الحرية
والجامعات
هذا المقال هو الثالث في سلسلة من أربع مقالات للفيلسوف البريطاني
برتراند راسل، عن الحرية والليبرالية والدين والعقلانية، ستنشرها الجمهورية
تباعاً؛ وستصدر قريباً، مع ست مقالات أخرى لراسل، في كتاب بالتعاون بين مجموعة
الجمهورية ودار ممدوح عدوان للنشر.
طردت جامعة نيويورك راسل من عمله كمحاضر فيها عام
1940 بقرار قضائي، بحجة أنه فاسد اخلاقياً. استندت المحكمة في قراراها بشكل أساسي
إلى كتاب راسل الصغير «الزواج والأخلاق» الصادر عام 1929. كان راسل من أوائل من
دعوا إلى تحرير الناس من القيود القانونية والاجتماعية المفروضة على الحياة
الشخصية بشكل علني وواضح، وبشكل رئيسي قوانين الطلاق والحرية الجنسية. بالإضافة
إلى ذلك، كان لموقفه الناقد لبريطانيا في الحرب العالمية الأولى، وللرأسمالية،
وسمعته كشيوعي، بالرغم من كونه فوضوياً معادٍ للشيوعية، دورٌ في قرار الطرد.
كُتب هذا المقال بعد فترة قصيرة من قرار الطرد.
فيه يعود راسل إلى أحد المواضيع الأثيرة لديه، وهو الحرية في مواجهة الطغيان. يرى
راسل، متأثراً بأعمال جون ستيوارت مل1، أن طغيان الأكثرية في المجتمع
الديمقراطي يشكل تهديداً حقيقياً للحرية. علينا الدفاع عن الأقليات، بكافة الطرق.
هناك ديمقراطية تقمع من يخالفون رأي الأكثرية، وديمقراطية تحتفي بالاختلاف. في هذا
النص يناقش راسل نوعي الديمقراطية هذين، والأخطار الكامنة في النوع الأول.
للحرية الأكاديمية أهمية خاصة في حياة المجتمعات،
فهي إحدى أهم مصادر التقدم والتحرر وتشجيع قِيَم الحوار. لا يجوز أن يتم تقييم
الأساتذة بناءً على لونهم أو دينهم أو توجههم السياسي. يدافع راسل هنا عن حق
المسيحيين في الحصول على وظائف لائقة في الاتحاد السوفييتي السابق، وعن حق
الاشتراكيين والشيوعيين في الأمر نفسه في الدول الغربية.
يختصر هذا النص القصير تعاليم وقيم الليبرالية في
صورة أخاذة واضحة مباشرة.
عدي الزعبي
*****
-1-
قبل أن نناقش الوضع الحالي للحرية الأكاديمية، من المفيد أن نشرح
ما الذي نعنيه بهذا المصطلح. جوهر الحرية الأكاديمية أن يتم اختيار المدرسين بناءً
على خبرتهم في الموضوع الذي يدرّسونه، وأن يَحكم على خبرتهم الخبراء
الآخرون. الحكم فيما إذا كان المرء رياضياً جيداً أو فيزيائياً أو كيميائياً،
جيداً، لا يمكن أن يصدر إلا من قبل رياضيين أو فيزيائيين أو كيميائيين
آخرين. عن طريقهم يمكن للحكم أن يصدر بدرجةٍ مقبولةٍ من الإجماع.
يرى خصوم الحرية الأكاديمية أن اعتبارات أخرى – إلى جانب
مهارات الشخص في اختصاصه – يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار. يجب عليه ـ كما يعتقدون ـ
ألا يحمل أية أفكار تناقض أفكار أولئك الذين يتمتعون بالسلطة. هذه قضية دقيقة، وقد
رسمت الدول الشمولية لها حداً واضحاً. لم تتمتع روسيا بالحرية الأكاديمية أبداً
إلا خلال حكم كيرينسكي القيصر، ولكنني أعتقد أن هذه الحرية أقل الآن مما كانت أيام
القيصر. في ألمانيا، قبل الحرب، عندما كانوا يعارضون الكثير من أشكال الحرية،
اعترفوا بشكلٍ كاملٍ بمبدأ الحرية في التعليم الجامعي. الآن تغير هذا كله،
والنتيجة أن أفضل المتعلمين الألمان ـ مع استثناءات قليلة ـ يعيشون في المنافي. في
إيطاليا ـ الأكثر تسامحاً إلى حدٍ ما – نجد استبداداً مشابهاً في الجامعات. في
الديمقراطيات الغربية بشكل عام الوضع يبعث على الأسى. ولا نستطيع، بكل الأحوال، أن
ننكر وجود نزعاتٍ قد تؤدي إلى مساوئ مشابهة.
الخطر هو أحد تلك الأخطار الذي لا تكفي الديمقراطية وحدها كي
نتفاداه. الديمقراطية التي تمارس فيها الأغلبية سلطتها دون تقييد قد تشبه إلى حدٍ
كبيرٍ في طغيانها الدكتاتورية. التسامح مع الأقليات يشكل جزءاً جوهرياً من
الديمقراطية الحكيمة، ولكنه الجزء الذي لا يتذكره الناس دوماً بشكلٍ كافٍ.
فيما يتعلق بأساتذة الجامعة، يؤكد البعض أن هذه الاعتبارات يجب أن
تُطبّق بشكل خاص عليهم. يُفترض بأساتذة الجامعة أن يتمتعوا بمعرفة خاصة ويتلقوا
تدريباً خاصاً بحيث يستطيعون التعامل مع المواضيع الخلافية بأسلوب مميز يمكّنهم من
إلقاء الضوء عليها. أن نأمرهم بالصمت بشأن القضايا الخلافية، يعني أن نحرم المجتمع
من الفوائد التي قد يقدمونها نتيجة موضوعيتهم. لقد أدركت الإمبراطورية الصينية،
قبل عدة قرون، الحاجة إلى النقد الرسمي ولذلك فقد أسست هيئة الرقباء، التي تتألف من
أشخاصٍ مشهورين في سلك التعليم والحكمة، ومنحتها الحق في البحث عن أخطاء
الإمبراطور وحكومته. لسوء الحظ، وكما يحصل مع أي شيء آخر في الصين التقليدية، فقد
تحولت المؤسسة إلى مجرد عرفٍ آخر. كان هنالك بعض الأشياء المحددة التي سُمح
للرقباء بمراقبتها، كالسلطة المفرطة للخصيان، و لكن إذا تطرقوا إلى مواضيع غير
تقليدية فالإمبراطور كان ميالاً إلى نسيان حصانتهم. الأمر نفسه يحصل هنا. يُسمح
بالنقد على نطاقٍ واسع، ولكن عندما يولد الشعور بأن الأمر خطير، فالمؤلف سيتعرض
إلى أحد أنواع العقاب.
في هذا البلد2 تتعرض الحرية الأكاديمية للتهديد من مصدرين:
طبقة الأثرياء والكنائس، اللذان يسعيان إلى إقامة نظام رقابي اقتصادي ولاهوتي. يتم
الجمع بسهولة بين هذين النظامين عن طريق الاتهام بالشيوعية، تلك التهمة التي
تُوَجَه باستهتارٍ ضد أي فرد لا تكون آراؤه مقبولة. فمثلاً، لقد لاحظت باهتمام، أنه
بالرغم من أنني أنتقد الحكومة السوفيتية بشدة منذ 1920، وعلى الرغم من أنني
قد أكدت في السنوات الأخيرة على الرأي القائل بأنها على الأقل بسوء الحكومة
النازية، تجاهل نقّادي كل ذلك واقتبسوا – شاعرين بالنصر – جملة أو اثنتين، كنت –
في لحظات الأمل ـ قد رأيت فيها إمكانية تحسن الأمور في النهاية في روسيا.
التكتيكات المتبعة في التعامل مع الأشخاص ذوي الآراء غير المقبولة
من قبل مجموعات معينة تتمتع بالسلطة، قد وصلت إلى حد الكمال وتشكل خطراً كبيراً
على التقدم المنشود. إذا كان الشخص المقصود ما يزال شاباً ومغموراً نسبياً، فقد
يتهمه رؤساؤه الرسميون بعدم الكفاءة، وقد يتم التخلي عنه بصمت. مع الرجال الأكبر
سناً والذين يتمتعون بشهرة كافية بحيث لا تنجح معهم هذه الطريقة، يتم تهييج العداء
الجماهيري عن طريق التحريف. بشكل طبيعي، معظم الأساتذة لا يريدون أن يعرّضوا
أنفسهم لهذه المخاطر ويتجنبون أن يقدموا للرأي العام ما يعارض الآراء التقليدية.
هذا الوضع خطير، حيث تُكمّم العقول النزيهة، وحيث تُقنع القوى المحافظة والظلامية
نفسها بأنها تستطيع أن تبقى منتصرة.
-2-
مبدأ الديمقراطية الليبرالية، الذي ألهم مؤسسي الدستور الأمريكي،
يقول أن المواضيع الخلافية يجب أن تقرر بالحوار وليس بالقوة. لقد آمن الليبراليون
دائماً أن الآراء يجب أن تتشكل بناءً على الحوار الحر، وليس بأن يُسمح لطرف واحد
فقط بأن يُدلي برأيه. أما الحكومات الاستبدادية – القديمة والحديثة – فقد اتخذت
الرأي المعاكس. بالنسبة لي، لا أجد أي سببٍ كي نتخلى عن التقليد الليبرالي في هذه
المسألة. إذا كنت أملك السلطة، فلا يجب أن أمنع الناس من أن تستمع لخصومي. يجب أن
أسعى كي تحصل جميع الآراء على وسائل متساوية، وأن أترك النتيجة لما ينتج عن النقاش
والحوار. يوجد بين الضحايا الأكاديميين للاضطهاد الألماني في بولندا – على ما أعلم
– بعض أبرز المناطقة، الذين يؤمنون بالكاثوليكية التقليدية بشكل كامل. يجب أن أفعل
كل ما باستطاعتي كي يجد أولئك الرجال مواقع أكاديمية، بالرغم من أن إخوتهم في
الدين لن يعاملونني بالمثل.
الفارق الرئيسي بين النظرة الليبرالية وغير الليبرالية هو أن
الليبراليين يعتقدون أن كل الأسئلة مفتوحة للحوار، وأن كل الآراء تخضع بأشكال
مختلفة للشك، بينما يرى غير الليبراليين – مسبقاً – أن بعض الآراء لا
يجب مناقشتها إطلاقاً، وأنه لا يجوز الاستماع إلى أية حجة معارضة لهذه الآراء.
الشيء الغريب في هذا الموقف هو الاعتقاد بأن السماح بالبحث الموضوعي سيؤدي ببعض
الناس إلى نتائج خاطئة. ولذلك فالجهل هو الحارس الأمين في وجه الأخطاء. لا يستطيع
أي إنسان يتمنى للعقل، لا التعصب، أن يحكم الأفعال البشرية، القبول بهذا الموقف.
ظهرت النظرة
الليبرالية في انكلترا وهولندا في نهايات القرن السابع عشر، كَرَدِّ فعلٍ على
الحروب الدينية. استمرت المعارك الطاحنة مع أحقاد عظيمة لمدة 130 سنة دون أن تؤدي
إلى النصر لأيٍ من الأطراف المتصارعة. شَعَرَ كل طرفٍ بالثقة المطلقة بأنه على
صواب وأن نصره ذو أهمية فائقة للجنس البشري. في النهاية، شَعَرَ بعض العقلاء
بالقلق من الصراعات غير المحسومة، وقرروا أن كلا الطرفين مخطئان في ثقتهما
الدوغمائية. جون لوك، الذي عبّر عن هذه الآراء الجديدة في الفلسفة وفي السياسة،
كتب في بداية عصر من التسامح المتنامي. لقد أكد على إمكانية الخطأ في الأحكام
البشرية وبشّر بمرحلةٍ من التقدم استمرت حتى 1914. ويعود الفضل للوك ومدرسته في أن الكاثوليك
عاشوا بتسامح في البلدان البروتستانية، والبروتستانت في البلدان الكاثوليكية.
تعلَّم الناس دروس التسامح من النزاعات التي كانت سائدة في القرن السابع عشر، ولكن
فيما يتعلق بالنزاعات الجديدة التي ظهرت منذ نهاية الحرب العظمى فإن القواعد
الحكيمة لفلاسفة الليبرالية قد نُسيت. لم نعد نخاف الكويكرز، كما كان الحال مع
المسيحيين المخلصين في محاكم تشارلز الثاني، ولكننا نخاف ممن يعالج مشاكلنا
المعاصرة بالنظرة نفسها والمبادئ نفسها التي كان الكويكرز في القرن السابع عشر
يعالجون بها مشاكلهم. تكتسب الآراء القديمة التي لا نتفق معها نوعاً ما من
الاحترام بسبب قدمها، ولكن الآراء الجديدة التي لا نتفق مع أصحابها تصدمنا دوماً.
يوجد رؤيتان ممكنتان لكيفية عمل الديمقراطية. تبعاً للرأي الأول،
يجب أن تسود آراء الأكثرية بشكل مطلق وفي جميع المجالات. تبعاً للرأي للثاني،
حينما لا تكون القرارات العامة ضرورية، يجب أن تُستعرض جميع الآراء، بشكل متناسب
قدر الإمكان مع ترددها النسبي. النتائج العملية لهاتين الرؤيتين مختلفةٌ تماماً.
تبعاً للرأي الأول عندما تقرر الأكثرية شيئاً ما، يجب ألا يُسمح للآخرين بالتعبير
عن آرائهم، وإذا قاموا بذلك فيجب أن يقتصروا على القنوات المغمورة وغير المؤثرة.
تبعاً للرأي الثاني، يجب أن تُعطى آراء الأقلية الفرص نفسها التي تأخذها
آراء الأكثرية من التعبير، ولكن فقط بدرجة أقل.
يتم تطبيق ذلك بشكل خاص على التعليم. يجب ألا يُطلب من الرجل أو
المرأة اللذين يمارسان التعليم في دولةٍ ما أن يعبّرا عن آراء الأكثرية، بالرغم من
أن معظم المدرسين سيقومون بذلك بشكل طبيعي.
يجب ألا نطمح إلى تماثل الآراء التي يعبر عنها المدرّسون بل
– إن أمكن – يجب تجنب ذلك بما أن تنوع الآراء بين المعلّمين شيء جوهري لأي تعليم
جيد. لا يمكننا اعتبار الإنسان متعلماً إذا سمع طرفاً واحداً فقط فيما يتعلق
بالأسئلة التي ينقسم بشأنها الشعب. أحد أهم الأمور التي يجب تعليمها في المؤسسات
التربوية في البلدان الديمقراطية هو القدرة على وزن الحجج المختلفة، والانفتاح
العقلي المُهيأ مسبقاً لقبول أي طرفٍ يظهر بأنه الأكثر معقولية. حين تُفرض الرقابة
على الآراء التي قد يعبر عنها الأساتذة، لا يحقق التعليم هذا الهدف ويميل
إلى أن ينتج – بدلاً من أمةٍ من البشر – قطيعاً من المتعصبين المتحجرين. منذ نهاية
الحرب العظمى، ازدهر التعصب المتحجر حتى أصبح مسيطراً على أجزاء كبيرة من العالم
كما كان في زمن الحروب الدينية. كل المعارضين للنقاش الحر والذين يريدون فرض
الرقابة على الآراء التي تُعرض للشباب، يشاركون في زيادة التعصب التي أنقذنا منها
بالتدريج لوك وأتباعه.
يوجد سؤالان لا يتم التمييز بينهما بشكلٍ كافٍ: الأول يتعلق بالشكل
الأفضل للحكومة، الثاني ماهي وظائف الحكومة؟ لا
يوجد لدي أدنى شك في أن الديمقراطية هي الشكل الأفضل للحكومة، ولكنها قد تخطىء، فيما يتعلق بوظائف
الحكومة كأي شكل آخر. في بعض الأمور يكون العمل المشترك ضرورياً، وبالنسبة لهذه
الأمور، يجب أخذ القرارات بالأكثرية. ولكن في أمور أخرى لا يكون العمل المشترك
ضرورياً ولا مرغوباً. من ضمن هذه الأخيرة مجال التعبير عن الآراء. بما أن هنالك ميلاً طبيعياً عند من يملكون السلطة إلى
ممارستها إلى الحد الأقصى، من الضروري كي نتفادى الطغيان أن توجدَ مؤسساتٌ
ومنظماتٌ تملك – عملياً أو نظرياً – استقلالاً محدداً بدرجةٍ ما عن الدولة. إن حريةً كهذه والتي
توجد في البلدان التي استمدت حضارتها من أوروبا يمكن تتبعها تاريخياً إلى الصراع
بين الكنيسة والدولة في العصور الوسطى. في الامبراطورية البيزنطية كانت الكنيسة
خاضعة للدولة، وربما يكون هذا هو السبب في الغياب الكامل لأي تقليد حرٍّ في روسيا،
التي استمدت حضارتها من القسطنطينية. في الغرب، حصلت الكنيسة الكاثوليكية أولاً،
وبعدها بعض شِيَع البروتستانتية على حرياتٍ معينة من الدولة.
الحرية الأكاديمية – بالتحديد – كانت جزءاً من حرية الكنيسة،
وتبعاً لذلك فقد تعرضت للقمع في انكلترا في عصر هنري الثامن. في كل دولة، أكرر،
وبغض النظر عن شكل الحكومة القائمة، يتطلب الحفاظ على الحرية وجود جماعات من الناس
تملك استقلالاً محدوداً بدرجة ما عن الدولة، ومن
الأهمية بمكان أن تكون الجامعات ضمن هذه الجماعات. في أيامنا هذه في أمريكا توجد حرية
أكاديمية أكبر في الجامعات الخاصة من تلك التي تقع بالاسم تحت سلطة الديمقراطية،
ويعود ذلك إلى فكرة خاطئة وشائعة جداً عن الوظائف المناسبة للحكومة.
-3-
يعتقد دافعو الضرائب أنهم طالما يدفعون رواتب أساتذة الجامعات فإن
لهم الحق في أن يقرروا ما الذي يدرّسه أولئك الأساتذة. إذا أخذنا النتائج المنطقية
لهذا المبدأ، سنجد أنه سيؤدي إلى إلغاء كل فوائد التعليم العالي الذي يتمتع به
أساتذة الجامعات، وأن تعليمهم سيساوي قيمة تعليم من لا يملك أية كفاءة خاصة.
«الحماقة، التشبه بالدكاترة، التحكم بالقدرات» كانت أحد الأمور التي جعلت شكسبير
يصرخ طلباً للموت المريح. مع ذلك، فإن الديمقراطية، كما يفهمها كثيرٌ من
الأمريكيين، تقتضي سيطرةً كهذه على كل الجامعات الحكومية. ممارسة السلطة أمر
مقبول، وبخاصة عندما يمارسها شخص مغمور على آخر شهير.
الجندي الروماني الذي قتل أرخميدس، لو أُجبر في شبابه على دراسة الهندسة، لاستمتع
بالتأكيد بانفعال خاص لأنه أنهى حياة مجرمٍ مرموق. يستطيع المتعصب الأمريكي الجاهل
أن يستمتع بالانفعال ذاته باستخدام سلطته الديمقراطية ضد أشخاص تكون آراؤهم بغيضة
لغير المتعلمين.
ربما هنالك خطرٌ خاص في
إساءة استعمال السلطة في الديمقراطية، وبما أن الديمقراطيات جمعية فهذا
الخطر يتمثّل في إثارة هستيريا الغوغاء. لدى الشخص الذي يملك موهبة إثارة
غرائز الغوغاء لصيد الساحرات قوة خاصة فعلاً لإثارة الشر في الديمقراطية، حيث أن عادة
ممارسة السلطة من قبل الأكثرية أدت إلى الاستبداد الذي ستولده ممارسة السلطة
بالتأكيد عاجلاً أم آجلاً. الشيء الرئيسي الذي يجب فعله لحماية الديمقراطية من هذا
الاستبداد هو تأمين التعليم الجيد الهادف لمحاربة هذا الميل إلى الهيجان
اللاعقلاني الذي تولده الكراهية الجماعية. إن تعليماً كهذا هو ما يتمنى معظم أساتذة
الجامعات أن يقدموه، ولكن سادتهم من طبقة الأثرياء والكهنوت يجعلون القيام بتلك
المهمة بفعالية صعباً جداً. لأن أولئك الرجال يدينون بسلطتهم للمشاعر اللاعقلانية
للجموع، ويعلمون أنهم سيسقطون لو شاعت سلطة التفكير العقلاني. حيث أن التشابك بين سلطة الغباء من الأسفل وعشق السلطة من الأعلى
يشلّ محاولات العقلانيين. فقط بإحراز درجة أعلى من الحرية الأكاديمية مما هو موجود حالياً في
المؤسسات التعليمية العامة يستطيع هذا البلد تجنب تلك الشرور. إن اضطهاد الأنماط غير الشعبية للذكاء خطرٌ عظيم وكان سبباً
في بعض الأحيان لانهيار الأمم. المثال المعتاد إسبانيا، حيث أدى طرد اليهود
والمسلمين إلى خراب الزراعة وتبني سياساتٍ مالية بلهاء تماماً. هذان الأمران،
بالرغم من أن نتائجهما قد غطت عليها في البداية قوة شارل الخامس، كانا السببين
الأساسيين لانحدار إسبانيا وتخليها عن مركزها المسيطر في أوروبا. نستطيع الافتراض
بأن الأسباب نفسها ستؤدي إلى النتائج نفسها في ألمانيا، في نهاية الأمر، إن لم يكن
في المستقبل القريب. في روسيا، حيث تلك الشرور موجودة لوقتٍ أطول، أصبحت النتائج
مرئيةً بوضوح، حتى في عدم كفاءة الآلة العسكرية.
تشكل روسيا في هذه اللحظة، المثال الأكمل لبلدٍ يملك فيه المتعصبون
درجةً عاليةً من السيطرة، ويحاول أمثالهم في أمريكا الوصول إليها . اقتبس
البروفيسور أ.ڤ.هِل المقطع التالي من
الجريدة الفلكية في الاتحاد السوفيتي الصادرة في كانون الأول 1938:
1. إن علم نشأة الكون البرجوازي الحديث يعيش في حالةٍ من التخبط
الإيديولوجي العميق الناتج من رفضه قبول المفاهيم الوحيدة الصحيحة للمادية
الديالكتيكية، التي تقول بالزمان والمكان اللانهائيين.
2. إن الأعمال العدائية لعملاء الفاشية، الذين يسعون للحصول
على المواقع القيادية في دراسات فلكية محددة وفي مؤسسات أخرى، بالإضافة إلى ميدان
الصحافة، قد أدت إلى إقامة بروباغندا مقززة معادية للثورة وتابعة للإيديولوجيا
البرجوازية في الأبحاث المنشورة.
3. إن الأعمال السوفيتية المادية المعدودة حول مسائل علم الكونيات
قد بقيت معزولة ومحظورة من قبل أعداء الشعب، إلى أن نُشرت مؤخراً.
4. إن أفضل تعليم تتلقاه دوائر واسعة من المهتمين بالعلوم، يحافظ
على الروح اللامبالية تجاه الأوجه الأيديولوجية للنظريات الكوسمولوجية البرجوازية
المعاصرة.
5. لقد أصبح ضرورياً – لفضح أعداء الشعب السوفيتي – تطوير كوسمولوجيا
سوفيتية مادية جديدة.
6. نرى أنه من الضروري أن يدخل العلم السوفيتي الميدان العلمي
الدولي حاملاً إنجازات صلبة في النظريات الكوسمولوجية على أسس مناهجنا الفلسفية.
استبدل «السوفيتية» بـ«الأمريكية»، واستبدل «الفاشية» بـ«الشيوعية»،
واستبدل «المادية الديالكتيكية» بـ«الحقيقة الكاثوليكية»، وستحصل على وثيقة قد
يوقعها معظم أعداء الحرية الأكاديمية في هذا البلد.
-4-
لدينا ميزة مشجعة وحيدة في هذا الوضع، وهي أن استبداد الأكثرية في
أمريكا، بالرغم من أنه ليس حديثاً، إلا أنه على الأغلب أقل مما كان قبل مائة عام.
يستطيع أي إنسان أن يستنتج ذلك من كتاب توكفيل «الديمقراطية في أمريكا». معظم أقواله ما زالت صالحة، ولكن بعض
ملاحظاته ليست صحيحة بالتأكيد في أيامنا هذه. أنا لا أستطيع أن أتفق معه مثلاً في
قوله: «لا يوجد بلدٌ في العالم المتحضر أقل اهتماماً بالفلسفة من الولايات المتحدة».
ولكنني أعتقد أن النص التالي، بدرجةٍ أقل مما كان في زمن توكفيل، ما يزال صحيحاً:
«تضع الأكثرية في أمريكا الكثير من الحواجز الهائلة على حرية الرأي: ضمن هذه
الحواجز يستطيع المؤلف أن يكتب ما يريد، لكنه سيندم إذا تخطاها. لن يتعرض لعذاب
النار كما تفعل محاكم التفتيش، ولكن سيُعذَب بواسطة الإهانات والاضطهادات
اليومية. سينتهي مستقبله السياسي إلى الأبد، بما أنه قد أهان السلطة الوحيدة
القادرة على تحقيق نجاحه. أي شكل من أشكال التعويض، حتى الشهرة، لن يحصل عليها.
يعتقد المؤلف قبل نشر آرائه أن كثيراً من الناس يشاركونه تلك الآراء، ولكن بعد
نشرها يستهجن خصومه المتغطرسون تلك الآراء بصوتٍ عالٍ، بينما يتخلى عنه أولئك
اللذين يشاركونه الرأي ولا يملكون الشجاعة للتصريح به. يستسلم في النهاية، تَعباً
من المحاولات اليومية التي كان يبذلها، كما لو أنه معذبٌ من تأنيب الضمير لأنه قال
الحقيقة».
أعتقد أننا يجب أن نعترف أيضاً بأن توكفيل كان محقاً في ما قاله
حول سلطة المجتمع على الفرد في الديمقراطية: «عندما يقارن المرء القاطن في بلدٍ
ديمقراطي نفسه بجميع المحيطين به، يشعر بالفخر لأنه مساوٍ لأيٍّ منهم، ولكنه عندما
يفحص زملاءه كجماعة، ويضع نفسه بمواجهة كتلة بهذه الضخامة، سيتغلب عليه فوراً
الشعور بتفاهته وضعفه. إن الميزة ذاتها التي تجعله مستقلاً عن كلٍّ من زملائه
المواطنين، إذا أُخذت على حدة، تجعله يتعرض وحيداً ودون حماية لتأثير عددهم
الهائل. لذلك يملك الجمهور في الديمقراطيات قوةً استثنائية، لا تستطيع الأمم
الارستقراطية تكوين أية فكرة عن مداها حيث أنها لا تقوم على الإقناع
فيما يتعلق ببعض الآراء المحددة، بل تفرضها بالقوة، وتُجبر كل عقلٍ مفكرٍ على
الخضوع للضغط الهائل لمجموع العقول الأخرى».
تردي منزلة الفرد بسبب
ضخامة اللوياثان3، منذ أيام دوتوكفيل، قد ازداد بشكل كبير،
ليس فقط في البلدان الديمقراطية، ولا بشكل أساسي في هذه البلدان. إنه تهديدٌ جديٌّ
جداً لعالم الحضارة الغربية، وعلى الأرجح – إن لم يُقيد – سيؤدي إلى نهاية التقدم
العقلي. لأن كل تقدمٍ عقليٍ جدي يعتمد على نمط
معين من الاستقلال تجاه الآراء الخارجية، والذي لا يمكن أن يوجد عندما نتعامل مع
إرادة الأكثرية بهذه الطريقة من الاحترام الديني الذي نراه عند المتدينين لإرادة
الله.
إن احترام إرادة الأكثرية أكثر ضرراً من
احترام إرادة الله، لأن إرادة الأكثرية يمكن أن تتحقق. قبل أربعين سنة تقريباً، في مدينة دربين، تحدّت جمعية الأرض
المستوية العالم في نقاشٍ عام. لقد قبل التحدي قبطانٌ كانت حجته الوحيدة لإثبات
كروية الأرض أنه قام بنفسه بالدوران حولها. بالطبع، لم تقنع هذه الحجة الناس وربح
أنصار الأرض المستوية ثلثي الأكثرية. وبذلك فقد أُعلن صوت الشعب، والديمقراطي
الحقيقي يجب أن يستنتج أن الأرض مستوية في دربين. أتمنى أن لا يكون قد سُمح لأحد –
منذ زمن الإعلان فصاعداً – بأن يدرّس في المدارس العامة في دربين (أعتقد أنه لا
يوجد جامعة هناك) إلا إذا وقّع على ذلك الإعلان الذي يقول بأن كروية الأرض دوغما
للكفار، وقد وضعت كي تؤدي إلى الشيوعية وتدمير العائلة. ولكن معلوماتي ناقصة
حول ما حصل بعد ذلك في دربين.
الحكمة الجمعية – للأسف – ليست بديلاً كافياً لذكاء الأفراد. أولئك
الأفراد الذين عارضوا الآراء المسبقة كانوا مصدر كل تقدم، سواء العقلي، أو
الأخلاقي. لقد كانوا غير شعبيين، وهو أمر طبيعي. سقراط، يسوع، وغاليليو جلبوا على
أنفسهم وبشكل متساوٍ لوم المتعصبين. ولكن في الماضي لم تكن آلة القمع بالكفاءة
نفسها التي هي عليها اليوم، والمهرطق، حتى لو أعدم، فسيحصل على شعبية ملائمة. كان
دم الشهداء بذرة بناء الكنيسة، ولكن لم يعد هذا صحيحاً في بلد كألمانيا الحديثة،
حيث يستشهد الناس بشكل سريّ ولا توجد وسائل لنشر تعاليم الشهداء.
إن أعداء الحرية الأكاديمية، إن تابعوا طريقهم، سوف ينحدرون بهذا
البلد إلى مستوى ألمانيا في فيما يتعلق بنشر التعاليم التي يعارضونها. سوف
يستبدلون التفكير الفردي بالطغيان المنظم؛ سوف يحرّمون كل جديد؛ سوف يجعلون
المجتمع يتحجر؛ وفي النهاية سينتجون سلسلة من الأجيال ستعبر من الولادة إلى الموت
دون أن تترك أثراً في تاريخ الإنسانية. قد يبدو للبعض أن ما يطالبون به في هذه
اللحظة ليس أمراً مميتاً. قد يقال، ما هي أهمية الحرية الأكاديمية في عالم تدمره
الحروب، وتعذبه الاضطهادات، ويزخر بمعسكرات الاعتقال لأولئك الذين لا يشاركون في
الظلم؟ بالمقارنة مع هذه الأمور، أعترف أن موضوع الحرية الأكاديمية ليس له
بذاته الأهمية الأولى. ولكنه يشكل جزءاً أو قطعةً من المعركة نفسها. دعونا نتذكر
أن ما نراهن عليه، في الأمور العظيمة كما في الأمور التي تبدو أصغر، هو حرية روح
الفرد الإنساني في أن تعبّر عن معتقداتها وآمالها الإنسانية، سواء شاركها في ذلك
كثيرٌ من الناس أو قلةٌ منهم أو لا أحد على الإطلاق. إن آمالاً جديدة وأفكاراً
جديدة ضرورية في كل الأوقات للإنسانية، ولا يُتوقع أن تظهر من التماثل الميت.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق