجتماعي. فعلى الرغم من الطابع الحقوقي والمساواتي لهذه النظرية، إلا أنها لم تستطع أن تستبعد الحرب والإخضاع والهيمنة كأصول واقعية لنشأة السلطة، بل عتمت عليها فقط وغلفتها في ثوب قانوني وتعاقدي جديد.
ويكشف فوكو عن أن أساس العقد هو خضوع المهزوم طواعية للمنتصر، ذلك لأنه اختار الخضوع بإرادته، إذ كان يمكن أن يختار المقاومة أو الموت. ليس العقد إذن إجماعا أو اتفاقا لكنه قبول المهزوم للمنتصر وتحويله إلى ممثل له. وبهذا الشكل فالعقد يعد دبلوماسية الضعيف إزاء القوي، لكنه أيضا قبول القوي لأن ينضوي تحته الضعيف ويخدمه ويعترف له بالسيادة (مبدأ سيادة الشعب أو الأمة؛ على الرغم من أن الشعب دائما ما يكون هو الطرف الخاضع) بدلا من أن يستمر في قتاله إلى النهاية. كما تستند نظرية العقد عند هوبز على خلفية إنجلترا التاريخية، ذلك لأن النورمان قد غزو الساكسون سكانها الأصليون، وظلت رواسب هذا الغزو تتناقلها الأجيال. وكان العقد طريقة يقول بها السكان للغزاة أننا باقون وأنكم لستم إلا ممثلين لنا، إذ تنازلنا لكم عن جزء من حرياتنا من أجل إقامة الدولة. كذلك كان العقد معبرا عن مواجهة البورجوازية الصاعدة مع الملكية المطلقة والأرستقراطية، إذ كانت الأخيرة لا تزال تمسك بزمام الدولة، فنظرت البورجوازية إلى سلطتها على أنها نتيجة تخل جزئي عن الحقوق الطبيعية من جانبها( 11).
تكنولوجيا إنتاج الفرد:
يأتي فوكو بدراسة من نوع جديد لظهور الفرد الحديث. فهو لا يتتبع ظهوره انطلاقا من دراسته للنزعة الإنسانية وخطابها حول الفردية، ولا لخطاب العلوم الإنسانية حول الإنسان باعتباره فردا متميزا، بل انطلاقا من نظم التربية والعلاج والرقابة والعقاب ابتداء من القرن الثامن عشر. تتمثل أطروحة فوكو الجديدة في أن ظهور الفرد كان نتاجا لعملية فردنة Individuation مصاحبة لإجراءات سلطوية هدفت إحكام قبضة السلطة على المجتمع وتحقيق كفاءة أكبر في السيطرة( 12)، وكان ذلك عبر تحويل الكائن البشري إلى فرد خاضع لعمليات مراقبة صارمة ومندرج في نظم ضبط محكمة. ويذهب فوكو إلى أن الفرد الحديث لم يكن موجودا قبل القرن الثامن عشر، وما ظهوره سوى نتيجة عملية الفردنة التي كانت آلية من آليات السلطة الجديدة.
والحقيقة أن فوكو يبدأ في تتبع تكنولوجيا إنتاج الفرد من ظهور صاحب السيادة أو العاهل أو الملك في الأدبيات السياسية والحقوقية التي تجد أصلها الأول لدى هوبز. فكما يذهب هوبز تنشأ الدولة بأن يتخلى الأفراد – أو المجتمع كله – عن حقوقهم وحرياتهم لصاحب السيادة؛ وهو بذلك لا يصبح مجرد ممثل أو نائب لهم بحيث يظلون هم الحاملين الحقيقيين للسلطة ويمارسها هو بالنيابة عنهم، بل يصبح هو هم: أنا الدولة، أنا أنتم، أنا الشعب. وهذه العملية ليست سوى عملية صناعة للفرد. إن أول فرد تنتجه السلطة هو الملك، إذ يصبح هو الفرد الأول، الفرد بألف لام التعريف وعن جدارة. إن نشأة السلطة إذن تنطوي على عملية فردنة Individuation. صحيح أنها لم تنتج بعد أفرادا بالمعنى الحقوقي والقانوني المعروف، إلا أنها أنتجت الفرد الأول، الملك. فالفردنة أحد آليات السلطة، بها تنتج نفسها وعن طريقها تنتشر وتمارس عملها. ومن لحظة صناعة السلطة للفرد الأول في صورة الملك، تنزل هابطة صانعة لذوات أخرى وأفراد؛ حتى أن فوكو يذهب إلى حد القول بأن الوظيفة الأساسية للسلطة هي صناعة الأفراد، وتحويل الكتلة السكانية المتجانسة واللامتمايزة إلى أفراد. إن تحليل فوكو الجينيالوجي يكشف عن أن السلطة والفرد قد نشآ معا وفي نفس الوقت وبطريقة تبادلية: السلطة تنتج الأفراد الذين يمدونها بشرعيتها.
كانت أهم وظائف السلطة ابتداء من القرن الثامن عشر في نظر فوكو هي خلق موضوعها، أي تكوين الموضوع الذي سوف تمارس عليه فعلها، وهو الفرد. فتكنولوجيا السلطة هي تكنولوجيا إنتاج الفرد. تتمثل هذه السلطة في توظيف الجسد من قبل العلاقات السلطوية. يتحول جسد الفرد عبر هذه التكنولوجيا الجديدة إلى موضوع للتنظيم( 13). فالمدرسة والسجن والمستشفى والعيادة والجيش كلها مؤسسات لتنظيم الأجساد ووضعها في إطار من الروتين اليومي وفرض حركات وأفعال معينة عليها. فإذا كان المجتمع كتلة بشرية صماء قبل أن تتعامل معه السلطة، فإن هذه السلطة نفسها هي التي تعمل على فردنة هذه الكتلة، أي تحويلها إلى أفراد عبر مؤسسات الضبط والمراقبة والعقاب. وعندما تبني الليبرالية نظرياتها السياسية حول الفرد وحقوقه وحرياته فمعنى هذا أنها تتعامل مع موضوع منتج من قبل السلطة، لا مع موضوع أولي أو قبلي بل مع موضوع ثانوي ومشروط. وهذا ما يجعل الليبرالية جزءا من اللعبة، جزءا ضروريا ومكملا لعملية إنتاج الفرد الحديث. فآليات السلطة أنتجت الفرد الحديث والليبرالية نسجت حوله أفكارها ونظرياتها السياسية؛ وهنا يمكن النظر إليها على أنها جزء من العتاد الفكري للسلطة، والجانب الأيديولوجي لتكنولوجيا السلطة الجديدة، أكثر منها جزءا من خطاب النزعة الإنسانية أو عصر التنوير.
تتمثل تكنولوجيا إنتاج الفرد كما درسها فوكو في تحديد مفهوم الفرد من حيث الصحة والمرض والجنون والسوية والجناح والشذوذ والانحراف والشخصية القانونية. فالسلطة عملت على تحديد الفرد طبيا وأخلاقيا وجنسيا وقانونيا( 14). وإذا تناولنا دراسة فوكو لنظم العقاب في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر نجد أنه يطلق عليها اسم "الاقتصاد السياسي للجسد"؛ فلأنه يدرس هذه النظم باعتبارها نظما لإنتاج الفرد المنضبط، ولأنها تسعى نحو نوع معين من القيمة وهي قوى الأجساد وطاعتها وخضوعها وتوزيعها، فهي تشكل لديه اقتصادا سياسيا.
الجسد هو أول موضوع تمارس عليه السلطة فعلها. والحقيقة أن السلطة تخلق الفرد ابتداء من جسده. ويذهب فوكو إلى أن الجسد مرتبط بحقل السلطة إلى الحد الذي يغرق فيه تماما، فهو الموضوع المباشر الذي يظهر فيه الفعل المادي للسلطة، إذ هي توظفه وتطوعه وتقومه وتعذبه وتجبره على أعمال معينة. وهذا التعامل مع الجسد يحكمه منطق اقتصادي، فهو تعامل بهدف الاستثمار الاقتصادي للجسد. فعندما تتخذ السلطة الجسد موضوعا لها فبهدف جعله جسدا منتجا. ونلاحظ هنا أن الجسد لم يكن ليصبح أداة إنتاج وموضوعا للاستثمار إلا بفضل آليات الضبط والمراقبة والتحكم التي أتت بها السلطة الجديدة في الحداثة الأوروبية. والأكثر من ذلك أن الحاجة والرغبة تصبحان من بين موضوعات التنظيم والتحكم من قبل السلطة، إذ تحولهما إلى أدوات لضمان بقاء الفرد قوة إنتاج وقوة استهلاك، أي بقاؤه ترسا عاملا في الآلة الإنتاجية.
والحقيقة أن فوكو بنظريته الجديدة في السلطة إنما يتجاوز ماركس وفيبر معا. فقد بدأ ماركس دراساته بتحليل وضع الأفراد في ظل النظام الإنتاجي موضحا أن هذا النظام يسترقهم ويستعبدهم. أما فوكو فيذهب إلى أن الأجساد قبل أن تكون قوة عاملة منتجة يجب أن تكون موضوعا للسلطة بإدخالها أولا في نظام رقابي وتنظيمي وعقابي. وهو يتجاوز فيبر أيضا لأن الأخير ذهب إلى الربط بين السلطة وممارسة العنف، وقال إن السلطة الشرعية هي التي تمارس العنف الشرعي. أما فوكو فقد ابتعد تماما عن أي ربط بين السلطة والعنف، وذهب إلى أن استخدام العنف تعبير عن فشل العلاقة السلطوية ذاتها، إذ هي علاقة ضبط ومراقبة وتحكم وإنتاج للفرد المنضبط، لا علاقة عنف.
ويقدم فوكو تقييما لمعنى الفردية الناتجة عن عملية تحديث السلطة في الغرب، ويكتشف أن عملية الفردنة في الحداثة الأوروبية كانت هابطة من أعلى، أي من السلطة إلى المجتمع وليس العكس: "بقدر ما تصبح السلطة أكثر خفاء وأكثر وظيفية، فإن من تقع عليه ممارسة السلطة ينزع لأن يكون أكثر تفردا"( 15).
كما يتجاوز فوكو النقد الموجه لليبرالية ولنظريات العقد الاجتماعي باعتبارها أيديولوجيات، والموجه للفرد باعتباره ذرة وهمية في تصور أيديولوجي للمجتمع، ويذهب إلى أن السلطة الانضباطية قد عملت بالفعل على إنتاج الفرد: "يقال غالبا أن نموذج المجتمع الذي تتكون عناصره الأساسية من الأفراد إنما هو مستعار من الأشكال الحقوقية التجريدية للعقد والتبادل. فالمجتمع التجاري قدم نفسه كشركة تعاقدية قائمة بين أفراد حقوقيين مستقلين. إنما يجب ألا ننسى فعلاأنه وجدت في العصر ذاته تقنية لإنشاء الأفراد كعناصر مترابطة من سلطة ومن معرفة. فالفرد هو بدون شك الذرة الوهمية في تصور أيديولوجي للمجتمع، ولكنه أيضا واقع حقيقي صنعته هذه التكنولوجيا المخصوصة بالسلطة والتي سميت "الانضباط"..في الواقع إن السلطة تنتج، تنتج الواقع الحقيقي"( 16). يتضح من هذه الفقرة أن فوكو لا يسير مع الاتجاهات النقدية التي تنظر إلى الفرد على أنه مجرد صورة زائفة في تصور أيديولوجي للمجتمع، ومن بين هذه الاتجاهات: الماركسية والنظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت. إن فوكو يعترف بأن الفرد حقيقة موجودة بالفعل وليس مجرد أيديولوجيا، لكنها حقيقة صنعتها السلطة.
السلطة الانضباطية:
يتحكم المنطق الرأسمالي في السلطة العقابية، إذ تعمل هذه السلطة على إعداد المذنب كي يكون فردا منتجا. فالعقوبات تنظم بحيث لا تكون مدة السجن قصيرة جدا لا يمكن فيها إعداد المجرم لحرفة أو مهنة، ولا تصل إلى المؤبد بحيث لا يخرج المجرم إلى المجتمع عاملا منتجا، بل يجب أن تكون مدة العقوبة كافية لإعادة تأهيله. إن نظام العقوبة سواء كان تشريعيا أو تنفيذيا يقدم للرأسمالية عمالا منتجين بعد إصلاحهم، ولا عجب أن يكون الإصلاح من وجهة نظر المجتمع الرأسمالي هو تحويل المجرم إلى عامل منتج( 17).
ولمزيد من توضيح التداخل بين الاقتصاد والسلطة الانضباطية ذهب فوكو إلى أنه مثلما كان هناك تراكم لرأس المال كان هناك أيضا تراكم للأفراد، ومثلما أدى تراكم رأس المال إلى إقلاع اقتصادي للغرب، فإن تراكم الأفراد أحدث إقلاعا سياسيا سلطويا، والعمليتان تفترضان بعضهما البعض؛ إذ لم يكن من الممكن حدوث إحداهما بدون الأخرى. يقول فوكو: "إن حل مشكلة تراكم الناس يتطلب نمو جهاز إنتاجي قادر على إعانتهم واستخدامهم، وبالعكس فإن التقنيات التي تجعل الكثرة التراكمية من الناس مفيدة تسرع حركة تراكم رأس المال"( 18).
والسلطة الانضباطية هي التي تقوم بدور البنية التحتية للمجتمع الليبرالي ذي السلطة التمثيلية. فقد صاحبت عملية إنشاء نظام قضائي قائم على أساس مبادئ حقوق الإنسان والمواطن ومبادئ الحرية والمساواة ونظام برلماني تمثيلي، نمو وتعميم أجهزة وآليات انضباطية. يقول فوكو: "إذا كان النظام التمثيلي قد أتاح.. أن تشكل إرادة الجميع المركز الأساسي للسيادة، فإن الانضباطات قدمت في الأساس ضمانة لخضوع القوى والأجسام.. إن عصر الأنوار (أي عصر التنوير) الذي اكتشف الحريات هو الذي اخترع أيضا الانضباطات" ( 19). فالانضباط كان مصاحبا للحقوق والحريات والنظام البرلماني التمثيلي؛ وكأن السلطة كانت تعوض ما أعطته من حقوق وحريات حتى ولو كانت شكلية بمزيد من الانضباط.
ويقيم فوكو مقارنة بين الحقوق المتضمنة في العقد الاجتماعي والسلطة الانضباطية، ويذهب إلى أن الانضباط يخلق بين الأفراد رابطة تتمثل في إكراهات معينة هي التي تجعلهم وحدة واحدة، في مقابل الالتزام التعاقدي للعقد الاجتماعي. ويريد فوكو أن يوضح أن ما كان يضفي الوحدة على المجتمع وما كان يربط أفراده به وببعضهم البعض ليس التزامهم الطوعي والإرادي بالحفاظ على المجتمع وإجماعهم على مجموعة من المبادئ و الحقوق والمعايير، بل إن الرابط الأساسي كان السلطة الانضباطية التي تمثلت في تحديد هوية الفرد قانونيا وسياسيا وقوميا، وفي إلحاقه بنظام من الإلزامات. وفي اللحظة التي لا يعد عندها الرابط في المجتمع رابطا تعاقديا بل رابطا انضباطيا يتعطل الحق وكل ما يتضمنه من معايير مساواتية. فعقد العمل مثلا يعبر شكليا عن الحرية والفردية، إلا أنه بمجرد أن يوضع محل التنفيذ حتى يتحول إلى نظام انضباطي، وقهري أيضا.
كما ينقد فوكو نظرية العقد الاجتماعي عند جان جاك روسو والتي ارتكز عليها القانون الجنائي الفرنسي بعد الثورة الفرنسية، وذلك بأن يوضح جانبها الآخر السلبي. فحسب هذه النظرية لا يقبل المواطن سلطة معينة وحسب، بل يقبل كذلك القانون الذي يعاقبه؛ ويكون قبوله هذا لمرة واحدة وإلى الأبد، وتكون أي محاولة لسحب الفرد اعترافه بهذا القانون خروجا عنه وبذلك يقع تحت طائلته. والمجرم بذلك يكون قد خرق الإجماع والعقد الاجتماعي كله ويصبح عدوا للمجتمع كله. وما يترتب على ذلك أن العقوبة تمارس باسم المجتمع، وهذا ما يجعل المجتمع كله معاقبا كبيرا له حق مطلق في معاقبة الفرد المخالف ( 20) .
لم يظهر مجتمع القرن التاسع عشر الليبرالي نتيجة لتطبيق حلم فلاسفة التنوير ومفكري العقد الاجتماعي ومبادئهم، بل نتيجة لتطبيق آليات سلطوية جديدة. فمثلما كان هناك حلم بالمجتمع العادل والمساواتي، كان هناك أيضا حلم عسكري بالمجتمع الانضباطي، والحقيقة أن هذا الحلم الأخير هو الذي تحقق. لم يكن المجتمع التالي على الثورة الفرنسية مجتمعا يضمن الحرية والعدالة، بل مجتمعا يضمن الأداء الجيد من قبل كل فرد لأدواره المحددة له سلفا، المجتمع الذي يسير بدقة وكفاءة الآلة. ولم تكن ممارسة السياسة فيه على أساس نموذج العقد الاجتماعي، بل على أساس الضغوط والمساومات والإكراهات، ولم يكن مجتمع الحقوق بل مجتمع الواجبات والإلزامات والتعليمات، "لا مجتمع الإرادة العامة بل مجتمع الطواعية الآلية.. وفيما كان الفلاسفة والقانونيون يبحثون في نظرية العقد عن نموذج أولي من أجل إعادة بناء الجسم الاجتماعي، كان العسكريون ومعهم التقنيون المتخصصون في الانضباط يعدون الإجراءات من أجل الإكراه الفردي والجماعي للأجسام" ( 21).
من الانضباط إلى الأمن:
يميز فوكو بين ثلاثة مجالات للقوة، وهي جميعا تتصف بأنها أطر أو ميكانزمات لممارسة السلطة، لا مصادر تنبع منها القوة، ذلك لأنه يرفض التعامل بالطريقة الماهوية مع موضوعي القوة والسلطة على السواء. فهما عنده لا يرجعان إلى مصدر أصلي ثابت بل يظهران على المستوى الصغير الذي يسميه السياسات الصغرى Micro-politics. فهو يميز بين السيادة Sovereignty و الانضباط Discipline و الأمن Security. السيادة تمارس على إقليم Territory، والانضباط يمارس على مجموعة متعددة من الأفراد Multiplicity of Individuals، والأمن يمارس على السكان Population، عن طريق التحكم في بيئتهم بتقنيات يسميها "القوة الحيوية" Bio-power. ويتركز نقد فوكو لليبرالية في تحليله للانضباط والأمن. وعن الانضباط يذهب فوكو إلى أنه دائما ما يمارس على متعدد من الأفراد( 22). صحيح أن الانضباط يمارس على أجساد الأفراد بالدرجة الأولى، عن طريق المدرسة والجيش والورشة أو المصنع والانضباط العقابي Penal Discipline أي السجن، إلا أنه لا يتعامل مع أفراد جاهزي التكون وجودهم مسبق على وجود تقنيات الانضباط، بل إن الأفراد أنفسهم باعتبارهم أفرادا هم من نتاج هذه التقنيات ذاتها.
كما أن الأفراد ليسوا المعطيات الأولى ولا الوحيدة التي تشتغل عليها تقنيات الضبط، فهذه التقنيات تمارس بالدرجة الأولى على الوسط الذي يشمل مجموعة من الأفراد، أي المحيط المادي الذي يجمعهم. فقبل أن تصنع الأفراد يجب عليك تنظيم المجال الذي سينشأون فيه، ووضع الإجراءات التي سوف تتعامل بها معهم، والقواعد التي سوف يسيرون عليها، والحدود التي سوف يتحركون في إطارها، والنسق العقابي الذي سوف يعاقب مخالف تلك القواعد والمتعدي على تلك الحدود. أما الفردية ذاتها Individuality فهي "طريقة محددة لتقسيم تعدد من البشر من قبل انضباط ما، أكثر من كونها المادة الخام التي يتكون منها الانضباط"( 23). وكأن السلطة الانضباطية تنتج الموضوعات التي سوف تمارس عليها سلطتها في صورة أفراد. فالانضباط يعمل على تقسيم الكتلة البشرية إلى أفراد، وعلى التعامل مع الإنسان على أنه فرد، لأن الفرد هو الموضوع الأنسب لتقنيات الانضباط. وعندما ينظر الإنسان إلى نفسه على أنه فرد، فليست نظرته هذه لنفسه سوى أثر من آثار السلطة الانضباطية عليه. الوعي بالفردية إذن هو أثر لاحق After-effect لتقنيات الانضباط. فليست السلطة الانضباطية مكونة لحشود لامتمايزة من الجماهير كما كانت تعتقد الاتجاهات النقدية قبل فوكو وأهمها مدرسة فرانكفورت، بل هي منتجة للفردية ذاتها؛ إنها ليست مُشمِّلة totalizing تمارس تحويل السكان إلى حشد واحد متجانس Massification بل مفردنة Individualizing، تحول السكان إلى أفراد.
ويضع فوكو مبدأ "دعه يعمل، دعه يمر" Laisser-faire, laisser-passer في إطار التحول الذي حدث للسلطة منذ القرن الثامن عشر من الانضباط إلى الأمن. ففي حين تضع السلطة الانضباطية القواعد والحدود والمعايير وتعمل على تحديد مجال ممارستها من حيث الرقعة الجغرافية والموضوعات التي تمارس عليها، فإن الأمن، أو المارسة السلطوية الجديدة في إطار الأمن، لا تضع قواعد وحدود ومعايير، بل تترك الأمور تسير حسب اتجاهها الطبيعي حتى تتوازن تلقائيا( 24). ارتبطت الممارسة الانضباطية للسلطة بالعصر المركانتيلي، ذلك العصر الذي تعامل مع مشكلة الندرة وخطر المجاعة بأن وضع قيودا على حركة السلع فيما يسمى بقوانين الحماية، فكل ما كان يهم ذلك العصر هو ألا يؤدي ارتفاع الأسعار إلى ندرة في الغذاء وارتفاع في الأجور، وفي النهاية إلى ثورة العامة. أما الممارسة الأمنية للسلطة فمرتبطة بالعصر الفيزيوقراطي، ذلك الذي اكتشف أن الندرة والمجاعة، وحتى الموت جوعا، ظواهر لا يمكن تجنبها؛ وبدلا من التدخل الانضباطي في عملية الإنتاج وحركة السوق، تم التعامل مع هذه الأخطار من منطلق أنها ظواهر طبيعية (ومن هنا تأتي التسمية: الفيزيوقراطية هي حكم الطبيعة) سوف تتوازن تلقائيا إذا ما تركت لشأنها. وكذلك فلا مانع من السماح بارتفاع في الأسعار ونقص في السلع، وحتى بالمجاعة والموت جوعا، لأن الحركة الطبيعية للإنتاج والتوزيع سوف تحدث توازنا تلقائيا من ذاتها( 25). وهكذا نرى مع فوكو كيف أن مبدأ قوانين السوق التي تعمل بآلية وتلقائية، وهو المبدأ الاقتصادي الشهير لليبرالية الاقتصادية وللاتجاه الليبرالي الجديد، قد ظهر في ظل العصر الفيزيوقراطي، لأن المبدأ نفسه ينظر إلى قوانين الاقتصاد على أنها قوانين طبيعية. ويجب الانتباه إلى أن مبدأ دعه يعمل دعه يمر مرتبط بذلك التحول الذي حدث للسلطة من الانضباط إلى الأمن؛ فظهور المبدأ كان معاصرا لظهور السلطة الأمنية، وبذلك يصبح جزءا أصيلا من تقنيات الأمن. لكن يجب أن نلاحظ أن توضيح فوكو للتحول من الانضباط إلى الأمن لا يعني وصفا لعصور مرت بها السلطة، أو لطبقات تاريخية أو مراحل، بحيث تترك السلطة مرحلة لتدخل في الأخرى. كل ما حدث في القرن الثامن عشر هو ظهور ممارسة سلطوية جديدة وهي الأمن، ولا يعني ذلك انتهاء الانضباط، بل إن الممارسات الانضباطية تواجدت دائما مع الممارسات الأمنية.
والليبرالية في تحليل فوكو ليست مجرد أيديولوجيا، أي ليست مجرد مجموعة من الأفكار والمبادئ التي تبرر بها السلطة القائمة نفسها في وعي رعاياها، ولا هي مجرد صورة زائفة عن واقع مختلف عنها، بل هي جزء من تقنيات السلطة الأمنية؛ ذلك لأن هذه السلطة كي تعمل بكفاءة فيجب عليها أن تأخذ في حسابها حرية الأفراد: ما الذي يرغبون في فعله وما لا يرغبون. فلأن السلطة الأمنية لا تضع حدودا وقيودا مثل السلطة الانضباطية، بل تعمل على الوسط المحيط بالأفراد، فهي تستطيع إشراط أفعال وسلوك الأفراد بطريق غير مباشر( 26)، فهي لا تضبط وتنظم هذه الأفعال ذاتها بل تتحكم فيها عن طريق إدارة الوسط المحيط بهم. لا تضطر السلطة الأمنية التدخل المباشر في مجال الفعل الفردي، بل تتحكم في البيئة التي يتم فيها هذا الفعل الفردي. إن الممارسة الأمنية الجديدة للسلطة تبدو وكأنها تترك الأفراد أحرارا بالفعل في حين أنها سيطرت مسبقا على مجال فعلهم.
لكن لن تتعامل السلطة الأمنية مع أفراد أحرار حرية مطلقة، إذ لو كانوا كذلك لن تستطيع حكمهم من الأصل، بل سوف تتعامل معهم باعتبارهم كائنات طبيعية لديها دوافع طبيعية، وسوف تكون هذه الدوافع الطبيعية هي مدخلها إليهم. وأقوى دافع طبيعي لدى الأفراد هو الرغبة desire. فهي الشئ الوحيد الذي لا يمكن إلغاؤه من الطبيعة البشرية أو حتى تجاوزه أو تعديله. والرغبة هي التي تمكن السلطة الأمنية من ممارسة عملها عن طريق السماح للأفراد بأن يسلكوا وفقها. وتتمثل هذه الرغبة في السعي نحو المصلحة الشخصية. ومعنى هذا أن السلطة الأمنية بدلا من أن تضع القيود والحدود على الأفراد، تسمح لهم بأن يسعوا لمصالحهم الشخصية، وسعيهم هذا هو ما ستستخدمه السلطة الأمنية في إدارة السكان. فهي لن تتعامل مع أفراد لا يمكن التنبؤ بأفعالهم، بل مع أفراد تعرف مسبقا توجهاتهم، فهي كلها نحو المصلحة الشخصية. وما يبرر لها ذلك أن المصالح الخاصة سوف تتوجه تلقائيا نحو التوازن. وفي هذا السياق السلطوي الجديد يظهر مبدأ جديد للتعامل مع الأفراد وهو المبدأ النفعي Utility( 27). ولذلك فالنفعية ليست مجرد فلسفة متفقة مع الطبيعة البشرية باعتبارها راغبة دائما وتسعى نحو المنفعة - كما نظر إليها النفعيون أنفسهم- بل هي أولا وقبل كل شئ تعبير عن تعامل جديد مع السكان وفق تقنيات السلطة الأمنية. كانت السلطة الانضباطية تضع القيود والحدود وتقول "لا" كثيرا، أما السلطة الأمنية فهي تقول "نعم" دائما. والمهم في الأمر هو: على ماذا تقول نعم؟ تقول نعم للرغبة والمصلحة الشخصية، لأنهما جزء أصيل من ضرورات الممارسة الأمنية الجديدة للسلطة.
فوكو والليبرالية الجديدة:
تتمثل الانتقادات المعتادة لليبرالية الجديدة في كونها:
1. تفصل بين الاقتصاد والمجتمع لأنها لا تنتبه للأبعاد والآثار الاجتماعية للترتيبات الاقتصادية.
2. تعمل على غزو المجتمع عن طريق منطق رأس المال وإخضاع كل العمليات الاجتماعية لتراكم رأس المال النقدي
3. تقضي على الولاءات التقليدية للأفراد بأن تجعلهم منعزلين على نحو متزايد، وتعمل على تحلل الهويات الاجتماعية.
4. تضع ترتيبات اقتصادية وسياسية جديدة تسودها الفوضوية من جراء زيادة المرونة الاقتصادية Flexibility والإنتاج اللين والمرن Lean Production.
وبدلا من أن ينشغل فوكو في نقد الليبرالية الجديدة من منطلق هذه الانتقادات التقليدية، والتي تنظر إليها على أنها أيديولوجيا غير متفقة مع حقيقة المجتمع وقوانينه الأصيلة، أو أنها رؤية خاطئة لكيفية عمل الاقتصاد وتمفصله مع المجتمع، يعاملها على أنها جزء من تقنيات السلطة الجديدة التي يضمها مصطلح الحوكمة Governmentality؛ فالسياسات الليبرالية الجديدة تخلق البيئة المناسبة التي تمكنها من ممارسة عملها( 28)، إذ هي لا تستطيع أن توجد إلا في ظل انفصال ما بين الاقتصاد والمجتمع، وبالتالي تعمل على خلق وتدعيم هذا الانفصال منذ البداية.
وهي كذلك لا تستطيع أن تعمل إلا مع أفراد منعزلين عن هوياتهم الاجتماعية التقليدية، وبذلك تعمل على عزل الأفراد أولا كي تقدم حلولا للظاهرة التي خلقتها، والمتمثلة في زيادة مرونة الأفراد وتعاظم قدراتهم التكيفية مع النظام الاقتصادي السائد الذي يزداد في المرونة والفوضوية.
وهي كذلك تتعامل مع الاقتصاد من منطلق السياسات النقدية Monetarism، ولذلك تعمل على التحول المستمر للاقتصاد إلى العمليات المالية وذلك كي تتمكن من التعامل معه بحلولها المالية.
كل هذه الترتيبات الليبرالية الجديدة ليست مجرد أفكار زائفة أو أيديولوجيا، بل هي خلق لبيئة مناسبة لممارسة السياسات الليبرالية، إذ هي تعمل على خلق الواقع الذي تحكمه. وهذا ما يقصده فوكو بالحوكمة؛ فهي لا تتمثل في إدارة موضوعات جاهزة وجودها قائم بالفعل، بل في وضع الإطار أو المجال الحيوي الذي تمارس فيه الليبرالية الجديدة سلطتها. والحقيقة أن فكرة المجال الحيوي هذه مناسبة تماما للمناخ الذي تخلقه الليبرالية الجديدة، ذلك لأن فوكو قد ربطها بالسلطة الحيوية Bio-power، السلطة على السكان من حيث هم كائنات بيولوجية يعيشون في وسط بيئي معين. ونلاحظ في هذا السياق أن المجال الحيوي هو المفهوم الذي ظهر في الفكر السياسي الألماني قبل ظهور النازية التي استفادت منه بعد ذلك. وما له دلالة أن فوكو عندما يدرس الشروط التاريخية التي نشأت فيها الليبرالية الجديدة يتناول المدرسة الألمانية لليبرالية الجديدة أثناء وبعد الحرب العالمية الثانية والتي أثرت على مدرسة شيكاجو الأمريكية. ويبدو أن الليبرالية الجديدة للمدرسة الألمانية قد استفادت من مفهوم المجال الحيوي الذي كان حاضرا بقوة في السياسة النازية آنذاك. وهكذا نجد ارتباطا بين مفهوم المجال الحيوي الذي ظهر في سياق السلطة الحيوية منذ نهاية القرن التاسع عشر واستفادت منه النازية، ونمط السلطة الذي تمثله الليبرالية الجديدة من حيث أنها تمارس على مجال حيوي، لأنها في الأساس تقنية سلطوية لتنظيم مجال حيوي يحوكم الأفراد وبيئاتهم.
خلاصة:
كان الهدف الأساسي لدراسات فوكو هو تحليل السلطة، ولم يأت نقده لليبرالية إلا في سياق تلك الدراسات. ولذلك تعامل مع الخطاب السياسي الليبرالي ومع الممارسات السياسية الليبرالية باعتبارها متقاطعة مع موضوعات دراسته، مثل خطاب الجنون، وخطاب العلوم الإنسانية، وخطاب الطب العيادي، وأخيرا تاريخ نظم المراقبة والعقاب وموضوعات الجنس والسلطة الأمنية والسلطة الحيوية في محاضراته الأخيرة.
والحقيقة أن نقد فوكو لليبرالية يعد تمثيلا جيدا لما كان يقصده بتقاطع المعرفة والسلطة، وتشابك العلاقة بينهما في الحداثة الأوروربية، بحيث تنتج السلطة الحقيقة، وتعيد المعرفة بدورها إنتاج السلطة. فالليبرالية كما كشفت تحليلات فوكو هي من المواضع التي تتمفصل عندها المعرفة والسلطة، ذلك لأنها تقدم شكلا معرفيا خاصا عن الإنسان والمجتمع والسياسة، تجسد في نظريات تعاقدية وحقوقية، وتقدم في نفس الوقت آليات انضباطية سلطوية؛ وأخيرا يكشف فوكو عن تقديمها لآليات حيوية للسلطة الجديدة التي يضع لها مصطلح الحوكمة. وقد كشف فوكو عن أن هذا التقاطع بين المعرفة والسلطة لا يمكن استيعابه وفق مبحث نقد الأيديولوجيا، فالليبرالية حسب تحليلاته ليست مجرد أيديولوجيا بل هي قبل كل شئ ممارسات للقوة وترتيبات سلطوية جديدة. لكن على الرغم من أن فوكو يرفض النظر إلى الليبرالية على أنها أيديولوجيا، أي مجموعة من التصورات الخاطئة والأوهام الزائفة التي تعتم على حقيقة المجتمع، إلا أننا نستطيع أن ننظر إلى الليبرالية على أنها أيديولوجيا بمعنى آخر؛ إنها أيديولوجيا مادية، أو كما قال ألتوسير: الوهم الضروري عمليا. فهي أيديولوجيا مادية لأنها لا تزيف وعيا ولا تبرر شرعية سلطة ما، بل لأنها تفرض ممارسات وآليات معينة لممارسة السلطة، فهي لا تخدع الوعي أو تشوهه، بل تشكل الواقع الحقيقي الذي تحكمه السلطة؛ أي تنتج الفرد الذي سوف يكون موضوعا للسلطة بعد إنتاجه.
1) ميشيل فوكو Michel Foucault (1926-1984)، أحد أبرز الفلاسفة الفرنسيين في القرن العشرين. شغل كرسي الأستاذية بالكوليج دو فرانس في تخصص "تاريخ أنساق الفكر" من 1969 وحتى وفاته. انشغل بتحليل خطاب العلوم الإنسانية والطبية والقانونية، وتناول في محاضراته الأخيرة موضوعات المرض النفسي والجنس والسلطة الحيوية وتأويلية الذات.
2) Michel Foucault, Security, Territory, Population. Lectures at the College de France (1977-1978). Translated by Graham Burchell. (Basingstoke and New York: Palgrave Macmillan, 2007), p. 117.
3) ميشيل فوكو: يجب الدفاع عن المجتمع. دروس ألقيت في الكوليج دي فرانس لسنة 1976. ترجمة وتقديم وتعليق د.الزواوي بغورة. دار الطليعة، بيروت 2003. ص 66-67.
4) المرجع السابق، ص 68.
5) Michael Foucault: "Two Lectures", in Michael Kelly, Critique and Power: Recasting the Foucault/Habermas Debate. (Massachusetts: MIT Press, 1994), pp. 26-27.
6) ميشيل فوكو: المراقبة والمعاقبة. ولادة السجن. ترجمة على مقلد. مركز الإنماء القومي، بيروت 1990، ص. 65.
7) ميشيل فوكو، "بحثان حول الفرد والسلطة" في: أوبير دريفوس وبول رابينوف: ميشيل فوكو، مسيرة فلسفية. مركز الإنماء القومي، بيروت 1989، ص 194- 198.
8) أ.د محمد علي الكردي: نظرية المعرفة والسلطة عند ميشيل فوكو. دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 1992. ص 415.
9) فوكو: المراقبة والمعاقبة. ص 65-66.
10) فوكو: يجب الدفاع عن المجتمع، ص 108-112.
11) المرجع السابق: ص 111-112.
12(Foucault: "Two Lectures", P. 28.
13) أ.د محمد على الكردي: المرجع السابق، ص 458-459.
14) يقسم الباحثون أعمال فوكو إلى قسمين حسب المنهج المستخدم أو طريقة التحليل في كل قسم منهما: الأركيولوجيا والجينيالوجيا. وتنتمي إلى الأركيولوجيا أعمال مثل "الكلمات والأشياء"، و"نشأة العيادة"، و"أركيولوجيا المعرفة" و"نظام الخطاب"، وفيها يحلل فوكو الخطابات المنتجة في حقل العلوم الإنسانية والطبية؛ وتنتمي إلى الجينيالوجيا أعمال مثل "تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي" و"المراقبة والمعاقبة" و"تاريخ الجنس". الأركيولوجيا هي شكل البحث الذي يكشتف فيه فوكو آليات تكون الذات في خطابات العلوم الإنسانية والطبية،أما الجينيالوجيا فهي البحث الذي يكتشف آليات تكون الفرد عبر نظم الضبط والعقاب والسياسات الجنسية وطرق التعامل مع الجنون. أنظر في ذلك:
أوبير دريفوس وبول رابينوف: مرجع سابق، ص 5-7.
والحقيقة أن الجزء الجينيالوجي من أعماله هو الأوضح ارتباطا بموضوع هذه الدراسة، ولذلك سوف نركز عليه.
15) فوكو: المراقبة والمعاقبة، ص 204.
16) Foucault: "Two Lectures", P. 29.
17) فوكو: المراقبة والمعاقبة، ص 143.
18) المرجع السابق: ص 225.
19) المرجع السابق: ص 226.
20) محمد على الكردي: مرجع سابق، ص 453 – 454.
21) فوكو: المراقبة والمعاقبة، ص 181.
22) Foucault, Security, Territory, Population, P. 11
23) Ibid., P.12
24) Ibid. P.41.
25) Ibid, P. 42.
26) Ibid, pp. 48-49.
27) Ibid, pp. 71-72.
28) Lemke, Thomas 2001: “The Birth of Bio-Politics” – Michel Foucault’s Lecture at the Collège de France on Neo-Liberal Governmentality, in: Economy & Society, Vol 30. No. 2, pp. 190-192.
29) Foucault, M. (1979b) ‘Governmentality’, Ideology & Consciousness 6 (Summer): 5–21.
المراجع
Foucault, M ‘Governmentality’, Ideology & Consciousness 6 (Summer) 1979: 5–21.
Foucault, Michel, Power/knowledge: selected interviews and other writings 1972-1977, Harvester press , 1980
Foucault, Michel, "Two Lectures", in Michael Kelly, Critique and Power: Recasting the Foucault/Habermas Debate. (Massachusetts: MIT Press, 1994)
Foucault, M. ‘The Birth of Bio-Politics’, in Ethics: Essential Works of Foucault 1954–1984, ed. P. Rabinow, vol. 1 of three vols. London: Penguin Books, 2000
pp. 73–80.
Foucault, Michel, Security, Territory, Population. Lectures at the College de France (1977-1978). Translated by Graham Burchell. (Basingstoke and New York: Palgrave Macmillan, 2007)
Howarth, David “An Archaeology of Political Discourse? Evaluating Michel Foucault’s Explanation and Critique of Ideology”, POLITICAL STUDIES: 2002 VOL 50, 117–135
Lemke, Thomas 2001: “The Birth of Bio-Politics”–Michel Foucault’s Lecture at the Collège de France on Neo-Liberal Governmentality, in: Economy & Society, Vol 30. No. 2, pp. 190-207.
Lemke, T. (2002) ‘Foucault, Governmentality, and Critique’, Rethinking Marxism 14(3): 49–64.
Ojakangas, Mika “Impossible Dialogue on Bio-power: Agamben and Foucault” Foucault Studies, No 2, pp. 5-28, May 2005
د. محمد علي الكردي: نظرية المعرفة والسلطة عند ميشيل فوكو. دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 1992.
ميشيل فوكو، "بحثان حول الفرد والسلطة" في: أوبير دريفوس وبول رابينوف: ميشيل فوكو، مسيرة فلسفية. مركز الإنماء القومي، بيروت 1989
ميشيل فوكو: المراقبة والمعاقبة. ولادة السجن. ترجمة على مقلد. مركز الإنماء القومي، بيروت 1990
ميشيل فوكو: يجب الدفاع عن المجتمع. دروس ألقيت في الكوليج دي فرانس لسنة 1976. ترجمة وتقديم وتعليق د.الزواوي بغورة. دار الطليعة، بيروت 2003.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق