الجمعة، 10 يونيو 2022

من الذاكرة: ولدنات في غير أوانها؛ محمد الحجيري.

 

من الذاكرة: ولدنات في غير أوانها..

محمد الحجيري



إحدى ليالي آب الصيفية، كنّا هو وأنا، وحيدين نسهر في إحدى غرف منزلنا في عرسال. والوقت كان حوالي العاشرة ليلاً.

هو: صديقي وابن خالتي إبراهيم، وأنا: أنا.

خطرت في بالنا فكرة أن نذهب في تلك الساعة من الليل، سيراً على الأقدام إلى مشاريع جوسية، حيث كان أهلي يعملون في مشروع زراعي لنا، اشتراه والدي بعد أن باع أحد حقولنا في جرود عرسال لتأمين ثمنه.

مشاريع جوسية تقع على مسافة تزيد عن أربعين كيلومتراً عن بلدة عرسال.

المسافة بحاجةٍ إلى ما يزيد عن عشر ساعات سيرٍ على الأقدام..

لم تكن تنقصنا الحماقة، فانطلقنا برحلتنا الليلية في الحال، في ظروف غير مناسبة لأسبابٍ وأسباب..

منها، أننا كنا يومها في العام 1975، حيث كانت البلاد مقبلةً على حربٍ اختلف اللبنانيون على تسميتها وتوصيفها، وشاركوا فيها كلٌّ بنصيب، ومن خلفيَّةْ واضحةٍ حيناً وملتبَسةٍ ومغلَّفةٍ بالكثير من الشعارات التمويهيّة أحياناً أخرى.

لم يكن يفصلنا عن حادثة بوسطة عين الرمانة سوى أشهرً قلائل.

يومها، كنت أدرس في مهنيّة القرطباوي في منطقة ضهر الوحش، بين مدينة عالية والكحالة..

صاحب المهنية هو رجل الدين الماروني "المونسنيور" القرطباوي..

كانت المهنية تلك مخصصةً للطلاب الأيتام أو الفقراء (المسيحيين بشكلٍ أساس، مع وجود القليل من الطلاب المسلمين)، حصلتُ على حظوة اعتباري أحد الفقراء الذين نالوا فرصة التعليم المجاني الداخلي في تلك المهنية لثلاث سنوات، من العام الدراسي 1972ـ 1973، حتى العام الدراسي 1974ـ 1975.. حيث كنت أزور أهلي مرةً كل شهر أو كل شهرين.

لم أكن أعرف في تلك السنِّ من أمور السياسة الكثير. كانت ترد إلينا من طلاب الـ BT1 والـ BT2 أي من طلاب المرحلة المهنية الثانوية، خبر إطلاق النار على معروف سعد في تظاهرة الصيادين في صيدا. الذي لم أكن أعرف عنه شيئاً قبل تلك الحادثة والأخبار المتناقلة عنه.

بعد ذلك بحوالي الشهرين، كان الطلاب يتناقلون خبر إطلاق النار على "بوسطة عين الرمانة"..

كنت أشعر أني في بيئةٍ غريبةٍ في السياسة أو في الانحياز السياسي..

يبدو أن "المونسنيور القرطباوي" كان من الشخصيات ذات الاعتبار في الاجتماع السياسي الماروني: إحدى المرات كان زملائي يتحدثون بإعجاب عن "الشيخ بيار" (وكانوا يقصدون بذلك الشيخ بيار الجميّل، زعيم حزب الكتائب)، الرجل الأنيق وفارع الطول الذي ترجّل من سيارته من أجل لقاء "المونسنيور" الماروني في عرينه (مؤسسته كانت تتضمّن مدرسة مهنية وتقنية، للمرحلة المتوسطة وللمرحلة الثانوية، في قسمين: قسم خاص بالصبيان، وآخر خاص بالبنات؛ وكان الطابق الأخير في المبنى المخصص للصفوف التعليمية والنوم والطعام ومطبعة تابعة للمؤسسة، كان الطابق الأخير بكامله مخصصاً لإقامة صاحب المؤسسة: المونسنيور القرطباوي. كما كانت هناك مستشفى مخصصة ضد الشلل تابعة له أيضاً في مبنى مجاور مكوّن من ثلاث أو أربع طبقات)

لنعد الآن إلى صاحبينا "الغرَّين" بعد هذا الاستطراد التوثيقي.

انطلق صاحبانا في رحلتهما، في طريق جبلي جرديّ مسافةً تبلغ حوالي العشرة كيلومترات أو أكثر بقليل، لا أذكر أنهما مشياه سابقاً في النهار، قبل أن يصلا إلى بلدة الفاكهة: المحطة الأولى في طريقهما الطويل، كان بحوزتهما مصباح كهربائي يدوي قد يستخدمانه حين الحاجة.

يبدو أن الطريق قادتهما إلى حيث هم ذاهبان، رغم قلّة درايتهما، في منطقة شديدة الوعورة وشديدة الانحدار في بعض الأماكن.

المسافة بين عرسال ورأس بعلبك

هل كانا خائفين؟

كانا في السادسة عشرة من العمر، وربما كان أحد أسباب قيامهما بتلك المغامرة الليلية محاولة الإثبات للذات أنهما لا يخافان السير ليلاً في المناطق الجردية. لكنه كان محض ادعاء. في كل الأحوال، فإن الصحبة الثنائية تزيل وحشة الطريق.

وصلنا بلدة الفاكهة حوالي الثانية ليلاً: بلدةٌ يخيم عليها صمت مهيب، ويؤنس طرقاتِها ضوءُ المصابيح على الأعمدة، بدءاً من البيوت القريبة من نبع الماء حتى آخر بيوت القرية.

الفاكهة بلدة صغيرة، تنتهي بيوتُها ليبتدئ طريق يربط بينها وبين بلدة رأس بعلبك في مسافة تزيد قليلاً عن الكيلومتر الواحد.

تركنا البلدة خلفنا قاصدين محطتنا الثانية: شبحَيْن كنّا، نسير في الطريق المنحدر قليلاً في اتجاه بلدة رأس بعلبك، مستمعين إلى وقع خطوات أحذيتنا على الطريق المعبّد.

فجأةً سمعنا أصواتاً تأمرنا بالتوقف وعدم الإتيان بأيّ حركة.

أصواتٌ تأتي من الليل البهيم.. ثم طُلِب من الاقتراب، حيث بدأ بعض الأشخاص المسلحين يظهرون من أماكنهم.

من أين أنتم؟

وماذا تفعلون هنا في مثل هذا الوقت من الليل؟ (قيل لنا)

تبيّن لنا أن البلدات المسيحية في تلك الفترة كانت تتوجس من اعتداءات عليها من أبناء البلدات المجاورة، وهو ما حصل فعلاً بعد ذلك بأشهر قليلة، حيث تم الاعتداء على بلدة القاع الحدودية..

تخوّفاً من مثل هذا الاحتمال، كان أهالي القرى المسيحية (على الأقل هذا ما كان يحصل في بلدة رأس بعلبك) يؤمِّنون حمايةً لقراهم خوفاً من أية مفاجأة غير مستحبة.

لم يبدُ لنا أنّ أيَّ كلامٍ سنقوله لهم سيكون مقنعاً. 

لكن لم يكن لنا إلا أن نقول ما قد يصدقونه وقد لا يصدقونه. لو كنت مكانهم لرجحت أن يكون مجيئنا محاولة استكشافيةً ومثيراً للشكوك. وأرجّح أن تكون هذه الحادثة قد زادت من التوجس عندهم، على الأقل لساعاتٍ تالية.


المسافة بين عرسال وجوسية.

قلت لهم إننا من عرسال، وإننا ذاهبون إلى مشاريع جوسية في سورية، وعرّفتهم بأن لي أعمام في رأس بعلبك: عمي "أبو واكيم"، وهو كان من "رجالات" رأس بعلبك، وشقيقاه: كنج ويوسف الملقّب بـ "فَدْغَم" (كان مربياً للخيول العربية الأصيلة)

ساد صمتٌ لبعض الوقت، ثما خاطبني أحدهم: أنا "أبو واكيم". صوتٌ حائر بين الصداقة والعمومة وبين الحذر والتوجس.

وقفنا لدقائق، لا أذكر ما دار فيها من الأسئلة والأجوبة، ثم اصطحبَنا العمُّ أبو واكيم إلى منزله حيث تناولنا الطعام وأمضينا ليلتنا، ثم غادرْنا صباح اليوم التالي مكملين طريقنا إلى "المشاريع"، لكن لا أذكر أيَّ شيءٍ عن ذلك. آخر ما أذكره هو استضافتنا في بيت العم أبو واكيم.

بعد عام من ذلك التاريخ، انتسبت إلى ثانوية رأس بعلبك: الثانوية الوحيدة في المنطقة في تلك المرحلة، حيث أمضيت فيها سنتين مقيماً في منازلها..

الغريب، أني لا أذكر شيئاً عن السنة الثالثة مطلقاً. وكأنها فجوةٌ في الذاكرة..

حين أعود إلى الذاكرة مستعرضاً محطات الماضي، أشعر أني عشت أكثر من عمر، أو عمراً بمحطاتٍ كثيرة..

 

(9 حزيران 2022)

 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق