نظرية العقد الاجتماعي من هوبز إلى
روسو
عبد العزيز لبيب*
1- تعريفات ومعان أُولى:
ليست فكرة "العقد" أو "الميثاق" أو "العهد" أو "الاتفاقية" في حد ذاتها أو ما شابهها من المعاني التعاقدية فكرة جديدة من اختراعات الأزمنة الحديثة في أوروبا؛ إنها موجودة مُذْ قامت تجمعات ومبادلات بين الناس أفرادا كانوا أم مجموعات؛ أُسَرا كانوا أم قرى أم مدنا أم ممالك. ويلفاها المرء متغيرة في صيغ مختلفة بحسب طبيعة العلاقة أو -على وجه الدقة- بحسب طبيعة الرابطة التي تربط بينهم، أهي روحية، أم اقتصادية، أم اجتماعية، أم سياسية، أم عسكرية، الخ. كما يلفاها متحولة من حقبة تاريخية إلى أخرى، ومن ديانة إلى أخرى، ومن ثقافة وفكر إلى آخريْن. فكلما كانت رابطة بين الناس وحصل اتفاق وتهيأ لهم أن يحصّنوا الرابطة من الانخرام ويهيئوا للاتفاق شروطَ الثبات والتحقق - قام بينهم عقد مضمر أو صريح، باللسان أو بالقلم، بالمجاز أو بالحقيقة، بالاختراع أو بالعرف. وهو ما يشترط وجود طرفين اثنين على الأقل لإجراء العقد، فإذا وُجِد الطرفان وجب أن يكونا راشديْن؛ لأن العقد لا يكتسب صلوحيته إلا بتوفر شرط حرية الإرادة والاختيار. وما الغاية من العقد؟ الغاية هي تحديد حق كل متعاقد أو حصته. وما الداعي إلى هذه الشروط؟ إنها قوة الإلزام التي من دونها يصير الاتفاق لاغيا ونسيا منسيا. وهكذا، فإن ما يسوغ العقد تسويغا عقليا - ومنه معقوليّة كل تعاقد بين إرادات بشرية حرة ومتساوية - هو الإلزام والجبر بالحقوق المعترف بها منذ الأصل. وهذا ما يقود إلى السؤال التالي: إذا أُبرِم عقدٌ بين طرفين فمن الراعي للعقد، ومن الحَكم بين الطّرفين إذا تنازعا على تحقيقه أو على تأويل بنوده كليا أو جزئيا؟ الفيصل بينهما إنما هو القانون. على هذا النحو تكتمل المادة والصورة، المضمون والشكل، الذي بمقتضاهما يكتسب العقد معناه ومشروعيته؛ أي معقوليته. وجود القانون -مهما كانت صِيَغُه بدائية- هو -إذن- ما يحوّل الالتزام المعنوي والأخلاقي إلى إلزام وإلى إجبار بفعل كابح أو وازع. الضميرُ يوعِزُ والقانونُ يزَع. إن القانون هو الذي يمنح العقدَ الرّجحانَ على الهوى والإنكار، من هنا يُفهم كيف أن العقود والمواثيق والمعاهدات والاتفاقات تلازمت -في غالب الأحيان- مع القانون، لعل من بواكيرها الغابرة قانون حمّورابي؛ ثم تطورت حتَّى تكاملت في صيغة نظرية نسقية في القانون الروماني. وإذا قُصِر النظرُ على الغرب اللاتيني تبيّن أن خطوة كبيرة قد حصلت في القرون الوسطى؛ إذْ أسهم اللاهوت وفقه القانون وفلسفة الحق الإلهي إسهاما فعالاً في تنمية النظريات التعاقدية وترتيبها أولا، ثم بتوسيع دائرة القانون الطبيعي وتفعيلها ثانيا.
وإذْ يتبيّن ممّا سبق كيف أن فكرة العقد ليست من اختراعات الأزمنة الحديثة، فما عساه يكون جديدها إذن؟ وأي مستحدث فيها يسوّغ الإحالة رأسا إلى هوبز ولوك وروسو والرجوع إلى نظرية العقد عند هؤلاء الأعلام الثلاثة تحديدا؟
والجواب هو أن الجديد في الحداثة الأوروبية كون قيام المجتمع وتكوين الدولة صارا -من البدء- يشترطان عقدا بين مشتركين في الاجتماع أولا، وبين حاكم ومحكوم ثانيا. إنّ ما استحدثته النظرية السياسية منذ القرن السابع عشر هو قولها بعقد أصلي، تأسيسي أو تكويني، لا سابق له ولا لاحق، هو العقد الاجتماعي، بما هو شرط الشروط لتسويغ الاشتراك بين أفراد البشر الطبيعيين وتفسير قيام المجتمع العام والدولة؛ فيؤدي -من هذا المنظور- وظيفة تخطيط هندسي لتأنيس الإنسان بترويضه مدنيا وسياسا أوّلا، وبتقييد الحكم ثانيا، فيمنح الكيانات الاصطناعية الناشئة شرعيّة دنيويّة لا تكتسبها من دونه.
ولكن لندقق النظر أولا في ماهيته وحدوده؛ يتعين العقد -في جوهره- على أنه اتفاقية مبرمة بين طرفين اثنين على الأقل، يكونان مستقلين وراشدين ويتمتعان بإرادة. ولئن تقاربت مواقف أهل الرأي من فقهاء قانون وفلاسفة تعاقديين حول المقاصد الكبرى من الاتفاقات والتواضعات المدنية؛ فقد اختلفوا -بالمقابل- في موضوعها وأطرافها ووسيلة تحقيقها:
- فمنهم من يرى أن العقد يكون بين كل فرد وبين جميع الأفراد الآخرين فردا فردا، لصالح قوة ثالثة تكون فيصلا بينهم ولا تكون طرفا في العقد (هوبز)؛ بينما يرى آخر أن العقد يبرم بين كل فرد -فردا فردا- وبين الجماعة برمتها أي بين كل جزء وهو الإرادة الخاصة وبين الكل وهو الإرادة العامة (روسو).
- ومنهم من يرى أن من شروطها المطلقة التفريط في جميع الحقوق عدا حق البقاء والحياة بإيجاد قوة عليا ضامنة للسلم والأمان (هوبز)؛ بينما يرى فيها آخر مبادلة حرية (طبيعية) بحرية (مدنية) أعقل فأدوَم، وهو حال روسو، وثمة من ذهب إلى حدّ استلزم أن تكون أداةٌ إضافية لتأمين حقوق طبيعية من المحال على الإنسان التفريط فيها اللهم أن يفقد الصواب والعقل (لوك).
ويتضمن تعريف العقد الاجتماعي علامتين: واحدة سالبة، والأخرى موجبة:
- فأما تعريفه بالإيجاب فيقرر أن العقد فعل إراديٌّ أصلي وأوحد وبدئي غير قابل للمعاودة، تجريه موجودات عاقلة لإنشاء اتحاد اجتماعي هو المجتمع المدني، ووحدة سياسيّة هي المجتمع السياسي، وهكذا فلا شيء يسبق العقد اللهم إلا إرادة إجرائه. وإنما كان كذلك لأنه أصل السلطة المدنية المؤسسة للحق السياسي ومبدؤها. وهو إرادي؛ لأنه يندب الناس إلى الخروج من حالة التوحد والطبيعة، ويندبهم إلى الاجتماع في جماعة مدنية من غير تحريم البقاء خارجها لمن أراد ذلك(1).
- وأما التعريف بالسلب فيُستخلَص استخلاصا من أن انعدام العقد يعني أن الغلبة تكون للقوّة على القانون، وللعصبية على الوازع، وللتقلّب على الاستقرار، وللحرب على السلم. وما قام على القوة تنافى مع القانون ففقد المعقولية والمشروعية مطلقا؛ إذْ القوة متقلبة ومتحولة بينما القانون واحد ثابت.
ولأن العقد فعل إجرائي فإنّ له مبدأ يحركه ويوجهه وهو مبدأ التمييز بين عقد الاشتراك وعقد الحكم؛ فأما الأول فهو ما به يتّحد الحشد من البشر الكثيرين في كيان اجتماعي واحد يسمَّى هئية اجتماعية أو جسما اجتماعيا. وأما الثاني فهو ما به تقبل الهيئة الاجتماعية المبتكَرة الانصياعَ لقوة سياسية ذات سيادة. وبفضل هذا التمييز نرى العقد وقد منح عقد الاشتراك أسبقيةً وأولويةً على عقد الحكم: فللأول على الثاني أسبقية من حيث التأسيس، وأولوية من حيث القيمة(2).
وبناء على ذلك يفضي العقد إلى تشكيل نوعين من الاستقلالية:
أوّلا، استقلالية الفرد في دائرة عيشه الطبيعي عن دائرة التنظيم المدني.
ثم تتلوها -ثانيا- استقلالية دائرة العلاقات المدنية عن دائرة التنظيم السياسي. فالأولى تُعنى بـ"الإنسان"، والثانية بـ"المواطن"، على نحو ما يرى روسو الذي يكتشف في هذه القطيعة مكمنا لأزمة أعمق، وهي أزمة الوجود الإنساني برمته.
ومع ذلك فإن هذا التمييز الشكلاني لا يعني أن الجماعة البشرية المنظمة يمكنها أن توجد، وأن تدوم خصوصا، من دون تنظيم سياسي؛ أي من دون دولة.
مفاد الأمر مما سبق بيانه أن المجتمع التعاقدي لا يجوز تصوّره إلا محمّلا بـطابع مركب اصطناعي وتلك هي حقيقة كل ما هو ناتج عن إرادة بشرية. وأكثر من ذلك يزعم فلاسفة العقد الاجتماعي في القرنين السابع عشر والثامن عشر في أوروبا -ومنهم جون لوك على وجه الخصوص- أنه كان يمكن للإنسان أن يدوم في وضعه الطبيعي دون أن يتحول إلى إنسان مدني وإلى مواطن؛ إذْ من الجائز للإنسان في الوضع الطبيعي أن يعيش منفردا ومتدبرا أمره بمقتضى الناموس الذاتي، مدركا للخير وللشر، وضامنا لأسباب عيشه، على نحو يقرره لوك كالتالي: "[الحالة الطبيعية] هي حالة الحرية الكاملة في تنظيم [البشر] لأفعالهم والتصرف في ممتلكاتهم وأشخاصهم كما يتراءى لهم، دون استئذان أو اعتماد على إرادة أي شخص آخر"(3).
فماذا يعني هذا الكلام؟ إنه يعني أولا أن أرسطو ومن بعده ابن خلدون قد أخطآ - في نظر فلاسفة العقد الاجتماعي - عندما قالا بأن الإنسان حيوان مدني بالطبع، والحقيقة في نظر التعاقديين أن الاجتماع الإنساني يشترط إقامة عقد اجتماعي حر وطوعي؛ لذلك ارتبطت إرهاصات نظرية المجتمع المدني بالنظريات التعاقدية الحديثة التي قال بها هوبز، ولوك، وروسو، وسميث، ومن بعدهم كنط ولو بدرجة أقل. ويعني -ثانيا- النظر إلى مبادئ الحكم السياسي من زاوية المحكومين أيضا، لا من زاوية الحكام حصرا. فلقد سلكت هذه النظرية طريقها الطويل والشاق في الفكر الغربي بعنوان أن يستعيد الأفراد حقوقهم الطبيعية من الدولة ذات المركزية الشديدة والحاكمة بلا قيد ولا شرط. ويعني -ثالثا- أن "دولة القانون" لا تحصل طبيعتها تامة إلا إذا تجردت من شطط نموها ومن تضخم هيئتها وجناحها، فتقلصت وظائفها الرئيسة إلى حدود الدائرة الحقوقية، كأن تحل النزاعات بين مواطنيها في الداخل، وكأن تحمي السيادة الوطنية في الخارج. أما القاعدة الاجتماعية والاقتصادية وما تبع وشابه ذلك من العلاقات -وهي القاعدة المدنية- فتمكث "حرة" أو " طليقة"، كما تقول به فلسفة جون لوك (الرسالة الثانية للحكم المدني)(4).
أما الآن وقد بدأ يتضح لأفهامنا ملمحٌ تعريفي أّولي للعقد الاجتماعي وضوحا لا يخلو من مساوئ الإجمال والتعميم، وجب علينا بيانُ أوجه الاختلاف بين أعلام نظرية التعاقد من الفلاسفة بناءً على القاعدة العامة التي تجمعهم والتي كنا بشأن النظر في أبرز عناصرها الدالة.
2- هوبز ودولة الوازع عن العدوان الطبيعي في الإنسان:
لَمّا كان هوبز (1588-1679) ينشغل بمبادئ الفلسفة السياسية وبمبادئ القانون، كانت التنظيمات والجماعات التقليدية قد بدأت -من قبلُ- تدبُّ فيها عناصرُ التفكك والانحلال، فصارت آيلة إنْ للاندثار وإنْ للمقاومة عبر التحول والتكيف مع جديد الأحوال. وبالمقابل كانت الفردانية النّزّاعة إلى الحيازة الشخصية لخيرات العالم وإلى بسط سلطانها وسيادتها في الأخلاق والسياسة والذوق أيضا تسري في كيان إنجلترا وسائر البلاد الغربية. إنها عبارة على مملكة جديدة هي مملكة الفرد؛ ألا وهو الفرد المغامر الذي يجد في لدن كريستوفر كولومبس رمزه التاريخي الحقيقي، وفي شخصية روبنسون كروزوي رمزه السردي والخيالي. وكان هوبز شاهد عيان على ذلك؛ ولكنه كان شاهدا قلقا، فبلغ حدَّ الاضطراب مما يحدث أمامه؛ وأكثر من ذلك كان يتوجس خيفة مما قد يحدث في مستقبل الأيام، كالخوف من الحرب الأهلية المحدقة بإنجلترا عصرئذ حتَّى أنه لجأ إلى فرنسا قبل وقوع المكروه.
طبعا نحن أبعد ما يكون عن تهويل هذا الموقف التجريبي في تعيين ما هو نظري، فلفلسفة هوبز نسقُها الصارم، كما لها منطقها الداخلي المتحكم في مقدماتها ونتائجها. ومع ذلك ليس ممكنا -بالنسبة لهوبس على الأقل- إغفال شرط الكتابة ذاك أو سياقها. ومن بين العلامات المميزة للأنثروبولوجيا الفلسفية التي أسسها هوبز -وهي علامات مشتركة بين البعد المعرفي الموضوعي لهذه الفلسفة والسياق البيوغرافي الذاتي الحافّ بها والخاص بحياة هوبز وبشخصيته- من الممكن ذكر العناصر التالية: النزعة السيكولوجية البينة هنا وهناك، والمغالاة -نسبيا- في إبراز عامل الترصد والتوقع والاحتراس الدائم، وإذكاء وظيفة المخيلة حتَّى في دائرة تشكل سلطان الدولة، والبحث عن مأمن حصين من المخاطر كلف ذلك ما كلف ولو بفقدان الاستقلال الذاتي والحرية الطبيعية.
ولكن هنا يداهمنا سؤال الأسئلة في ذلك العصر: أين نعثر على هذا الفرد إنثربولوجيَّا وكيف ندركه إدراكا نظريا "خالصا"؛ أي بمنآى عن ممكنات التجربة ومصادفات الوقائع التاريخية؟ وما السبيل إلى بلوغه والتعرف عليه في نقاوته الأصلية؟
ومن ثم تتأتى نزعة البحث في أصل الإنسان والمجتمع والمعرفة، وهي نزعة مشتركة بين فلاسفة العصر الكلاسيكي الأوروبي سواء في إنجلترا أو في فرنسا أو في ألمانيا، لا فرق في ذلك بين هذا الحقل وذاك أكان نظريا أم عمليا. ولم يكن الإنسان الطبيعي الذي بدأ هوبز باختراعه فلسفيا ليواصله لوك ثم روسو من بعده مثالا أسمى يُحتذي به أو إليه يسعى البشر ليحققوه في ذواتهم وعيشهم؛ وإنما كان افتراضا عقليا؛ أي محض نموذج معرفي، به تُقاس الاضافات المدنية والتربوية التي انضافت إلى الفطرة والطبيعة. فهذا الإنسان الفطري العائش في حالة طبيعية متخيَّلة هو بمثابة الخواء "النظري" الخالص، فيؤدي في المجال الانثروبولوجي ما يؤديه الخواء في مجال علوم الطبيعة الجديدة الناشئة عصرئذ للبرهنة على حركة الأجسام الساقطة في الفراغ وسرعتها.
أملا في الاقتراب من نموذج ذرّيّ ورياضي في حقل الأخلاق والسياسة يكون "يقينيّا" بفضل خلوّه من التباسات التجربة الحسية، ينبغي كذلك تجريد الفرد من جميع ما علق به من تكوينات نفسية تربوية، ومن أهواء وانفعالات اجتماعية، وممّا ترسب فيه من آثار المؤسسات السياسية واللاهوتية التي روّضته وبدلته. فإذا ما نَفَذَ الفيلسوفُ المتأمّل إلى هذا الوضع ما قبل الاجتماعي فعمّا سيتحصّل في نهاية هذه العملية الارتدادية إلى الماضي؟ إنه سيلقى -في نظر هوبز- الفردَ الطبيعي وقد تأصّلت في عمق أعماقه "إرادةُ قوة لا تقهر"(5)، لا كابح لها ولا وازع، إرادة تدفع به إلى ما يجاوز "الحب الذاتي -وهو لازم لحفظ الذات- إلى "الحب الشخصي"(6)، وهو رغبة تملكيّة (تحوّزية) همّها المطاولة ولو بإلغاء الآخر؛ إذْ لا سبيل إلى إشباع رغبة تشْحُذ المزيدَ من الرغبة غير هذا السبيل. ولماّ كان عطاءُ الطبيعة محدودا بينما كانت رغبة أفراد الإنسان غير محدودة، وغالبا ما تنحطّ على موضوع تنحط عليه رغبات أخرى منافسة، اشتد التنافس بينها وآل أمر أولئك الأفراد إلى الاقتتال وقد صار كل شخص منهم يعدّ الآخر "عدوا" له. وإذْ بات "الواحد من الإنسان ذئبا لأخيه الإنسان"(7) استقرت حالة من الفوضى والحرب الدائمة: "حرب كل شخص ضد كل شخص"(8)؛ غير أن الحركة ذاتها التي تحمل الإنسان على المطاولة والاستبداد بالغير تستبطن شعورا غائر العمق وشديد القوة وهو الرعب من الموت، هذا السيد المطلق.
الموت وحده -في فلسفة هوبز الأنثروبولوجية والسيكولوجية- هو ما سيحمل الإنسان على التفاوض "الوجودي"، أو قُلْ: التفاوض "الحيوي"، مع أشباهه من البشر، وكأنّ لسان حاله يقول: لتَدْحَرْ شَرِّيتَك في سريرة نفسك، وتَخَلَّ عن ذئبيتك وسأفعل تماما ما ستفعل، لتُلق بسلاحك وسألقي بسلاحي، ولنضع كل ما سنتجرد منه من سلاح ومن قوى فطرية ومن حقوق طبيعية بين يدي قوة ثالثة هي مجموع كل القوى الممكنة التي كانت لنا أجمعين، سنتصاغر بقدر ما ستكبر الدولةُ الحَكَمُ؛ ولكنها ستكون حامية كل واحد منا من عدوان غيره، وعوض أن يكون كل واحد منا ذئبا يفترس الأضعف منا لنصطنع قوة قديرة - لويثانا، أو تنّينا، أو وحشا هائلا، أو سمها ما شئت- تروّض جميع الذئاب البشرية وتلجمها وتلزمها باحترام حدودها. ولكن لتعلم أيضا أن اقتدار هذه القوة - وهي صاحب السيادة (الدولة)- ليس سببه جمعها لكل القوى الفردية وحسب؛ ولكن لأنها في حلّ أيضا من العقد الذي سيبرمه كل واحد مع الآخر، فهي إذ سترانا مقيّدين بعقد ستكون حرة من أي قيد أو عهد اللهم مع نفسها أو مع الله.
على هذا النحو يتعاقد كل فرد مع جميع أشباهه فردا فردا تعاقدا يتنازل بمقتضاه كل واحد منهم عن حقوقه الطبيعية وعن قواه التي يضعها بين يديْ قوة ثالثة، وهي في واقع الأمر قوة غير موجودة من قبل؛ وإنما أحدثها خوف المتعاقدين في ما بينهم، بلا تعاقد معها يقينا، وبلا وعي منهم على الأرجح. ولذلك فإنها لويثان بأتم معنى الكلمة: تلك هي الدولة بما هي قوة رهيبة ومتعالية وخيالية من ناحية، وبما هي ماكينة (آلة) دقيقة وذات معقولية قصوى من ناحية أخرى. ذلك هو إرهاص الليبرالية الحق كما صاغها هوبز في القرن السابع عشر صياغة فلسفية قلّ نظيرها. غير أن الجاحدين من الليبراليين الجدد -في عصرنا هذا- يقرأون هوبز في الخفاء "منزعجين" من التماسك المنطقي الصارم الذي يقود نظريته إلى حدودها القصوى: استبداد الدولة الليبرالية!
من قراء هوبز -بل ومن شرّاحه أيضا ونقاده، مثلما يفعل روسو في العقد الاجتماعي- من يعترض عليه باعتبار أن ما ينسبه إلى الحالة الطبيعية الأَحرى به أن ينسبه إلى الحالة المدنية وهي التي تتنازعها الأهواء والانقلابات والحروب الأهلية والثورات والفوضى، وهذا صحيح؛ غير أن الفحص جيّدا يقود إلى ملاحظة كيف -في نظرية هوبز التعاقدية- تسري مقاربتان متراكبتان، إحداهما بارزة صريحة، والثانية كامنة مضمرة؛ فأما الصريحة فهي ستاتيكية (سكونية)، وهي لكونها كذلك تقيم ذلك الفصل البنيوي القاطع بين حالة الفوضى الطبيعية، وحالة النظام المدني. وأما المضمرة فهي دينامية (حركية)، وهي لكونها كذلك تقيم ضربا من التواصل التاريخي بين الحالتين، بل وحتى التراكب التأويلي بينهما، فتشكلان بمقتضاه معْنَيَيْن اثنين، الواحد منها مستبطن في الآخر؛ فإذْ نقل هوبز كيفيات الحالة المدنية والسياسية إلى الحالة الطبيعية فإن في نسقه تدوم -بالمقابل- حالةُ العدوان مترسبةً في النفس الفردية، وتظل حالة الفوضى كامنة في المجتمعات المدنية كمون النار في الحجر، وهذا الكمون أو الاستعداد أو القوة هو بالتحديد ما يرجعنا إلى منطلق حديثنا عن هوبز، ونعني به التشاؤم السيكولوجي الرامي بظله على أرضية هوبز النسقية: ليست الحرب -تحديدا- باندلاعها بين عدويّن؛ وإنما الحرب أيضا بالتوتر الدائم المنذر باندلاعها، وكأن السلم حالة مؤقتة بين حربين. ومفاد ذلك أن حالة الطبيعة حالة مستترة، أو حالة بالقوة، كما يقول الفلاسفة، وهي مستعدة للإفصاح عن نفسها كلما اختل التوازن والميزان في المجتمعات المدنية القائمة وعمّ الاضطراب والفوضى: "فما دام البشر يعيشون من غير سلطان عام يحملهم جميعا على الاحترام فإنهم يكونون في تلك الوضعية المسماة بالحرب، وهذه الحرب هي حرب كل شخص ضد كل شخص"(9).
فكيف لمن صاروا بعدُ مواطنين وانضووا تحت سلطة دولة بفضل عقد أبرموه بعضهم مع بعض أن يديموا حالة السلم؟ ذلك هو شغل شاغل في فلسفة التعاقد الهوبسية.
بقي لسائل أن يسأل: ما حدود العقد وما حدود انصياع المواطنين شبه المطلق لسلطة صاحب السيادة؟ هذا سؤال يستعيد مركزية الخوف من الموت، ويتيح إثارة نقطتين مهمتين؛ لأنهما تبيّنان مدى "المنطقيّة"، أو قُلْ: "الاستدلالية" المتحكمة في نظرية هوبز التعاقدية في تعيين "منطق" هوبز السياسي وتعليل خطابه بما هو مِعْماريّة شديدة التماسك:
فأما أولاهما فتتصل بوزن الدولة ذي الثقل العظيم في نظرية هوبز التعاقدية، وهو ثقل لا يكافئه ولا يسوّغه سوى الداعي (السبب) إلى ابرام العقد، والمقصود به ذلك الخوف ذو الطابع المميّز، ألا وهو الخوف من الموت، وهو خوف غير جزئي؛ أي ليس من هذا الشيء أو من ذاك، وإنما هو حيوي وجودي وكلّي؛ لأنه خوف من فقدان الحياة.
وأما ثانية النقطتين فهي حدود الانصياع لقوة الدولة القاهرة: معلوم أن هوبز يجعل الحكم مطلقا أو يكاد، ولكن يحده أيضا بالشرط الأصلي الذي كان سببا في التعاقد، وهو صدّ العدوان وتأمين حق الحياة الذي من أجله تنازل الجميع عن سائر حقوقهم الطبيعية. ولكن ما العمل إذا استشعر أحدهم خطر الموت من أشباهه المتعاقدين معه، أثناء أوضاع معلومة كالفوضى العامة وزوال الحماية العمومية؟ تجيب "فيزياء" هوبز السياسية بأنه يحق للفرد -وقد وجد نفسه مجددا في وضع شبيه بالحالة الطبيعة- حماية نفسه بنفسه، حتى ولئن نقض -بالتبعية- العقد الأصلي. وما يصح على الفرد يصح على الجماعة من الأفراد، وهذا هو الاستثناء الأوحد عند هوبز، والذي يمكن نعته بالعصيان.
وحاصل الأمر هنا أن علاقة توازن فيزيائي بين الفعل وردة الفعل، ما بين الثقل والثقل المضاد، تقرن ما بين الوضع المدني والوضع الطبيعي، ما بين دواعي إبرام العقد ومدى النفوذ الذي للدولة، ما بين سبب الانصياع للقانون وسبب المروق عنه. وسوف تزداد -بعد حين- هذه المعادلة بين الفعل وردة الفعل إثباتا مع جون لوك، وهو صاحب نسق ليبرالي آخر شديد الاختلاف عن سابقه الهوبسي.
3- جون لوك: عقدُ تراضٍ لأجل دولة تشريع وتَقاضٍ
قلنا: إن الأمر يختلف عند جون لوك (1632-1704)، وهو الذي يعدّ أبًا روحيًّا لليبرالية الحديثة، فعلى الضد من هوبز يقف لوك ليقدم حالة الطبيعة كحالة مثلى دون اجتماع إنساني، ففيها يحيا الفرد من البشر حياة لها كل مقومات الوجود المستقل والمنظم بمقتضى القانون الطبيعي الساري نفوذه على جميع أفراد النوع البشري. وتعريف القانون الطبيعي عند لوك كونه سنة إلهية، أو قُلْ: قانونا فطريا وكليا يقام به العدل بين البشر في الحالة الطبيعية، ويظل بعد ذلك قاعدة تُسَنّ عليها قوانينهم ومؤسساتهم السياسية في الحالة المدنية متى انتقلوا إليها، وطالما لم يقاوموه، وطالما استعملوا العقل واحتكموا إليه. وهو ملزم لهم جميعا ولكل فرد منهم؛ ومفاده أنه بقدر ما يَلزم كل فرد من الناس أن يحمي حياته وأملاكه، وأن يحفظ حريته وسائر حقوقه الطبيعية -بما في ذلك حقه في إقامة العدل بنفسه كالاقتصاص من شخص اعتدى عليه وظلمه- يلزمه كذلك أن يحترم حقوق غيره من الناس وحقوق النوع البشري بأكمله. فإنه لمن المنافي للعقل -بحسب القانون الطبيعي- أن يقوم الشخص بتدمير ذاته؛ فهو ملك لخالقه من حيث هو مخلوق لا يحق له وضع حد لحياته. وبالمقابل، فإن حفظ الذات يستوجب حفظ النوع سواء في كله أو في كل فرد منه. وما يعنيه ذلك بالنظر إلى فلسفة لوك الليبرالية هو أن الحرية التي يتمتع بها الفرد الطبيعي، ولئن كانت واسعة النطاق بما لا يقاس، فليست مطلقة؛ وإنَّما مقيدة بقانون أو بناموس، وهو الناموس الطبيعي. وهذا الشأن هو الشأن كذلك بالنسبة للحالة الطبيعية، فهي -ولئن لم تكن منظمة تنظيما اصطناعيا- ليست بحالة فوضى.
وما سريان القانون الطبيعي على هذا النحو بين البشر إلاّ لأمرين: أولهما: أن العناية الربّانية قد نقشت -بحسب لوك- هذا القانون في قلب الإنسان. وثانيهما: أنه يعمل عمل القوة الفيزيائية لِماَ له من طابع كلي. فأما من حيث "ما في القلب"؛ أي ما في الشعور، فهو بمثابة الضمير الأخلاقي. وأما من حيث عنصره الطبيعي الكلي، فهو بمثابة العقل. ولذلك فإن وضع الإنسان "الطبيعي" وضع هانئ، بل ويكاد يكون كاملا، لما يسود الحالة الطبيعية من وئام وسلم بين هذه الذوات البشرية من غير أن يكبحها كابح أو يزعها وازع أو تحكمها مؤسسة سياسية. وفيها أيضا يكون الفرد مستقلا ومكتسبا لقدراته الجسمانية والمعنوية ولحقوق مقدسة، وهي:
أولا -الحرية، وتتعين عند لوك بالتمييز بين الحرية الطبيعية والحرية المدنية. فأما الأولى -وهي الطبيعية- فهي التي تقتضي -كما يقول- "ألاّ يكون الإنسان خاضعا لأية قوة عليا على الأرض، وألا يقع تحت إرادة إنسان أو سلطته التشريعية، وألا يكون لديه سوى قانون الطبيعة قاعدة يعمل بها"(10). وأما الثانية -وهي المدنية- فتقتضي "ألا يخضع الإنسان لأية سلطة تشريعية سوى تلك التي تقوم على الرضا بين الجماعة، وألا يقع تحت سيطرة أية إرادة أو أي قيد قانوني سوى ما يضعه المشرّع طبقا للأمانة التي عُهد بها إليه"(11). ومما تعنيه الحرية الطبيعية هو استقلال الفرد استقلالا حقوقيا في سياق "فراغ قانوني"، واستقلالا "اقتصاديا" من حيث تدبير وسائل العيش المباشرة؛ ولكن هذا الضرب من الاستقلال لا ينفي تبادل الأفراد المستقلين لثمار عملهم بعضهم مع بعض، ولا إبرام العقود والمواثيق بينهم(12)، بل ويوجب القانون الطبيعي التناسل البشري وإقامة الأسر الطبيعية لأجل حفظ النوع.
ثانيا - الملكية الطبيعية، وهي أشد المفاهيم "اعتياصاً" عند لوك؛ وذلك لتعدد معانيها واستخداماتها طَي الرسالة الثانية في الحكم المدني، وارتباطها المتشعب بمفاهيم وبمسائل أخرى، كالحرية، والعمل، والمال المنقول وغير المنقول، والمال العيني والمال الافتراضي، والملْك الخاص والعام، والمشاع والمحوّز. ولذلك فالملكية من أمُهَّاتِ المسائل لا تُدرَك دونها فلسفةُ لوك العملية والأنتربولوجية، ومنها فلسفته السياسية بالخصوص. ومن أهم معانيها -من منظور هذا البحث وفي حدوده الضيقة- كون الملكية الطبيعية هي -أوّلا وقبل كل شيء- ملكية الإنسان لشخصه ولبدنه ولحريته ولحقه في استخدام قواه كما يروق له؛ إذْ لا وجود للفرد من الإنسان -في نظر لوك- إلا بوجود الملكية الخاصة وبحرية التصرف فيها. غير أن قيمة لوك منظر الليبرالية الفذّ -في هذا الباب وفي عصره- لا تكمن في هذه التعريفات؛ وإنما في تحديد الملكية بحدود معينة ومعلومة؛ فإذْ كانت كل الأرض مِلْكا مشاعا بين البشرية جمعاء فإنّ العمل وحده هو ما يعطي للأرض قيمة مضافة تحّول قطعة منها من حيازة مؤقتة إلى ملكية قارة مشروعة ومحدودة بحدود العمل. لا يملك الإنسان إلا ما يمكنه أن يستثمره استثمارا مباشرا، سواء كان هو بنفسه أو بالتعاون مع أسرته. لذلك اشترط لوك تعميمَ الملكية الخاصة، وليس إلغاءها لتكوين مجتمع من الأحرار والمتساوين بإباحتها من ناحية، وبالحدّ منها من ناحية أخرى. ومن مفارقات فلسفة لوك -في عصر سيطرت فيه إنجلترا على العالم تجاريا وماليا- أن هذا الليبرالي اليوتوبي قد ألغى من نظام الملكية ملكيةَ المال النقدي.
ثالثا: المساواة الطبيعية، يحيل مفهوم المساواة إلى العلاقة والنسبة بين الأشياء أو بين الذوات العاقلة. وتتعين المساواة في الرسالة الثانية على أنها التكافؤ بين البشر من حيث الحقوق الطبيعية التي جاء ذكرها سابقا، ومن حيث واجب طاعة القانون الطبيعي، ومن أهم موضوعات المساواة الطبيعية هي: الناطقية (العقل) والحرية والحق في الحيازة والملكية وحق استخدام الفرد لقواه البدنية والذهنية؛ ولكن -وهَهُنا وجه المفارقة في هذا المفهوم- ليست قوى الأفراد الطبيعية متساوية، كالفرق بين من يولد بصيرا ومن يولد كفيفا. ولما كانت الملكية مرهونة بالعمل وكان العمل مرهونا بقوى الفرد، كانت الملكية متفاوتة. ولذلك يرى لوك أن المساواة بين البشر هي الصفة الطبيعية الوحيدة التي من الجائز أن تزول بإنشاء المجتمعات المدنية القائمة على التنافس، بل وحتى في بعض "التجمعات" الطبيعية. ولقد احتاط لوك من المجتمع التنافسي والقائم على التفاوتات فحَدَّ الملكية بحدود وشروط، من أهمها تلبية الحاجة المعيشية والتحوّز بالعمل وبما يضيفه من قيمة للأصل الطبيعي.
يرى القارئ- على هذا النحو- كيف أن المنعوت بفيلسوف الليبرالية قد عرَّف الإنسان الطبيعي بما هو كائن حرّ ومالك لشخصه ولثمار عمله، وله -أكثر من ذلك- من رجاحة العقل ما يجيز له التمييز بين الخير والشر، بين العدل والظلم حتَّى ليجوز له إقامة الميزان والاقتصاص لنفسه من ظلم الغير، والاقتصاص للغير من الغير: "لضمان مراعاة قانون الطبيعة الذي يرمي إلى السلام والمحافظة على الجنس البشري كله، وُضِع تنفيذ قانون الطبيعة في تلك الحالة في يد كل إنسان؛ بحيث إن كل شخص له حق في معاقبة المعتدين على هذا القانون إلى درجة تحول دون خرقه"(13).
وههنا يستعيد الاستدلالُ مسألةً كانت قد وُضِعت في سياق الحديث عن هوبز: ما الداعي -بحسب نظرية لوك- إلى تأسيس مجتمع تعاقدي بحيث ينضاف ما هو مصطنع إلى ما هو طبيعي، والحال أن الحالة الطبيعية حالة مُثلى من أيّ جهة قلّبتَها وقيّمتَها؟ يجيب لوك على السؤال محاججا بأن مخاطر الاقتصاص الشخصي -وخصوصا في حالات النزاع حول الخيرات والأملاك، وقصور الطبيعة البشرية عن إجراء العدل بميزان واحد منصف- هي ما يحوّل الشعور بالظلم إلى منطلق تنطلق منه رغبة الفرد في الثأر لنفسه من عدوان الغير عليه فيطبّق العدلَ بمقتضى هواه؛ أي بطريقة تحكمية وغير منصفة. فلما كان الجرم يصغر في عين فاعله، ويكبر في عين ضحيته اختل الوزن والميزان بسبب اجتماع الخصم والحكم في شخص من ينفذ الاقتصاص لنفسه بنفسه. يتبع ذلك باللزوم أنه تحاشيا لهذه النزعة الغاشمة التي تردّ على العدوان بالعدوان والمنذرة بالحرب وبانخرام الوضع الطبيعي ينبغي على الإنسان الخروج من الحالة الطبيعية إلى الحالة المدنية لوجوب التقاضي لدى قوة عليا ثالثة، هي السلطة المؤسسة التي غايتها صيانة الحق الطبيعي، أو قُلْ: هي الدولة الناشئة في أصلها الأصيل لأجل رفع المظالم عن المظلومين: "إن حب الذات [الحب الشخصي(14)] سيجعل الناس متحيزين لأنفسهم ولأصدقائهم، ومن ناحية أخرى ستحملهم الحدة والانفعال والانتقام على المغالاة في عقاب الآخرين، ولن ينجم عن هذا سوى الفوضى والارتباك. ومن ثم فلابد أن الله فرض حكومة لكبح هذا التحيز والعنف لدى الناس، وإني أسلّم تماما بأن الحكم المدني هو العلاج السليم لما في حالة الطبيعة من مساوئ، وهي مساوئ لا بد بالتأكيد أن تكون كبيرة عندما يكون للناس أن يصيروا قضاة في قضاياهم الخاصة بهم"(15).
على الضدّ من هوبز، فإن الدولة المأمولة التي كان لوك يرسم مبادئها في القرن السابع عشر هي ما يمكن وصفها بدولة "الحد الأدنى"(minima): وهي الدولة الحَكَم في الداخل؛ أي دولة التشريع والتقاضي بين الناس. ويكمن اقتدارُها وقوتُها في سيادة التشريع وتطبيقه. خلا ذلك فهي دولة متضائلة آفلة من حيث الأجهزة التنفيذية التي تحركها. ألسنا قبالة يوتوبيا ليبرالية مبكرة؟ هذا ما عابه الكثيرون على لوك. غير أن ما يهمنا أولا وقبل كل شيء إنما هو تماسك الاستدلال في نظرية لوك التعاقدية:
فعندما يوازي المتأمل جيّدا في نسق لوك السياسي ويوازن بين الحالة الطبيعية والحالة المدنية يستنتج أنّ هناك تواصلا بين الحالتين على الرغم من القطيعة التعاقدية؛ فالحالة الطبيعية كانت بعد مدنية من حيث جملة العناصر التي جاء عليها البحث، والحالة المدنية تستبقي العناصر الطبيعية، وفي مقدمتها القانون الطبيعي، بل وتكمن معقوليتها وكل ما يبرر وجودها ويسوغ مشروعيتها في تكفلها بضمان الحقوق الطبيعية وإجراء القانون الطبيعي بإقامة المؤسسات والقوانين الوضعية على قاعدته الصلبة. هذا التواصل بين الحالتين هو ما يجعل التعاقد عند لوك خاليا من الإكراه ومن المغالاة في الإلزام، أي من العنف المكبوت. وهنا ينبغي توضيح مسألة مهمة، ألا وهي وجود عهود ومواثيق بين الأفراد منذ هُمْ في الحالة الطبيعية(16). ولكنها عهود جزئية وتدخل في دائرة المبادلات بالخصوص. وأما "الميثاق" المجوّز للانتقال من الطبيعة إلى المدنية والذي تقول به الرسالة الثانية في الحكم المدني فهو ميثاق عام، ويخص دائرة الحق السياسي وتأسيس المجتمع المدني. صحيح أن لوك لا يعترض على فكرة العقد، ولكن العقد الذي يقول به ليس عقدا بالمعنى الدقيق للمصطلح؛ وإنما هو توافق "ناعم"، ويسميه بـ"الرضا"(consent)؛ فخلافا للعقد الذي يشترط إرادة وعزما يكون الرضا استعدادا فطريا. ومختصر القول أن الحالة الطبيعية هي -على نحو من الأنحاء- مجتمع منتظم لا تنقصه سوى المؤسسة المدنية السياسية لتأمين دوامه واستقراره. أيعني ذلك تقاربا في النظرية السياسية بين لوك وأرسطو؟ والجواب الجائز أن لوك هو الأقرب من أرسطو والأبعد عنه في آن؛ فهو الأقرب من جهة الاستعداد المدني في الفرد الطبيعي، وهو الأبعد لقوله بالحرية وبالاستقلالية لا كقيمة سامية أو كمعيار أساس وحسب؛ بل وكمبدأ طبيعي أيضا لا ينفصل البتة عن العقل، قرين الحرية الدائم. وهذه الاستقلالية الفردانية هي التي تجيز للوك القول بأن من لا يقبل راضيا بالدخول في المجتمع المدني حلال عليه أن يبقى خارج الدائرة الاجتماعية من غير أن يفقد حقوقه أو إنسانيته. وهذا مضاد لأرسطو الذي لا يستثني من نظام الجمعية الإنسانية سوى إله متعال وقدير، أو بشر متوحش ومارق عن الناموس الكوني(17).
نرى كيف أن القوة والقوة المضادة متكافئتان أيضا في الاستدلال اللّوكي: إنّ رخاوة ونعومة الحالة الطبيعية لا يكافئها سوى عقد رخو وناعم في البدء، تتلوه سلطة سياسية جوهرها تشريع القوانين وإجراء القضاء بين المواطنين في الداخل، والحرب والسلم في الخارج.
وكأننا بلوك يحدّ من شطط النزعة التعاقدية الهوبسية، فإنّ الفيلسوف الذي سيستعيدها على نحو صارم ويوجهها وجهة مخالفةً لوجهة هوبز الاستبدادية في الظاهر على الأقل -ولكنها مخالفة أيضا لليبراليّة لوك مهما وافقها في مسائل مثل الفردانية، والديموقراطية المشرِّعة، والشعب كجسم سياسي- فهو جان جاك روسو.
4- روسو: العقد ومعضلة سيادة "الجزء" أم سيادة "الكل"؟
"وُلد الإنسان حرّا، وفي كل مكان هو الآن يرسف في الأغلال". بهذه العبارة الشهيرة يستهل روسو الفصل الأول من مؤلفه في العقد الاجتماعي أو مبادئ القانون السياسي (1762)؛ ولكن لسائلٍ أن يسأل كيف تمت هذه النقلة الغريبة، وكيف تحقق الاستلاب؟ فلئن اكتسى النظام الاجتماعي طابع الحق المقدّس فهذا الحق لا يُستنبَط البتّة من الطبيعة، ولزم إذن أن يكون مؤسَّسا على اتفاقيات أصلية. فهل في هذه الأصول ما يسوّغ التبعية والوصاية والعبودية؟ تدفع مثل هذه التساؤلات بروسو إلى العودة نحو المجتمعات الأولى، ومنها مجتمع الأسرة، وهو أشدها ارتباطا بالطبيعة. فأما القول بأن في ارتباط الأولاد بأبيهم ما يبرر التبعية فمطعون فيه بحجة أن وصاية الوالد لا تدوم إلاّ طيلة الوقت الذي في أثنائه يحتاج الأولاد أن يُحفظ بقاؤهم؛ إذْ حالما تنفكّ هذه الحاجة، تنحلّ الرابطة الطبيعيّة. وأمّا بين البشر فإذا حصل أن استمرت هذه الرابطة فبمقتضى اصطناع مدني لا بمقتضى قانون طبيعي.
وأما حقّ الأقوى الذي يتعلل به أنصار القوة لتبرير التسلط فقائم على تناقض جذري بين الحق والقوة؛ وذلك أن للحد الأول (الحق) خاصية الثبات، وللحد الثاني (القوة) خاصية التحول، فليس "الأقوى قويّا بما فيه الكفاية أبدًا بحيث يكون سيّدا على الدوام"(18). إن علاقة القوة بين القوي والضعيف تتغير على الدوام فكيف للثابت -وهو الحق والقانون- أن يتغير معها؟ وإذن فإن كلمة "حقّ" مقترنة بالقوة هي من باب اللغو الذي لا يدلّ على شيء اللهم إلا الإيهام.
وأما القول بالعبوديّة الطوعية فمتهافت من أصله؛ إذْ إن في عدول المرء عن حريّته عدولا عن صفة الإنسان، ومتى اتصل الأمر لا بالأفراد وإنما بشعب بأكمله رضي بالعبودية واختارها فقد دخل عمله في باب الجنون الذي ينافي الرشد والعقل. زد على ذلك أن من يذعن لغيره إنما يأتي فعله اضطرارا لا بحكم إرادة حرة، وهَبْ أنّ من الجائز لأحد أن يبيع شخصه فكيف له أن يبيع أولاده أو رعيته؛ أي أن يبيع ما لا يدخل في حوزته الطبيعية؟
بقي أن هنالك من المؤلفين مثل غروسيوس من يعدّ الحرب أصلا لحقّ الاستعباد؛ إذْ يشتري المغلوبُ حياته بمقابلٍ، وهو حريته، غير أنه فات هؤلاء المؤلفين أن "العلاقة بين الأشياء -لا العلاقة بين البشر- هي التي تكوّن الحرب"، والحرب ليست تصريفا لأزمة بين أفراد البشر؛ وإنما بين دولة ودولة، أما المقاتلون فلا يواجهون بعضهم بعضا "بوصفهم بشرا، ولا حتَّى بوصفهم مواطنين، ولكن بوصفهم جنودا"(19).
على هذا النحو، تقود هذه الدحوضات المتتالية التي يعترض بها روسو على أهم الأطروحات الخاطئة والسائدة حتَّى في عصره إلى إقرار أطروحة مركزية مضادة ألا وهي لزوم اتفاقية أولى بين الناس يلزم الرجوع إليها، وهو ما يفترض أن "إجماعا قد حصل [بينهم] ولو مرّةً واحدة"(20)، وهذا هو الميثاق الاجتماعي، فكيف إذن يُستحدَثُ نظام مدني يتحد فيه كلّ واحد مع الجميع؛ وإذْ يطيع الجزءُ "الكلَّ" فإنه -مع ذلك- لا يطيع إلاّ نفسه، فيظلّ حرا كما كان من قَبلُ. لا بد إذن من إيجاد حلّ للمعضلة بفضل ميثاق اجتماعيّ هذا حده وتعريفه: "يضع كل واحد منّا شخصَه وكلَّ قدرته موضع اشتراك تحت الإمرة العليا التي للإرادة العامّة، ونحن نتقبل كجسم واحد كلّ عضو كجزء ٍ لا يتجزأ من الكلّ"(21).
بهذه الطريقة يكون مبدأ الإرادة العامة قد قام واستقر بقيام الكل واستقراره؛ ولكن الإرادة العامة لا تتحقق بالفعل إلا بممارستها، وهذه الممارسة هي السيادة التي لا غاية منها إلا الخير المشترك، ولأنه ليس صاحبُ السيادة إلاّ موجودا جماعيًّا لا يمكن لأحد أن يمثله سوى أن يمثل نفسه هو بنفسه؛ كانت السيادة غير قابلة للتنازل عنها أبدا. وكذلك هو الشأن بالنسبة للتجزئة، فالسيادة غير قابلة للتجزئة. وسببه أنّ الإرادة لمَاَّ كانت عامة تعلقت بـ: جسم الشعب، فكانت فعلا سياديا له حكم القانون؛ إذْ لو أنها تجزأت لخالفت عدم قابلية التنازل؛ فيكون ذلك خلفا قبيحا. أما أولئك الذين يقسّمون الإرادة العامة إلى قوى، وإلى إرادات، وإلى سلط تشريعية وأخرى تنفيذيّة، وهلمّ جرّا، فهم يخبطون خبط عشواء ويخلطون بين طبيعة السلطة السيادية وبين أشكال تعبيرها المختلفة، بين القانون وبين تطبيقاته، بين الأسباب وبين نتائجها. لا يعني ذلك أن روسو ضِدٌّ للتمييز بين دوائر السلطة، وهَهُنا يكمن اعتياص النظرية التعاقدية عنده: القول بوحدة السيادة لا يعني رفض تعدد تعبيراتها المختلفة؛ والقول بوحدة الإرادة العامة لا يعني رفض تعدد أدواتها المختلفة. إن الطعون الخطيرة الموجهة ضد هذه النظرية كاتهامها بالكليانية (الشمولية) مردود عليها بحجة أن "الكل" المهيمن -بالنتيجة، وبفضل اتحاد أجزائه- لم يكن -من قبلُ- إلا كلا نظريا أو متخيلا، بل قُلْ: كلا موهوما تعاقد معه الفرد الطبيعي الموجود الوحيد فعلا في ميدان التعاقد، والذي سيتحول إلى "حيوان" سياسي، وتتقوى فرديته من أول العقد الاجتماعي إلى نهايته. وهذا ما لا يمكن تفسيره إلا بمنطق المفارقة الساري في فلسفة روسو بعامة، بل وفي العقد الاجتماعي تخصيصا، يتبين لنا أن هنالك وفاقا غريبا في طيات هذا الكتاب بين النزعة الاصطناعية التي بدونها تفقد النظرية التعاقدية قوتها والنزعة الإنسانية التي تجعل من كتاب العقد الاجتماعي لا دفاعا عن الدولة ككل واحد، ولا عن السواد الأعظم من الناس الذين يقتسمون فيما بينهم الشعور والحساسية وحسب، وإنما عن الفرد أيضا، عن فرد يكون مستقلا استقلالا ذاتيا بقدر ما ينضوي في دائرة الكل، ويكون جزءا من الكل بقدر ما يكون فردا مستقلا بذاته(22).
وإذا كان ذلك كذلك، نجت الإرادة العامة من الخطأ والزيغان فهي دوما على الصراط المستقيم؛ إذْ "من المحال أن يُزرع الفسادُ في الشعب أبدَ الآبدين"(23). حقا يمكن للشعب أن "يُخدَع في غالب الأحايين" بسبب الاختلاف الشديد بين إرادة الجميع وهي مجموع الإرادات الجزئية، وإرادة الكل وهي الإرادة العامّة. "فإذا ما تغلبت المصالح الأنانية قامت المكائدُ وتكونت العَصَبيّة الجزئية [...]، صارت الإرادةُ التي لكل عَصَبيّة إرادةً عامّةً بالنسبة إلى أعضائها، وإرادة ًخاصّةً بالنسبة إلى الدولة؛ [...] وإذ ذاك لا يعود هناك إرادة عامّة؛ بل إنّ الرأيَ الغالب ليس إلاّ الرأيَ الجزئيّ"(24). ولكن الإرادة العامة الحقانية المتجسدة في الدولة لا تموت حتَّى ولو خُنِق صوتها، اللهم أن يموت الشعب بما هو كل وتنزرع العصبيات الجزئية فتموت الدولة. وهكذا يكون التعاقد سبيلا إلى الوحدة الوطنية.
ولئن سارت الإرادة العامة على الصراط المستقيم دائما فلأنّ موضوعها وطبيعتها متصفان بالعمومية: إنها عامة بالحقيقة لا بالمجاز من حيث طبيعتُها ومن حيث موضوعها، وهي عامة من حيث الفعل والانفعال لصدورها من جميع المواطنين وانطباقها عليهم أجمعين، وهي عامة من حيث أفعالها وإجراءاتها، فلا تقصد موضوعا فرديا ومعيّنا. أما إذا حدث أن قصدت ما هو فردي أو شخصي أو جزئي زاغت عن سواء السبيل، وصارت تمثيلا لإرادة خاصة، وهو ما ينافي طبيعتها.
هذا إذن هو الجسم السياسي الذي أنتجه الميثاق الأصلي، وما على القوانين إلا أن تمنحه الحركةَ والإرادةَ، وشأن -القانون كشأن الإرادة العامة- يلزمه أن يكون عامّا دائماً فلا ينظر قطّ إلى شخص من الناس باعتباره فردا، ولا إلى فعل من الأفعال باعتباره فعلا جزئيا، بل أن يجمع بين كليّة القصد وكليّة الموضوع، ولكي يتحقق ذلك "يجب على الشعب المذعن للقوانين أن يكون هو صاحبها الذي سنّها"(25).
ربما أتينا في هذا التلخيص لمادة مؤلَّف روسو الجوهرية على المبادئ والطبائع التي بمقتضاها تكون الحكومة -في رأيه- حكومة شرعيةً لا حكومة استبدادية؛ فإن هذه المسألة هي المسألة الرئيسة السارية في كيان العقد الاجتماعي برمتّه. وأما فكرة العقد أو العهد أو الميثاق في حد ذاتها فقد سبق وقلنا في بداية هذا البحث إنها قديمة قدم النظريات السياسية والدينية والاقتصادية. وأما فكرة الشرعية فارتبطت هي أيضا -منذ القدم- بفكرة القانون (الحق) سواء كان القانون مسبقا على القوة أو كانت القوة مسبقة على القانون. فبأي جديد -إذن- جاءنا العقد الاجتماعي لجان جاك روسو، والحال أن فقهاء قانون مثل غروسيوس، وفلاسفة مثل هوبز ولوك، قد سبقوه في نظرية الميثاق؟
واقع الحال أن النظرية الروسوية قد وضعت حدا للابتسارات والاختزالات، بل وللتبسيطات الفقهية الحقوقية كذلك، وأحلت محلها نظرية فلسفية في أشد الاعتياص الأنتروبولوجي والوجودي والحقوقي؛ اعتياص ما انفك يشير إليه النابهون من شراحه(26). من ذلك أن الغالب في فقه القانون الكلاسيكي هو قياس القانون بمقياس الوقائع. أما روسو فعكس القاعدة بالكلية، وجعل الوقائع هي التي تقاس بميزان القانون، ففي رأيه ليس القانون قانونا إلا لأنه خالص من شائبة التجربة والنفسيات والحالات الخاصة. ومع ذلك فالقانون قابل لأن ينطبق على كل تجربة ممكنة، أو قُلْ: يتوجب على كل تجربة ممكنة أن تعمل بمقتضى القانون. وإن هذه النزعة المعيارية هي ما يجعل نظرية روسو تدحض ثلاث نظريات مقابلة في وقت واحد: أولاها نظرية القانون العرفي والتقليدي مما يستند إليه حكم النبلاء والأسياد، وثانيتها نظرية مكيافيللي القائلة بأولوية القوة على الحق، وثالثتها نظرية مونتسكيو القائلة بقانون وضعي وتاريخي. ورأي روسو هو أن الواقعة لا تسوّغ الحق كائنا ما كان هذا الحق. وهكذا هناك ما يربط بين روسو ومكيافيللي على الرغم من الخلاف العميق بينهما من حيث منزلة الأخلاق في السياسة؛ فإذْ إنّ مكيافللي كان منذ القرن السادس عشر في كتاب الأمير قد أضعف من شوكة أصحاب الامتيازات، وقيّد سلطتهم نسبيا، وهيأ "علم السياسة" ليجعل منه سلاحا لمن لا سلاح لهم، وهُمْ المستضعفون من البشر، فإن روسو قد جعل -من بعده- المسألة التشريعية في مركز الشأن العام وفي مركز القوة السلطانية.
وهكذا ما إن تجتمع الإرادة العامة حتَّى ينصاع لها الجميع انصياعَهم لإراداتهم الخاصة ما دامت من صنع كل واحد منهم ومن صنعهم أجمعين. ومن ينصاع لإرادته يكون حرًّا؛ إذْ لا ينصاع لأحد بعينه. وهكذا نرى كيف أنه بمقتضى العقد، ينشأ الجسم السياسي ككيان جماعي ومعنوي فنسميه دولةً إن كان منفعلا، ونسميه صاحبَ سيادة أو عاهلا إن كان فاعلا، ونسميه قوّةً إنْ قسناه مع أمم أو دول أخرى. أما المتعاقدون فنسميهم شعبا منظورا إليهم جماعيا، ونسميهم مواطنين منظورا إليهم فرديا كمشاركين في السيادة الوطنية، ونسميهم رعايا منظورا إليهم من حيث خضوعهم لقوانين الدولة ولأوامر العاهل. وليس للشعب قدرة طبيعية على التنازل عن سيادته؛ إذْ لو فعل ذلك لكان شعبا من المجانين، والحال أن "الجنون لا يسوّغ الحق"، بل لزاد عن ذلك فانحلّ جسمه بعد أن كان واحدا، وتبعثرت أوصالُه وعاد إلى العدم الذي أخرجه منه العقد. ولما كانت السيادة غير قابلة للتنازل كانت لا تقبل التمثيل البرلماني أيضا، هكذا يدعو روسو إلى ضرب من الديمقراطية المباشرة مِمّا لم تعرفه الأمم والدول إلا في فترات قصيرة ونادرة من تاريخها الطويل، على نحو ما شهدناه أخيرا في الأزمات العربية(27). نرى -بالتبعية- كيف أن روسو لئن انساقت نظريته في السياق العام للمذهب التعاقدي الحديث فإن استنباطاته واستنتاجاته تناقض ما توصل إليه السابقون له.
5- هوبز، لوك، روسو: من نموذج عضواني للمجتمع إلى نموذج ميكانيكي(28):
وإذْ حانت خاتمة هذا البحث، يمكننا اقتراح نمذجة معرفية لمزيدٍ من توضيح نظرية التعاقد الاصطناعية التي قال بها فلاسفتنا الثلاثة كلّ على طريقته وبمقتضى نسقه الخاص. فإنهم أنشأوها على أساس النموذج الميكانيكي، وهو النموذج العلمي الذي ساد في القرن السابع عشر، قرن العلوم والتصورات الميكانيكية بامتياز، ثم تواصل في القرن الثامن عشر قبل أن يعدّله ثم يعوضه نسبيا النموذج الدينامي في القرن التاسع عشر. ومفاد النموذج الميكانيكي - في تطبيقاته المدنية والسياسية حصرا - كونه يرى في المجتمع آلةً مستقلة بذاتها بما هي مجموع دقيق للعناصر أو الأجزاء الأصلية المكونة لها.
بيد أنه قبل القول في هذا الموضوع يحسن التذكير بالنموذج العضواني السابق له والذي اعترض عليه النموذج الميكانيكي وتجاوزه في مجال الإنسانيات الذي يهمنا.
أ- فأما النموذج العضواني -الموروث عن أرسطو- فيرى في المجتمع نظاما حيا، يقاس على شجرة متكونة من مجموع من الفروع أو الأسر، ويرى في الدولة كلا معنويا لمجموع من القرى، وفي القرى كلا أصغر مكونا من الأسر، وفي الأسر كلا أكثر صغرا مكونا من الأفراد الأعضاء. على هذا النحو، يكون التنظيم الاجتماعي شبيها في تركيبته وفي وظيفته بالكائن العضوي (أرسطو، كتاب السياسات). المدينة هي إذن كل شامل جامع، وهو لكونه كذلك يكون مخالفا لعناصره الأصلية المكونة له. ويمتاز الكل عن أجزائه من حيث القوة والانسجام الداخلي والغاية الخارجية، فلا يكون هذا الكل المعنوي على شاكلة المجموع الحسابي، ولا على شاكلة الهيئة الميكانيكية. فالوحدة العضوية -من منظور التفسير التقليدي- أسمى وأولى من "الأعضاء المنتظمة" داخلها؛ وإن قلنا: "أعضاء منتظمة" فلأن الكل هو الذي ينظمها ويرتب وظائفها؛ إن الكل متعال على كل جزء وعلى جميع الأجزاء في آن واحد؛ إذ لا معنى للفرد خارج عضويته؛ أي مادام فاقدا للرابطة أو اللحمة التي تربطه بالجماعة: "الدولة بالطبيعة مقدَّمة على الأسرة وعلى الفرد؛ لأن من الضرورة أن يتقدم الكل على الجزء، فإن قُضي على الجسم فلا رِجْل ولا يد إلا بالاسم، كأن تقول: يد من حجر، فإن شُلّت اليدُ أضحت كأنها من حجر"(29). [الكل هو الأساس]
يتبع ذلك أن الواجبات في المجتمع الأرسطي -وحتى الخلدوني، وليست الحقوق- هي التي تحدد مسبقا وظائف كل مرتبة وكل عضو؛ ذلك أن غاية الموجود الإنساني هي نشدان اكتماله، وفي اكتماله تمام طبيعته أو ماهيته السياسية. ولذلك فإن الدولة منتهى كماليّة الفرد وغايته، أو قُلْ: قابلية التحسن لديه: "الدولة إذن طبيعية [...]، وإنما الطبيعة غايةٌ؛ إذْ كلّ شيء لمصير كامل، ندعوه طبيعة الشيء [...] وإنّ ما جُعلَت الغايةُ نفسها لأجله هو خير الأمور، ومن ثم فالاكتفاء الذاتي خير الأمور"(30)؛ وإنما الدولة هي التحقق الأتم للاكتفاء الذاتي للفرد وللجماعات المدنية.
وهكذا يحتل الأفراد ضمن هذا الكل العضوي المنزلة العادلة المخصوصة على كل واحد منهم احتلالا يتناسب مع وظائفهم احتلال كل عضو وظائفه في البدن كله، ومن هنا تنشأ هرمية الحقوق والواجبات عملا بقاعدة أن هناك من هو مهيأ من أجل أن يأمر ويسوس، ومن هو مهيأ من أجل أن يُطيع ويُساس(31). من هذا المنظور لا حاجة للإنسان إلى التعاقد مع أقرانه مادام " حيوانا مدنيا بالطبع"(32).
ب- وأما النموذج الميكانيكي (عند هوبز بالخصوص) أو الرياضي (عند روسو بالخصوص) فتتجلى نجاعته البيداغوجية في بيان كيف أن الأجزاء سابقة على الكل على نحو ما يتكون الكل الذي للآلة من أجزائها. ومعنى ذلك أن الفرد المستقل مقدم بالحق وبالطبيعة على الجماعة وعلى المدينة وعلى الدولة، عكسا تماما للنموذج الأرسطي العضواني. وتبعا لذلك يكون في مقدورنا أنْ نفكك هذا التركيب الآلي ليجد الجوهر المكون للجمعية الإنسانية والمؤسس لحقوق الإنسان: أي الفرد بأهوائه وأنانيته. إلى هذا المنبع تعود النزعة الفردية السائدة في الأزمنة الحديثة والمسماة بالفردانية المتملكة (Possessive individualism)(33). وهكذا فإنّ المجتمع المدني -مثله مثل الآلة- يجيز لأجزائه هامشا من الاستقلالية الذاتية، ومثله أيضا مثل العقد يجيز لكل فرد بأن يكون طرفا في تعاقد حر وطوعي، وهكذا تتقوم -إذن- النظرية التعاقدية -ميكانيكيا ورياضيا- بعلاقة مثلثة الحدود: أولاها هي الفرد بما هو معيار أوّل معطىً منذ وجوده "ما قبل المدني"، أو قل إن شئت: بمقتضى حقوق الإنسان الطبيعية. ويتصف الفرد في هذا التعريف بالإرادة، وتتصف حقوقه الدنيا - حق الحياة وحرمة الجسد وحرية التفكير - بطابع قيم سامية. إن هذا الفرد بحبه لذاته يُحب الآخرين، ويحقق المنافع العامة سعيا وراء منافعه الخاصة، أو على نحو ما يقول الفيلسوف الطبيب برنار دي ماندفيل في كتاب أمثولة النحل (1714): "كيف تصنع الرذائل الخاصة الخير العمومي"(34)، فاضحا بهذه الطريقة "أخلاق" الرأسمالية الناشئة في عصره. وثانيتها هي الجماعة، ومقابلها الالتزام، فالأفراد يلتزمون بمقتضى الميثاق الاجتماعي بتأسيس الجسم السياسي، وهو جسم "معنوي وجماعي"، وبتأمينه في حدود أغراضه المعلنة. وثالثتها هي الدولة، وتسمَّى أيضا الجسم السياسي أو صاحب السيادة، بحسب نسبة النظر إليها والقول فيها.
مع بلوغ هذا الحد الفلسفي في تطور وتبلور النظرية التعاقدية - التي بدأت تتفسخ معالمها إثر ثورة 1789 الفرنسية - ومع بروز نظريات دينامية في القرن التاسع عشر، تلك التي تفترض الحركية والقوة، وتتبنى مبدأ النزاعات الاجتماعية، كالماركسية مثلا، بانت حدود العقد الاجتماعي المغرق في النزعة الإرادية السياسية من جهة وفي السكونية المعرفية (الإبستيمولوجة) من جهة ثانية، بانت حدوده في تفسير المجتمع والدولة. وشيئا فشئيا آلت نظرية العقد إلى الأفول منذ القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين، قبل أن يستعيدها -قبل عقود قليلة- الفيلسوف الأنغلو ساكسوني، جون روولس، ويجددها ويستخدمها من منظور مختلف لا يخلو من ابتكار(35).
*************************
الهوامش:
*) أستاذ الفلسفة في جامعة تونس المنار.
1) راجع مقدمتنا لمؤَلَّف جان جاك روسو، العقد الاجتماعي، ترجمة وتقديم وتعليق عبد العزيز لبيب (بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2011)، ص40. ونشير أننا استلهمنا هنا -وفيما يخص روسو تحديدا- بعضا مما في تلك "المقدمة" من تلخيص لكتاب روسو.
2) المصدر السابق.
3) جون لوك، الرسالة الثانية في الحكم المدني، ترجمة عبد الكريم أحمد، القاهرة، دار سعد، ب.ت، سلسلة الألف كتاب، رقم 419، فقرة 4، ص247.
4) راجع مقالنا "المجتمعات المدنية من منظور الناموس الذاتي"، صادر في كتاب: الجمعيات بين التأطير والتوظيف [مؤلف جماعي بإشراف الكراي القسنطيني]، (منشورات جامعة منوبة / تونس، 2009). يمكن أيضا الرجوع إلى إحدى صيغه الأولى تحت عنوان "المجتمع المدني بين الواقع والوهم الإيديولوجي"، مجلة الوحدة (باريس – الرباط، 1991) عدد خاص: العرب والتنوير.
5) Henri LABROUSSE, Introduction à la philosophie politique (Paris, Marcel Rivière, 1959) P152.
6) المصدر السابق، ص152.
7) يستخدم هوبس هذه العبارة في كتاب المواطن أو أسس السياسة، ولقد استعارها من قولة لاتينية قديمة ومأثورة، يعود أصلها إلى مسرحية هزلية [ملهاة الحمار لصاحبها بلوت، 195 قبل الميلاد] وكثيرون ينسبونها إلى هوبس وهو خطأ. راجع:
HOBBES, Le Citoyen, traduction de Sorbière [1649], (Paris, Flammarion, 1982), Epître dédicatoire, P83.
شوهت هذه العبارة واستخدمت في شتى المعاني بالنظر إلى السياق الذي ساقها فيه هوبس.
8) HOBBES, Léviathan, traduction de Tricaud (Paris, Sirey, 1971), p126.
9) المصدر السابق، ص121- 126
10) لوك، مصدر مذكور، الفصل الرابع، فقرة 22، ص260.
11) لوك، المصدر السابق، الفصل الرابع، فقرة 22، ص260.
12) سنعود للنظر في مسألة المواثيق الجزئية المبرمة بين الناس قي الحالة الطبيعية.
13) لوك، مصدر مذكور، الفصل الثاني، فقرة 7، ص248.
14) في رأينا الترجمة غير دقيقة؛ لأنها لا تميز التمييز ذاته الذي يقيمه لوك بين "حب الذات"، وهو حب محمود وبناء، و"الحب الشخصي" وهو حب منبوذ وهدام لعلاقات التأنس والاجتماع البشري.
15) لوك، مصدر مذكور، الفصل الثاني، فقرة 13، ص252.
16) "فالناس- كما يقول لوك- يستطيعون أن يدخلوا بعضهم مع بعض في تعهدات وعقود أخرى ويظلون مع ذلك في حالة الطبيعة"، المصدر السابق، الفصل الثاني، فقرة 14، ص253.
17) أرسطو، مصدر مذكور، ص10، فقرة 12.
18) روسو، مصدر مذكور، ص83.
19) روسو، المصدر السابق، ص87.
20) روسو، المصدر السابق، ص92.
21) روسو، المصدر السابق، ص94.
22) راجع: عبد العزيز لبيب، "مقدمة" العقد الاجتماعي، مصدر مذكور، ص15.
23) روسو، المصدر السابق، ص109.
24) روسو، المصدر السابق، ص111.
25) روسو، المصدر السابق، ص122.
26) راجع:
Entrée "Contrat social" [par Simone GOYARD-FABRE], in Dictionnaire de Jean-Jacques Rousseau, publié sous la direction de Raymond Troussonet Frédéric S. Eigeldinger, Paris, Honoré Champion, 2006.
27) نكتفي هنا بإشارة سانحة إلى هذه العلاقة الممكنة التي تتطلب نظرا عميقا مخصوصا على هذه الأزمات، وهو ما لا يُتاح الآن في هذا المقام.
28) بَلْورنا النموذجين التفسيريّيْن في مقال مستقل، راجع عبد العزيز لبيب، "المجتمع المدني..."، مجلة الوحدة، مصدر مذكور؛ أو مقال "المجتمعات المدنية..."، الجمعيات...، مصدر مذكور.
29) أرسطو، السياسات، ترجمه عن إلى العربية عن اليونانية القديمة، الأب اغسطينس برباره البولسي (بيروت، اللجنة الدولية لترجمة الروائع الإنسانية – اليونسكو 1957)، الباب الأول، الفصل الأول، ص9، فقرة 11.
30) أرسطو، المصدر السابق، الباب الأول، الفصل الأول، ص8، فقرة 8.
31) أرسطو، المصدر السابق، الباب الأول، الفصل الأول، ص6، فقرة 4.
32) أرسطو، المصدر السابق، الباب الأول، الفصل الأول، ص9، فقرة 9.
33) انظر مثلا:
ليست فكرة "العقد" أو "الميثاق" أو "العهد" أو "الاتفاقية" في حد ذاتها أو ما شابهها من المعاني التعاقدية فكرة جديدة من اختراعات الأزمنة الحديثة في أوروبا؛ إنها موجودة مُذْ قامت تجمعات ومبادلات بين الناس أفرادا كانوا أم مجموعات؛ أُسَرا كانوا أم قرى أم مدنا أم ممالك. ويلفاها المرء متغيرة في صيغ مختلفة بحسب طبيعة العلاقة أو -على وجه الدقة- بحسب طبيعة الرابطة التي تربط بينهم، أهي روحية، أم اقتصادية، أم اجتماعية، أم سياسية، أم عسكرية، الخ. كما يلفاها متحولة من حقبة تاريخية إلى أخرى، ومن ديانة إلى أخرى، ومن ثقافة وفكر إلى آخريْن. فكلما كانت رابطة بين الناس وحصل اتفاق وتهيأ لهم أن يحصّنوا الرابطة من الانخرام ويهيئوا للاتفاق شروطَ الثبات والتحقق - قام بينهم عقد مضمر أو صريح، باللسان أو بالقلم، بالمجاز أو بالحقيقة، بالاختراع أو بالعرف. وهو ما يشترط وجود طرفين اثنين على الأقل لإجراء العقد، فإذا وُجِد الطرفان وجب أن يكونا راشديْن؛ لأن العقد لا يكتسب صلوحيته إلا بتوفر شرط حرية الإرادة والاختيار. وما الغاية من العقد؟ الغاية هي تحديد حق كل متعاقد أو حصته. وما الداعي إلى هذه الشروط؟ إنها قوة الإلزام التي من دونها يصير الاتفاق لاغيا ونسيا منسيا. وهكذا، فإن ما يسوغ العقد تسويغا عقليا - ومنه معقوليّة كل تعاقد بين إرادات بشرية حرة ومتساوية - هو الإلزام والجبر بالحقوق المعترف بها منذ الأصل. وهذا ما يقود إلى السؤال التالي: إذا أُبرِم عقدٌ بين طرفين فمن الراعي للعقد، ومن الحَكم بين الطّرفين إذا تنازعا على تحقيقه أو على تأويل بنوده كليا أو جزئيا؟ الفيصل بينهما إنما هو القانون. على هذا النحو تكتمل المادة والصورة، المضمون والشكل، الذي بمقتضاهما يكتسب العقد معناه ومشروعيته؛ أي معقوليته. وجود القانون -مهما كانت صِيَغُه بدائية- هو -إذن- ما يحوّل الالتزام المعنوي والأخلاقي إلى إلزام وإلى إجبار بفعل كابح أو وازع. الضميرُ يوعِزُ والقانونُ يزَع. إن القانون هو الذي يمنح العقدَ الرّجحانَ على الهوى والإنكار، من هنا يُفهم كيف أن العقود والمواثيق والمعاهدات والاتفاقات تلازمت -في غالب الأحيان- مع القانون، لعل من بواكيرها الغابرة قانون حمّورابي؛ ثم تطورت حتَّى تكاملت في صيغة نظرية نسقية في القانون الروماني. وإذا قُصِر النظرُ على الغرب اللاتيني تبيّن أن خطوة كبيرة قد حصلت في القرون الوسطى؛ إذْ أسهم اللاهوت وفقه القانون وفلسفة الحق الإلهي إسهاما فعالاً في تنمية النظريات التعاقدية وترتيبها أولا، ثم بتوسيع دائرة القانون الطبيعي وتفعيلها ثانيا.
وإذْ يتبيّن ممّا سبق كيف أن فكرة العقد ليست من اختراعات الأزمنة الحديثة، فما عساه يكون جديدها إذن؟ وأي مستحدث فيها يسوّغ الإحالة رأسا إلى هوبز ولوك وروسو والرجوع إلى نظرية العقد عند هؤلاء الأعلام الثلاثة تحديدا؟
والجواب هو أن الجديد في الحداثة الأوروبية كون قيام المجتمع وتكوين الدولة صارا -من البدء- يشترطان عقدا بين مشتركين في الاجتماع أولا، وبين حاكم ومحكوم ثانيا. إنّ ما استحدثته النظرية السياسية منذ القرن السابع عشر هو قولها بعقد أصلي، تأسيسي أو تكويني، لا سابق له ولا لاحق، هو العقد الاجتماعي، بما هو شرط الشروط لتسويغ الاشتراك بين أفراد البشر الطبيعيين وتفسير قيام المجتمع العام والدولة؛ فيؤدي -من هذا المنظور- وظيفة تخطيط هندسي لتأنيس الإنسان بترويضه مدنيا وسياسا أوّلا، وبتقييد الحكم ثانيا، فيمنح الكيانات الاصطناعية الناشئة شرعيّة دنيويّة لا تكتسبها من دونه.
ولكن لندقق النظر أولا في ماهيته وحدوده؛ يتعين العقد -في جوهره- على أنه اتفاقية مبرمة بين طرفين اثنين على الأقل، يكونان مستقلين وراشدين ويتمتعان بإرادة. ولئن تقاربت مواقف أهل الرأي من فقهاء قانون وفلاسفة تعاقديين حول المقاصد الكبرى من الاتفاقات والتواضعات المدنية؛ فقد اختلفوا -بالمقابل- في موضوعها وأطرافها ووسيلة تحقيقها:
- فمنهم من يرى أن العقد يكون بين كل فرد وبين جميع الأفراد الآخرين فردا فردا، لصالح قوة ثالثة تكون فيصلا بينهم ولا تكون طرفا في العقد (هوبز)؛ بينما يرى آخر أن العقد يبرم بين كل فرد -فردا فردا- وبين الجماعة برمتها أي بين كل جزء وهو الإرادة الخاصة وبين الكل وهو الإرادة العامة (روسو).
- ومنهم من يرى أن من شروطها المطلقة التفريط في جميع الحقوق عدا حق البقاء والحياة بإيجاد قوة عليا ضامنة للسلم والأمان (هوبز)؛ بينما يرى فيها آخر مبادلة حرية (طبيعية) بحرية (مدنية) أعقل فأدوَم، وهو حال روسو، وثمة من ذهب إلى حدّ استلزم أن تكون أداةٌ إضافية لتأمين حقوق طبيعية من المحال على الإنسان التفريط فيها اللهم أن يفقد الصواب والعقل (لوك).
ويتضمن تعريف العقد الاجتماعي علامتين: واحدة سالبة، والأخرى موجبة:
- فأما تعريفه بالإيجاب فيقرر أن العقد فعل إراديٌّ أصلي وأوحد وبدئي غير قابل للمعاودة، تجريه موجودات عاقلة لإنشاء اتحاد اجتماعي هو المجتمع المدني، ووحدة سياسيّة هي المجتمع السياسي، وهكذا فلا شيء يسبق العقد اللهم إلا إرادة إجرائه. وإنما كان كذلك لأنه أصل السلطة المدنية المؤسسة للحق السياسي ومبدؤها. وهو إرادي؛ لأنه يندب الناس إلى الخروج من حالة التوحد والطبيعة، ويندبهم إلى الاجتماع في جماعة مدنية من غير تحريم البقاء خارجها لمن أراد ذلك(1).
- وأما التعريف بالسلب فيُستخلَص استخلاصا من أن انعدام العقد يعني أن الغلبة تكون للقوّة على القانون، وللعصبية على الوازع، وللتقلّب على الاستقرار، وللحرب على السلم. وما قام على القوة تنافى مع القانون ففقد المعقولية والمشروعية مطلقا؛ إذْ القوة متقلبة ومتحولة بينما القانون واحد ثابت.
ولأن العقد فعل إجرائي فإنّ له مبدأ يحركه ويوجهه وهو مبدأ التمييز بين عقد الاشتراك وعقد الحكم؛ فأما الأول فهو ما به يتّحد الحشد من البشر الكثيرين في كيان اجتماعي واحد يسمَّى هئية اجتماعية أو جسما اجتماعيا. وأما الثاني فهو ما به تقبل الهيئة الاجتماعية المبتكَرة الانصياعَ لقوة سياسية ذات سيادة. وبفضل هذا التمييز نرى العقد وقد منح عقد الاشتراك أسبقيةً وأولويةً على عقد الحكم: فللأول على الثاني أسبقية من حيث التأسيس، وأولوية من حيث القيمة(2).
وبناء على ذلك يفضي العقد إلى تشكيل نوعين من الاستقلالية:
أوّلا، استقلالية الفرد في دائرة عيشه الطبيعي عن دائرة التنظيم المدني.
ثم تتلوها -ثانيا- استقلالية دائرة العلاقات المدنية عن دائرة التنظيم السياسي. فالأولى تُعنى بـ"الإنسان"، والثانية بـ"المواطن"، على نحو ما يرى روسو الذي يكتشف في هذه القطيعة مكمنا لأزمة أعمق، وهي أزمة الوجود الإنساني برمته.
ومع ذلك فإن هذا التمييز الشكلاني لا يعني أن الجماعة البشرية المنظمة يمكنها أن توجد، وأن تدوم خصوصا، من دون تنظيم سياسي؛ أي من دون دولة.
مفاد الأمر مما سبق بيانه أن المجتمع التعاقدي لا يجوز تصوّره إلا محمّلا بـطابع مركب اصطناعي وتلك هي حقيقة كل ما هو ناتج عن إرادة بشرية. وأكثر من ذلك يزعم فلاسفة العقد الاجتماعي في القرنين السابع عشر والثامن عشر في أوروبا -ومنهم جون لوك على وجه الخصوص- أنه كان يمكن للإنسان أن يدوم في وضعه الطبيعي دون أن يتحول إلى إنسان مدني وإلى مواطن؛ إذْ من الجائز للإنسان في الوضع الطبيعي أن يعيش منفردا ومتدبرا أمره بمقتضى الناموس الذاتي، مدركا للخير وللشر، وضامنا لأسباب عيشه، على نحو يقرره لوك كالتالي: "[الحالة الطبيعية] هي حالة الحرية الكاملة في تنظيم [البشر] لأفعالهم والتصرف في ممتلكاتهم وأشخاصهم كما يتراءى لهم، دون استئذان أو اعتماد على إرادة أي شخص آخر"(3).
فماذا يعني هذا الكلام؟ إنه يعني أولا أن أرسطو ومن بعده ابن خلدون قد أخطآ - في نظر فلاسفة العقد الاجتماعي - عندما قالا بأن الإنسان حيوان مدني بالطبع، والحقيقة في نظر التعاقديين أن الاجتماع الإنساني يشترط إقامة عقد اجتماعي حر وطوعي؛ لذلك ارتبطت إرهاصات نظرية المجتمع المدني بالنظريات التعاقدية الحديثة التي قال بها هوبز، ولوك، وروسو، وسميث، ومن بعدهم كنط ولو بدرجة أقل. ويعني -ثانيا- النظر إلى مبادئ الحكم السياسي من زاوية المحكومين أيضا، لا من زاوية الحكام حصرا. فلقد سلكت هذه النظرية طريقها الطويل والشاق في الفكر الغربي بعنوان أن يستعيد الأفراد حقوقهم الطبيعية من الدولة ذات المركزية الشديدة والحاكمة بلا قيد ولا شرط. ويعني -ثالثا- أن "دولة القانون" لا تحصل طبيعتها تامة إلا إذا تجردت من شطط نموها ومن تضخم هيئتها وجناحها، فتقلصت وظائفها الرئيسة إلى حدود الدائرة الحقوقية، كأن تحل النزاعات بين مواطنيها في الداخل، وكأن تحمي السيادة الوطنية في الخارج. أما القاعدة الاجتماعية والاقتصادية وما تبع وشابه ذلك من العلاقات -وهي القاعدة المدنية- فتمكث "حرة" أو " طليقة"، كما تقول به فلسفة جون لوك (الرسالة الثانية للحكم المدني)(4).
أما الآن وقد بدأ يتضح لأفهامنا ملمحٌ تعريفي أّولي للعقد الاجتماعي وضوحا لا يخلو من مساوئ الإجمال والتعميم، وجب علينا بيانُ أوجه الاختلاف بين أعلام نظرية التعاقد من الفلاسفة بناءً على القاعدة العامة التي تجمعهم والتي كنا بشأن النظر في أبرز عناصرها الدالة.
2- هوبز ودولة الوازع عن العدوان الطبيعي في الإنسان:
لَمّا كان هوبز (1588-1679) ينشغل بمبادئ الفلسفة السياسية وبمبادئ القانون، كانت التنظيمات والجماعات التقليدية قد بدأت -من قبلُ- تدبُّ فيها عناصرُ التفكك والانحلال، فصارت آيلة إنْ للاندثار وإنْ للمقاومة عبر التحول والتكيف مع جديد الأحوال. وبالمقابل كانت الفردانية النّزّاعة إلى الحيازة الشخصية لخيرات العالم وإلى بسط سلطانها وسيادتها في الأخلاق والسياسة والذوق أيضا تسري في كيان إنجلترا وسائر البلاد الغربية. إنها عبارة على مملكة جديدة هي مملكة الفرد؛ ألا وهو الفرد المغامر الذي يجد في لدن كريستوفر كولومبس رمزه التاريخي الحقيقي، وفي شخصية روبنسون كروزوي رمزه السردي والخيالي. وكان هوبز شاهد عيان على ذلك؛ ولكنه كان شاهدا قلقا، فبلغ حدَّ الاضطراب مما يحدث أمامه؛ وأكثر من ذلك كان يتوجس خيفة مما قد يحدث في مستقبل الأيام، كالخوف من الحرب الأهلية المحدقة بإنجلترا عصرئذ حتَّى أنه لجأ إلى فرنسا قبل وقوع المكروه.
طبعا نحن أبعد ما يكون عن تهويل هذا الموقف التجريبي في تعيين ما هو نظري، فلفلسفة هوبز نسقُها الصارم، كما لها منطقها الداخلي المتحكم في مقدماتها ونتائجها. ومع ذلك ليس ممكنا -بالنسبة لهوبس على الأقل- إغفال شرط الكتابة ذاك أو سياقها. ومن بين العلامات المميزة للأنثروبولوجيا الفلسفية التي أسسها هوبز -وهي علامات مشتركة بين البعد المعرفي الموضوعي لهذه الفلسفة والسياق البيوغرافي الذاتي الحافّ بها والخاص بحياة هوبز وبشخصيته- من الممكن ذكر العناصر التالية: النزعة السيكولوجية البينة هنا وهناك، والمغالاة -نسبيا- في إبراز عامل الترصد والتوقع والاحتراس الدائم، وإذكاء وظيفة المخيلة حتَّى في دائرة تشكل سلطان الدولة، والبحث عن مأمن حصين من المخاطر كلف ذلك ما كلف ولو بفقدان الاستقلال الذاتي والحرية الطبيعية.
ولكن هنا يداهمنا سؤال الأسئلة في ذلك العصر: أين نعثر على هذا الفرد إنثربولوجيَّا وكيف ندركه إدراكا نظريا "خالصا"؛ أي بمنآى عن ممكنات التجربة ومصادفات الوقائع التاريخية؟ وما السبيل إلى بلوغه والتعرف عليه في نقاوته الأصلية؟
ومن ثم تتأتى نزعة البحث في أصل الإنسان والمجتمع والمعرفة، وهي نزعة مشتركة بين فلاسفة العصر الكلاسيكي الأوروبي سواء في إنجلترا أو في فرنسا أو في ألمانيا، لا فرق في ذلك بين هذا الحقل وذاك أكان نظريا أم عمليا. ولم يكن الإنسان الطبيعي الذي بدأ هوبز باختراعه فلسفيا ليواصله لوك ثم روسو من بعده مثالا أسمى يُحتذي به أو إليه يسعى البشر ليحققوه في ذواتهم وعيشهم؛ وإنما كان افتراضا عقليا؛ أي محض نموذج معرفي، به تُقاس الاضافات المدنية والتربوية التي انضافت إلى الفطرة والطبيعة. فهذا الإنسان الفطري العائش في حالة طبيعية متخيَّلة هو بمثابة الخواء "النظري" الخالص، فيؤدي في المجال الانثروبولوجي ما يؤديه الخواء في مجال علوم الطبيعة الجديدة الناشئة عصرئذ للبرهنة على حركة الأجسام الساقطة في الفراغ وسرعتها.
أملا في الاقتراب من نموذج ذرّيّ ورياضي في حقل الأخلاق والسياسة يكون "يقينيّا" بفضل خلوّه من التباسات التجربة الحسية، ينبغي كذلك تجريد الفرد من جميع ما علق به من تكوينات نفسية تربوية، ومن أهواء وانفعالات اجتماعية، وممّا ترسب فيه من آثار المؤسسات السياسية واللاهوتية التي روّضته وبدلته. فإذا ما نَفَذَ الفيلسوفُ المتأمّل إلى هذا الوضع ما قبل الاجتماعي فعمّا سيتحصّل في نهاية هذه العملية الارتدادية إلى الماضي؟ إنه سيلقى -في نظر هوبز- الفردَ الطبيعي وقد تأصّلت في عمق أعماقه "إرادةُ قوة لا تقهر"(5)، لا كابح لها ولا وازع، إرادة تدفع به إلى ما يجاوز "الحب الذاتي -وهو لازم لحفظ الذات- إلى "الحب الشخصي"(6)، وهو رغبة تملكيّة (تحوّزية) همّها المطاولة ولو بإلغاء الآخر؛ إذْ لا سبيل إلى إشباع رغبة تشْحُذ المزيدَ من الرغبة غير هذا السبيل. ولماّ كان عطاءُ الطبيعة محدودا بينما كانت رغبة أفراد الإنسان غير محدودة، وغالبا ما تنحطّ على موضوع تنحط عليه رغبات أخرى منافسة، اشتد التنافس بينها وآل أمر أولئك الأفراد إلى الاقتتال وقد صار كل شخص منهم يعدّ الآخر "عدوا" له. وإذْ بات "الواحد من الإنسان ذئبا لأخيه الإنسان"(7) استقرت حالة من الفوضى والحرب الدائمة: "حرب كل شخص ضد كل شخص"(8)؛ غير أن الحركة ذاتها التي تحمل الإنسان على المطاولة والاستبداد بالغير تستبطن شعورا غائر العمق وشديد القوة وهو الرعب من الموت، هذا السيد المطلق.
الموت وحده -في فلسفة هوبز الأنثروبولوجية والسيكولوجية- هو ما سيحمل الإنسان على التفاوض "الوجودي"، أو قُلْ: التفاوض "الحيوي"، مع أشباهه من البشر، وكأنّ لسان حاله يقول: لتَدْحَرْ شَرِّيتَك في سريرة نفسك، وتَخَلَّ عن ذئبيتك وسأفعل تماما ما ستفعل، لتُلق بسلاحك وسألقي بسلاحي، ولنضع كل ما سنتجرد منه من سلاح ومن قوى فطرية ومن حقوق طبيعية بين يدي قوة ثالثة هي مجموع كل القوى الممكنة التي كانت لنا أجمعين، سنتصاغر بقدر ما ستكبر الدولةُ الحَكَمُ؛ ولكنها ستكون حامية كل واحد منا من عدوان غيره، وعوض أن يكون كل واحد منا ذئبا يفترس الأضعف منا لنصطنع قوة قديرة - لويثانا، أو تنّينا، أو وحشا هائلا، أو سمها ما شئت- تروّض جميع الذئاب البشرية وتلجمها وتلزمها باحترام حدودها. ولكن لتعلم أيضا أن اقتدار هذه القوة - وهي صاحب السيادة (الدولة)- ليس سببه جمعها لكل القوى الفردية وحسب؛ ولكن لأنها في حلّ أيضا من العقد الذي سيبرمه كل واحد مع الآخر، فهي إذ سترانا مقيّدين بعقد ستكون حرة من أي قيد أو عهد اللهم مع نفسها أو مع الله.
على هذا النحو يتعاقد كل فرد مع جميع أشباهه فردا فردا تعاقدا يتنازل بمقتضاه كل واحد منهم عن حقوقه الطبيعية وعن قواه التي يضعها بين يديْ قوة ثالثة، وهي في واقع الأمر قوة غير موجودة من قبل؛ وإنما أحدثها خوف المتعاقدين في ما بينهم، بلا تعاقد معها يقينا، وبلا وعي منهم على الأرجح. ولذلك فإنها لويثان بأتم معنى الكلمة: تلك هي الدولة بما هي قوة رهيبة ومتعالية وخيالية من ناحية، وبما هي ماكينة (آلة) دقيقة وذات معقولية قصوى من ناحية أخرى. ذلك هو إرهاص الليبرالية الحق كما صاغها هوبز في القرن السابع عشر صياغة فلسفية قلّ نظيرها. غير أن الجاحدين من الليبراليين الجدد -في عصرنا هذا- يقرأون هوبز في الخفاء "منزعجين" من التماسك المنطقي الصارم الذي يقود نظريته إلى حدودها القصوى: استبداد الدولة الليبرالية!
من قراء هوبز -بل ومن شرّاحه أيضا ونقاده، مثلما يفعل روسو في العقد الاجتماعي- من يعترض عليه باعتبار أن ما ينسبه إلى الحالة الطبيعية الأَحرى به أن ينسبه إلى الحالة المدنية وهي التي تتنازعها الأهواء والانقلابات والحروب الأهلية والثورات والفوضى، وهذا صحيح؛ غير أن الفحص جيّدا يقود إلى ملاحظة كيف -في نظرية هوبز التعاقدية- تسري مقاربتان متراكبتان، إحداهما بارزة صريحة، والثانية كامنة مضمرة؛ فأما الصريحة فهي ستاتيكية (سكونية)، وهي لكونها كذلك تقيم ذلك الفصل البنيوي القاطع بين حالة الفوضى الطبيعية، وحالة النظام المدني. وأما المضمرة فهي دينامية (حركية)، وهي لكونها كذلك تقيم ضربا من التواصل التاريخي بين الحالتين، بل وحتى التراكب التأويلي بينهما، فتشكلان بمقتضاه معْنَيَيْن اثنين، الواحد منها مستبطن في الآخر؛ فإذْ نقل هوبز كيفيات الحالة المدنية والسياسية إلى الحالة الطبيعية فإن في نسقه تدوم -بالمقابل- حالةُ العدوان مترسبةً في النفس الفردية، وتظل حالة الفوضى كامنة في المجتمعات المدنية كمون النار في الحجر، وهذا الكمون أو الاستعداد أو القوة هو بالتحديد ما يرجعنا إلى منطلق حديثنا عن هوبز، ونعني به التشاؤم السيكولوجي الرامي بظله على أرضية هوبز النسقية: ليست الحرب -تحديدا- باندلاعها بين عدويّن؛ وإنما الحرب أيضا بالتوتر الدائم المنذر باندلاعها، وكأن السلم حالة مؤقتة بين حربين. ومفاد ذلك أن حالة الطبيعة حالة مستترة، أو حالة بالقوة، كما يقول الفلاسفة، وهي مستعدة للإفصاح عن نفسها كلما اختل التوازن والميزان في المجتمعات المدنية القائمة وعمّ الاضطراب والفوضى: "فما دام البشر يعيشون من غير سلطان عام يحملهم جميعا على الاحترام فإنهم يكونون في تلك الوضعية المسماة بالحرب، وهذه الحرب هي حرب كل شخص ضد كل شخص"(9).
فكيف لمن صاروا بعدُ مواطنين وانضووا تحت سلطة دولة بفضل عقد أبرموه بعضهم مع بعض أن يديموا حالة السلم؟ ذلك هو شغل شاغل في فلسفة التعاقد الهوبسية.
بقي لسائل أن يسأل: ما حدود العقد وما حدود انصياع المواطنين شبه المطلق لسلطة صاحب السيادة؟ هذا سؤال يستعيد مركزية الخوف من الموت، ويتيح إثارة نقطتين مهمتين؛ لأنهما تبيّنان مدى "المنطقيّة"، أو قُلْ: "الاستدلالية" المتحكمة في نظرية هوبز التعاقدية في تعيين "منطق" هوبز السياسي وتعليل خطابه بما هو مِعْماريّة شديدة التماسك:
فأما أولاهما فتتصل بوزن الدولة ذي الثقل العظيم في نظرية هوبز التعاقدية، وهو ثقل لا يكافئه ولا يسوّغه سوى الداعي (السبب) إلى ابرام العقد، والمقصود به ذلك الخوف ذو الطابع المميّز، ألا وهو الخوف من الموت، وهو خوف غير جزئي؛ أي ليس من هذا الشيء أو من ذاك، وإنما هو حيوي وجودي وكلّي؛ لأنه خوف من فقدان الحياة.
وأما ثانية النقطتين فهي حدود الانصياع لقوة الدولة القاهرة: معلوم أن هوبز يجعل الحكم مطلقا أو يكاد، ولكن يحده أيضا بالشرط الأصلي الذي كان سببا في التعاقد، وهو صدّ العدوان وتأمين حق الحياة الذي من أجله تنازل الجميع عن سائر حقوقهم الطبيعية. ولكن ما العمل إذا استشعر أحدهم خطر الموت من أشباهه المتعاقدين معه، أثناء أوضاع معلومة كالفوضى العامة وزوال الحماية العمومية؟ تجيب "فيزياء" هوبز السياسية بأنه يحق للفرد -وقد وجد نفسه مجددا في وضع شبيه بالحالة الطبيعة- حماية نفسه بنفسه، حتى ولئن نقض -بالتبعية- العقد الأصلي. وما يصح على الفرد يصح على الجماعة من الأفراد، وهذا هو الاستثناء الأوحد عند هوبز، والذي يمكن نعته بالعصيان.
وحاصل الأمر هنا أن علاقة توازن فيزيائي بين الفعل وردة الفعل، ما بين الثقل والثقل المضاد، تقرن ما بين الوضع المدني والوضع الطبيعي، ما بين دواعي إبرام العقد ومدى النفوذ الذي للدولة، ما بين سبب الانصياع للقانون وسبب المروق عنه. وسوف تزداد -بعد حين- هذه المعادلة بين الفعل وردة الفعل إثباتا مع جون لوك، وهو صاحب نسق ليبرالي آخر شديد الاختلاف عن سابقه الهوبسي.
3- جون لوك: عقدُ تراضٍ لأجل دولة تشريع وتَقاضٍ
قلنا: إن الأمر يختلف عند جون لوك (1632-1704)، وهو الذي يعدّ أبًا روحيًّا لليبرالية الحديثة، فعلى الضد من هوبز يقف لوك ليقدم حالة الطبيعة كحالة مثلى دون اجتماع إنساني، ففيها يحيا الفرد من البشر حياة لها كل مقومات الوجود المستقل والمنظم بمقتضى القانون الطبيعي الساري نفوذه على جميع أفراد النوع البشري. وتعريف القانون الطبيعي عند لوك كونه سنة إلهية، أو قُلْ: قانونا فطريا وكليا يقام به العدل بين البشر في الحالة الطبيعية، ويظل بعد ذلك قاعدة تُسَنّ عليها قوانينهم ومؤسساتهم السياسية في الحالة المدنية متى انتقلوا إليها، وطالما لم يقاوموه، وطالما استعملوا العقل واحتكموا إليه. وهو ملزم لهم جميعا ولكل فرد منهم؛ ومفاده أنه بقدر ما يَلزم كل فرد من الناس أن يحمي حياته وأملاكه، وأن يحفظ حريته وسائر حقوقه الطبيعية -بما في ذلك حقه في إقامة العدل بنفسه كالاقتصاص من شخص اعتدى عليه وظلمه- يلزمه كذلك أن يحترم حقوق غيره من الناس وحقوق النوع البشري بأكمله. فإنه لمن المنافي للعقل -بحسب القانون الطبيعي- أن يقوم الشخص بتدمير ذاته؛ فهو ملك لخالقه من حيث هو مخلوق لا يحق له وضع حد لحياته. وبالمقابل، فإن حفظ الذات يستوجب حفظ النوع سواء في كله أو في كل فرد منه. وما يعنيه ذلك بالنظر إلى فلسفة لوك الليبرالية هو أن الحرية التي يتمتع بها الفرد الطبيعي، ولئن كانت واسعة النطاق بما لا يقاس، فليست مطلقة؛ وإنَّما مقيدة بقانون أو بناموس، وهو الناموس الطبيعي. وهذا الشأن هو الشأن كذلك بالنسبة للحالة الطبيعية، فهي -ولئن لم تكن منظمة تنظيما اصطناعيا- ليست بحالة فوضى.
وما سريان القانون الطبيعي على هذا النحو بين البشر إلاّ لأمرين: أولهما: أن العناية الربّانية قد نقشت -بحسب لوك- هذا القانون في قلب الإنسان. وثانيهما: أنه يعمل عمل القوة الفيزيائية لِماَ له من طابع كلي. فأما من حيث "ما في القلب"؛ أي ما في الشعور، فهو بمثابة الضمير الأخلاقي. وأما من حيث عنصره الطبيعي الكلي، فهو بمثابة العقل. ولذلك فإن وضع الإنسان "الطبيعي" وضع هانئ، بل ويكاد يكون كاملا، لما يسود الحالة الطبيعية من وئام وسلم بين هذه الذوات البشرية من غير أن يكبحها كابح أو يزعها وازع أو تحكمها مؤسسة سياسية. وفيها أيضا يكون الفرد مستقلا ومكتسبا لقدراته الجسمانية والمعنوية ولحقوق مقدسة، وهي:
أولا -الحرية، وتتعين عند لوك بالتمييز بين الحرية الطبيعية والحرية المدنية. فأما الأولى -وهي الطبيعية- فهي التي تقتضي -كما يقول- "ألاّ يكون الإنسان خاضعا لأية قوة عليا على الأرض، وألا يقع تحت إرادة إنسان أو سلطته التشريعية، وألا يكون لديه سوى قانون الطبيعة قاعدة يعمل بها"(10). وأما الثانية -وهي المدنية- فتقتضي "ألا يخضع الإنسان لأية سلطة تشريعية سوى تلك التي تقوم على الرضا بين الجماعة، وألا يقع تحت سيطرة أية إرادة أو أي قيد قانوني سوى ما يضعه المشرّع طبقا للأمانة التي عُهد بها إليه"(11). ومما تعنيه الحرية الطبيعية هو استقلال الفرد استقلالا حقوقيا في سياق "فراغ قانوني"، واستقلالا "اقتصاديا" من حيث تدبير وسائل العيش المباشرة؛ ولكن هذا الضرب من الاستقلال لا ينفي تبادل الأفراد المستقلين لثمار عملهم بعضهم مع بعض، ولا إبرام العقود والمواثيق بينهم(12)، بل ويوجب القانون الطبيعي التناسل البشري وإقامة الأسر الطبيعية لأجل حفظ النوع.
ثانيا - الملكية الطبيعية، وهي أشد المفاهيم "اعتياصاً" عند لوك؛ وذلك لتعدد معانيها واستخداماتها طَي الرسالة الثانية في الحكم المدني، وارتباطها المتشعب بمفاهيم وبمسائل أخرى، كالحرية، والعمل، والمال المنقول وغير المنقول، والمال العيني والمال الافتراضي، والملْك الخاص والعام، والمشاع والمحوّز. ولذلك فالملكية من أمُهَّاتِ المسائل لا تُدرَك دونها فلسفةُ لوك العملية والأنتربولوجية، ومنها فلسفته السياسية بالخصوص. ومن أهم معانيها -من منظور هذا البحث وفي حدوده الضيقة- كون الملكية الطبيعية هي -أوّلا وقبل كل شيء- ملكية الإنسان لشخصه ولبدنه ولحريته ولحقه في استخدام قواه كما يروق له؛ إذْ لا وجود للفرد من الإنسان -في نظر لوك- إلا بوجود الملكية الخاصة وبحرية التصرف فيها. غير أن قيمة لوك منظر الليبرالية الفذّ -في هذا الباب وفي عصره- لا تكمن في هذه التعريفات؛ وإنما في تحديد الملكية بحدود معينة ومعلومة؛ فإذْ كانت كل الأرض مِلْكا مشاعا بين البشرية جمعاء فإنّ العمل وحده هو ما يعطي للأرض قيمة مضافة تحّول قطعة منها من حيازة مؤقتة إلى ملكية قارة مشروعة ومحدودة بحدود العمل. لا يملك الإنسان إلا ما يمكنه أن يستثمره استثمارا مباشرا، سواء كان هو بنفسه أو بالتعاون مع أسرته. لذلك اشترط لوك تعميمَ الملكية الخاصة، وليس إلغاءها لتكوين مجتمع من الأحرار والمتساوين بإباحتها من ناحية، وبالحدّ منها من ناحية أخرى. ومن مفارقات فلسفة لوك -في عصر سيطرت فيه إنجلترا على العالم تجاريا وماليا- أن هذا الليبرالي اليوتوبي قد ألغى من نظام الملكية ملكيةَ المال النقدي.
ثالثا: المساواة الطبيعية، يحيل مفهوم المساواة إلى العلاقة والنسبة بين الأشياء أو بين الذوات العاقلة. وتتعين المساواة في الرسالة الثانية على أنها التكافؤ بين البشر من حيث الحقوق الطبيعية التي جاء ذكرها سابقا، ومن حيث واجب طاعة القانون الطبيعي، ومن أهم موضوعات المساواة الطبيعية هي: الناطقية (العقل) والحرية والحق في الحيازة والملكية وحق استخدام الفرد لقواه البدنية والذهنية؛ ولكن -وهَهُنا وجه المفارقة في هذا المفهوم- ليست قوى الأفراد الطبيعية متساوية، كالفرق بين من يولد بصيرا ومن يولد كفيفا. ولما كانت الملكية مرهونة بالعمل وكان العمل مرهونا بقوى الفرد، كانت الملكية متفاوتة. ولذلك يرى لوك أن المساواة بين البشر هي الصفة الطبيعية الوحيدة التي من الجائز أن تزول بإنشاء المجتمعات المدنية القائمة على التنافس، بل وحتى في بعض "التجمعات" الطبيعية. ولقد احتاط لوك من المجتمع التنافسي والقائم على التفاوتات فحَدَّ الملكية بحدود وشروط، من أهمها تلبية الحاجة المعيشية والتحوّز بالعمل وبما يضيفه من قيمة للأصل الطبيعي.
يرى القارئ- على هذا النحو- كيف أن المنعوت بفيلسوف الليبرالية قد عرَّف الإنسان الطبيعي بما هو كائن حرّ ومالك لشخصه ولثمار عمله، وله -أكثر من ذلك- من رجاحة العقل ما يجيز له التمييز بين الخير والشر، بين العدل والظلم حتَّى ليجوز له إقامة الميزان والاقتصاص لنفسه من ظلم الغير، والاقتصاص للغير من الغير: "لضمان مراعاة قانون الطبيعة الذي يرمي إلى السلام والمحافظة على الجنس البشري كله، وُضِع تنفيذ قانون الطبيعة في تلك الحالة في يد كل إنسان؛ بحيث إن كل شخص له حق في معاقبة المعتدين على هذا القانون إلى درجة تحول دون خرقه"(13).
وههنا يستعيد الاستدلالُ مسألةً كانت قد وُضِعت في سياق الحديث عن هوبز: ما الداعي -بحسب نظرية لوك- إلى تأسيس مجتمع تعاقدي بحيث ينضاف ما هو مصطنع إلى ما هو طبيعي، والحال أن الحالة الطبيعية حالة مُثلى من أيّ جهة قلّبتَها وقيّمتَها؟ يجيب لوك على السؤال محاججا بأن مخاطر الاقتصاص الشخصي -وخصوصا في حالات النزاع حول الخيرات والأملاك، وقصور الطبيعة البشرية عن إجراء العدل بميزان واحد منصف- هي ما يحوّل الشعور بالظلم إلى منطلق تنطلق منه رغبة الفرد في الثأر لنفسه من عدوان الغير عليه فيطبّق العدلَ بمقتضى هواه؛ أي بطريقة تحكمية وغير منصفة. فلما كان الجرم يصغر في عين فاعله، ويكبر في عين ضحيته اختل الوزن والميزان بسبب اجتماع الخصم والحكم في شخص من ينفذ الاقتصاص لنفسه بنفسه. يتبع ذلك باللزوم أنه تحاشيا لهذه النزعة الغاشمة التي تردّ على العدوان بالعدوان والمنذرة بالحرب وبانخرام الوضع الطبيعي ينبغي على الإنسان الخروج من الحالة الطبيعية إلى الحالة المدنية لوجوب التقاضي لدى قوة عليا ثالثة، هي السلطة المؤسسة التي غايتها صيانة الحق الطبيعي، أو قُلْ: هي الدولة الناشئة في أصلها الأصيل لأجل رفع المظالم عن المظلومين: "إن حب الذات [الحب الشخصي(14)] سيجعل الناس متحيزين لأنفسهم ولأصدقائهم، ومن ناحية أخرى ستحملهم الحدة والانفعال والانتقام على المغالاة في عقاب الآخرين، ولن ينجم عن هذا سوى الفوضى والارتباك. ومن ثم فلابد أن الله فرض حكومة لكبح هذا التحيز والعنف لدى الناس، وإني أسلّم تماما بأن الحكم المدني هو العلاج السليم لما في حالة الطبيعة من مساوئ، وهي مساوئ لا بد بالتأكيد أن تكون كبيرة عندما يكون للناس أن يصيروا قضاة في قضاياهم الخاصة بهم"(15).
على الضدّ من هوبز، فإن الدولة المأمولة التي كان لوك يرسم مبادئها في القرن السابع عشر هي ما يمكن وصفها بدولة "الحد الأدنى"(minima): وهي الدولة الحَكَم في الداخل؛ أي دولة التشريع والتقاضي بين الناس. ويكمن اقتدارُها وقوتُها في سيادة التشريع وتطبيقه. خلا ذلك فهي دولة متضائلة آفلة من حيث الأجهزة التنفيذية التي تحركها. ألسنا قبالة يوتوبيا ليبرالية مبكرة؟ هذا ما عابه الكثيرون على لوك. غير أن ما يهمنا أولا وقبل كل شيء إنما هو تماسك الاستدلال في نظرية لوك التعاقدية:
فعندما يوازي المتأمل جيّدا في نسق لوك السياسي ويوازن بين الحالة الطبيعية والحالة المدنية يستنتج أنّ هناك تواصلا بين الحالتين على الرغم من القطيعة التعاقدية؛ فالحالة الطبيعية كانت بعد مدنية من حيث جملة العناصر التي جاء عليها البحث، والحالة المدنية تستبقي العناصر الطبيعية، وفي مقدمتها القانون الطبيعي، بل وتكمن معقوليتها وكل ما يبرر وجودها ويسوغ مشروعيتها في تكفلها بضمان الحقوق الطبيعية وإجراء القانون الطبيعي بإقامة المؤسسات والقوانين الوضعية على قاعدته الصلبة. هذا التواصل بين الحالتين هو ما يجعل التعاقد عند لوك خاليا من الإكراه ومن المغالاة في الإلزام، أي من العنف المكبوت. وهنا ينبغي توضيح مسألة مهمة، ألا وهي وجود عهود ومواثيق بين الأفراد منذ هُمْ في الحالة الطبيعية(16). ولكنها عهود جزئية وتدخل في دائرة المبادلات بالخصوص. وأما "الميثاق" المجوّز للانتقال من الطبيعة إلى المدنية والذي تقول به الرسالة الثانية في الحكم المدني فهو ميثاق عام، ويخص دائرة الحق السياسي وتأسيس المجتمع المدني. صحيح أن لوك لا يعترض على فكرة العقد، ولكن العقد الذي يقول به ليس عقدا بالمعنى الدقيق للمصطلح؛ وإنما هو توافق "ناعم"، ويسميه بـ"الرضا"(consent)؛ فخلافا للعقد الذي يشترط إرادة وعزما يكون الرضا استعدادا فطريا. ومختصر القول أن الحالة الطبيعية هي -على نحو من الأنحاء- مجتمع منتظم لا تنقصه سوى المؤسسة المدنية السياسية لتأمين دوامه واستقراره. أيعني ذلك تقاربا في النظرية السياسية بين لوك وأرسطو؟ والجواب الجائز أن لوك هو الأقرب من أرسطو والأبعد عنه في آن؛ فهو الأقرب من جهة الاستعداد المدني في الفرد الطبيعي، وهو الأبعد لقوله بالحرية وبالاستقلالية لا كقيمة سامية أو كمعيار أساس وحسب؛ بل وكمبدأ طبيعي أيضا لا ينفصل البتة عن العقل، قرين الحرية الدائم. وهذه الاستقلالية الفردانية هي التي تجيز للوك القول بأن من لا يقبل راضيا بالدخول في المجتمع المدني حلال عليه أن يبقى خارج الدائرة الاجتماعية من غير أن يفقد حقوقه أو إنسانيته. وهذا مضاد لأرسطو الذي لا يستثني من نظام الجمعية الإنسانية سوى إله متعال وقدير، أو بشر متوحش ومارق عن الناموس الكوني(17).
نرى كيف أن القوة والقوة المضادة متكافئتان أيضا في الاستدلال اللّوكي: إنّ رخاوة ونعومة الحالة الطبيعية لا يكافئها سوى عقد رخو وناعم في البدء، تتلوه سلطة سياسية جوهرها تشريع القوانين وإجراء القضاء بين المواطنين في الداخل، والحرب والسلم في الخارج.
وكأننا بلوك يحدّ من شطط النزعة التعاقدية الهوبسية، فإنّ الفيلسوف الذي سيستعيدها على نحو صارم ويوجهها وجهة مخالفةً لوجهة هوبز الاستبدادية في الظاهر على الأقل -ولكنها مخالفة أيضا لليبراليّة لوك مهما وافقها في مسائل مثل الفردانية، والديموقراطية المشرِّعة، والشعب كجسم سياسي- فهو جان جاك روسو.
4- روسو: العقد ومعضلة سيادة "الجزء" أم سيادة "الكل"؟
"وُلد الإنسان حرّا، وفي كل مكان هو الآن يرسف في الأغلال". بهذه العبارة الشهيرة يستهل روسو الفصل الأول من مؤلفه في العقد الاجتماعي أو مبادئ القانون السياسي (1762)؛ ولكن لسائلٍ أن يسأل كيف تمت هذه النقلة الغريبة، وكيف تحقق الاستلاب؟ فلئن اكتسى النظام الاجتماعي طابع الحق المقدّس فهذا الحق لا يُستنبَط البتّة من الطبيعة، ولزم إذن أن يكون مؤسَّسا على اتفاقيات أصلية. فهل في هذه الأصول ما يسوّغ التبعية والوصاية والعبودية؟ تدفع مثل هذه التساؤلات بروسو إلى العودة نحو المجتمعات الأولى، ومنها مجتمع الأسرة، وهو أشدها ارتباطا بالطبيعة. فأما القول بأن في ارتباط الأولاد بأبيهم ما يبرر التبعية فمطعون فيه بحجة أن وصاية الوالد لا تدوم إلاّ طيلة الوقت الذي في أثنائه يحتاج الأولاد أن يُحفظ بقاؤهم؛ إذْ حالما تنفكّ هذه الحاجة، تنحلّ الرابطة الطبيعيّة. وأمّا بين البشر فإذا حصل أن استمرت هذه الرابطة فبمقتضى اصطناع مدني لا بمقتضى قانون طبيعي.
وأما حقّ الأقوى الذي يتعلل به أنصار القوة لتبرير التسلط فقائم على تناقض جذري بين الحق والقوة؛ وذلك أن للحد الأول (الحق) خاصية الثبات، وللحد الثاني (القوة) خاصية التحول، فليس "الأقوى قويّا بما فيه الكفاية أبدًا بحيث يكون سيّدا على الدوام"(18). إن علاقة القوة بين القوي والضعيف تتغير على الدوام فكيف للثابت -وهو الحق والقانون- أن يتغير معها؟ وإذن فإن كلمة "حقّ" مقترنة بالقوة هي من باب اللغو الذي لا يدلّ على شيء اللهم إلا الإيهام.
وأما القول بالعبوديّة الطوعية فمتهافت من أصله؛ إذْ إن في عدول المرء عن حريّته عدولا عن صفة الإنسان، ومتى اتصل الأمر لا بالأفراد وإنما بشعب بأكمله رضي بالعبودية واختارها فقد دخل عمله في باب الجنون الذي ينافي الرشد والعقل. زد على ذلك أن من يذعن لغيره إنما يأتي فعله اضطرارا لا بحكم إرادة حرة، وهَبْ أنّ من الجائز لأحد أن يبيع شخصه فكيف له أن يبيع أولاده أو رعيته؛ أي أن يبيع ما لا يدخل في حوزته الطبيعية؟
بقي أن هنالك من المؤلفين مثل غروسيوس من يعدّ الحرب أصلا لحقّ الاستعباد؛ إذْ يشتري المغلوبُ حياته بمقابلٍ، وهو حريته، غير أنه فات هؤلاء المؤلفين أن "العلاقة بين الأشياء -لا العلاقة بين البشر- هي التي تكوّن الحرب"، والحرب ليست تصريفا لأزمة بين أفراد البشر؛ وإنما بين دولة ودولة، أما المقاتلون فلا يواجهون بعضهم بعضا "بوصفهم بشرا، ولا حتَّى بوصفهم مواطنين، ولكن بوصفهم جنودا"(19).
على هذا النحو، تقود هذه الدحوضات المتتالية التي يعترض بها روسو على أهم الأطروحات الخاطئة والسائدة حتَّى في عصره إلى إقرار أطروحة مركزية مضادة ألا وهي لزوم اتفاقية أولى بين الناس يلزم الرجوع إليها، وهو ما يفترض أن "إجماعا قد حصل [بينهم] ولو مرّةً واحدة"(20)، وهذا هو الميثاق الاجتماعي، فكيف إذن يُستحدَثُ نظام مدني يتحد فيه كلّ واحد مع الجميع؛ وإذْ يطيع الجزءُ "الكلَّ" فإنه -مع ذلك- لا يطيع إلاّ نفسه، فيظلّ حرا كما كان من قَبلُ. لا بد إذن من إيجاد حلّ للمعضلة بفضل ميثاق اجتماعيّ هذا حده وتعريفه: "يضع كل واحد منّا شخصَه وكلَّ قدرته موضع اشتراك تحت الإمرة العليا التي للإرادة العامّة، ونحن نتقبل كجسم واحد كلّ عضو كجزء ٍ لا يتجزأ من الكلّ"(21).
بهذه الطريقة يكون مبدأ الإرادة العامة قد قام واستقر بقيام الكل واستقراره؛ ولكن الإرادة العامة لا تتحقق بالفعل إلا بممارستها، وهذه الممارسة هي السيادة التي لا غاية منها إلا الخير المشترك، ولأنه ليس صاحبُ السيادة إلاّ موجودا جماعيًّا لا يمكن لأحد أن يمثله سوى أن يمثل نفسه هو بنفسه؛ كانت السيادة غير قابلة للتنازل عنها أبدا. وكذلك هو الشأن بالنسبة للتجزئة، فالسيادة غير قابلة للتجزئة. وسببه أنّ الإرادة لمَاَّ كانت عامة تعلقت بـ: جسم الشعب، فكانت فعلا سياديا له حكم القانون؛ إذْ لو أنها تجزأت لخالفت عدم قابلية التنازل؛ فيكون ذلك خلفا قبيحا. أما أولئك الذين يقسّمون الإرادة العامة إلى قوى، وإلى إرادات، وإلى سلط تشريعية وأخرى تنفيذيّة، وهلمّ جرّا، فهم يخبطون خبط عشواء ويخلطون بين طبيعة السلطة السيادية وبين أشكال تعبيرها المختلفة، بين القانون وبين تطبيقاته، بين الأسباب وبين نتائجها. لا يعني ذلك أن روسو ضِدٌّ للتمييز بين دوائر السلطة، وهَهُنا يكمن اعتياص النظرية التعاقدية عنده: القول بوحدة السيادة لا يعني رفض تعدد تعبيراتها المختلفة؛ والقول بوحدة الإرادة العامة لا يعني رفض تعدد أدواتها المختلفة. إن الطعون الخطيرة الموجهة ضد هذه النظرية كاتهامها بالكليانية (الشمولية) مردود عليها بحجة أن "الكل" المهيمن -بالنتيجة، وبفضل اتحاد أجزائه- لم يكن -من قبلُ- إلا كلا نظريا أو متخيلا، بل قُلْ: كلا موهوما تعاقد معه الفرد الطبيعي الموجود الوحيد فعلا في ميدان التعاقد، والذي سيتحول إلى "حيوان" سياسي، وتتقوى فرديته من أول العقد الاجتماعي إلى نهايته. وهذا ما لا يمكن تفسيره إلا بمنطق المفارقة الساري في فلسفة روسو بعامة، بل وفي العقد الاجتماعي تخصيصا، يتبين لنا أن هنالك وفاقا غريبا في طيات هذا الكتاب بين النزعة الاصطناعية التي بدونها تفقد النظرية التعاقدية قوتها والنزعة الإنسانية التي تجعل من كتاب العقد الاجتماعي لا دفاعا عن الدولة ككل واحد، ولا عن السواد الأعظم من الناس الذين يقتسمون فيما بينهم الشعور والحساسية وحسب، وإنما عن الفرد أيضا، عن فرد يكون مستقلا استقلالا ذاتيا بقدر ما ينضوي في دائرة الكل، ويكون جزءا من الكل بقدر ما يكون فردا مستقلا بذاته(22).
وإذا كان ذلك كذلك، نجت الإرادة العامة من الخطأ والزيغان فهي دوما على الصراط المستقيم؛ إذْ "من المحال أن يُزرع الفسادُ في الشعب أبدَ الآبدين"(23). حقا يمكن للشعب أن "يُخدَع في غالب الأحايين" بسبب الاختلاف الشديد بين إرادة الجميع وهي مجموع الإرادات الجزئية، وإرادة الكل وهي الإرادة العامّة. "فإذا ما تغلبت المصالح الأنانية قامت المكائدُ وتكونت العَصَبيّة الجزئية [...]، صارت الإرادةُ التي لكل عَصَبيّة إرادةً عامّةً بالنسبة إلى أعضائها، وإرادة ًخاصّةً بالنسبة إلى الدولة؛ [...] وإذ ذاك لا يعود هناك إرادة عامّة؛ بل إنّ الرأيَ الغالب ليس إلاّ الرأيَ الجزئيّ"(24). ولكن الإرادة العامة الحقانية المتجسدة في الدولة لا تموت حتَّى ولو خُنِق صوتها، اللهم أن يموت الشعب بما هو كل وتنزرع العصبيات الجزئية فتموت الدولة. وهكذا يكون التعاقد سبيلا إلى الوحدة الوطنية.
ولئن سارت الإرادة العامة على الصراط المستقيم دائما فلأنّ موضوعها وطبيعتها متصفان بالعمومية: إنها عامة بالحقيقة لا بالمجاز من حيث طبيعتُها ومن حيث موضوعها، وهي عامة من حيث الفعل والانفعال لصدورها من جميع المواطنين وانطباقها عليهم أجمعين، وهي عامة من حيث أفعالها وإجراءاتها، فلا تقصد موضوعا فرديا ومعيّنا. أما إذا حدث أن قصدت ما هو فردي أو شخصي أو جزئي زاغت عن سواء السبيل، وصارت تمثيلا لإرادة خاصة، وهو ما ينافي طبيعتها.
هذا إذن هو الجسم السياسي الذي أنتجه الميثاق الأصلي، وما على القوانين إلا أن تمنحه الحركةَ والإرادةَ، وشأن -القانون كشأن الإرادة العامة- يلزمه أن يكون عامّا دائماً فلا ينظر قطّ إلى شخص من الناس باعتباره فردا، ولا إلى فعل من الأفعال باعتباره فعلا جزئيا، بل أن يجمع بين كليّة القصد وكليّة الموضوع، ولكي يتحقق ذلك "يجب على الشعب المذعن للقوانين أن يكون هو صاحبها الذي سنّها"(25).
ربما أتينا في هذا التلخيص لمادة مؤلَّف روسو الجوهرية على المبادئ والطبائع التي بمقتضاها تكون الحكومة -في رأيه- حكومة شرعيةً لا حكومة استبدادية؛ فإن هذه المسألة هي المسألة الرئيسة السارية في كيان العقد الاجتماعي برمتّه. وأما فكرة العقد أو العهد أو الميثاق في حد ذاتها فقد سبق وقلنا في بداية هذا البحث إنها قديمة قدم النظريات السياسية والدينية والاقتصادية. وأما فكرة الشرعية فارتبطت هي أيضا -منذ القدم- بفكرة القانون (الحق) سواء كان القانون مسبقا على القوة أو كانت القوة مسبقة على القانون. فبأي جديد -إذن- جاءنا العقد الاجتماعي لجان جاك روسو، والحال أن فقهاء قانون مثل غروسيوس، وفلاسفة مثل هوبز ولوك، قد سبقوه في نظرية الميثاق؟
واقع الحال أن النظرية الروسوية قد وضعت حدا للابتسارات والاختزالات، بل وللتبسيطات الفقهية الحقوقية كذلك، وأحلت محلها نظرية فلسفية في أشد الاعتياص الأنتروبولوجي والوجودي والحقوقي؛ اعتياص ما انفك يشير إليه النابهون من شراحه(26). من ذلك أن الغالب في فقه القانون الكلاسيكي هو قياس القانون بمقياس الوقائع. أما روسو فعكس القاعدة بالكلية، وجعل الوقائع هي التي تقاس بميزان القانون، ففي رأيه ليس القانون قانونا إلا لأنه خالص من شائبة التجربة والنفسيات والحالات الخاصة. ومع ذلك فالقانون قابل لأن ينطبق على كل تجربة ممكنة، أو قُلْ: يتوجب على كل تجربة ممكنة أن تعمل بمقتضى القانون. وإن هذه النزعة المعيارية هي ما يجعل نظرية روسو تدحض ثلاث نظريات مقابلة في وقت واحد: أولاها نظرية القانون العرفي والتقليدي مما يستند إليه حكم النبلاء والأسياد، وثانيتها نظرية مكيافيللي القائلة بأولوية القوة على الحق، وثالثتها نظرية مونتسكيو القائلة بقانون وضعي وتاريخي. ورأي روسو هو أن الواقعة لا تسوّغ الحق كائنا ما كان هذا الحق. وهكذا هناك ما يربط بين روسو ومكيافيللي على الرغم من الخلاف العميق بينهما من حيث منزلة الأخلاق في السياسة؛ فإذْ إنّ مكيافللي كان منذ القرن السادس عشر في كتاب الأمير قد أضعف من شوكة أصحاب الامتيازات، وقيّد سلطتهم نسبيا، وهيأ "علم السياسة" ليجعل منه سلاحا لمن لا سلاح لهم، وهُمْ المستضعفون من البشر، فإن روسو قد جعل -من بعده- المسألة التشريعية في مركز الشأن العام وفي مركز القوة السلطانية.
وهكذا ما إن تجتمع الإرادة العامة حتَّى ينصاع لها الجميع انصياعَهم لإراداتهم الخاصة ما دامت من صنع كل واحد منهم ومن صنعهم أجمعين. ومن ينصاع لإرادته يكون حرًّا؛ إذْ لا ينصاع لأحد بعينه. وهكذا نرى كيف أنه بمقتضى العقد، ينشأ الجسم السياسي ككيان جماعي ومعنوي فنسميه دولةً إن كان منفعلا، ونسميه صاحبَ سيادة أو عاهلا إن كان فاعلا، ونسميه قوّةً إنْ قسناه مع أمم أو دول أخرى. أما المتعاقدون فنسميهم شعبا منظورا إليهم جماعيا، ونسميهم مواطنين منظورا إليهم فرديا كمشاركين في السيادة الوطنية، ونسميهم رعايا منظورا إليهم من حيث خضوعهم لقوانين الدولة ولأوامر العاهل. وليس للشعب قدرة طبيعية على التنازل عن سيادته؛ إذْ لو فعل ذلك لكان شعبا من المجانين، والحال أن "الجنون لا يسوّغ الحق"، بل لزاد عن ذلك فانحلّ جسمه بعد أن كان واحدا، وتبعثرت أوصالُه وعاد إلى العدم الذي أخرجه منه العقد. ولما كانت السيادة غير قابلة للتنازل كانت لا تقبل التمثيل البرلماني أيضا، هكذا يدعو روسو إلى ضرب من الديمقراطية المباشرة مِمّا لم تعرفه الأمم والدول إلا في فترات قصيرة ونادرة من تاريخها الطويل، على نحو ما شهدناه أخيرا في الأزمات العربية(27). نرى -بالتبعية- كيف أن روسو لئن انساقت نظريته في السياق العام للمذهب التعاقدي الحديث فإن استنباطاته واستنتاجاته تناقض ما توصل إليه السابقون له.
5- هوبز، لوك، روسو: من نموذج عضواني للمجتمع إلى نموذج ميكانيكي(28):
وإذْ حانت خاتمة هذا البحث، يمكننا اقتراح نمذجة معرفية لمزيدٍ من توضيح نظرية التعاقد الاصطناعية التي قال بها فلاسفتنا الثلاثة كلّ على طريقته وبمقتضى نسقه الخاص. فإنهم أنشأوها على أساس النموذج الميكانيكي، وهو النموذج العلمي الذي ساد في القرن السابع عشر، قرن العلوم والتصورات الميكانيكية بامتياز، ثم تواصل في القرن الثامن عشر قبل أن يعدّله ثم يعوضه نسبيا النموذج الدينامي في القرن التاسع عشر. ومفاد النموذج الميكانيكي - في تطبيقاته المدنية والسياسية حصرا - كونه يرى في المجتمع آلةً مستقلة بذاتها بما هي مجموع دقيق للعناصر أو الأجزاء الأصلية المكونة لها.
بيد أنه قبل القول في هذا الموضوع يحسن التذكير بالنموذج العضواني السابق له والذي اعترض عليه النموذج الميكانيكي وتجاوزه في مجال الإنسانيات الذي يهمنا.
أ- فأما النموذج العضواني -الموروث عن أرسطو- فيرى في المجتمع نظاما حيا، يقاس على شجرة متكونة من مجموع من الفروع أو الأسر، ويرى في الدولة كلا معنويا لمجموع من القرى، وفي القرى كلا أصغر مكونا من الأسر، وفي الأسر كلا أكثر صغرا مكونا من الأفراد الأعضاء. على هذا النحو، يكون التنظيم الاجتماعي شبيها في تركيبته وفي وظيفته بالكائن العضوي (أرسطو، كتاب السياسات). المدينة هي إذن كل شامل جامع، وهو لكونه كذلك يكون مخالفا لعناصره الأصلية المكونة له. ويمتاز الكل عن أجزائه من حيث القوة والانسجام الداخلي والغاية الخارجية، فلا يكون هذا الكل المعنوي على شاكلة المجموع الحسابي، ولا على شاكلة الهيئة الميكانيكية. فالوحدة العضوية -من منظور التفسير التقليدي- أسمى وأولى من "الأعضاء المنتظمة" داخلها؛ وإن قلنا: "أعضاء منتظمة" فلأن الكل هو الذي ينظمها ويرتب وظائفها؛ إن الكل متعال على كل جزء وعلى جميع الأجزاء في آن واحد؛ إذ لا معنى للفرد خارج عضويته؛ أي مادام فاقدا للرابطة أو اللحمة التي تربطه بالجماعة: "الدولة بالطبيعة مقدَّمة على الأسرة وعلى الفرد؛ لأن من الضرورة أن يتقدم الكل على الجزء، فإن قُضي على الجسم فلا رِجْل ولا يد إلا بالاسم، كأن تقول: يد من حجر، فإن شُلّت اليدُ أضحت كأنها من حجر"(29). [الكل هو الأساس]
يتبع ذلك أن الواجبات في المجتمع الأرسطي -وحتى الخلدوني، وليست الحقوق- هي التي تحدد مسبقا وظائف كل مرتبة وكل عضو؛ ذلك أن غاية الموجود الإنساني هي نشدان اكتماله، وفي اكتماله تمام طبيعته أو ماهيته السياسية. ولذلك فإن الدولة منتهى كماليّة الفرد وغايته، أو قُلْ: قابلية التحسن لديه: "الدولة إذن طبيعية [...]، وإنما الطبيعة غايةٌ؛ إذْ كلّ شيء لمصير كامل، ندعوه طبيعة الشيء [...] وإنّ ما جُعلَت الغايةُ نفسها لأجله هو خير الأمور، ومن ثم فالاكتفاء الذاتي خير الأمور"(30)؛ وإنما الدولة هي التحقق الأتم للاكتفاء الذاتي للفرد وللجماعات المدنية.
وهكذا يحتل الأفراد ضمن هذا الكل العضوي المنزلة العادلة المخصوصة على كل واحد منهم احتلالا يتناسب مع وظائفهم احتلال كل عضو وظائفه في البدن كله، ومن هنا تنشأ هرمية الحقوق والواجبات عملا بقاعدة أن هناك من هو مهيأ من أجل أن يأمر ويسوس، ومن هو مهيأ من أجل أن يُطيع ويُساس(31). من هذا المنظور لا حاجة للإنسان إلى التعاقد مع أقرانه مادام " حيوانا مدنيا بالطبع"(32).
ب- وأما النموذج الميكانيكي (عند هوبز بالخصوص) أو الرياضي (عند روسو بالخصوص) فتتجلى نجاعته البيداغوجية في بيان كيف أن الأجزاء سابقة على الكل على نحو ما يتكون الكل الذي للآلة من أجزائها. ومعنى ذلك أن الفرد المستقل مقدم بالحق وبالطبيعة على الجماعة وعلى المدينة وعلى الدولة، عكسا تماما للنموذج الأرسطي العضواني. وتبعا لذلك يكون في مقدورنا أنْ نفكك هذا التركيب الآلي ليجد الجوهر المكون للجمعية الإنسانية والمؤسس لحقوق الإنسان: أي الفرد بأهوائه وأنانيته. إلى هذا المنبع تعود النزعة الفردية السائدة في الأزمنة الحديثة والمسماة بالفردانية المتملكة (Possessive individualism)(33). وهكذا فإنّ المجتمع المدني -مثله مثل الآلة- يجيز لأجزائه هامشا من الاستقلالية الذاتية، ومثله أيضا مثل العقد يجيز لكل فرد بأن يكون طرفا في تعاقد حر وطوعي، وهكذا تتقوم -إذن- النظرية التعاقدية -ميكانيكيا ورياضيا- بعلاقة مثلثة الحدود: أولاها هي الفرد بما هو معيار أوّل معطىً منذ وجوده "ما قبل المدني"، أو قل إن شئت: بمقتضى حقوق الإنسان الطبيعية. ويتصف الفرد في هذا التعريف بالإرادة، وتتصف حقوقه الدنيا - حق الحياة وحرمة الجسد وحرية التفكير - بطابع قيم سامية. إن هذا الفرد بحبه لذاته يُحب الآخرين، ويحقق المنافع العامة سعيا وراء منافعه الخاصة، أو على نحو ما يقول الفيلسوف الطبيب برنار دي ماندفيل في كتاب أمثولة النحل (1714): "كيف تصنع الرذائل الخاصة الخير العمومي"(34)، فاضحا بهذه الطريقة "أخلاق" الرأسمالية الناشئة في عصره. وثانيتها هي الجماعة، ومقابلها الالتزام، فالأفراد يلتزمون بمقتضى الميثاق الاجتماعي بتأسيس الجسم السياسي، وهو جسم "معنوي وجماعي"، وبتأمينه في حدود أغراضه المعلنة. وثالثتها هي الدولة، وتسمَّى أيضا الجسم السياسي أو صاحب السيادة، بحسب نسبة النظر إليها والقول فيها.
مع بلوغ هذا الحد الفلسفي في تطور وتبلور النظرية التعاقدية - التي بدأت تتفسخ معالمها إثر ثورة 1789 الفرنسية - ومع بروز نظريات دينامية في القرن التاسع عشر، تلك التي تفترض الحركية والقوة، وتتبنى مبدأ النزاعات الاجتماعية، كالماركسية مثلا، بانت حدود العقد الاجتماعي المغرق في النزعة الإرادية السياسية من جهة وفي السكونية المعرفية (الإبستيمولوجة) من جهة ثانية، بانت حدوده في تفسير المجتمع والدولة. وشيئا فشئيا آلت نظرية العقد إلى الأفول منذ القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين، قبل أن يستعيدها -قبل عقود قليلة- الفيلسوف الأنغلو ساكسوني، جون روولس، ويجددها ويستخدمها من منظور مختلف لا يخلو من ابتكار(35).
*************************
الهوامش:
*) أستاذ الفلسفة في جامعة تونس المنار.
1) راجع مقدمتنا لمؤَلَّف جان جاك روسو، العقد الاجتماعي، ترجمة وتقديم وتعليق عبد العزيز لبيب (بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2011)، ص40. ونشير أننا استلهمنا هنا -وفيما يخص روسو تحديدا- بعضا مما في تلك "المقدمة" من تلخيص لكتاب روسو.
2) المصدر السابق.
3) جون لوك، الرسالة الثانية في الحكم المدني، ترجمة عبد الكريم أحمد، القاهرة، دار سعد، ب.ت، سلسلة الألف كتاب، رقم 419، فقرة 4، ص247.
4) راجع مقالنا "المجتمعات المدنية من منظور الناموس الذاتي"، صادر في كتاب: الجمعيات بين التأطير والتوظيف [مؤلف جماعي بإشراف الكراي القسنطيني]، (منشورات جامعة منوبة / تونس، 2009). يمكن أيضا الرجوع إلى إحدى صيغه الأولى تحت عنوان "المجتمع المدني بين الواقع والوهم الإيديولوجي"، مجلة الوحدة (باريس – الرباط، 1991) عدد خاص: العرب والتنوير.
5) Henri LABROUSSE, Introduction à la philosophie politique (Paris, Marcel Rivière, 1959) P152.
6) المصدر السابق، ص152.
7) يستخدم هوبس هذه العبارة في كتاب المواطن أو أسس السياسة، ولقد استعارها من قولة لاتينية قديمة ومأثورة، يعود أصلها إلى مسرحية هزلية [ملهاة الحمار لصاحبها بلوت، 195 قبل الميلاد] وكثيرون ينسبونها إلى هوبس وهو خطأ. راجع:
HOBBES, Le Citoyen, traduction de Sorbière [1649], (Paris, Flammarion, 1982), Epître dédicatoire, P83.
شوهت هذه العبارة واستخدمت في شتى المعاني بالنظر إلى السياق الذي ساقها فيه هوبس.
8) HOBBES, Léviathan, traduction de Tricaud (Paris, Sirey, 1971), p126.
9) المصدر السابق، ص121- 126
10) لوك، مصدر مذكور، الفصل الرابع، فقرة 22، ص260.
11) لوك، المصدر السابق، الفصل الرابع، فقرة 22، ص260.
12) سنعود للنظر في مسألة المواثيق الجزئية المبرمة بين الناس قي الحالة الطبيعية.
13) لوك، مصدر مذكور، الفصل الثاني، فقرة 7، ص248.
14) في رأينا الترجمة غير دقيقة؛ لأنها لا تميز التمييز ذاته الذي يقيمه لوك بين "حب الذات"، وهو حب محمود وبناء، و"الحب الشخصي" وهو حب منبوذ وهدام لعلاقات التأنس والاجتماع البشري.
15) لوك، مصدر مذكور، الفصل الثاني، فقرة 13، ص252.
16) "فالناس- كما يقول لوك- يستطيعون أن يدخلوا بعضهم مع بعض في تعهدات وعقود أخرى ويظلون مع ذلك في حالة الطبيعة"، المصدر السابق، الفصل الثاني، فقرة 14، ص253.
17) أرسطو، مصدر مذكور، ص10، فقرة 12.
18) روسو، مصدر مذكور، ص83.
19) روسو، المصدر السابق، ص87.
20) روسو، المصدر السابق، ص92.
21) روسو، المصدر السابق، ص94.
22) راجع: عبد العزيز لبيب، "مقدمة" العقد الاجتماعي، مصدر مذكور، ص15.
23) روسو، المصدر السابق، ص109.
24) روسو، المصدر السابق، ص111.
25) روسو، المصدر السابق، ص122.
26) راجع:
Entrée "Contrat social" [par Simone GOYARD-FABRE], in Dictionnaire de Jean-Jacques Rousseau, publié sous la direction de Raymond Troussonet Frédéric S. Eigeldinger, Paris, Honoré Champion, 2006.
27) نكتفي هنا بإشارة سانحة إلى هذه العلاقة الممكنة التي تتطلب نظرا عميقا مخصوصا على هذه الأزمات، وهو ما لا يُتاح الآن في هذا المقام.
28) بَلْورنا النموذجين التفسيريّيْن في مقال مستقل، راجع عبد العزيز لبيب، "المجتمع المدني..."، مجلة الوحدة، مصدر مذكور؛ أو مقال "المجتمعات المدنية..."، الجمعيات...، مصدر مذكور.
29) أرسطو، السياسات، ترجمه عن إلى العربية عن اليونانية القديمة، الأب اغسطينس برباره البولسي (بيروت، اللجنة الدولية لترجمة الروائع الإنسانية – اليونسكو 1957)، الباب الأول، الفصل الأول، ص9، فقرة 11.
30) أرسطو، المصدر السابق، الباب الأول، الفصل الأول، ص8، فقرة 8.
31) أرسطو، المصدر السابق، الباب الأول، الفصل الأول، ص6، فقرة 4.
32) أرسطو، المصدر السابق، الباب الأول، الفصل الأول، ص9، فقرة 9.
33) انظر مثلا:
2-
Crawford Brough MACPHERSON, The Political Theory of Possessive Individualism: From Hobbes to Locke, Oxford, Clarendon press, 1962.
34)
35) John RAWLS, The Theory of Justice
Crawford Brough MACPHERSON, The Political Theory of Possessive Individualism: From Hobbes to Locke, Oxford, Clarendon press, 1962.
34)
35) John RAWLS, The Theory of Justice
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق