الخميس، 3 فبراير 2022

باركلي؛ زكي نجيب محمود؛ قصة الفلسفة الحديثة




بركلي Berkcley (1684ـ 1753)

زكي نجيب محمود؛ قصة الفلسفة الحديثة

 

وُلد جورج بركلي في مدينة كِلْكرِن Kilcrin من أعمال إيرلندة سنة ١٦٨٤م، وكان ذا مقدِرة عقلية مُمتازة، وأخلاقٍ بلغت أقصى حدٍّ من النُّبل والكرم، ولم يكَدْ يبلغ من العمر الرابعة والعشرين، حتى أخرج للناس كتابه «نظرية جديدة في الرؤية» New Theory of Vision، ثم أتبعَهُ بعد عامٍ واحد بمؤلَّف آخر هو «أصول المعرفة البشرية»، فكان لهذَين الكتابَين صدًى قويٌّ في دوائر العلم لِما اشتملا عليه من آراءٍ مُمتعة طريفة، ولِما أُفرغا فيه من أسلوبٍ رائع جذَّاب. فلمَّا كان عام ١٧١٣م قصد إلى لندن، حيث توشَّجَت روابط الصداقة بينَه وبين أعلام الأدَب من مُعاصريه، وكلهم من أئمة الأدب الإنجليزي البارِزين؛ أديسون، وسويفت، وستيل، وبوب وغيرهم، ولكن إلى جانب هذه المنزلة المُمتازة التي كان يتمتَّع بها بركلي فقد تعرَّض للسخرية اللاذِعة والتهكُّم القارص من بعض حمَلَة الأقلام في عصره، لرأيه الذي بَنى عليه فلسفته وهو وجود المادة، وانطلقَتْ ألسِنة القوم بالتنادُر عليه.

وكان بركلي رجلًا من رجال الدين، يخفق قلبُه بالإيمان والتقوى، وهَمَّ بعد رحلةٍ قصيرة قام بها في أوربا، وقابل أثناءها مالبرانش (1638ـ 1715)، أنْ يضطلع بمشروعٍ دينيٍّ عظيم: هو هداية المُتوحِّشين من سُكَّان أمريكا الشمالية. وبعد أن أعدَّ لهذه المهمَّة الجليلة عُدَّتَها بَخِلَ عليه البرلمانُ الإنجليزي بالمال فحبط المشروع، وبعدئذٍ عُيِّن في منصبٍ ديني في إيرلندة حيث أنفق ما بقِيَ له من عمره في شئون منصبه، وفي متابعة دراسته.

ولقد ساء بركلي — وهو ذلك المؤمِن الورع — أن يرى موجةً من الإلحاد وفساد الأخلاق تطغى على قومه باسم الفلسفة المادية، فنشَر كتابًا يُحاول به أن يُصلِح شيئًا من الفساد، وهو «محاورات هيْلاس وفيلونوس» Dialogues of Hylas and Philonous، وهو عبارة عن حوارٍ فلسفي يُمثِّل فيه هيلاس نظرية الماديِّين، فينقُض فيلونوس آراءه بالحُجَج الدامغة، وفيلونوس هذا إنما يُعبِّر في هذا الحوار عن آراء بركلي نفسه.

أما فلسفتُه فشُعبتان: شعبة سلبية وأخرى إيجابية، فهو في الأولى يحاول أن يُبرهن على أن العالَم الماديَّ ليس له وجودٌ مُستقل عن العقل الذي يُدركه، ثم يُبيِّن بعد ذلك أن العقول وما تشمل عليه من أفكارٍ هي وحدَها الحقيقة. ولمَّا كان الله هو العقل الأسمى كان هو باعث أفكارنا، كما أنه في الوقت نفسه هو الذي يُوجِد ما بينها من روابط.

(١) بُطلان الأشياء المادية: 

يستهلُّ بركلي كتابه «أصول المعرفة البشرية» بعبارةٍ يُلخِّص فيها المشكلة، ويُوجِز موقفه منها: «حسبُك أن تُلقي نظرة شاملة على ما تتألَّف منه المعرفة البشرية لتُوقِن يقينًا جازمًا أنَّ معرفتنا إحدى ثلاث: فهي إما أن تكون أفكارًا قد انطبعَتْ آثارُها على الحواسِّ حقًّا، وإما أن تكون أفكارًا أدركْناها بالتأمُّل في عواطفنا وخلجات عقولنا، أو هي أفكار كوَّنتْها الذاكِرة والخيال … ولكن لا بدَّ أن يكون هنالك — عدا هذه الأفكار المُتنوِّعة تنوُّعًا لا حدَّ له — شيءٌ يعرِفها ويُدركها، ويتصرَّف فيها بما له من إرادةٍ وتخيُّل وتذكُّر، وهذا الكائن المُدرِك الفاعل هو ما أُسمِّيه العقل، أو الروح، أو النفس، أو الذات … وإنه لبديهيٌّ أنَّ آراءنا وعواطفنا وأفكارنا التي يُكوِّنها خيالنا ليست موجودةً خارج عقولنا، وليس أقلَّ من ذلك بداهةً أنَّ الأحاسيس المُختلفة أو الأفكار التي تنطبع على الحواس — مهما بلَغَ من امتزاجها واختلاطها بعضها مع بعض. لا يمكن أن تُوجَد إلا في عقلٍ يُدركها.»

ولقد أراد بذلك أن يُقيم الدليل على أنَّ وجود العالم الخارجي مُتوقِّف على وجود العقل الذي يُدركه، فإن لم يكن عقل مُدرك لَما كان هناك عالَم مادي، فلو انعدمَتْ حواسُّ الأبصار لانعدمَتْ معها المرئيَّات، ولو صُمَّت الآذان لانمحَتِ الأصوات، وعلى الجُملة لو ذهبت الحواسُّ لامتنع وجود الأشياء. ويجِب أن نلفِت النظر إلى أن بركلي لا يقصد بذلك أن يَشُكَّ في وجود العالَم الخارجي، ولكنه يرى أنه من خلْق العقل والحواس، وهو يُنكِر وجود ذلك الجوهر المجهول الذي زعم الفلاسفة من قبله — ومنهم لوك — أنه كان وراء الظواهر المحسوسة. يقول بركلي: إنَّني لستُ أقلَّ منك إيمانًا بوجود ما تراه عينايَ وتُحسُّه يداي، إنما أُنكر أن يكون ثمَّة شيءٌ غير ما أرى وما أُحس، وأنَّ هذا الجوهر المزعوم إنْ هو إلا فِكرة مجردة ليس لها حقيقة واقعة. إنَّنا لو تأمَّلنا في ما تأتينا به التجربة لَما رأيْنا فيه ذلك الجوهر أو تلك القوة التي تنشأ عنها الظواهر أو تكون قوامًا للأشياء كما يزعمون، بل كل ما نراه هو مجموعة من الإحساسات إذا حلَّلْتها وجدتَها تتألَّف من مرئياتٍ مُعيَّنة، وأصوات، وطعوم، وما إلى هؤلاء من ضروب ما تجيء به الحواس. هذا فضلًا عن معرفتي بنفسي؛ إذ إني أعلم — إلى جانب تلك الأحاسيس — أنَّني أنا الذي أعرفها. وليس يَعي الإنسان غير هذَين الجانبَين؛ إحساسات، وذات تُدركها.

وإذا قلتُ إنَّني أرى أو ألمس شيئًا ما، فإنما أُريد بذلك أنَّني أُدرك فكرتي عنه. إنَّ هذا القلم الذي أكتُب به موجود ما دمتُ أراه بعَيني وأُحسُّه بين أصابعي، فإذا تركتُه على المائدة وانصرفتُ من غرفتي، فسأظلُّ أعلَم أنه موجود، ويكون معنى وجودِه عندئذٍ أنَّني لو كنتُ في الغرفة لرأيتُه وأحسسْتُه، أو قد يكون معنى وجوده أنَّ هنالك عقلًا آخَر يُدرِكه. ويريد بركلي بذلك أن يقول إنه يسمع أصواتًا، ويرى ألوانًا وأشكالًا ويذوق طعومًا، إلى آخر هذه الآثار الحِسِّية التي هي كل ما يستطيع أن يعلَمَه، بل كل ما يمكن أن يكون له وجود حقيقي. أما ما يُقال من أنَّ للأشياء جوهرًا حقيقيًّا موجودًا في الخارج سواء أكانت هنالك عقول تُدركه أو لم تكُن، فذلك ما يرفُضُه رفضًا باتًّا، فلفظة «موجود» معناها «مُدْرَك». وبعبارةٍ تُلخِّص ما مضى نقول: إنه يستحيل أن يكون للأشياء وجودٌ خارج العقول التي تُدرِكها «إنَّ كلَّ هذه الأجسام المادية التي يتركَّب منها الكون ليس لها وجود بغَير عقل — فوجودها هو أن تُدْرَك وتُعْرَف …» وفي هذا الرأي تتلخَّص رسالة بركلي.

ويقول بركلي: إنَّ ما حدا بالإنسان إلى الزعم بأنَّ للأشياء جوهرًا حقيقيًّا خارجيًّا غير ما تنبعِث فينا عنه من إحساساتٍ هو الفرْض الباطل بأنَّ في أذهاننا ما نُسمِّيه بالأفكار الكُلية المجرَّدة (أي أنَّ في الذهن أفكارًا كُلية غير الإحساسات الجُزئية ممَّا يدلُّ على أنَّ للأشياء حقيقةً أُخرى غير مجموعة الآثار الحِسِّية التي تنطبِع على حواسِّنا)، ولكن بركلي يقول: إن الإنسان ليخدَع نفسه حين يخلط، فيظنُّ الألفاظ أفكارًا، فليس لهذه الأفكار الكلية وجود قطعًا، وليس ثمَّة إلَّا الحقائق الجزئية التي نُحسُّها بحواسِّنا. إنَّ هذه الأفكار المُجرَّدة ليس لها وجود، حتى في العقل نفسه فضلًا عن العالم الخارجي.

ولا بدَّ هنا من مُعترِض يُسائل «بركلي» إذا استحال وجود الأفكار نفسها إلا في عقلٍ يُفكِّر فيها — وهذا ما نُسلِّم به — فماذا يمنع أن يكون هنالك، خارج عقولنا، أشياءُ شبيهةٌ بأفكارنا؟ أو على الأصحِّ تكون أفكارنا شبيهةً بها أو صورًا لها؟ إذا كانت فِكرتي عن هذا القلم الذي أكتُب به لا يمكن أن تُوجَد بغَير عقل يُدركها، فلماذا لا يكون ثمَّة قلمٌ مادي في الواقع، هو الأصل الذي انبعثت عنه فكرتي؟ ولكن بركلي يُجيب على من يعترِض بهذا قائلًا: إنَّ الفكرة لا يُمكن أن تُشبِه إلَّا فكرة؛ لأنَّ الشَّبَه لا يكون إلا بين النظائر، فيُماثل لَون لونًا وشكلٌ شكلًا، فإذا سلَّمْنا بوجود أشياء مادية في الخارج، فلا يُمكن لتلك الأشياء أن تخلُق فينا أفكارًا؛ لأنَّ الشيء مادةٌ، والفكرة روحٌ، فلا يُعقل أن يكون بينهما شيء من التشابُه.

ولقد أخطأ «لوك» في تقسيمِه صفات الأشياء قِسمَين: صفات أوَّلية موجودة فعلًا في الأشياء، وأخرى ثانوية تنشأ في العقول. ومِن أمثلة الصفات الأولية الامتداد، فكلُّ جسم يتَّصِف بالامتداد بغضِّ النظر عن العقل المُدرِك له، ومن أمثلة الصفات الثانوية الألوان والطعوم، فهذه من صُنع العقل وتكوينه وليستْ موجودةً فعلًا في الأشياء التي تتَّصِف بها … يقول بركلي: إن «لوك» قد أخطأ في هذا، فليس هناك أي فرقٍ بين صفةٍ وأخرى، وكلها — امتدادًا كانت أو لونًا أو طعمًا — موجودة فقط في الذهن الذي يُدرِك الشيء.

وربما قيل إنَّ للأشياء جوهرًا يكمن وراء صفاتها، وإنه من الجائز أن تكون الصفات كلها كما يقول «بركلي» من خلْق الذات، ولكنَّ جوهر الشيء الذي تتعلَّق به تلك الصفات لا بدَّ أن يكون له وجودٌ حقيقي خارجي واقِع، فإنْ قُلتَ مثلًا إنَّ لون هذه التِّفاحة أحمر، ورائحتها زكية، وطعمُها كذا، إلى آخر هذه الصفات، فما الذي تَصِفه باحمرارٍ وبطِيب الرائحة ولذَّة الطعم؟ أليس المعقول أن يكون للتفاحة جَوهر غير هذه الصفات، تتعلَّق هي به؟ نقول: ربما يُعترَض بهذا على «بركلي» ويكون معناه أنَّ هناك حقيقةً خارج العقول هي جوهر الشيء على فرْض أنَّ الصفات لا تُوجَد إلَّا في العقل وحدَه. ولكن بركلي يُجيب عن هذا الاعتراض بأن الشيء هو مجموعة صفاته ليس إلَّا. خُذ تفاحةً مثلًا في يدِك، ثُمَّ افرض أنك لا تُبصِر، فستنمحي من فكرة التفاحة صورتها، فإذا فقدتَ بعد ذلك حاسَّة الشمِّ انمحَتْ من الفكرة رائحتها، فإذا فقدتَ بعدئذٍ حاسَّة الذوق، كانت فكرة التفاحة عبارة عن ملمسها، فإن فقدتَ حاسَّة اللمس انمحَتْ فكرة التفاحة، ولم يعُد لوجودها أي معنى بالنسبة إليك. ومعنى ذلك أن التفاحة هي صفاتها لا أكثر ولا أقل، فإنْ كانت الصفات من خَلْق الذات كما قدَّمْنا، كانت فكرة التفاحة بأسرِها من خلق الذات كذلك، وليس لها معنًى من معاني الوجود خارج العقل المُشتمِل على تلك الفكرة. وبهذا محا «بركلي» المادة من الوجود، فليس في حقيقة الأمر إلَّا أفكار في عقول.

قُلنا فيما سبَق إن فلسفة «بركلي» تتألَّف من خطوتَين؛ الأولى: سلبية يُنكر فيها وجود المادة، والثانية: إيجابية يُثبت فيها وجود الكائنات الرُّوحية. ولقد بَسَطنا القول في مرحلته السلبية الأولى، ونحن نعرِض عليك الخطوة الإيجابية الثانية.

يقول «بركلي»: إنه لا رَيب أنَّ هنالك إلى جانب أفكارنا ذواتٍ مُدرِكة. إنني أعلم حقَّ العلم أن أفكاري كائنة في عقلي، وأستطيع أن أُميز تمييزًا واضحًا بين ذاتي وبين أفكاري، وإذن فللعقل وجودٌ مُستقل لا شكَّ فيه، وهو الذي يتناول أشتات الأفكار، فيصِل بينها وينظمها، ولَولاه لظلَّت مُفكَّكة لا تؤدي معنى، فيكون لَون التفاحة مثلًا منفصلًا عن مَلمسها، وهذا مُستقل عن رائحتها، وهي جميعًا لا تتَّصِل بطعمها، وبذلك لا يكون هناك فكرة مُتصلة مُترابطة متَّحدة عن التفاحة، أو بمعنى آخر لا تكون في العقل فكرة للتفاحة على الإطلاق، هذا العقل الذي يدرك الأفكار،٩ ويؤلِّف بينها يستحيل أن يكون هو نفسه فكرةً من الأفكار؛ لأنه فاعل والأفكار كلها قابلة، وهو مُدْرِكٌ والأفكار مُدْرَكَة. والخلاصة أن العقل، أو الروح موجود لا رَيب في وجوده، وإذن فكلُّ ما في الوجود عقول وما تحويه من أفكار.

(٢) الله هو مُنشئ الأفكار: 

لقد أنكر «بركلي» وجود الأشياء المادية، ولم يعترِف إلا بالعقول وأفكارها، فبديهي أن يَرِدَ على الذهن هذا السؤال: من أين إذن تأتي أفكارنا؟ إنه ليست هناك أشياء في الخارج تبعَثُها في نفوسنا، حتى نقول إنها صور لتلك الأشياء، كذلك لم تخلُقها عقولنا خلقًا من عدَم، فكل عمل العقل مُقتصر على تنظيمها وربطها، ويستحيل أن تكون وهمًا وخداعًا؛ لأنها حيَّة ناصِعة واضحة مُنظمة، فإذا كانت هذه الأفكار ليست من ابتداعنا نحن، فلا بدَّ أن يكون لها سبب خارج عنَّا، ولا بدَّ أن يكون ذلك الكائن مُفكرًا مريدًا؛ لأنه بغير الإرادة لا يمكن أن يكون فاعلًا ومؤثرًا في الناس، وبغير التفكير يستحيل أن يبثَّ في عقولنا. هذا ولمَّا كانت أفكارنا منوَّعة مُتعددة تنوُّعًا وتعدُّدًا لا نهاية لهما، فلا بدَّ أن يكون لذلك الكائن قوة لا نهائية، وعقل غير محدود، إنه لا بدَّ أن يكون في قُدرته السيطرة على العقول كلها، حتى يتمكَّن من أن يبثَّ أفكارًا بعينها في عقولٍ كثيرة في وقتٍ واحد … هذا الكائن هو الله، وهذه الأفكار التي يؤلِّفها ويُنسقها ويربط بينها هي ما نُسميه بالطبيعة،. أما هذا التتابُع الذي يحدُث بين الأفكار فهو ما نُطلق عليه قوانين الطبيعة. وهنا يستطرِد «بركلي» فيقول: إنَّنا لسْنا في حاجةٍ إلى أن نُثبت وجود الله بالمُعجزات الخارقة لقوانين الطبيعة؛ لأنَّ ثبات هذه القوانين وانسجام الأفكار وتنظيمها تدلُّ على قوة الله أكثر مما تدلُّ عليه الخوارق الشاذَّة … ثم يقول: إنك إذا سمِعتَ رجلًا يتحدَّث دون أن تراه لما شككتَ في وجوده، فكيف يجوز للإنسان أن يشكَّ في وجود الله وهو يتحدَّث إلينا حديثًا مُتصلًا لا ينقطع بلسان هذه الطبيعة — أي الأفكار — إنَّ هذه الأفكار التي يبثُّها في عقولنا هي نماذج من أفكاره الخالدة، فهي دليل قائم على وجوده وخلوده.

ترى ممَّا سبق أن «بركلي» يذهب بفلسفته إلى أنَّ الأشياء جميعًا لا تعدو أفكارًا وما يربطها من علاقات، ولكن هذه العلاقات ليست طبائع الأفكار نفسها، وإذن فهو لا يعترِف بما في العالَم الخارجي من سببيَّة؛ لأنه لا يرى أن الحادثة المُعينة أو الفكرة المُعينة لا بدَّ أن تستتبِع حادثة أو فكرة بعينها، إذ هو — كما رأيت — يُنكر أنَّ العلاقات بين الأشياء ضرورية ليس من حدوثها بد، فكل ما في الأمر سلسلة من الأفكار تتابَع في العقل تتابُعًا يتمُّ كما يريده الله.

أراد «بركلي» بإنكاره للعالم المادي، وبإثباته للكائنات الروحية وحدَها أن يصدَّ تيار المادية الذي طغى على الفكر في عصرِه طغيانًا انتهى بالإلحاد، وأن يُقرِّر وجود الله الذي يُنشئ في نفوسنا الأفكار، ولكنه يعود فيعترِف بأنَّ الإنسان عاجز عن معرفة الله معرفةً تامَّة كاملة؛ وذلك لأن أفكارنا قابلة فقط وليست فاعِلة، وحتى على فرض فاعليَّتها، فهي ولا شكَّ فاعلية ناقصة. ولمَّا كان الله عبارة عن فاعلية خالصة كاملة، كان من غير المُمكن أن تُمثله هذه الأفكار التي تنقُصها الفاعلية، فمَعرفتنا بالله هي من قبيل معرفتنا بذواتنا وبوجود العقول الأخرى، فلسْنا نعلم عن الله إلا ما نستنتجه من آثاره فينا؛ أي الأفكار التي في عقولنا.

ولكن طريقته هذه إذا طُبِّقت إلى نهايتها فقد تنتهي إلى إنكار عالم الرُّوح كذلك.

إنه زعَم أنَّ الشيء المادي لا يكتسِب وجوده إلا من إدراكه في عقلٍ ما، وأن كل ما هنالك عن ذلك الشيء هو فكرة في عقل، فبأيِّ حقٍّ أُقرر أن الله والعقول الأخرى موجودون وجودًا حقيقيًّا خارج عقلي، وأنهم قادِرون مِثلي على التفكير والتخيُّل والإرادة؟

أليست هذه العقول، بل أليس الله نفسه فكرة في نفسي؟ فلماذا لا أحكُم عليه بما حكمتُ به على الأشياء المادية، فأقول: إنه ليس لها وجود إلا في عقلي، وبذلك ينهار عالَم الروح كما اندكَّ عالم المادَّة من قبل؟

ومهما يكُن من أمر هذا الفيلسوف، فقد أفلح في مُعارضة النزعة المادية، كما كان من أئمة المذهب المثالي الذي يتلخَّص في أنَّ العالم هو ما تُصوِّره لنا أذهاننا.

 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق