من مقدمة طه حسين لترجمة فاوست (ترجمة محمد عوض محمد)
هل أنا في حاجة إلى أن أتحدّثَ إليك عن غوته وفاوست بعد أن تحدثتُ
إليك عن مترجِمه؟ وهل تظن أني أفيكَ شيئاً كثيراً من العلم إن قلتُ لك إنّ غوته
ولد سنة 1749 ومات سنة 1832 ثم قصصتُ عليك في إيجاز بالطبع ما تعوّد المترجمون أن
يقصّوه من حياة هذا الشاعر الفيلسوف؟ ألستَ تستطيع أن تظفر بهذا في دوائر المعارف
على اختلافها؟ وأنت لا تطمع مني في أن أدرس لك هنا حياة غوته درساً مفصّلاً. فأنا
أرجو أن شوقَك إلى قراءة فوست في اللغة العربية أشد من أن يدعك تقرأ حياةً مفصّلة
لمؤلفه الآن، ولكن كلمة عن فاوست نفسه شيء لا بدّ منه قبل أن تبدأ في قراءة هذه
القصة الغريبة التي أثّرت في الحياة الأدبية والفنية لهذا العصر الحديث آثاراً
بعيدةً لم تبلغ أمدها بعد ويظهر أنها لن تبلغ أمدها قبل وقت طويل.
فالقصة قد تُرجِمت إلى اللغات الأوروبية كلها
وقد فسِّرت وشُرِحت من أنحاء مختلفة وقد مثلت في الملاعب وغنّيَت في دور الموسيقى.
لحّنها كبار الموسيقيين في أوروبا المتحضّرة ثم انبسطت أشعتُها حتى غمرت الآثار
الأدبية المختلفة وتجاوزتها إلى الفلسفة فليس هنكا أديب من أدباء القرن الماضي ولا
من أدباء هذا العصر إلا تأثّر بفاوست وليس هناك فيلسوف إلا تأثر بفاوست قليلاً أو
كثيراً في فلسفته ولا سيما بفاوست الثاني الذي هو إلى الفلسفة أقربُ منه إلى الأدب
والبيان.
وقد نحب أن نتعرّف تاريخ فاوست فنجد في ذلك
شيئاً من المشقّة والصعوبة، ذلك أنّ هذه القصة لم تكتب كما كتِب غيرُها من القصص
التمثيلية التي أنشأها غوته. وإنما استغرقت كتابة فاوست الأول أكثر من الحياة
العاملة للشاعر الفيلسوف. بدأها شاباً ثم انصرف عنها راضياً أو كارهاً، ثم كان
يعود إليها فيضيف جزءاً طويلاً أو قصيراً. وظل كذلك حتى أتمها أو خيّل إليه أنه
أتمّها في أوائل القرن الماضي. ثم انصرف عنها حيناً؛ ورجع إليها فكتب فاوست
الثاني. والذي ينظر في هذه القصة يلاحظ شيئاً ظاهراً من التفكك والتفرّق والبعد عن
الوحدة الفنّية ويحس إحساساً قوياً بأن الكاتب لم يفرغ لها وقتاً بعينه ولم يرسم
لها حدوداً معيّنة وإنما أنشأها على النحو الذي أشرنا إليه.. ولكنه مع هذا، حين
يقرأ القصة ويمعن فيها التفكير يشعر بهذه الوحدة الفنّية الفكرية قويةً أشدّ
القوّة، واضحةً أشدّ الوضوح، فالشاعر لم يضع قصّة تمثيليةً وإنما وضع حواراً
فنّياً فلسفياً، فهو إذاً غير مقيّد بالوحدة التمثيلية ولكنه مقيّد بالوحدة
الفكرية الفلسفية، وقد وفق إلى هذه الوحدة توفيقاً غريباً.
كتب هذه القصة في أكثر من ثلث قرن ولكنك لا
تجد فيها ضعفاً ولا اضطراباً ولا اختلافاً وإنما تقرأ فكأنك تقرأ لكتاتب قد فرغ
لموضوعه فأتقنه وأحسن تصويره وتأديته.
المصدر الظاهر لهذه القصة هي أسطورة الدكتور
فاوست التي كانت شائعةً في أواخر القرون الوسطى وأوائل العصر الحديث والتي تناولها
بعض الكتّاب الإنكليز والألمان فكتبوا فيها كتباً مختلفةً بل وضغوها وضعاً تمثيلياً.
ولكن لهذه القصة مصادرُ أخرى فلم تكن أسطورة الدكتور فاوست إلا قالباً صُبَّت فيه
فكرةٌ أدبية فلسفية راقيةٌ، فهل من الحق أن غوته لم يتأثر بما سبقة إليه فولتير من
السخرية اللاذعة في خفة وظرف بكل شيءٍ في هذا العالم؟
هل من الحقّ أنه لم يتأثر بما أثار ليبنتس من
خصومة عنيفة بين أنصار الخير والشر حين أعلن نظريته التي لا يمكن أن تصاغ في أحسن
من الصيغة الإسلامية المعروفة "ليس في الإمكان أبدع مما كان"؟
ظهرت هذه النظرية في القرن السابع عشر فاختصم
حولها الفلاسفة في هذا القرن نفسِه وفي القرن الثامن عشر. ووضع فولتير قصة
"كانديد" ساخراً من هذا المذهب، هادماً له مقارناً بين الخير والشر،
مصوِّراً لما بينهما من الجهاد العنيف، والصراع المنكر، في حياة الناس ووجود
الأشياء، وانتهى فولتير إلى نتيجته المشهورة "ليعش كلٌ منا بحديقته"
مؤثراً تسليم التر ك وإذعانهم للقضاء، على فلسفة الفلاسفة ومحاولتهم فهم أسرارها. كتب
فولتير قصته هذه إبان القرن الثامن عشر قبل أن يبدأ غوته في كتابة فاوست بوقت غير
طويل، وكان غوته مشغوفاً بفولتير كثير القراءة له والنظر فيه، كما كان الألمانيون
جميعاً مشغوفين بالآداب الفرنسية في ذلك العصر، وكما أني لا أشك في أنّ هناك شبهاً
قوياً بين "آلام فرتر" وكثير من الآثار الأدبية لجان جاك روسّو، فلست
أشكّ في أنّ هناك شبهاً قوياً بين فاوست وبين كثير من الآثار الأدبية لفولتير،
وربما كان من الحق الذي لا شك فيه أن غوته إنما هو استمرار لسخرية فولتير، ولكن
فولتير كان يسخر في ظرف وخفّة ورشاقة كما يسخر الفرنسيون، بينما كان غوته يسخر في
مرارةٍ وعنفٍ وجِدٍ كما يستطيع أن يسخر الألمان؛ ولم يكن فولتير يبتغي شيئاً وراء
الشك والسخرية، وكان غوته يبتغي مثلاً أعلى وراء شكّه وسخريته، ولم يكن فولتير
يتناول بسخريته شيئاً دون شيء، ولم يكن يعفي الحياة المعاصرة له من السخرية وكذلك
كان غوته؛ سخر من كل شيء وأذاق معاصريه مرارةً لا تعدلها مرارة.
تلخيص فاوست يسير فقد بدأ الشاعر بمحاكاة
التوراة في سفر أيوب، فأنشأ حوراً بين الله والشيطان حول حب الإنسان لله وقوّته
على الوفاء له؛ وانتهى هذا الحوار في فاوست برِهانٍ بين الله والشيطان، موضوعه هذا
العالم الجليل الدكتور فاوست الذي أخلص حبّه لله والعلم. يزعم الشيطان أنه قادرٌ
على إغوائه ويأبى الله عليه ذلك ويُنظِره فيندفع الشيطان إلى الدكتور فاوست فيصادفه
في ساعةٍ سيّئةٍ من حياته، فقد سئم العلم ويئس منه، وعجز الدينُ عن أن يسليَه
ويمنحَه ما كان يطمح إليه من الوقوف على سر الحياة والاطمئنان إليه. فما يزال
يحاوره حتى ينتهي به إلى عهدٍ بينهما..
يصبح الشيطان عبداً لفاوست، يتيح له كلَّ ما
يريد من يسيرٍ وعسير، ويذيقه كل ما يشتهي من لذّات الحياة على اختلافها، جليلها
وحقيرها، على أن يكون فاوست في آخر أمره، إذا لم يعجَز الشيطانُ عن إرضائه، عبداً
للشيطان، ويتمّ العهد بين هذين المتجاورين ويندفع الشيطان بصاحبه في فنونٍ من
اللذات كثيرةٍ، منها الراقي ومنها المنحط وفيها آثامٌ كثيرة، وما يزال به حتى يغوي
فتاةً بريئة ويضطرها بهذا الإغواء إلى أن تقتل أمَها وابنها وتسببُ قتلَ أخيها، ثم
تضطر إلى السجن ثم إلى الموت، كل ذلك في ظروفٍ كثيرة طويلة تتخللها أشياءُ أضيفَت
إليها إضافةً وحشِرَت فيها حشراً، ليس بينها وبينه صلةٌ إلا الجوار، فإذا انتهيتَ
إلى آخر هذه القصة رأيتَ الشيطانَ قد أنفق ما يستطيع لإرصاء فاوست فوفِّق كثيراً،
ولكنه على كلّ حال لم يظفر بنفسِ فاوست، لأن فاوست ما زال على كلَفِه باللذة
وتهالكه عليها، مزدرياً لكل ما ظفر به طامحاً إلى شيءٍ آخرَعجز الشيطان عن أن
يوصله إليه، وهو الذي يحاول أن يطلبه ويظفر به في "فاوست" الثاني..
هذه خلاصة القصة وهي التي صيغت عليها القصص
التمثيلية والغنائية ولكنّ جوهرها لس في هذا الإطار الذي صورتُه لك الآن، وإنما هو
فيما يحيط به هذا الإطار من دقائق الحوار بين الله والشيطان ثم بين فاوست وتلميذه
ثم بين فاوست والشيطان ثم بين الشيطان والناس.
في هذا الحوار كنوزٌ من القد والفلسفة والأدب
لا سبيل إلى تقويمها ولا إلى تحليلها ولا إلى الإحاطة بها، ولكنها كفيلةٌ بأن
تعطيك من غوته صورة رجلٍ عظيم قد عظم حتى كانت عظمته أشبه شيءٍ بالتمرد، ورقّ حتى
كانت رقّته أشبه شيءٍ بدعة الملائكة. ومن غريب الأمر أنك تجد غوته ممثلاً أصدق
تمثيل في ضعف الدكتور فاوست وقوّته وفي ضعف مرغريت وقوّته كما أنك تجده ممثلاً
أصدق تمثيل في تمرد الشيطان وكبريائه. وأيّ غرابة في هذا، أليس غوته هو الذي ابتكر
فاوست ومرغريت والشيطان؟
تجد في هذه القصة صورةً صادقةً لحياة العالم
الأوروبي قبيل الثورة الفرنسية وإبّانه أي في عصر الانتقال الذي وثب بأوروبا
الوثبة الأخيرة من حياة القرون الوسطى إلى حياة العصر الحديث، ويقال إن فاوست
الثاني يصوّر المثل الأعلى الذي يسمو إليه الرجل الفيلسوف وكيف يسمو إليه وكيف
يظفر به. وقد تعمدت أن آتي بلفظ الشك هذا لأن الذين فهموا فاوست الثاني قليلون وقد
أسأل نفسي أحياناً هل فهمه غوته..
ولعلّ أصدق حكمٍ على هذه القصة التي أقدّمها الآن إلى القرّاء حكم مدام دي استال عليها حين قالت: "إن هذه القصة تضطرك إلى أن تفكر في كل شيء وإلى أن تفكر في أمر آخر فوق كلّ شيء".
(طه حسين)
1929
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق