الدكتور عبد الرحمن السليمان:
تفكيك مصطلح العلمانية
ترمي هذه المقالة إلى تفكيك مصطلح
العلمانية في اللغة العربية والتأريخ له بتتبع
مفاهيمه الأصلية في اللغات الغربية أولا، ثم برصد عملية إدخاله في العربية وتطوره
وتطور مفاهيمه فيها ثانيا. ونستهل مقالتنا هذه بكلام للمرحوم عبدالوهاب المسيري من
كتابه (العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة):
"توجد
في المعجم العربي ترجمات مختلفة لكلمة "سيكولار" و"لائيك"
[كذا، وفي الحقيقة للمصطلحين الإنكليزي secularism والفرنسي laïcité]:
1.
"العِلمانية"(
بكسر العين) نسبة إلى العِلم؛
2.
"العَلمانية"(
بفتح العين) نسبة إلى "العَلم" بمعنى "العالم"؛
3.
"الدنيوية"
أي الإيمان بأنها هي الحياة الدنيا ولا يوجد سواها؛
4.
"الزمانية"
بمعنى أن كل الظواهر مرتبطة بالزمان وبالدنيا ولا علاقة لها بأية ماورائيات؛
إذن نحن هنا أمام مفهومين غربيين
(secularism/laïcité) فسرا
على أنهما مفهوم واحد ترجم إلى العربية بأربعة مرادفات ونقحر ليصبح عدد المقابلات
العربية له خمسة
.[2] وقد
أثار نطق العامة والخاصة كلمة (علمانية) بكسر
العين جدلا كبيرا. وفي هذا السياق ينقل المسيري
قول فؤاد زكريا التالي، وما بين [] من عندي:
"ولا
شك في أن الربط بين العلمانية وبين معنى "العالم" أدق من الربط بينها
وبين معنى "العِلم". ولو شئنا الدقة الكاملة لقلنا إن الترجمة الصحيحة
للكلمة هي "الزمانية"، لأن الكلمة التي تدل عليها في اللغات الأجنبية،
أي secular في
الإنكليزية مثلا [كذا والصواب: secularism] مشتقة من كلمة [لاتينية] تعني القرن saeculum".[3] ويتضح
من كلام فؤاد زكريا أنه يقترح اعتماد مصطلح "الزمانية" بدلا من
العلمانية على المصطلح الإنكليزي اللاتيني الأصل secularism وليس على المصطلح الفرنسي اليوناني
الأصل laïcité، ذلك لأن "الزمان" ليس من معاني
هذا الأخير. وهو اقتراح غير صائب لأن معنى saeculum الأصلي المؤسس للمصطلح secularism هو
"الدنيا" وليس "الزمان" كما سيتضح أدناه. وجاء في المعجم
الوسيط الصادر عن مجمع اللغة العربية في القاهرة ما نصه: "العَلماني: نسبة
إلى العَلم أي العالم، وهو خلاف الديني أو الكهنوتي".[4] وكل
المصادر اللغوية العربية على هذا القول أي على أن كلمة (العلمانية) تنسب إلى
العالَم بفتح العين وليس إلى العِلم بكسرها، فلا داعي إلى الاستفاضة فيه لوضوحه
التام. إنما نحن بحاجة إلى استبيان معاني المفاهيم الأصلية للمصطلحات الغربية التي
يُعبّر عنها في كلمتنا (علمانية).
1.
1. المصطلح:
إذن
يُفهم من مصطلح (العلمانية) اليوم في العربية أنه "ترجمة" للمصطلحين الفرنسي (laïcité) والإنكليزي (secularism). ومن الضروري
أن نعي جيدا أن هذين المصطلحين ليسا مرادفين من حيث المعنى التاريخي والدلالة في
العصر الحديث. بكلام آخر: إن المصطلح الفرنسي laïcité ليس مرادفا للمصطلح الإنكليزي secularism. فهذان
مصطلحان مختلفان من حيث الدلالة اليوم. فالأول يشير إلى الإيديولوجية العلمانية
التي نشأت بعد الثورة الفرنسية. والثاني يشير إلى "الدنيوية" بشكل عام.
والأول إيديلوجية حركية تقوم عليها دولة، والآخر تيار مدني إنسني عام غير ملتزم
حركيا. وسنتوقف عند ذلك في محطة لاحقة. أما الآن فسنقتصر على النظر والتأمل في
المفهوم الأصلي، أو بالأحرى المفاهيم الأصلية لمصطلح (العلمانية) كما جاءت في
المصادر اللغوية الغربية، ثم نبحث في الاشتقاق اللغوي له في العربية، فنتتبع
إدخاله في العربية وتعدد مفاهيمه فيها بهدف ضبط معاني مفاهيمه المتعددة.
1.1. المفاهيم
الأصلية القديمة لمصطلح (العلمانية):
نميز
في اللغات الغربية بين ثلاثة جذور اشتق منها مصطلحات كثيرة تشير كلها إلى معاني
متقاربة نذكر هنا مصادرها الصناعية وهي: 1. laicism و2. secularism و3. profanism.
الـ (Laicism): (قارن
الإنكليزية: laicism؛ الفرنسية laïcisme؛ الألمانية Laizismus والهولندية laïcisme). هذا مصطلح مشتق من اليونانية λαϊκός أو laïkos نسبة λαός أو laos "الشعب".
وعليه فإن laïkos يعني
حرفيا "شعبي". وقد اكتسب هذا اللفظ مفهوما جديدا بعد نشوء الكهنوت
النصراني بعد تنصر قسطنطين واعتبار النصرانية دين الإمبراطورية البيزنطية، فصار
يستعمل للدلالة على عامة الشعب للتمييز بينهم وبين طبقة الكهنة الذين أصبحوا
يشكلون الخاصة. وعليه فلم يعد laïkos هنا يعني "شعبي" فحسب، بل
"عامِّي" أيضا، أي الشخص العامي الذي ليس بكهنوتي. وقد تمأسس الفرق بين
عامة الشعب و"الرعاة" أو الكهنوت واتخذت العلاقة بينهما مسافة لا يمكن
تجاوزها بعدما أصبح القيام بالأسرار الدينية مثل سر التعميد وسر الزواج وغيرهما
مقتصرا على الكهنة المكرسين بـ "سر التكريس" (= ordinatio). واتخذت العلاقة، ابتداء من
القرن الحادي عشر، بعدا آخر بحرمان الكهنوت من الزواج، بحيث أصبح الفرق بين
"عامة المؤمنين" و"خاصة الرعاة" كبيرا جدا.
إذن
تعني laicism (ومنها
الفعل laicize):
"عَوْمَنة"، أي إخراج الشخص من طبقة الكهنة إلى طبقة العامة،
أو المتاع (مثلا "الأرض") من ملكية الكهنوت إلى ملكية العامة. من ثمة
تسميتهم الشخص العامي في الإنكليزية laic أو layman وكذا laity ضد الكهنوتي (= cleric)، وفي الفرنسية laïque، وفي الألمانية laie وفي الهولندية leek وley ومثله
في سائر اللغات الأوربية. وعلى الرغم من أن هذه الألفاظ كانت تطلق على العامي
الجاهل، إلا أنها كانت ولا تزال تستعمل في سياق إيجابي أيضا (كان كالفين يسمي قضاة
المحاكم المدنية: juges laïcs أي
"قضاة مدنيين" .. فالقضاة ليسوا "عامة").[5] وهذه
المعاني في اللغات الغربية قديمة قدم المؤسسات النصرانية وليست مستحدثة. ويرد
المعجم الإنكليزي التأثيلي مفهوم layman بمعنى الشخص العامي غير الكهنوتي في
الإنكليزية إلى سنة 1432.[6] ويرد
المعجم ذاته المفهوم الإنكليزي layman بمعنى الشخص العامي غير الكهنوتي في
الإنكليزية إلى الفرنسية القديمة التي تكون فيها هذا المفهوم سنة 1330 كما يشير
المصدر ذاته. وهذا كله يعود إلى اللاتيني laïcus المأخوذ بدوره عن اليونانية laïkos (λαϊκός) نسبة إلى λαός "شعب"
كما تقدم.
وعليه
فإن هذا المعنى، معنى "العومنة" أي "جعل الشيء عاميا" بعكس
الكهنوتي، يعود إلى بداية الحقبة النصرانية كما تقدم، ويعود اشتقاق الإنكليزيةLaicism
والفرنسية laïcisme إلى الكلمة اليونانية λαός (laos) التي تعني
"شعب"، "عامة"، أي عكس الكهنة. من ثمة صارت الكلمة تدل على
القضايا الشعبية "الدنيوية"، بعكس الكهنوتية "الدينية". وقد
اشتق من الكلمة اليونانية λαός (laos) المصطلحُ اليوناني (λαϊκισμός) أو laïkismόs "علمانية/عومنة"،
وكذلك (λαϊκός) أو laïkos "علماني/عامّي"
الذي هو ضد الكهنوتي
(κληρικός) أو
klyrikos. ونرجح نشوء هذا المصطلح في بيزنطة بعدما نادى قسطنطين بالنصرانية
ديانة للدولة البيزنطية في القرن الرابع للميلاد، وهو القرن الذي عرف حضورا قويا
للبطارقة والكنيسة في الحياة السياسية والاجتماعية للدولة البيزنطية.
الـ (Secularism): (قارن
الإنكليزية: Secularism؛ الفرنسية Sécularisme؛ الألمانية Säkularismus والهولندية Secularisme). تعني كلمة αἰών/aioon في
اليونانية، فيما تعني، "الأزل؛ الجيل؛ الزمان؛ الحقبة الزمنية؛ الدنيا".
وما يهمنا هنا معناها الأخير "الدنيا". وقد جاءت في الأناجيل كثيرا
بالمعنيين المتضادين: "الزمن الأزلي" (= السرمد) و"الزمن
المؤقت" (= الحياة الدنيا)، تماما مثل الكلمة العبرية עלָם: /عُولَم/ التي وردت في العهد القديم بالمعنيين المتضادين
"الزمن الأزلي" و"الزمن المؤقت" أو الحياة الدنيا.
فنحن
نجد עוֹלָם: /عُولَم/
بمعنى "الزمن الأزلي" في المزمور 45 الآية 7: כִּסְאֲךָ אֱלהִים, עוֹלָם וָעֶד "عرشك يا الله
إلى الأبد"، ونجدها بمعنى "الزمن المؤقت" أو الحياة الدنيا في سفر
الجامعة الإصحاح 3 الآية 11: גַּם
אֶת-הָעלָם, נָתַן בְּלִבָּם "وجعل حب الدنيا في
قلوبهم"، لأن עלָם: /عُولَم/
ههنا تعني "العالم"، "الحياة الدنيا"، وليس "الأزل".[7]
فقد
جاءت كلمة αἰών/aioon بمعنى
"الحياة الأزلية" في إنجيل متى الإصحاح 25 الآية 46: (فَيَمْضِي
هؤُلاَءِ إِلَى عَذَاب أَبَدِيٍّ وَالأَبْرَارُ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ).
فـ"حياة أبدية" هنا ترجمة لـ (ζωὴν αἰώνιον/zo’i aionion). وقد ترجمها
مترجم الفولغاتا إلى اللاتينية بـ (vitam aeternam) أي "حياة أبدية" أيضا. كما
جاءت كلمة αἰών/aioon بمعنى
"الحياة الدنيا" في إنجيل متى الإصحاح 28 الآية 20: وَعَلِّمُوهُمْ أَنْ
يَحْفَظُوا جَمِيعَ مَا أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ. وَهَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ
الأَيَّامِ إِلَى انْقِضَاءِ الدَّهْر». فـ (انْقِضَاءِ الدَّهْر) هذه هي ترجمة لـ (συντελείας τοῦ αἰῶνος/sinteleias tou
aioonos). وقد ترجمها مترجم الفولغاتا إلى اللاتينية بـ (consummationem saeculi). وكلمة (saeculi) ههنا ـ وهي
مضاف إليه في اللاتينية ومرفوعها هكذا: saeculum، هي ما يهمنا هنا. فهي لا تحتوي على الاشتراك المعنوي الموجود في
كلمة αἰών/aioon اليونانية
التي تعني "الحياة الأزلية" و"الحياة الدنيا"، وهو الاشتراك
الذي أخذته عن الكلمة العبرية עולם: /عُولمَ
وهي من الأضداد في العبرية لأنها تحمل معنَيَيْ "الحياة الأزلية"
و"الحياة الدنيا" .. فلقد ترجم مترجم الفولغاتا مفهوم "الحياة
الأزلية" إلى (vitam
aeternam) كما تقدم، بينما ترجم مفهوم "الحياة الفانية" بـ (consummationem saeculi). إذن
لا تعني الكلمة اللاتينية "الزمان" و"القرن" فحسب، بل
"الحياة الدنيا"، "الحياة الفانية" بالمفهوم الديني لهذا
المصطلح كما يفهم منه في النصرانية والإسلام. وهذا باد بوضوح شديد من سياق
الأناجيل فأقتصر على المثال التالي:
رسالة
يوحنا الرسول الأولى، الإصحاح الثاني، الآيات 15-18: 15لاَ
تُحِبُّوا الْعَالَمَ وَلاَ الأَشْيَاءَ الَّتِي فِي الْعَالَمِ. إِنْ أَحَبَّ
أَحَدٌ الْعَالَمَ فَلَيْسَتْ فِيهِ مَحَبَّةُ الآبِ. 16لأَنَّ
كُلَّ مَا فِي الْعَالَمِ: شَهْوَةَ الْجَسَدِ، وَشَهْوَةَ الْعُيُونِ،
وَتَعَظُّمَ الْمَعِيشَةِ، لَيْسَ مِنَ الآبِ بَلْ مِنَ الْعَالَمِ. 17وَالْعَالَمُ
يَمْضِي وَشَهْوَتُهُ، وَأَمَّا الَّذِي يَصْنَعُ مَشِيئَةَ اللهِ فَيَثْبُتُ
إِلَى الأَبَدِ. 18أَيُّهَا
الأَوْلاَدُ هِيَ السَّاعَةُ الأَخِيرَةُ. وَكَمَا سَمِعْتُمْ أَنَّ ضِدَّ
الْمَسِيحِ يَأْتِي، قَدْ صَارَ الآنَ أَضْدَادٌ لِلْمَسِيحِ كَثِيرُونَ. مِنْ
هُنَا نَعْلَمُ أَنَّهَا السَّاعَةُ الأَخِيرَةُ.
فمفهوم
الساعة الأخيرة (ἐσχάτη
ὥρα/novissima hora) هنا يشير إلى اقتراب عودة عيسى عليه السلام بعد
صلبه في المعتقد النصراني من أجل إنشاء "ملكوت السماء"، وهي ما يسمى في
اللاهوت النصراني بـ "المجيء الثاني". وقد عبَّر الإنجيل عن المرحلة
الزمنية التي تكون بين مجيء عيسى عليه السلام الأول وصلبه في المعتقد النصراني،
وبين مجيئه الثاني فيما بعد لإنشاء "ملكوت السماء"، باللفظة اليونانية αἰών/aioon التي ترجمها
مترجم الفولغاتا إلى اللاتينية بـ saeculum، وهذه الأخيرة هي التي تهمنا الآن في سياق بحثنا في مصطلح
(العلمانية). فهي تعني المرحلة الزمنية التي تكون بين مجيء عيسى عليه السلام الأول
وبين عودته فيما بعد لإنشاء "ملكوت السماء"، أي "الحياة
الدنيا". إذن تعني saeculum ـ بالضبط ـ "الحياة
الدنيا"، وليس سواها، فنهمل ما سواها من معان ودلالات حمولية أخرى تحملها
الكلمة، ونقتصر على معنى "الحياة الدنيا". ومما يزيد هذا المعنى بيانا
كون ضد saecularis
"العَلماني" بمعنى الشخص العامّي اللاكهنوتي، هو كلمة regularis التي يراد
بها كل شخص خاضع لنظام ديني (= regula) معين ويعيش وفقا لقوانينه الداخلية
مثل القساوسة والخوارنة وسكان الأديرة من رهبان وراهبات ومن كان بحكمهم.
ومن saeculum اشتق الفعل
اللاتيني saecularisatio
للتعدية وأداء معنى "عَوْمَنَ" أي جعل الشيء دنيويا
بإخراجه من خاصِّية الكهنوت وملكيته إلى عمومية العامّة وملكيتها. وهو في الأصل
مصطلح فني من مصطلحات الشريعة الكنسية الكاثوليكية للتدليل على أملاك الكنيسة التي
كان الأمراء والملوك يغتصبونها ويخصصونها لاستعمالهم الخاص أو للاستعمال العام.
وتشير المصادر إلى أن أول استعمال لمصطلح (saecularisatio) بهذا المعنى كان سنة 1648 بعد التوقيع
على صلح وستفالن (Westphalen).[8] وهذا
التاريخ مهم لأنه في الحقيقة كان بداية عملية الحد من سلطة الكنيسة وسلطة البابا
وتحدي دعواه في ممارسة "القوة المطلقة" (plenitudo potestatis)، وهي العملية التي استمرت منذ صلح وستفالن (Westphalen) حتى قيام الثورة الفرنسية (1989-1799)
التي استكملت عملية الحد من سلطة الكنيسة واغتصاب أملاكها بالكلية تقريبا.
الـ (Profanism): (قارن
الإنكليزية: Profanism؛ الفرنسية Profanement؛ الألمانية Profanismus والهولندية Profanisme). إن مصطلح profanism مشتق من اللاتينية profanus المتكون من fanum التي تشير
إلى المكان الذي يكرَّسه الكهنة للمعبد المقدس، ومن pro "قبل؛ أمام". وتشير اللفظة في
أصلها القديم إلى كل ما يكون خارج المكان المقدس (= المعبد) ومخصصص للاستعمال
العام، بما في ذلك كل ما يُخْرَج من المكان المقدس ويُدْخَل في الاستعمال العام
مثل لحوم القرابين التي تقرَّب في المعبد ثم تعطى صدقة للناس خارجه. وهذا اللفظ
قديم قدم الديانات وهو موجود في اللاتينية منذ بداياتها وفي الإنكليزية منذ
استقلالها لغة جرمانية .. ومنه اشتق الفعل اللاتيني profanare للتعدية ليؤدي معاني مثل:
"عَلْمَنَ" أي جعله دنويا، ومثل "حرَمَ" من القداسة،
و"أخرج من الكهنوت" وجعله من العامة وبالجملة: إخراج الشخص من جملة
المقدس وجعله عاميا، والشيء من الاستعمال الديني (مثلا الأرض/البناء) وتخصيصه
للاستعمال الدنيوي. وكان أوائل النصارى يستعملون الصفة profanus للتدليل على الهراطقة والزنادقة وكل
ما يعتبر من وجهة نظرهم نجسا. أما اليهود فيريدون به "التجديف" ذلك أن
نطق اسم (يهوه) محرم على اليهود، لذلك يعتبرون التلفظ به ضربا من الـ profanism مما يدل على
أن المراد بهذا الاستعمال أيضا على التجديف لأن التلفظ باسم (يهوه) تجديف في
الشريعة اليهودية.[9]
2.1. المفاهيم
الأصلية الحديثة لمصطلح
(العلمانية):
عالجنا
فيما سبق المفاهيم الأصلية القديمة للمصطلحات التي تشير إلى (العلمانية) من حيث هي
إخراج الشخص من جملة المقدس وجعله عاميا، والشيء من الاستعمال الديني (مثلا
الأرض/البناء) وتخصيصه للاستعمال الدنيوي. وهذا هو المعنى القديم للعلمانية بشكل
عام، منذ القديم وحتى الثورة الفرنسية (1989-1799). وقد اصطلحنا على وضع مصطلح يدل
على هذا المفهوم دلالة دقيقة، ألا وهو مصطلح (العَوْمَنة) أي جعل الشيء عامِّيا.
وسنعالج هنا المفاهيم الأصلية الحديثة لمصطلح العلمانية، التي التي نشأت بعد
الثورة الفرنسية. ونستعمل كلمة "حديثة" هنا بشيء من التوسع لأن عمر
الثورة الفرنسية أكثر من قرنين، ولكنها تبقى علامة فارقة في تاريخ
العلمانية، وحركة مؤسسة للإيديولوجية اللائيكية التي تبلورت في نهاية القرن
التاسع عشر، أي يعد حوالي قرن من قيام الثورة الفرنسية.
إن
المفهوم الثاني الذي اكتسبته (العلمانية) هو مفهوم "الدنيوية" (secularism) الذي
أدخله في الاستعمال سنة 1851 الإنكليزي جورج هوليوك (George Holyoake). لا يقصد هوليوك بالدنيوية هنا
(العَوْمَنة) أي جعل الشيء عامِّيا، فهذا المصطلح قديم كما تقدم، بل يرمي به إلى
الفصل بين الدين والمجتمع. ففي حين كان يفهم من المصطلح اللاتيني saecularisatio "عومنة"
الأشخاص والمتاع بإخراجهم من المجال الديني إلى المجال اللاديني، ومن عالم الكهنة
إلى عالم العامِّة، أصبح يفهم من مفهوم "الدنيوية" (secularism) الذي أدخله جورج هوليوك الحد
من تأثير الدين على المجتمع والعلاقات الاجتماعية عموما. فالعومنة حالة محدودة
نسبيا لأنها تتعلق بالكهنة وأملاكهم التي تُخرج من عالمهم الكهنوتي إلى المجتمع
العلموتي عن طريق القهر والاغتصاب في أكثر الأحيان .. بينما "الدنيوية" (secularism) حركة
أريد لها أن تكون شاملة لأنها ترمي إلى العكس من ذلك، أي إلى إخراج الكهنة وما
إليهم من ديانة وشريعة وتعاليم وعبادة وأخلاق من المجتمع كليا إلى الكنائس
والأديرة ومحاصرتهم فيها .. ولكن حركة جورج هوليوك لم تتبلور لتصبح حركة منظمة ذات
أثر بعيد مثل اللائيكية الفرنسية، ولم تتبناها الحكومة البريطانية كما وقع في
فرنسا، بل استحالت تيارا مدنيا عاما إلى جانب التيار الديني الحاضر بقوة في
السياسة والمجتمع في بريطانيا، وساهمت إلى حد بعيد في علمنة شرائح كبيرة في
المجتمع وخلق قيم جديدة اصطلح على تسميتها فيما بعد بالدين المدني (civil religion)، ولكن دون مأسسة العلمانية وأدلجتها وفرضها على الشعب كما حدث في
فرنسا.
أما
المفهوم الثالث والأخير لمصطلح العلمانية فهو المفهوم الذي نشأ في فرنسا بعد
الثورة الفرنسة بقرن تقريبا، وهو مفهوم الـ laïcité الذي يعود تأثيليا إلى اليونانية λαϊκός أو laïkos "شعبي؛
عامِّي" نسبة λαός أو laos "الشعب".
إن أول ظهور لكلمة laïcité
في المعجم الفرنسي كان سنة 1871 كما يذكر معجم روبير.[10] وقد
بدأت حركة اللائيكية هنا تتبلور في حركة ليئكة التعليم فقط لأن اللائيكية، من حيث
هي إيدلوجية فرنسية حركية، تبلورت نهائيا بعد قانون فصل الدين عن الدولة الفرنسي
الصادر سنة 1905. وأدت ليئكة التعليم هذه إلى إبعاد القساوسة والرهبان من التعليم
الابتدائي الحكومي كليا. أما في سنة 1905 فقد اتخذ المصطلح بعدا سياسيا مؤسساتيا
بإصدار قانون فصل الدين عن الدولة الشهير. من يومها واللائيكية الفرنسية تسيطر
سيطرة تامة على مؤسستين تعتبران أهم ركيزتين لها وهما: الدولة والمدرسة (في تركيا:
الجيش والمدرسة). فالمدرسة هي المكان التي يتم فيه تكوين الأجيال وأدلجتها
وفق إيديولوجيات معينة يأخذ بها النظام السياسي القائم.[11]
3.1. خلاصة:
يتضح
مما سبق:
1.
أن مفهوم
(العلمانية/laicism) بمعنى
جعل الشيء عاميا بعكس الكهنوتي (= "عَوْمَنة")، مفهوم قديم قدم المؤسسات
الدينية النصرانية. وقد وُضع مصطلح "العلمانية" في العربية للدلالة على
هذا المفهوم بالضبط وليس على غيره كما سنرى أدناه؛
2.
أن مفهوم
(العلمانية/secularism) بمعنى
"الدنيوية" مفهوم نشأ في إنكلترا في القرن التاسع عشر (1851)، وأن
الترجمة العربية الدقيقة له هي "الدنيوية" وليس "الزمانية".
3.
أن مفهوم
(العلمانية/laïcité) بمعنى
"اللائيكية" مفهوم يدل على إيديولوجية ترمي إلى فصل الدين عن الدولة.
نشأت هذه الإيديولوجية في فرنسا بعد الثورة الفرنسية بحوالي قرن من الزمان .. وقد
أدخل هذا المفهوم في الاستعمال للدلالة على هذه الإيديولوجية في فرنسا سنة 1882.
1.
2. تاريخ
مصطلح (العلمانية) في العربية:
إذن
تعني كلمة عَلم ـ بفتح العين ـ التي اشتق منها مصطلح (العلمانية) كما تقدم ـ
"العالَم" كما تقدم أيضا. ويستوقفنا في هذه الكلمة تعريف المعجم الوسيط
لها، وخصوصا قوله: (نسبة إلى العَلم أي العالم)، وبالتحديد قوله (أي العالَم)
لتفسير كلمة (عَلْم) بفتح العين. فالمعجم الوسيط ومعه مجمع اللغة العربية في
القاهرة يريان أنه من الضروري شرح كلمة (العَلْم) وتفسيرها للقراء بالجملة
المضافة: (أي العالَم). وضرورة الشرح والتفسير للقراء يعنيان أن الكلمة المراد
شرحها وتفسيرها تستعجم على جمهور القراء. ونحن لاحظنا استعجامها على الخاصة قبل
العامة في مناسبات كثيرة .. وهذا يجعلنا نتساءل: هل كلمة (عَلْم) ـ بمعنى العالَم
ـ عربية؟ وهل وردت (عَلْم) ـ بمعنى العالَم – في مصادر قديمة؟
الجواب
لا. ليست كلمة (عَلم) بمعنى العالم عربية، ولم ترد حسبما أفادنا به البحث
والاستقصاء في مصادر ومعاجم قديمة[12]. فهي
كلمة دخيلة في العربية من السريانية (ܥܠܡܐ: /عَلْما/)
التي تعني فيها "العالَم"، "الدنيا".
وألف المد في السريانية (عَلْما) هي أداة التعريف في السريانية لأن التعريف في
السريانية يكون آخر الكلمة. [13] ومن
الجدير بالذكر أن الجذر السامي /ع ل م/ يفيد في جميع اللغات السامية معاني
"الدهر، الدينا، العالم، الزمن اللامتناهي"، إذ يجانس كلمة "العالم"
عندنا كل من الكلمة العبرية: עולם: /عُولَم/
[وأصلها فيها: عالَم]، والكلمة الحبشية /عالَم/. فالكلمة السامية المشتركة التي
تدل على العالم هي (عالَم) بفتح اللام كما وردت في العربية والعبرية والحبشية وكما
تقدم أعلاه. أما (عَلما) فليست موروثا ساميا مشتركا بل هي كلمة سريانية دخلت
العبرية كما يقر بذلك صاحب المعجم العبري التأثيلي بصريح العبارة[14]. كما
أنها دخلت العربية أيضا ـ أو بالأحرى ـ وُظفت في العربية بعد 1800 لنحت كلمة
العلمانية منها كما سيتضح لاحقا. والدليل الحاسم على ذلك هو أن (عَلم) بفتح العين
ـ أي بمعنى العالَم ـ لا تستعمل في العربية بحد ذاتها، واستعمالها في العربية
مقصور على كونها جذرا اشتق منه مصطلح (العلمانية) فقط.[15]
ولمعرفة
كيف دخلت هذه الكلمة السريانية اللغة العربية وتتبع ذلك نود أن نشير أولا إلى إن
السريان نصارى يميزون، شأنهم في ذلك شأن سائر النصارى، بين خاصة الكهنة وعامَّة
المؤمنين، بين الرعاة والقطيع .. وكانوا نقلة المعارف اليونانية في العصور الوسطى،
وهم أقدم سابقة من العرب في الترجمة عن اليونانية بقرون. وبما أنهم نصارى لهم
رهبان وكهنة ووثيقي الصلة باليونان، فقد انتقل مفهوم (العلمانية) بمعنى جعل الشيء
عاميا بعكس الكهنوتي (= "عَوْمَنة") إليهم من اللاهوت النصراني المدون
أكثره وقتئذ باللغة اليونانية،[16] مثلما انتقل
إلى غيرهم من الأمم النصرانية[17]، ومنهم الفرنسيون (سنة
1330) والإنكليز (سنة 1432) كما يذكر المعجم الإنكليزي التأثيلي.[18]فعبروا عن المفهوم اليوناني laïkos (λαϊκός) نسبة إلى λαός "شعب"
الذي نشأ مع تمايز الكهنوت المسيحي ابتداء من القرن الرابع الميلادي عن عامة
الشعب، بـ ܥܠܡܝܐ: /عَلْمايا/
"عالَماني/عَلْماني" نسبة إلى ܥܠܡܐ: /عَلْما/
"عالَم"، وجعلوا
يستعملون ܥܠܡܝܐ: /عَلمايا/ للدلالة على العالم والحياة
الدنيا والعوام، وعرَّبوه ـ عند
استعرابهم ـ إلى "عَالَماني" أولا ـ على
أساس أن المكافئ الوظيفي والمعجمي والدلالي العربي للفظة السريانية ܥܠܡܐ: /عَلْما/
هو "العالَم" ـ ثم أدخلوا
السرياني (ܥܠܡܐ: /عَلْما/) في العربية وعرَّبوه على
"عَلم" ثانيا، لينحتوا منه
"عَلْماني" بدلا من "عَالَماني" لخفة انذلاق هذه الأخيرة على
لسان الجماعة.[19] ومن
السريان انتقل هذا المعنى إلى العرب عن طريق الكتاب العرب النصارى الذين يتقنون
السريانية مثل بطرس البستاني وغيره.[20] والدليل
القاطع على ذلك استعارة العرب كلمة (عَلْم) بمعنى (العالَم) من السريانية كما تقدم
أعلاه هو أن هذه الكلمة لم ترد في مصادر عربية مكتوبة قبل سنة 1800 ولا تستعمل في
العربية – حتى يومنا هذا - خارج سياق كونها أصلا اشتق منه مصطلح (العلمانية) كما
تقدم .. ثم اشتقوا منها كلمة (علمانية) على السماع لا على القياس لأن القياس
اللغوي يقتضي نحت (عَلْمِية) ـ بفتح العين – وليس (عَلْمانية) بإضافة الألف
والنون. ويبدو من لفظة (عالَمِيِّ) التي أوردها دوزي في معجمه (انظر أدناه) ثم
وترجمها بـ laïque,
séculier أن اللفظتين (عَالَماني) و(عَلْماني) لم تستقرا وقتها في العربية
وأن (عالَمِيِّ) و(عَالَماني) اختفيا فيما بعد (بداية القرن العشرين؟) لصالح لفظة
(عَلْماني).
وقد
أفضى بنا البحث والاستقصاء إلى أن أول معجم ثنائي اللغة قدم ترجمة عربية لكلمةlaïque
الفرنسية هو "القاموس الفرنسي العربي" الذي وضعه القبطي
إليوس بقطر عام 1828.[21] و
لترجمة كلمةlaïque إلى العربية، استعمل بقطر الذي كان
مطلعا على التراث العربي النصراني[22] في معجمه هذا
مصطلحا من هذا التراث العربي النصراني، ألا وهو مصطلح (عَالَماني/عَلْماني) الذي
أتى ترجمة مستعارة لـ (عَلْمايا) السرياني كما تقدم. وعندنا أن إليوس بقطر أولُ من
أخرج مصطلح (عَالَماني/عَلْماني) من التراث العربي النصراني المخصوص بالنصارى
العرب، وأدخله ـ باستعماله إياه ترجمة للمصطلح الفرنسيlaïque
ـ في الاستعمال اللغوي العام للفصحى، ذلك لأن معجمه هذا أصبح مصدرا
لجميع من استعمل مصطلح (عَالَماني/عَلْماني) من بعده، ومن أقدمهم بطرس البستاني في
معجمه (محيط المحيط) الذي يعتبر أول معجم عربي (صدر سنة 1870) يقدم تعريفا للكلمة
حيث ورد فيه ما نصه: "العَلْماني: العامِّي الذي ليس بإكليريكي".[23]وهذا تعريف مهم جدا لأنه أقدم
تعريف ورد في مصدر عربي أصيل ولأن البستاني لا يقصد بحده هذا الإيديولوجية
العلمانية الفرنسية
(laïcité) التي تبلورت في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين أي
بعد إصدار معجم البستاني بأكثر من عقدين تقريبا ـ فضلا عن العِلم! ـ بل المفهوم
الأقدم للمصطلح كما تقدم وصفه، أي (laïcisme/العَوْمنة) أو جعل الشيء عاميا، وهو
مصطلح نصراني بحت يدل على مفهوم نصراني بحت كما تقدم.[24]
وعلى
معجم إليوس بقطر المصري كل أصحاب المعاجم الثنائية التي أوردت مادة
(عَالَماني/عَلْماني) بالعربية، وأقدمها معجم بارثلمي الصادر سنة 1935 (انظر Barthélemy A., 1935). وهذا
معجم عربي (للهجات بلاد الشام) فرنسي، جاء فيه (عَلْماني) وترجمه بـ laïque, séculier. وكذلك
رينهارت دوزي صاحب المعجم الشهير (تكملة المعاجم العربية)[25] الذي
صدر سنة 1881 والذي جمع فيه أكثر الألفاظ التي أهملها أصحاب المعاجم العربية ومنها
(عَلْماني)، حيث جاء فيه: (عالَمِيّ) ـ نسبة إلى العالَم بمد العين بألف المد
وبدون نون – وترجمه بـ laïque, séculier، و(عَالَماني) ـ نسبة إلى العالَم بمد العين بألف المد ولكن بنون
– وترجمه بـ laïque,
séculier ثم (عَلْماني) ـ نسبة إلى العَلْم بفتح العين – وترجمه بـ laïque, séculier أيضا.[26] وقد
أشار دوزي بعد معالجته هذه المادة إلى معجم إليوس بقطر مصدرا لكلمة (عَلْمانية).
فالمصدر الذي اعتمد عليه دوزي ليس نصا عربيا بل معجم فرنسي عربي هو معجم إليوس
بقطر، وهذا أمر مثير للغرابة بحد ذاته. وعلى نهج دوزي سار كل المعجميين اللاحقين
مثل غزلان إدوارد
(Gasselin Edouard:1886) في معجمه الفرنسي العربي[27]، وغيره، إلا أن هذا الأخير
ـ وهو فرنسي مولود في الجزائر ـ كان أدق من الآخرين بترجمته laïque إلى العربية
بـ "عامِّي"[28] وليس
بـ "عَلْماني" ربما لأن التراث العربي النصراني الحاضر بقوة في الشرق،
كان مجهولا في الجزائر آنذاك.
1.
3. العلمانية:
المصطلح والمفاهيم
يدل
مصطلح (عَلْمانية) في العربية اليوم على ثلاثة مفاهيم أصلية: (أ) مفهوم
"العَلْمانية" القديم (laicism) أي جعل الشيء عاميا بعكس الكهنوتي (=
"عَوْمَنة")؛ و(ب) مفهوم "الدنيوية؛ الدهرية" (secularism) الذي نشأ في إنكلترا سنة 1851
و(ج) مفهوم الإيديولوجة العلمانية "اللائيكية" (laïcité) الذي أدخل في الاستعمال في فرنسا سنة
1882 للدلالة على هذه الإيديولوجية فيها. وقد سبَّب تداخل هذه المعاني الثلاثة ثم
وهمهم في نطق (العَلْمانية) بكسر العين نسبة إلى العِلْم خلطا كبيرا في أذهان
الناس، عامَّة وخاصّة .. والسبب الرئيسي لهذا الخلط الحاصل هو عدم التمييز بين
المعاني الرئيسية الثلاثة التي اجتمعت في المصطلح (عَلْمانية) الذي اشتق، كما
رأينا أعلاه، من كلمة دخيلة من السريانية وُظِّفت لوضع المصطلح العربي (عَلْمانية)
في مفهومه الأول (= العَوْمَنة) لحاجة النصارى العرب إليه بسبب طبيعة لاهوتهم
المميز بين طبقتين اثنتين هما طبقة الكهنة وطبقة العامة كما تقدم. وهذا المفهوم
قديم قدم المؤسسات النصرانية كما تقدم. ثم حُمِّل مصطلح (العلمانية) معنَيَيْ
"الدنيوية؛ الدهرية" (secularism) الذي نشأ في إنكلترا سنة 1851
و"اللائيكية"
(laïcité) الذي أدخل في الاستعمال في فرنسا سنة 1882 .. فمصطلح العلمانية في
العربية مصطلح مركب، وهو مركب كذلك في اللغات الغربية كما شاهدنا، لأنه فيها شاهد
عيان على حركة فكرية غربية استغرق تبلورها قرونا عديدة، فمن الطبيعي أن تتراكم في
مصطلحات تدل عليها ـ مثل secularism و laicismوlaïcité ـ
مفاهيم ومدلولات متعددة ومتشابكة أيضا. هذا من جهة. أما من جهة أخرى، فإن خلطا آخر
يتمثل في نطق مصطلح (العَلْمانية) بكسر العين يجعلنا نتساءل عن أسباب نسبة أكثر
العرب والمتحدثين بالعربية هذا المصطلح إلى العِلم بكسر العين (هكذا: عِلْمانية).
لقد أدى هذا النطق الخاطئ للكلمة إلى الاعتقاد بأن العَلْمانية منهج علمي بامتياز.
فكيف نشأ هذا الخطأ أصلا؟ وما علاقة العِلْم ـ بكسر العين بحركة العلمانية
التاريخية في الغرب التي كانت تهدف أصلا إلى فك الاشتباك بين الكنيسة وبين كل ما
سواها؟
لا
شك في أن أحد أسباب الخطأ في نطق (العلمانية) بكسر العين هو غرابة الكلمة من
الناحية الصرفية أولا. فالكلمة ترجمة مستعارة لكلمة ܥܠܡܝܐ: /عَلمايا/
"عالَماني/عَلْماني" نسبة إلى ܥܠܡܐ: /عَلْما/
"العالَم" كما أبنا ذلك. فترجموها ترجمة مستعارة في العربية بإضافة
النون وياء النسبة بعد ألف المد الأولى في /عَلمايا/ لتبدو كأنها مشتقة على وزن
(روحاني) و(نفساني) وحتى (سرياني) .. ولما لم يكن في العربية (عَلْم) بمعنى العالم
فإنهم قالوا أولا (عالَماني) .. ثم أسقطوا ألف المد الأولى من لفظ (عالَماني)
وسكَّنوا لامه ليصبح (عَلْماني). ولا شك في أن اللفظة السريانية ܥܠܡܐ: /عَلْما/
"العالَم" كانت في مخيلتهم اللغوية عندما اختزلوا (عالَماني) إلى
(عَلْماني). إذن كان الاختزال من (عالَماني) إلى (عَلْماني) "تكوينا رجعيا" (back formation) بسبب
اللفظة السريانية ܥܠܡܐ: /عَلْما/
"العالَم" التي لعبت في هذه السياق ثلاثة أدوار صرفية ـ إن
صح التعبير ـ هي:
1.
دور مباشر في
تكوين مصطلح ܥܠܡܝܐ: /عَلْمايا/ "عالَماني/عَلْماني"
نسبة إلى ܥܠܡܐ: /عَلْما/ "العالَم".
2.
دور غير
مباشر في ترجمة مصطلح /عَلْمايا/ ترجمة حرفية إلى العربية
"عالَماني/عَلْ ماني" وتكوينه فيها بعد إضافة النون وياء النسبة
بعد ألف المد الأولى في /عَلمايا/؛
3.
دور مباشر في
إعادة تكوين "عالَماني" إلى "عَلْماني".
أما
السؤال فيما إذا كان الدور الثالث الذي أدى إلى إعادة تكوين "عالَماني"
إلى "عَلْماني" قد نشأ نتيجة للتكوين الصرفي الرجعي (back formation) أو لإدخال ܥܠܡܐ: /عَلْما/
"العالَم" في العربية، فنجيب عليه
باعتقاد أن الخيارين وقعا: فمن جهة أدخلت ܥܠܡܐ: /عَلْما/
"العالَم" في العربية، ومن جهة أخرى
أعيد تكوين "عالَماني" إلى "عَلْماني" بتأثير من الصفة ܥܠܡܝܐ: /عَلْمايا/
"عالَماني/عَلْماني". وأما السؤال عن أسبقية أحد الخيارين فهو سؤال لا
قيمة له كبيرة في هذا السياق، فلا نشغل
أنفسنا به. وعليه فإن الالتباس في نطق كلمة (علم) عائد إلى أن العربية لا تعرف
اسما يركب هكذا سوى (العِلْم) ـ بكسر العين
و(العَلَم) بفتح العين واللام معا. فـ (العَلْم) غير
أصيل في العربية وهو سرياني دخل معاجمها الرسمية بداية القرن التاسع عشر ولم يتوطن
فيها للدلالة على (العالَم) ولم يَشِعْ خارج مصلطح (العَلْمانية). لذلك لم تهضمه
العين العربية إن جاز التعبير مما يجعل القارئ العربي يقرأ (علم) بالكسر على
الدوام لأن اسما آخر غير العِلم لا يكاد يتبادر إلى الذهن عند النظر في (علم). وقد
يكون النطق بالكسر مقصودا للترويج للعلمانية على أنها منهج علمي يدعو أتباعه ويحثهم
على تحكيم العقل في كل شيء، وقد لا يكون
الأمر كذلك. ومهما يكن، فإن الوهم في
نطق (العلمانية) بكسر العين ثابت لا شك فيه، وإن
الخطأ في نسبة (العلمانية) إلى العلم ثابت أيضا لا جدال فيه.
ومع
وضوح الخطأ في نسبة (العَلْمانية) إلى (العِلْم) ونطقها بكسر العين وضوحا لا يماري
فيه أحد، فإن هذا الخطأ شائع شيوعا يدعونا إلى النظر والتأمل في الأسباب التي من
شأنها أن تكون وراء هذا الخطأ وشيوعه المثير للاستغراب، وإلى طرح السؤال التالي:
هل العلمانية منهج علمي؟ بالطبع هذا السؤال غير دقيق ولا يصح طرحه بهذه الصيغة.
العلمانية حركة فكرية غربية أدت في نهاية المطاف إلى الحد من سلطة الكنيسة وإخراج
الديانة النصرانية من الحياة السياسية والاجتماعية العامة. وقد استغرق تبلور
العلمانية في الغرب قرونا عديدة، واختلف تطورها من دولة لأخرى، ومن سياق لآخر.
وسنحاول – قبل الإجابة على سؤالنا أعلاه - حد هذا الحركة العلمانية كما تعرِّفه
المصادر الغربية التي حاولت حده. ونقتصر في حدنا للمصطلح على المفهوم الثالث
والأخير له، أي "اللائيكية" (laïcité) الذي أدخل في الاستعمال في فرنسا سنة
1871، ذلك لأن مفهوم "العَلْمانية" (laicism) القديم أي جعل الشيء عاميا بعكس
الكهنوتي (= "عَوْمَنة") وكذلك مفهوم "الدنيوية؛ الدهرية" (secularism) الذي
نشأ في إنكلترا سنة 1851 مفهومان نصرانيان يتعلقان بالديانة النصرانية ومؤسساتها
الكهنوتية والدينية ولا يمكن – بحال من الأحوال - سحبهما على السياق الإسلامي لأنه
لا كهنوت في الإسلام. ويستفاد من هذين المصطلحين، بشكل عام، إخراج الشخص أو الشيء
من خاصة الكهنوت إلى عمومية العلموت بجعله عامّيا دنيويا كما تقدم مرارا، بينما
تنادي اللائيكية الفرنسية بفصل الكنيسة عن الدولة بإخراج الكنيسة من الحياة
السياسية الاجتماعية في الدولة كليا وعدم السماح للكهنة بممارسة أي دور خارج جدران
الكنائس. فـ "العومنة" (laicism) وكذلك "الدنيوية؛ الدهرية" (secularism) هما
عملية تحرر من
سلطة الكهنة الذين أصبحوا ـ بعد تنصر قسطنطين وجعله النصرانية دينا رسميا لبيزنطة
ـ جزءا لا يتجزأ من "الدنيا" (saeculum)، بينما اللائيكية الفرنسية (laïcité) عملية عكسية الآلية لأنها تهدف إلى تحرير المجتمع
من الكنيسة. وهذا يعني أن العلمانية ـ سواء أكانت عملية تحرر ذاتية من سلطة
الكنيسة والكهنة أو عملية حركية لتحرير السياسة والمجتمع من سلطة الكنيسة والكهنة
ـ حركة متصلة اتصالا وثيقا بالديانة النصرانية لأنها عملية فك اشتباك طوعي أو قسري
عنها. ولاستيعاب هذه النقطة ينبغي العودة إلى بداية نشوء النصرانية وانتشارها في
الدولة الرومانية التي كانت قائمة وقتها. فكانت النصرانية ـ قبل تنصر قسطنطين في
القرن الرابع وجعله النصرانية دين الدولة في الدولة البيزنطية، ديانة مضطهدة. وقد
فرض الاضطهاد الروماني على النصرانية نوعا من البراجماتيكية التي نجد صداها في
المقولة الشهيرة التي ينسبها الإنجيلي متى (إنجيل متى الإصحاح 22 الآية 21) إلى
المسيح عليه السلام: "فقال لهم: أعطوا إذن ما لقيصر لقيصر وما لله لله".
وهذا يعني فصلا تاما بين الديانة النصرانية المغلوب على أمرها آنذاك، وبين الدولة
الرومانية الغالبة. إلا أن الحالة تغيرت بعد تنصر القيصر قسطنطين وجعله النصرانية
ديانة الدولة البريزنطية. فحدث بعد ذلك تداخل كبير بين الديانة النصرانية ممثلة
بالكنيسة والكهنة من جهة، والسياسة والمجتمع وما إليهما من جهة أخرى. فأصبح الكهنة
النصارى يمارسون وظائف دنيوية لم يكونوا يمارسونها قبل تنصر قسطنطين، ثم أحكموا
سيطرتهم على كل ما له علاقة بالمجتمع. فأتت الحركة العلمانية الأولى (laicism/secularism) التي
عبّرنا عنها بـ (العَوْمنة)، وهي الحركة التي يحدها معظم بل كل مؤرخي العلمانية
تقريبا على أنها عملية تحرر من سلطة الكنيسة، بدأت في اللحظة التي بدأ التداخل
فيها بين الكنيسة والمجتمع أي بعد تنصر قسطنطين وجعله النصرانية دين الدولة
الرسمي، وهو التداخل الذي بلغ أوجه عندما أصبح البابا يطالب بما سمي وقتها بـ
"القوة المطلقة"
(plenitudo potestatis). إذن بدأت حركة العلمانية الأولى في
الوقت الذي سيطرت فيه الكنيسة على السياسة والاجتماع ابتداء من أواخر القرن الرابع
للميلاد، ولا يمكن ـ مهما حاولنا ـ فصل الحركة العلمانية الأولى (laicism/secularism) والتالية (laïcité) عن الديانة
النصرانية. بل إن العلمانية لا يمكن فهمها قط دون فهم تاريخ النصرانية والكنيسة في
الغرب. ولا يمكن لغير النصراني أن يعتنق مبادئ العلمانية وأن يتذوق لطائفها لأن
تداخل الكنيسة بالسياسة والمجتمع هو الذي يبرر نشوء العلمانية في الغرب النصراني
آنذاك وتطورها فيه. وهذا التداخل بين النصرانية والكنيسة والسياسة والمجتمع هو
تداخل سببي لا يمكن تجاهله عند الحديث في العلمانية، وهو الذي حدا بالفيلسوف
الماركسي الفرنسي إرنست بلوخ (Ernst Bloch) إلى اعتبار الإلحاد العلماني منتجا
نصرانيا بامتياز، وهو الذي يفسر مقولته الشهيرة: "فقط المسيحي الحقيقي يمكن
أن يكون ملحدا ممتازا، وفقط الملحد الحقيقي يمكن أن يكون مسيحيا ممتازا".[29] لذلك
يحد فردناند بويسون
(Ferdinand Buisson) العلمانية الفرنسية في مقالة له بعنوان laïcité "اللائيكية"
على أنها حركة تسعى إلى (أ) تحقيق الفصل بين المجالات المختلفة للأنشطة العمومية
في المجالات السياسية والاقتصادية والتعليمية والعلمية إلى سائر المجالات التي
كانت – نتيجة لغموض الرؤية في الماضي - منصهرة في بوتقة واحدة؛ و(ب) تحقيق
استقلالية هذه الأنشطة العمومية عن العامل الديني الذي لم يعد عاملا موحدا
للمجتمع.[30] ويقصد
بقوله "غموض في الرؤية" خضوع سائر الأنشطة العمومية لسلطة الكنيسة
ورؤيتها. فالفصل بين هذه الأنشطة من جهة وتحقيق استقلاليتها عن الكنيسة من جهة
أخرى هما لب اللائيكية الفرنسية. وقد مأسس اللائيكيون الفرنسيون الفصل
والاستقلالية سنة 1905 عندما أقروا قانون "فصل الكنيسة عن الدولة" (Séparation des Églises et de
l'État). لذلك سنقصر حديثنا من الآن فصاعدا على "اللائيكية" (laïcité) الفرنسية
التي استحالت إيديلوجية تشمل جميع معاني التحرر من الكنيسة ومن كهنوتها وتحرير
الدولة والمجتمع منها ومنهم. وهي الإيديلوجية العلمانية التي يسميها عبدالوهاب
المسيري (العَلْمانية الشاملة)[31]، وهي المقصودة على الدوام في خطاب العلمانيين العرب.
بعد
تبيين معنى العلمانية بإيجاز شديد، وعدم وجود أية علاقة بين الربط الخاطئ بين
(العلمانية) وبين (العِلْم) ونطقها بكسر العين، نعود إلى سؤالنا من جديد: هل
العلمانية منهج علمي؟
رأينا
أن أعلاه أن العلمانية حركة تهدف إلى التحرر من سلطة الكنيسة على السياسة
والمجتمع. من المؤسسات الاجتماعية الأنظمة التعليمية التي كانت سائدة في الغرب قبل
عصر التنوير والثورة الفرنسية. كانت تلك الأنظمة خاضعة ـ بدرجات متفاوتة ـ لسلطة
الكنيسة. وكانت الكنيسة تعارض أي حركة علمية أو نشاط علمي أو اكتشاف علمي يخالف
قناعات الكتاب المقدس (العهدين القديم والجديد) وكذلك أعمال آباء الكنيسة وكبار
لاهوتييها. وقد أدت معارضة الكنيسة هذه إلى وقوع مآس كثيرة في التاريخ الأوربي،
ليست "قائمة الكتب المحرَّمة" (Index librorum prohibitorum) التي تحتوي
على الكتب المحرم على الكاثوليك قراءتها (ألغيت هذه القائمة رسميا سنة 1966)،
وليست محاكم التفتيش فيما بعد إلا بعض مظاهرها المأسوية. وقد أدى ذلك إلى منع لكتب
الفلاسفة والعلماء الذين طوروا رؤى تختلف عن رؤية الكنيسة، كما أدى إلى تحريق
محجموعات كثيرة من البشر والكتب بسبب اختلاف الرؤى. وليست واقعة صدام نيقولاس
كوبرنيكوس (مات 1543) وتلميذه جاليليو جاليلي (مات سنة 1642) مع الكنيسة بخصوص ما
قالا به من لامركزية الأرض في الفلك إلا فيضا من غيض. ولعل هذا الصدام هو الذي جعل
من جاليليو جاليلي ومن "أستاذه" نيقولاس كوبرنيكوس أسطورتين .. فجاليليو
جاليلي ونيقولاس كوبرنيكوس عالمان غربيان يحتلان مكانة خاصة في الذاكرة الغربية،
ويرى فيهما الكثيرون ثائرين كبيرين واجها لاعقلانية الكنيسة الكاثوليكية آنذاك
ليؤسسا بمواجهتهما تلك لثورة علمية كبيرة في الغرب. ومما زاد في أهميتهما أن أعداء
الكنيسة الكاثوليكية التقليديين من علمانيين ولادينيين وأنسنيين ودنيويين ودهريين
ولائيكيين جعلوا منهما رمزين يمثلان انفتاح العقل وإشراقه مقابل تزمت الدين
وانغلاقه .. فاستغل العلمانيون واللائيكيون الغربيون جاليليو وكوبرنيكوس استغلالا
كبيرا في ثورتهم على الكنيسة الكاثوليكية التي اضطرت سنة 1983 إلى الاعتذار رسميا
لجاليليو جاليلي وذلك على الرغم من أن البحث العلمي اليوم أثبت أن مرد سمعة
جاليليو وكوبرنيكوس إنما هو إلى جرأتيهما في مواجهة الكنيسة الكاثوليكية، وليس إلى
إسهامهما العلمي .. ونحن لا نقصد هنا النيل من جاليليو جاليلي ومن
"أستاذه" نيقولاس كوبرنيكوس، ما نريد أن نطرحه هنا انعدام وجود أي سبب
مقنع لذلك الحماس الذي يدب في أوصال اللائيكيين العرب الذين يستشهدون على العرب
والمسلمين بعظمة جاليليو جاليني في مواجته تزمت الدين (اقرأ: الكنيسة
الكاثوليكية!)، وشجاعة "أستاذه" كوبيرنيكوس في جرأته على الطعن في صحة
رواية العهد القديم التي تذهب إلى أن الرب أوقف الشمس عن الدوران حول الأرض دورة
كي يدوم النهار أربعا وعشرين ساعة فيتمكن يشوع من تقتيل أعدائه تقتيلا (انظر سفر يشوع،
الإصحاح العاشر) .. والمشكلة تكمن في أن الشمس ـ حسبما أثبت العلم ـ ليست هي التي
تدور حتى تتوقف عن الدوران، بل الأرض، مما يثير الريبة في رواية التوراة.
فالاستشهاد على المسلمين بأهمية جاليليو وكوبيرنيكوس واستغلال موقف الكنيسة منهما
وبطولتهما في سبيل العلم كل ذلك يُفهم على أنه دعوة مبطنة إلى محاربة ما يتوهمونه
على أنه "كنيسة إسلامية" وتقليم أظافرها مثلما قلمت الثورة الفرنسية
أظافر الكنيسة الكاثوليكية ..
وهذا
كله كلام لا يستقيم لأسباب كثيرة أهمها: (1) أن كلام جاليليو جاليلي
و"أستاذه" نيقولاس كوبرنيكوس قبله موجود بحذافيره في رسالة "تذكرة
في علم الهيئة" لنصير الدين الطوسي المتوفي سنة 1274[32] و(2) أن
جاليليو جاليلي و"أستاذه" نيقولاس كوبرنيكوس درسا في جامعة بودوا في
إيطاليا التي أسست سنة 1222. يقول الأستاذ ميشيل ليزينبرغ في كتابه "تاريخ
الفلسفة الإسلامية"، عند شرحه لنظام الطوسي الفلكي ومقارنة نظام كوبيرنيكوس
الفلكي به: "وهكذا نرى أن نظام كوبيرنيكوس الفلكي يتطابق مع نظام الطوسي الفلكي
ويلتقي معه حتى في التفاصيل الدقيقة. إن الفرق الوحيد بينهما هو أن كوبيرنيكوس
يجعل الشمس وليس الأرض في المركز. ولا يشك منظرو العلم الذين يُعَوَّل عليهم اليوم
في أن كوبيرنيكوس عرف نظام الطوسي الفلكي [وانتحله!] .. بل يختلفون فيما بينهم في كيف [والتوكيد
للكاتب] عرف كوبيرنيكوس نظام الطوسي الفلكي".[33] يقول:
إن العلماء اليوم لا يختلفون عن انتحال كوبرينيكوس لنظام الطوسي الفلكي .. بل
يختلفون في الكيف .. ونحن لا ندري كيف فات الكاتب وهؤلاء العلماء أن جاليليو
جاليلي و"أستاذه" نيقولاس كوبرنيكوس درسا في جامعة بودوا في إيطاليا
التي أسست سنة 1222، وأن جاليليو درّس بها أيضا، وأن العلوم التي كانت تدرس في
جامعة بودوا هي العلوم الإسلامية .. وهي العلوم التي كان يدرّسها عرب مسلمون وعرب
نصارى ومستعربون .. إذن المشكلة، مشكلة العلاقة بين العلم والدين مشكلة لاهوتية
نصرانية لا شأن للإسلام والمسلمين بها، ولا يجوز عكسها على واقع إسلامي لم يكن
يعرف هذه المشلكة لا من قريب ولا من بعيد .. وفي الاستشهاد بكوبرنيكوس وجاليلي على
المسلمين – والحالة هذه – مزايدة مبعثها الجهل بالتاريخ أولا ثم الابتلاء بداء
الملكية أكثر من الملك .. فهذا حديث سبقهما إليه أحد علماء المسلمين ـ وهو نصير
الدين الطوسي ـ بثلاثة قرون على الأقل .. وحسب علمنا لم يطارد نصير الدين الطوسي
أحد بسبب اكتشافه العلمي الرائد، ولم تدنه "الكنيسة الإسلامية" ـ التي
يُراد بمثل هذا الاستشهاد أن يُفترض وجودها افتراضا تمهيدا لترسيخ وجودها في
الأذهان والإقرار بوجودها في نهاية المطاف ..
خاتمة:
نستنتج
مما تقدم أن مصطلح (عَلْمانية) وُضِعَ في العربية أولا للدلالة على: (أ) مفهوم
(العَلْمانية) القديم أي جعل الشيء عاميا بعكس الكهنوتي (= "عَوْمَنة").
ثم حُمِّل مصطلح (العَلْمانية) في العربية: (ب) مفهوم "الدنيوية؛ الدهرية" (secularism) الذي
نشأ في إنكلترا سنة 1851، و(ج) مفهوم الإيديولوجة العَلْمانية "اللائيكية" (laïcité) الذي أدخل في
الاستعمال في فرنسا سنة 1871 للدلالة على هذه الإيديولوجية فيها.
ثم
حُمِّل المصطلح لدى أكثر الناس معانٍ أخرى مثل (الإلحاد). وتحميل أكثر الناس مصطلح
العَلْمانية معنى (الإلحاد) هو عملية تأويلية معنوية مماثلة لتحميل العَلْمانيين
العرب مصطلح العلمانية معنى (العِلْم) بكسر العين .. فمثلما يؤوِّل العَلماني
العربي العَلمانية على أنها منهج علمي ويسحب تجربة الصراع بين العلماء الغربيين
والكنيسة الغربية على الإسلام ليرتكب بذلك خطأ منهجيا تاريخيا ـ ذلك أن الإسلام لم
يعرف في تاريخه صراعا بين أهل النقل والعقل يمكن أن يقارن، ولو بنسبة ضئيلة جدا،
بالصراع المرير بين أهل العلم والنقل في الغرب قبل عصر النهضة فيه ـ فكذلك يؤوّل
المتلقي العربي ـ حتى المثقف ثقافة عالية ـ العَلْمانية على أنها إلحاد وكفر
وهرطقة غربية .. فالعربي لا يثق كثيرا بالعَلْمانية، سواء أكان يعرف تاريخها
ومفاهيمها الأصلية أم لا، وذلك لأسباب لا يتسع المقام هنا لذكرها. من تلك الأسباب:
التنوع النسبي داخل تجربة العَلمانية الغربية، منذ نشأتها وحتى اليوم، وخصوصا
التمايز المعروف بين عَلْمانيتين اثنتين، واحدة بمثابة تيار مدني إنسني عام يدعو
إلى التحرر من هيمنة الكنيسة دون إلغائها (يسميها عبدالوهاب المسيري:
"العلمانية الجزئية")، نجدها في كل دول الغرب بدرجات متفاوتة. وأخرى
بمثابة إيديولوجية سياسية حركية (يسميها عبدالوهاب المسيري: "العلمانية
الشاملة") تقوم عليها الدولة، نجدها في فرنسا وتركيا فقط .. ففرنسا وتركيا
هما الدولتان الوحيدتان اللتان تطبقان العلمانية تطبيقا شموليا يهدف إلى إلغاء دور
الدين كليا من المجتمع .. لذلك يطلق خصوم هذا التيار عليه اسم (اللادينية)
بامتياز. بل إن الأتراك استعملوا هذا المصطلح برهة للدلالة على هذه الإيديولوجية
العَلْمانية قبل استعارتهم الكلمة الفرنسية layk وكذلك laiklik لأنها أقل إثارة لمشاعر المسلمين
الأتراك من "لاديني" (ladini) التي استعملوها في بداية القرن
العشرين.[34] ولعل
رمي أكثر العرب والمسلمين علمانيي العرب بالإلحاد ناتج عن كون معظم العلمانيين
العرب ـ على الأقل من نقرأ لهم ـ من أتباع الإيديولوجية العلمانية الفرنسية، وهي
العَلمانية الشاملة التي تدعو إلى فصل الدين عن الدولة بالقوة، وإخراج الدين كليا
من الحياة العامة. فلقد أخفق أتباع التيار العلماني واللائيكي العربي إخفاقا كبيرا
في استقراء التراث الإسلامي استقراء يمكنهم من تطوير العقلانية الحاضرة بقوة فيه
بدلا من استيراد إيديولوجية علمانية فرنسية متطرفة تطرفا له ما يبرِّره تاريخيا في
الغرب، ولكن ليس له ما يبرِّره عند العرب والمسلمين، لا في الماضي ولا في الحاضر.
وعليه
فإنه يبدو مما سبق بجلاء ألا علاقة بين مصطلح العَلْمانية وبين العِلْم، مهما كانت
تلك العلاقة ضئيلة. ونحن لا نشك في أن خلط هذه المفاهيم كلها في كلمة (عَلْمانية)
ثم نقطها بكسر العين للإيحاء بأنها من العِلْم أو أنها منهج علمي، إنما هو خلط
مثير للاستغراب وربما الشبهة، لأنه يهدف إلى ترسيخ مصطلح لا تستسيغه البيئة
العربية الإسلامية بأساليب غير طبيعية .. وقد يفيدنا البحث في المجلات التي كانت
تصدر ما بين النصف الثاني من القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين ـ
مثل المقتطف والمقطم وغيرهما ـ في استقراء عملية التوسع الدلالي الذي شهده آنذاك
مصطلحُ (العَلْمانية) ليشمل معنَيَيْ "الدنيوية" (secularism) واللائيكية (laïcité) .. في أثناء ذلك
نقترح تمييز المفاهيم الثلاثة المجتمعة في كلمتنا (عَلْمانية) بثلاثة مصطلحات
مختلفة كما يلي:
1.
قصر استعمال
مصطلح (العَلْمانية) للدلالة على المفهوم القديمlaicism/laïcisme
الذي يعني "جعل الشيء عاميا" فقط (ويرادفه في هذا
المعنى: مصطلح "عَوْمَنة" الذي اخترعناه لشرح المفهوم الأصلي)؛
2.
استعمال
مصطلح "الدنيوية" للدلالة على مفهوم الـ secularism الذي نادى به جورج هوليوك سنة 1851.
(ويرادفه في هذا المعنى: مصطلح "الدهرية")؛
3.
استعمال
اللفظ المنقحر "لائيكية" للدلالة على "الإيديولوجة العلمانية"
الفرنسية laïcité الذي
أدخل في الاستعمال في فرنسا سنة 1871. (ويرادفه في هذا المعنى: "اللادينية").
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق