دايفيد هيوم: في الأنواع المختلفة للفلسفة. من كتاب "في
الفهم البشري"
ترجمة محمد رونق
[يتطرق هيوم في هذا الفصل للحديث في الميتافيزيقا والأخلاق]
قمت بنقل هذا الفصل المنشور في مجلة "مدارات فلسفية" عام
2005.
هذا النص ترجمة
للفصل الأول من كتاب الفيلسوف دايفيد هيوم (1711ـ 1776): بحث في الفهم البشري،
وقد سبق للمجلة [مدارت فلسفية] (العدد 11) أن نشرت الفصل الثاني عشر منه تحت عنوان
"في الفلسفة الأكاديمية والشكّية"، وستعمل على نشر باقي الفصول تباعاً.
ساهم في ترجمة هذا الكتاب الأساتذة محمد
رونق والحسين سحبان وأحمد أمزيل ومحمد قنيني وعبدالله ورد وأحمد قابيل.
يمكن تناول الفلسفة الأخلاقية أو علم
الطبيعة البشرية بطريقتين مختلفتين: وكل طريقة منهما لها جدارتها الخاصة. وقد
تساهم في تسلية الإنسانية وتثقيفها وإصلاحِها. فإحداهما
تعتبر الإنسان بالأساس كما لو كان مخلوقاً من أجل الفعل ومتأثراً في تقديراته
بالذوق وبالمشاعر، ومهتماً بموضوعٍ ومستبعداً آخر، بحسب القيمة التي تبدو
للموضوعات، وبحسب الوجه الذي تظهر به.
وبما أن الفضيلة هي أكثر الموضوعات
اعتباراً في ما نقرّ، فإن الفلاسفة من هذا النوع يصوّرونها بأحبِّ الألوان،
ويستعيرون رصيد الشعر والفصاحة، ويتناولون موضوعهم في يسرٍ ووضوح، وبأسلوبٍ أقدرَ
على إغراء الخيال وإيقاظ العواطف. وهم ينتقون من الحياة الجارية أكثر الملاحظات
والأمثلة إثارةً للانتباه، ويضعون الطباع المتعارضة في تباين متناسب ويوجهوننا في
طرق الفضيلة بمنظورات المجد والسعادة، ويقودون خطانا في هذه الطرق بالتعاليم
الأكثر رشداً، وبالنماذج الأكثر شهرةً، وهم يجعلوننا نشعر باختلاف الرذيلة عن
الفضيلة، ويوقظون مشاعرنا وينظمونها. وهكذا، فهم يعتقدون أنهم قد حققوا غاية
جهودهم كلّها تحقيقاً تاماً عندما يستطيعون أن يليّنوا قلوبَنا لمحبةِ الاستقامة
والشرف الحقيقي.
أما النوع الثاني من الفلاسفة
فإنهم ينظرون إلى الإنسان باعتباره كائناً عاقلاً ويحاولون تشكيل عقلِه بدلاً من
تحسين خُلُقِه، وينظرون إلى الطبيعة البشريّة كموضوعٍ للتأمل، يمتحنونها، ويتفحّصونها عن كثب ليكتشفوا
المبادئَ التي تنظم فهمَنا. هم يوقظون مشاعرَنا ويجعلوننا نستحسن أو نستهجن
موضوعاً خاصاً فعلاً كان أو سلوكاً، ويعتبرون أن ما يؤخذ
على الآداب جميعِها أن الفلسفة بصرف النظر عن كلِّ جدال، لم تحدد بعد أساس الأخلاق
والاستدلال والنقد. فهي لا تفتأ تتحدّث عن الحق والباطل، عن الرذيلة والفضيلة، عن
الجمال والقبح، وهي عاجزةٌ عن تحديد منبع هذه التمييزات، ومع ذلك فحين
يحاول الفلاسفة أن يتصدَّوْا لهذه المهمّة العسيرة، فلا صعوبة تثني عزمهم، إنهم
ينتقلون من حالاتٍ جزئية إلى المبادئ العامة، ويستمرون في بحثهم بقصد الوصول إلى
مبادئ أكثر تعميماً، ولا يهدأ لهم بال إلا عندما ينتهون إلى مبادئَ أصليةٍ توقف
بالضرورة حب الاستطلاع البشري في كل علم. وبالرغم من أن تأملاتِهم تبدو لعموم
قرّائهم مجردة بل غير معقولة، فإنهم يطمحون إلى الحصول على تأييد المثقفين
والحكماء، ويعتقدون أنهم يجازون جزاءً كافياً عن كدِّ حياتهم كلِّها إذا استطاعوا
أن يكشفوا عن بعض حقائقَ خفيةٍ يمكن أن تساهم في تثقيف ذريتهم.
ومن المؤكد أن عموم الناس سيفضّلون دوماً
الفلسفة السهلة والواضحة على الفلسفة الدقيقة الغامضة، وأن أشخاصاً عديدين سيوصون
بها ليس باعتبارها مستحَبّة فحسب، بل إيضاً باعتبارها أجدى من الأخرى، فهي تتغلغل
في الحياة الجارية، وتكيّف القلب والعواطف بتعرّضها للمبادئ التي توجّه الناس، فهي
تُصلِح سلوكهم، وتقودُهم أقرب ما يمكن إلى نموذج الكمال الذي تصفه. أما الفلسفة
المجرّدة القائمة على اتجاه فكريٍّ لا يكون بوسعه التدخّل في الحياة العملية وفي
الفعل، فإن من شأنها على العكس من ذلك، أن تختفي بمجرد ما يغادر الفيلسوف الظل إلى
وضح النهار. كما أنه لن يكون في إمكان مبادئها أن تحتفظ في يسرٍ بتأثيرٍ على
سلوكنا وأخلاقِنا. فمشاعرُنا القلبية، وفورانُ أهوائِنا، وحدّةُ انفعالاتِنا تبدّد
كلَّ استنتاجاته وتحيل الفيلسوف المتعمّق إلى مجرّد رجلٍ من العوامّ.
ويجب أن نعترف كذلك بأن الفلسفة السهلة قد
حظيت بأدومِ شهرةٍ بقدرما حظيت بأعدلِها، وبأن أهل البرهان المجرد قد تمتعوا فقط
إلى الآن في ما يبدو بشهرةٍ آنيةٍ راجعةٍ إلى نزوة عصرهم الخاص أو إلى جهله،
ولكنهم كانوا عاجزين عن ترسيخ هذه السمعة لدى خلَفٍ أكثر إنصافاً. ومن السهل أن
يقع الفيلسوف المتعمّق في خطإٍ ما في استدلالاته الدقيقة، والخطأ يلد بالضرورة
الملزِمة خطأً آخر إذا ما دُفِعَ بالخطإ إلى نتائجه ولم يصدَّه عن ذلك اشتمالُ
نتيجةٍ ما على مظهرٍ غيرِ مألوف أو كونها متناقضة مع الرأي الشعبي.
ولكن فيلسوفاً لا يهدف إلا إلى أن يقدم
الشعورالمشترك للإنسانية تحت أضواءٍ أكثرَ جمالاً وأكثر جاذبيةً، لن يذهب إذا وقع
في خطإٍ أبعد من ذلك، بل يجدد نداءه للفهم المشترك وإلى المشاعر الطبيعية للعقل،
وبذلك يعود إلى الطريق السليم آمناً من الأوهام الخطيرة. فشهرة شيشرون ما تزال
يانعةً إلى الآن، ولكن سمعة أرسطو تلاشت تماماً، ولابرويير قطع البحار وما يزال
يحتفظ بصيته، ولكن مجد مالبرانش بقي محدوداً بحدود وطنه وعصره، وقد يُقرأُ أديسون
في المستقبل باستمتاع، بينما يكون لوك قد طواه النسيان التام.
والفيلسوف الخالص لا يحظى في العادة من
الناس إلا بقبول قليل، فهم يفترضون أنه لا يساهم بشيءٍ في تقدّم المجتمع أو في
إقناعِه، وأنه يحيا معزولاً عن كل اتصالٍ بالناس، مغلّفاً نفسه بمبادئ ومفاهيمَ هي
بدورها مستغلقة على أفهامهم.
ومن ناحيةٍ أخرى، فالجهل الخالص أجدر بالاحتقار،
وعندنا أنه ليس من علامةٍ أكثر تأكيداً على وجود عقل غفلٍ في عصرٍ وفي أمّةٍ تزدهر
فيها العلوم، من أن يكون الإنسان محروماً حرماناً كلّياً من أيِّ نوعٍ من الذوق
نحو هذه الاهتمامات النبيلة. والطبع الأكثر كمالاً يوجد ـ
فيما نفترض ـ في وسط هذين الطرفين: فهو يحتفظ بموقفٍ متعادلٍ وبذوقٍ متناسبٍ إزاء
الكتب والمجتمع والأعمال. هو يبقى في الحديث على هذا التمييز وهذه الرقة التي
تتأتّى من الثقافة الأدبية، ويصون في الأعمال هذه الاستقامة وهذه الدقة اللتين
تنتجان تلقائياً من فلسفةٍ ملائمة. ومن أجل تهذيب طبع بهذا الكمال ونشره
بين الناس، لا شيء أجدى من تآليفَ ذاتِ أسلوبٍ سهلٍ وطريقةٍ يسيرة لا تبعدان
كثيراً عن الحياة، ولا تتطلّب في فهمها تطبيقاتٍ عميقةً ولا غوصاً بعيداً، وتعيد
الطالب إلى عالم الناس وقد امتلأ بالمشاعر النبيلة وبالتعاليم الحكيمة التي يمكن
تطبيقها على جميع متطلبات الحياة البشريّة. وبفضل تآليفَ كهذه تصبح الفضيلةُ
محبوبةً والعلمُ بهيجاً والصحبةُ مهذبةً والخلوةُ مستظرفة.
إن الإنسان كائنٌ عاقل، وباعتباره كذلك
فإنه يتلقى قوته وغذاءه الخاص من العلم. ولكن حدود الفهم البشري من الضيق بحيث لا
نستطيع أن نأمل في امتداد مكتسباته وأمنها إلا قليلاً من الرضا. والإنسان كائنٌ اجتماعي بقدر ما هو عاقل، ولكنه لا يستطيع أن
يتمتّع دائماً بصحبةٍ بهيجة مستظرَفة، ولا أن يستبقي الطعم اللائق لمثل هذه
الصحبة. والإنسان كائنٌ فاعل أيضاً، وهذا
الاستعداد يخضعه بالضرورة للأعمال والانشغالات تماماً كما تفعل به غيرُها من مطالب
الحياة الإنسانية، ولكن العقل يطالب ببعض الراحة ولا يستطيع باستمرار أن يدعم ميله
إلى الفعل والانشغال، وعليه فقد اختارت الطبيعة في ما يبدو بالنسبة للحياة نوعاً
من المزيج الوسط أكثر ملاءمةً للجنس البشري، وحذرت الناس سراً بألا يسمحوا لأي
ميلٍ من ميولهم بأن يجذبهم بعيداً بحيث يجعلهم عاجزين عن أيّ انشغال أو عن أية
تسلية أخرى. تقول الطبيعة: أطلق العنان لشغفك بالعلم،
ولكن اعمل على أن يكون علمُك إنسانياً بحيث يستطيع أن يرتبط ارتباطاً مباشراً
بالفعل وبالمجتمع، وسأوقع عقوباتٍ صارمةً
عليهما بواسطة التأملية السوداوية التي أدخلاها وباللايقيين اللامتناهي الذي
يدفعانك إلى الانغماس فيه وبالاستقبال الفاتر لمكتشفاتِك المزعومة عندما تذيعها
بين الناس [؟
الترجمة هنا غير واضحة. من هما المقصودان بالكلام؟ ربما كان المقصود هو الشغف
بالعلم بعيداً عن الاهتمام بالفعل وبالمجتمع.] كن
فيلسوفاً، ولكن، ووسط فلسفتِك كلِّها، كن باستمرار إنساناً.
وإذا كان الناس ـ على العموم ـ يقنعون
بتفضيل الفلسفة السهلة على الفلسفة المجرّدة المتعمّقة دون أن يلوموها أو
يحتقروها، فقد يكون من اللائق أن ننقاد مع هذا الرأي العام فنوافق على أن في وسع
كل واحد أن يرضى عن نفسه في انسجام مع أذواقه الخاصة ومشاعره الشخصية. ولكن بما أننا في أغلب الأحيان سنذهب أبعد إلى حد الرفض المطلق لكل
تفكير متعمّق، وإلى الرفض لكل ما نسمّيه عادةً بالميتافيزيقا، فإن علينا أن نتجه
الآن إلى فحص المرافعة الممكنة للدفاع عنها على نحوٍ معقول.
ـ ويمكن أن نبدأ بملاحظة ميزة مهمة تنتج عن
الفلسفة الدقيقة والمجرّدة، وهي فائدتها للفلسفة السهلة والإنسانية، فبدون الفلسفة
الأولى لا تستطيع الثانية أبداً أن تحقق درجةً كافية من الدقة في أحكامها وفي
تعاليمها أو في استدلالاتها. فكل الأدب المرهف ليس سوى لوحاتٍ للحياة البشرية في
مختلف مواقفها وأوضاعها. وهو يوحي لنا بمشاعر متباينة بالمدح أو الذم، بالإعجاب أو
بالاستهزاء وفقاً لصفات الموضوع الذي يضعه أمامنا. وسيكون
الفنان بالضرورة أهلاً للنجاح في هذا المشروع، إذا هو امتلك، بالإضافة إلى رهافة
الذوق وسرعةِ الإدراك، معرفةً دقيقةً بالبناء الداخلي لعمليات الفهم، وبأساليب
الأهواء، وبتنوّع المشاعر التي تميّز الرذيلة عن الفضيلة. ومهما بدا من
صعوبةٍ بالغةٍ في هذا البحث، فإن هذا الاستقصاء الباطني يصبح في حدودٍ ما ضرورياً لمن يريدون أن يصفوا
المظاهر الصريحة والخارجية للحياة وصفاً ناجحاً. والتشريح يضع أمام أعيننا الأشياء
البالغة القبح والأكثر إثارةً للنفور، ولكنه مفيد لرسام حتى وإن كان يرسم فينوس أو
هيلين. فالرسام حين يستعمل أغنى ألوان فنّه كلّها، ويضفي على شخوصه جواً أكثر
لطفاً وأكثر جاذبيةً، يجب أن يوجّه أيضاً انتباهه إلى البنية الداخلية للجسم
البشري، وإلى أوضاع العضلات، وإلى تركيب العظام، وإلى شكل كل جزء أو عضوٍ
ووظيفتهما. فالدقة في جميع الحالات مفيدة للجمال، وإحكام الاستدلال مفيد لرقة
المشاعر، ومن العبث أن نمجّد أحدَهما بتبخيس الآخر.
وزياةً على ذلك، نستطيع أن نلاحظ في كل
الفنون والحِرف، بل حتى في ما كان منها مرتبطاً ارتباطاً أوثق بالحياة أو بالفعل،
أن روح الدقة بأية درجةٍ تمّت تدفعهم جميعاً أكثر فأكثر نحو كمالها، وتجعلهم أكثر
نفعاً لمصالح المجتمع. وبالرغم من أن الفيلسوف يمكن أن يعيش بعيداً عن عالم
الأعمال، فإن العبقرية الفلسفية، إذا هذبها بعناية أشخاصٌ كثيرون تنتشر بالضرورة
وبالتدريج خلال المجتمع كلِّه، فتضفي على كل الفنون والمهن دقّة مشابهة. إن
السياسي يغنم مزيداً من التبصّر، ومزيداً من الدقّة في توزيع السلطة وتوازنها،
والقانوني كثيراً من المنهجية ومزيداً من المبادئ الدقيقة في استدلالاته، والقائد
العسكري كثيراً من الصرامة في نظامه ومزيداً من الحذر في مخططاته ومناوراته.
واستقرار الحكومات الحديثة ـ المتفوّق على استقرار حكومات الأقدمين ـ ودقة الفلسفة
الحديثة تحسّنَا، ومن المحتمل أن يزدادا تحسّناً بسيرهما معاً في اتجاه التقدم.
وإذا لم نستطع أن نحصل من هذه الدراسات على
مزايا أخرى غير إشباع استطلاع بريء، فلا ينبغي أن نستهين مع ذلك بهذه النتيجة، فهي
توصلنا إلى تلك المسرّات القليلة المؤكّدة الهادئة المسموح بها للجنس البشري.
فأعذب طرق الحياة وأكثرها وداعةً يمر من شوراع العلم والمعرفة. وكل من استطاع أن
يزيل بعض الحواجز من هذه الطريق أو أن يفتح منظوراتٍ جديدةً وجب أن نحكم عليه
باعتباره من المحسنين إلى البشرية. وبالرغم من أن هذه الأبحاث تبدو شاقةً ومتعبةً
فهناك بعض العقول تماماً كبعض الأجسام نظراً لأنها وُهِبت صحةً قويّة وافرةً فهي
تتطلب تمارين شاقة، تجني متعةً مما قد يبدو لعموم الناس شيئاً ساحقاً ومرهقاً. ومن
المؤكد أن الظلام موجع للعقل مثلما هو مؤلم للعيون، ولكن أن تجلب النور من الظلام
مهما كلّف ذلك من جهد، لا بد أن يكون بالضرورة عملاً في غاية الإمتاع والفرح.
ـ ولكن غموض الفلسفة البعيدة
الغور لا يُعتَرض عليها بأنها شاقة ومرهقة فقط، بل أيضاً لأنها مصدرٌ حتمي للّايقين
وللخطإ. وهذا في الحقيقة هو الاعتراض الأكثرُ إنصافاً والأكثرُ قابليةً للتصديق ضد
جزءٍ مهم من الميتافيزيقا، أعني أنها ليست علماً بالمعنى الدقيق، ولكنها تنشأ من
المجهودات العقيمة للكبرياء البشري الذي يريد ان يخترقَ موضوعاتٍ لا ينفذُ إليها
الفهمُ إطلاقاً، أو [هي تنشأ] من
خداع الخرافات الشعبية التي، وهي عاجزةٌ عن الدفاع عن نفسها جيّداً، تنشئ هذه
الأدغال المستغلِقة لتغطي ضعفها وتحميه.
فهؤلاء اللصوص المطرودون من الأراضي المكشوفة يهربون
إلى الغاب ويتربصون للقيام بهجوم على الشوارع التي لا يحرسها العقل، ويغرقونها
بالمخاوف الدينية وبالأحكام المبتسَرة. وأقوى المحاربين مهزوم إذا غادر مكان
حراسته لحظةً واحدة. وكثيرٌ من الحراس يفتحون الأبواب للأعداء عن غباءٍ وجبن،
ويستقبلونهم عن طواعيةٍ وخضوع كما لو كانوا سادتَهم الشرعيين.
ولكن هل هذا سببٌ كافٍ لكي يتخلّى الفلاسفة
عن أبحاثهم، ويتركوا الخرافة تمتلك مواقعها الخلفية باستمرار؟
أليس من المناسب أن نخلص إلى النتيجة
العكسية فندرك أن من الواجب شنّ الحرب على الأعداء في أكثر مخابئهم سرّية؟
من
الوهم أن ننتظر من الناس تحت الإخفاقات المتكررة أن يتخلَّوْا في النهاية عن علومٍ
أثيريّة متهافتة كهذه، وأن يكتشفوا المجال الخاص للعقل البشري. والواقع أنه، بالإضافة
إلى أن أشخاصاً كثيرين يجدون مصلحة حساسة جداً في أن يكرروا اعتباراتٍ كهذه. فضلاً
عن هذا أقول إن اليأس الأعمى لا يمكن في الحقيقة أن يجد أبداً مكانه داخل العلوم.
ذلك لأنه مهما كان من سوء حظ محاولاتنا الأولى فلا يزال هناك مجالٌ للأمل:
فالمثابرة والحظ المواتي والفطنة المتنامية لدى الأجيال المتعاقبة تستطيع كلُّها
أن توصلنا إلى اكتشافاتٍ كانت العصور السابقة تجهلها، وكل عقلٍ مغامر ينطلق
باستمرار نحو قيمة صعبة المنال. والإخفاقات السابقة بدلاً من أن تحبطَه فإنها
تحفّزه ما دام يعتقد أن مجد إتمام مغامرةٍ بالغة الصعوبة قد خصّ به وحدَه. والمنهج الوحيد لتخليص المعرفة من هذه المسائل الغامضة هو البحث
الجاد في طبيعة الفهم البشري وأن نبيّن بواسطة تحليلٍ دقيقٍ لقواته وقدراته أنه
غير مؤهلٍ بأي حالٍ لأن يخوض في مثل هذه المواضيع البعيدة والغامضة.
ويجب أن نتحمّل هذه المشقّة من أجل أن نحيا في راحةٍ ما تبقى من الزمان كلِّه.
وعلينا أن نولي الميتافيزيقا الحقّة كامل عنايتنا من أجل تقويض الميتافيزيقا
الزائفة المغشوشة، فالبلادة التي تنتج عند البعض وقاية من هذه الفلسفة المضللة،
تعوّض عند البعض الآخر بالاستطلاع واليأس الذي يسود في بعض الأحيان، قد يفسح
المكان في ما بعد للتوقعات والآمال البالغة الحيوية. إن البرهان الصحيح الدقيق هو
العلاج الوحيد الشامل الصالح لجميع الأشخاص ولجميع الأمزجة. وهو وحدَه القادر على
تقويض الفلسفة الغامضة والرطانة الميتافيزيقية التي حين تختلط بالخرافة الشعبية
تجعلها على نحوٍ ما منيعةً على محبي البرهان المتهاونين وتكسبها مظهر العلم
والحكمة.
وبالإضافة إلى هذه الميزة، ميزة رفض أكثر
أجزاء المعرفة بعداً عن الثقة وأكثرها سماجة بعد البحث المتأنّي، هناك مزايا إيجابية تنتج عن بحثٍ دقيقٍ في قوى الطبيعة
البشريّة، وفي ملَكاتها. فمن الملاحظ أن عمليات الفكر مع أنها حاضرةٌ
فينا حضوراً حميمياً تبدو مغلفة بالالتباس كلما أصبحت موضوعاً للتأمل، ولا تستطيع
النظرة أن تكشف بسهولةٍ الخطوط والحدود التي تفصلها وتميّزها، فالموضوعات [أي عمليات
الفكر] أشد تفككاً من أن تبقى زمناً طويلاً في نفس المظهر وفي نفس الوضع، فينبغي
أن ندركَها في اللحظة نفسِها على نحوٍ نافذٍ وعميقٍ يصدر عن الطبيعة والذي يكتمل
بفعل العادة والتأمل، وهكذا سيصبح من الأجزاء الهامّة في
العلم أن نعرفَ العمليات المختلفة للفكر، وأن نفصل بعضها عن البعض الآخر، وأن
نصنّفها تحت عناوينِها الخاصة، وأن نصحح كل هذه الفوضى الظاهرة التي تكتنف
تلك العمليات عندما نجعل منها موضوعاتٍ للتأمل والبحث.
إن
مهمة التنظيم والتمييز هاته، والتي وإن كانت ليست لها أيةُ قيمةٍ حينما تنجز
بالنسبة للأجسام الخارجية، موضوع حواسِّنا، فإنها، عندما تطبق على عمليات الفكر،
تكتسب قيمةً تتناسبُ مع الصعوبةِ والجهد المبذول في إنجازها. وإذا لم نصل إلى
أبعدَ من هذه الخريطة العقلية، ولم نتجاوز هذا التحديد للأجزاء والقدرات المتميزة
للفكر، فإننا نكون على الأقل راضين ببلوغنا هذا المدى. وكلما بدا هذا العلم
بديهياً (وهو ليس بديهياً بأي حال) كلما كان اولئك الذين يتطلعون إلى المعرفة
والفلسفة، وهم جاهلون بهذا العلم، أجدر في رأينا بالاحتقار. ولا يمكن أن نستمر في
اتهام هذا العلم بأنه وهميّ وغير يقيني، اللهم إلا إذا حافظنا على مذهبٍ للشك إلى
الحدّ الذي ينسف تماماً كل تأملٍ بل كل عمل. فلا مجال للشك هنا، فالفكرُ قد وُهِبَ
قوى وملَكاتٍ مختلفة، وهذه القوى متميّزة بعضُها عن بعض. وما هو متميّز في الواقع
عند الإدراك المباشر، يستطيع التأمل أن يميّزه، وإذاً فالحقيقة والخطأ يوجدان معاً
في جميع القضايا المتعلقة بهذا الموضوع، وخارج نطاق الفهم البشري لا توجد حقيقة أو
خطأ. وهناك تمييزاتٌ عديدة بديهية من هذا القبيل كتلك الموجودة بين الإرادة والفهم
أو بين الخيال والعواطف التي تقع تحت نفوذ إدراك كل مخلوقٍ بشريّ. وأكثر التمييزات
دقةً وفلسفيةً ليست أقلَّ واقعيةً ويقينيّة حتى ولو كانت مستعصية على الفهم. وبعض
أمثلة النجاح في هذه الأبحاث، وبوجهٍ خاص الأمثلة القريبة العهد، تستطيع أن تقدّم
لنا فكرةً صحيحةً عن يقينية هذا النوع من العرفة وعن صلابته. فهل نقدر قيمة مجهود
فيلسوفٍ لأنه يقدّم لنا النظام الحقيقي للكواكب ويضبط أوضاع هذه الأجرام البعيدة
ونظامها، ونعمل في نفس الوقت على إهمال جهود أولئك الذين يرسمون بكثيرٍ من النجاح
أجزاء العقل التي تحظى ببالغ اهتمامنا؟ (2)
ولكن ألا يمكن أن نأمل في أن تتمكن الفلسفة
إذا نحن هذّبناها بعناية، أو إذا نالت من اهتمام الجمهور تشجيعاً وأن تمتدّ
بأبحاثها أبعد وأن تكتشف بقدرٍ ما الدوافع الخفيّة والمبادئ المحرّكة لعمليات
العقل البشري؟ لقد اكتفى علماء الفلك أمداً طويلاً باستنتاج الحركات الحقيقية
للأجرام السماوية ونظامها وحجومها انطلاقاً من ظواهر، إلى أن ظهر أخيراً فيلسوفٌ،
ويبدو أن ذلك تمّ باستدلالٍ موفَّق، زاد على ذلك بتحديد القوانين والقوى السائدة
والموجّهة لحركات الكواكب. (3)
وقد تحققت إنجازاتٌ في أجزاءٍ أخرى من
الطبيعة. وليس هنالك من سببٍ يدعو إلى اليأس عن إمكان تحقيق نجاحاتٍ مماثلة في
أبحاثنا الخاصة بقوى العقل وبتدبيره إذا نحن واصلناها بنفس الكفاءة، وبنفس الحِرص،
فمن المحتمل أن تتوقف عمليةٌ عقليةٌ أو مبدأٌ عقليّ على عمليةٍ أو مبدإٍ عقليٍّ
آخر، وهذه بدورها قد تنتج من عمليّة أو مبدإ أعمّ وأشمل. أما إلى أيّ مدىً يمكن أن
تصل هذه الأبحاث، فسيكون من الصعب علينا تحديدُه بدقّة سواءٌ قبل محاولة متقنة أو
حتى بعدها. ومن المؤكد أن محاولات من هذا القبيل تتم كل يوم، ويقوم بها حتى أولئك
الذين يتفلسفون بالطريقة المسرفة في التهاون، وليس هناك شيءٌ أكثر ضرورةً من
الالتزام المصحوب بانتباه وعنايةٍ كاملين بهذا المشروع الذي إذا استقرّ في مجال
الفهم البشري، أمكنه أن ينجَز على نحوٍ ملائم على أقل تقدير. وإلا أمكننا أن
نتخلّى عنه بكلّ ثقةٍ وبكل اطمئنان. وهذه النتيجة الأخيرة غير مرغوب فيها بالتأكيد
وليس من الملائم أن نتبناها بأسرعَ ما يكون. فإذا فعلنا فما أكثر ما ندني من جمال
هذا النوع من الفلسفة ومن قيمته. وقد اعتاد الأخلاقيون
إلى الآن، عندما يقدرون الاتساع الهائل والتنوّع الكبير في الأفعال التي تثير
تأييدنا أو نفورنا، اعتادوا أن يبحثوا عن المبدإ المشترك الذي يمكن أن يقوم أساساً
لهذا التنوّع في المشاعر، وعلى الرغم من أنهم يذهبون بعيداً في أبحاثهم تحت تأثير
غرامِهم بالمبادئ العامة، فينبغي مع ذلك أن نعترف بأنهم معذورون حين يأملون في
اكتشاف مبادئ عامة تضبط جميع الرذائل وجميع الفضائل على نحوٍ دقيق. وقد
حاول النقّاد والمناطِقة بل حتى السياسيون مشروعاتٍ مماثلة، ولم تكن محولاتُهم تلك
خاليةً من النجاح تماماً. ومع ذلك فربما مع مزيدٍ من الوقت ومزيدٍ من الدقّة ومع
اجتهادٍ أكثر حماساً يمكن لهذه كلها أن تنحو بهذه العلوم نحواً أقربَ إلى كمالها،
وأن نرفض دفعةً واحدةً كل مزاعمَ من هذا القبيل هو في تقديرنا سلوكٌ متسرّعٌ وأكثر
نزقاً ودوغماطيقية من الثقة الزائدة والتأكيد المبالغ للفلسفات التي حاولت في ما
مضى أن تفرض على البشريّة أوامرَها ومبادئها المبتسرة.
ولكن ماذا يهم لو أن هذه الاستدلالات عن
الطبيعة البشرية كانت مجردة عسيرة الفهم؟
إن ذلك لا يقدم لنا أيّ افتراضٍ عن خطئها،
بل على العكس من ذلك يبدو أن من المستحيل أن يكون ما غاب عن كثيرٍ من الفلاسفة
الحكماء والمتعمّقين إلى الآن واضحاً وبالغ السهولة. ومهما كلفتنا هذه الأبحاث من
عناءٍ فبوسعنا أن نعتقد بأننا سنجازى خيرَ الجزاء جزاء المتعة لا جزاء المنفعة،
إذا استطعنا بهذه الوسيلة أن نساهم بأية إضافةٍ لمخزون المعرفة حول موضوعاتٍ تحظى
بهذه الأهمّية التي يعجز عنها التعبير.
ولكن بعد كلّ شيء بما أن التجريد مضرٌّ
بهذه الأبحاث فضلاً عن أنها لا تستلزمُه، ونظراً لأن هذه الصعوبة يمكن التغلّب
عليها بالاهتمام والمهارة، وباستبعاد كل تفصيل لا ضرورةً له، فقد حاولنا في البحث
اللاحق أن نلقي بعض الضوء على موضوعاتٍ انعدامُ اليقين صرف عنها الحكماء، والغموضُ
صدّ الجهلاء وسنكون سعداءَ إذا استطعنا أن نوحِّد حدود مختلف أنواع الفلسفات بأن
نضيف عمق البحث إلى الوضوح، والحقيقةَ إلى الجِدّة، وسنكون أكثر سعادةً إذا نحن،
بالتفكير بهذه الطريقة السهلة استطعنا أن نقوّض دعائم فلسفة غامضة استخدمت إلى
الآن في ما يبدو ملجأً للخرافة وغطاءً للامعقول وللضلال.
الهوامش:
1ـ ليس في نيّتنا مطلقاً أن ننال من أهمية
لوك: فقد كان في الواقع فيلسوفاً عظيماً حقاً ومنطقياً منصفاً ومتواضعاً، وإيما
نريد أن نبيّن فقط المصير المشترك لهذا النوع من الفلسفة المجرّدة. (إشارة وردت في
الطبعتين الأوليين لسنتيّ 1748 و 1751).
2ـ الملَكة التي تمكننا من التمييز بين
الحق والباطل، والملَكة التي تتيح لنا إدراكَ الرذيلة والفضيلة هاتان الملَكتان
ظلّتا زمناً طويلاً ملتبستين إحداهما بالأخرى. وكان يفترض أن الأخلاق كلها تقوم
على علاقات أبديّة ثابتة. وهي بالنسبة لكل عقلٍ ذكيّ لا تتبدّل مثل كل اقتراح
يتعلّق بكيفها أو كمّها. ولكن أخيراً علمنا الفيلسوف
هاتشيسون بأكثر البراهين إقناعاً أن الأخلاق لا علاقة لها بطبيعة الأشياء وأنها
مرتبطة ارتباطاً كلياً بالمشاعر وبالذوق الفكري لكل كائنٍ خاص، تماماً كالتمييزات
بين الحلو والمر، وبين المحرق والبارد، التي تنشأ من الشعور الخاص بكل حاسة
أو عضو فمن المناسب إذاً أن نصنّف الإدراكات الأخلاقية لا مع العمليات المنطقية بل
مع الأذواق أو المشاعر. وقد اعتاد الفلاسفة أن يقسموا العواطف إلى قسمين: العواطف
الأنانية والعواطف الخيّرة، وافترضوا أنها في تناقضٍ دائم، ولم يتصوروا مطلقاً أن
الثانية يمكن أن تحقق موضوعها الخاص ما لم يكن على حساب الأولى. فضمن العواطف
الأنانية يدرجون البخل والطموح وروح الانتقام، ويدرجون ضمن العواطف الخيّرة الحب
الطبيعي والصداقة والروح الجماعية.
ويستطيع الفلاسفة أن يرَوْا الآن (انظر
مواعظ بتلر) خطأ هذا التقسيم فقد تم البرهان ودون أي جدل على أنه حتى العواطف
المعتبرة على العموم عواطف أنانية تحمل الذهن بعيداً عن ذاته مباشرة إلى الموضوع،
وإنه بالرغم من أن إشباع هذه العواطف يزوّدنا بمتعة، ومع ذلك فإن توقّع هذه المتعة
ليس هو سبب العاطفة، بل على العكس من ذلك فالعاطفة تسبق المتعة، وبدون الأولى ما
كان للثانية أبداً أن توجد. وكذلك الشأن في ما يتعلّق بالعواطف المسماة بالخيّرة.
وعليه فإن الإنسان عندما يسعى لمجده الشخصي لا يحقق مصلحةً أكثر مما لو تكون سعادة
صديقه هي موضوع رغباته، ولا يحقق مصلحةً يضحي بهنائه وراحته من أجل الصالح العام
أقل مما يحقق عندما يعمل من أجل إرضاء طمعه أو طموحه. هنا إذاً ضبط في غاية
الأهمّية للحدود بين العواطف التي كانت ملتبَسة بسبب الإهمال أو بسبب عدم دقة
الفلاسفة السابقين. وهذان المثالان يمكن أن يفيدا في تبيان طبيعة هذا النوع من
الفلسفة وأهمّيته. [إشارة وردت في الطبعتين الأوليين]
3ـ إشارةً إلى نيوتن (1641ـ 1727) في كتابه
"الفلسفة الطبيعية والمبادئ الرياضية. (المترجِم).