فرنسيس بيكون: أوهام العقل.
ترجمة عادل مصطفى
(٣٩) ثمة أربعة
أنواع من «الأوهام»١٢ تُحْدِق بالعقل البشري، وقد قَيَّضتُ لكلٍّ منها اسمًا بغرض
التمييز بينها،
فأطلقتُ
على النوع الأوَّل: «أوهام القبيلة» idols
of the tribe (idola tribus)،
وعلى النوع
الثاني: «أوهام الكهف» idols
of the cave (idola specus)،
وعلى الثالث: «أوهام السوق» idols of the market
place (idola fori)،
وعلى
الرابع: «أوهام المسرح» idols
of the theatre (idola theatric).
•••
(٤٠) لا شك أن تكوين
التصورات والمبادئ بواسطة الاستقراء الصحيح هو العلاج الناجع للتخلص من الأوهام
وإزالتها، إلا أن التعرف على الأوهام هو أيضًا أداة مفيدة للغاية، فدراسة «الأوهام» idols هي بالنسبة إلى «تفسير الطبيعة» مثل دراسة «الدحوضات السوفسطائية » sophistic refutations١٣ بالنسبة للمنطق العادي.
•••
(٤١) «أوهام
القبيلة» (أوهام الجنس) idola
tribus مُبَيَّتةٌ في الطبيعة البشرية وفي القبيلة البشرية نفسها
أو الجنس البشري نفسه، فالرأي القائل بأن حواس الإنسان هي مقياس الأشياء إنما هو
رأي خاطئ، فالإدراكات جميعًا، الحسية والعقلية، هي — على العكس — منسوبة إلى
الإنسان وليس إلى العالَم، والذهن البشري أشبه بمرآة غير مستوية تتلقَّى الأشعة من
الأشياء وتمزِج طبيعتها الخاصة بطبيعة الأشياء فتشوهها وتُفسِدها.
•••
(٤٢) أمَّا «أوهام الكهف» idola specus فهي الأوهام الخاصة بالإنسان الفرد، إن لكل فرد — بالإضافة إلى أخطاء
الطبيعة البشرية بعامة — كهفًا أو غارًا خاصًّا به يعترض ضياءَ الطبيعة ويشوهها،
قد يحدث هذا بسبب الطبيعة الفريدة والخاصة لكل إنسان، أو بسبب تربيته وصلاته
الخاصة، أو قراءاته ونفوذ أولئك الذين يُكِنُّ لهم الاحترام والإعجاب، أو لاختلاف
الانطباعات التي تتركها الأشياء في أذهان مختلفة: في ذهنٍ قلقٍ متحيز، أو ذهنٍ
رصينٍ مطمئنٍ … إلخ. الروح البشرية إذن (بمختلف ميولها لدى مختلف الأفراد) هي شيءٌ
متغير، وغير مُطَّرد على الإطلاق، ورهنٌ للمصادفة العشواء، وقد صدق هيراقليطس حين
قال: إن الناس تلتمس المعرفة في عوالمهم الصغرى الخاصة، وليس في العالم الأكبر أو
العام.
•••
(٤٣) ثمة أيضًا أوهام تنشأ
عن تواصل الناس واجتماعهم بعضهم ببعض، والتي أسميها «أوهام السوق » idola fori، بالنظر إلى ما يجري بين
الناس هناك من تبادل واجتماع، فالناس إنما تتحادث عن
طريق القول، والكلماتُ يتم اختيارها بما يلائم فهم العامة، وهكذا تنشأ مُدَوَّنةٌ من الكلمات سيئةٌ بليدةٌ تعيق العقل
إعاقةً عجيبة، إعاقة لا تُجْدي فيها التعريفاتُ والشروح التي دأب المثقفون
على التحصن بها أحيانًا: فما تزال الألفاظ تنتهك الفهمَ بشكلٍ واضحٍ، وتُوقِع
الخلطَ في كل شيء، وتوقِع الناس في مجادلات فارغة ومغالطات لا حصر لها.
•••
(٤٤) وأخيرًا هناك تلك
الأوهام التي انسربت إلى عقول البشر من المعتقدات المتعددة للفلسفات المختلفة،
وكذلك من القواعد المغلوطة للبرهان، وهذه أسميها «أوهام المسرح » idola theatric، ذلك أني أعتبر أن كل الفلسفات التي تَعلَّمَها الناسُ وابتكروها
حتى الآن هي أشبه بمسرحيات عديدة جِدًّا تُقدَّم وتؤدَّى على المسرح، خالقةً
عوالمَ من عندها زائفةً وهمية، ولا ينسحب حديثي على الفلسفات والمذاهب
الرائجة اليوم فحسب، ولا حتى على المذاهب القديمة، فما يزال بالإمكان تأليف الكثير
من المسرحيات الأخرى من نفس النمط وتقديمُها بنفس الطريقة المصطنعة وإضفاء الاتفاق
عليها، ما دامت أسبابُ أغلاطها الشديدة التعارض هي أسباب مشتركة إلى حد كبير، ولا أنا أقصر حديثي على الفلسفة الكلية، وإنما أشمل أيضًا
كثيرًا من العناصر والمبادئ الخاصة بالعلوم، والتي اكتسبت قوتها
الإقناعية من خلال التقليد والتصديق الساذج والقصور الذاتي، غير أننا ينبغي أن
نعرض لكل صنف من الأوهام على حدة بتفصيل أكبر؛ كيما نحصِّن الفهم البشري ضدها.
•••
(٤٥) من طبيعة الفهم
البشري الخاصة أنه يميل إلى أن يفترض في العالم نظامًا واطِّرادًا أكثر مما يجده
فيه، ورغم وجود أشياء كثيرة في الطبيعة فريدة في نوعها وعديمة النظير، فإن الذهن
البشري يخترع لها أشباهًا ونظائرَ وصلاتٍ لا وجود لها، ومن هنا يأتي الوهم القائل
بأن جميع الأجرام السماوية تتحرك في دوائر مكتملة، بينما تُستبعَد تمامًا المسارات
اللولبية والمتمعجة (إلا في الاسم)، ومن هنا كذلك إدخال عنصر النار ومداره؛ لكي
يكوِّن رباعيًّا مع العناصر الثلاثة الأخرى التي تدركها الحواس، وكذلك فرض نسبة
عشرة إلى واحد على العناصر (كما يطلَق عليها) بشكلٍ اعتسافي، والتي هي نسبة
كثافاتها على التوالي، وما إلى ذلك من الهُراء، ولا تقتصر هذه الحماقة على
النظريات، بل تمتد أيضًا إلى التصورات البسيطة.
•••
(٤٦)١٤ من دأب الفهم البشري عندما يتبنى رأيًا (سواء لأنه الرأي السائد أو
لأنه يروقه ويَسُرُّه) أن يقسِر كلَّ شيءٍ عداه على أن يؤيده ويتفق معه، ورغم أنه
قد تكون هناك شواهد أكثر عددًا وثقلًا تقف على النقيض من هذا الرأي، فإنه إما أن
يهمل هذه الشواهد السلبية ويستخف بها، وإما أن يختلق تفرقةً تُسوِّل له أن يزيحها
وينبذها؛١٥ لكي يخلص — بواسطة
هذا التقدير السبقي المسيطر والموبِق — إلى أن استنتاجاته الأولى ما زالت سليمةً
ونافذة؛ ولذا فقد كان جوابًا وجيهًا ذلك الذي بَدَر من رجلٍ أطلَعوه على صورةٍ
معلقةٍ بالمعبد لأناسٍ دفعوا نذورهم ومِنْ ثَمَّ نجوا من حطام سفينة؛ عساه أن
يعترف الآن بقدرة الآلهة، فما كان جوابه إلا أن قال: «حسنًا، ولكن أين صورُ أولئك
الذين غرقوا بعد دفع النذور؟!»١٦ وهكذا سبيل الخرافة، سواء في التنجيم أو في تفسير الأحلام أو الفأل أو
ما شابه، حيث تجد الناس — وقد استهوتهم هذه الضلالاتُ — يلتفتون إلى الأحداث التي
تتفق معها، أمَّا الأحداث التي لا تتفق — رغم أنها الأكثر والأغلب — فيغفلونها
ويَغُضون عنها الطرف، على أن هذا الأذى يتسلل بطريقة أشد خفاءً ودقةً إلى داخل
الفلسفة والعلوم، حيث يفرض الحكمُ الأوَّل لونَه على ما يأتي بعده، ويحمله على
الإذعان له والانسجام معه، ولو كان الجديدُ أفضلَ وأصوبَ بما لا يُقاس، وفضلًا عن
ذلك — وبغض النظر عن ذلك الهوى والضلال الذي ذكرتُ — فإن من الأخطاء التي تَسِم
الفكرَ الإنساني في كل زمان أنه مُغرَمٌ ومُولَع بالشواهد الموجبة أكثر من الشواهد
السالبة،١٧ حيث ينبغي أن يقف من
الاثنين على حياد. والحق أنه في عملية البرهنة على أي مبدأ صحيح يكون المثال
السلبي هو أقوى المثالين وأكثرهما وجاهةً وفعاليةً.
•••
(٤٧) إن أكثر ما يشغف
الفهمَ البشري هو تلك الأشياء التي تلفت العقلَ وتنفذ إليه فورًا وفجأةً، فتجعل
المخيلة تمتلئ للتو وتتمدد، ثُمَّ يتراءى له (أي الفهم) ويفترض أن كلَّ شيءٍ آخر
هو بطريقة ما — وإن تكن خفيةً غيرَ مدرَكة — شبيهٌ بتلك الأشياء القليلة التي
استحوذت على العقل، أمَّا في الترحال إلى أمثلةٍ بعيدةٍ وغير متجانسة تختبر
المبادئ اختبارَ النار فإن الفكر بطيءٌ جِدًّا وغيرُ مؤهَّل ما لم تحمله على ذلك
قواعدُ قاسيةٌ وسلطةٌ نافذةٌ.
•••
(٤٨) إن الفهم البشري في
نشاط دائب، ولا يمكنه أن يتوقف أو يستكنَّ، وما يزال يبتغي المضيَّ قُدُمًا وإن
كان ذلك بغير جدوى؛ ولذا فمن غير المتصوَّر أن يكون هناك حَدٌّ ما للعالَم أو نقطة
نهاية؛ إذ يبدو لنا دائمًا — بما يشبه الضرورة — أن هناك شيئًا ما وراء ذلك الحد
أو النهاية، ولا هو من المتصوَّر أيضًا كيف تدفقت الأبدية نُزُلًا إلى يومنا هذا؛
لأن هذا التحديد المتفق عليه للانهاية في الماضي واللانهاية في المستقبل لا يمكن
أن يصمد، إذ سيترتب أن هناك لا نهاية أكبر من لا نهاية أخرى، وأن اللانهائية تتآكل
وتؤول إلى نهائية، وثمة نفس الصعوبة فيما يتعلق بقابلية الخطوط للانقسام إلى ما لا
نهاية، والناجمة عن انفلاتِ فكرِنا وعجزه عن التوقف،١٨ على أن هذا الانفلات
من جانب العقل يكون أكثر إيذاءً في عملية اكتشاف العلل، فعلى الرغم من أن المبادئ
الأكثر عمومية في الطبيعة ينبغي أن تكون وقائع خامًا هي كما وُجِدَت عليه ولا يمكن
أن تُحال حقًّا إلى علة، إلا أن الفهم البشري في عجزه عن التوقف ما يزال يتلمس
شيئًا ما سابقًا في نظام الطبيعة، ثم هو في غَمرة جهادِه في المضي إلى ما هو أبعد
إذا به يرتد إلى ما هو أقرب مأخذًا، أعني إلى العلل الغائية،١٩ تلك التي تَمُتُّ
بالصلة إلى طبيعة الإنسان أكثر مما تَمُتُّ إلى طبيعة العالم، وهي من جَرَّاء هذا
المنشأ قد أفسدت الفلسفة على نحو عجيب، على أن الفيلسوف الذي يلتمس العلل في
العموميات القصوى ليس أقلَّ خَرَقًا وسطحيةً من ذلك الذي يتوانَى عن التماسها في
الأشياء التابعة والفرعية.
•••
(٤٩) الفهم الإنساني ليس
مجبولًا من ضياء صرف،٢٠ وإنما هو مُشرَّبٌ
بالإرادة والعواطف،٢١ من هنا تأتي المعرفة
التي يمكن أن تُسَمَّى «معرفة حسب الطلب»، فالإنسان أمْيَلُ دائمًا إلى تصديق ما
يُفضِّله، ولذا فهو ينبذ الأمور الصعبة؛ لأنها تُجشِّمه الصبرَ في البحث، وينبذ
الاعتدال لأنه يُضيِّق حدود أمله، وينبذ التعمق في الطبيعة؛ لأنه — أي الإنسان —
مرتهنٌ للخرافة، ويرفض نورَ التجربة؛ لأنه متغطرسٌ مكابِرٌ يظن أن العقل لا يليق
به أن يهدر وقته في أشياء مبذولة متغيرة، ويرفض كل ما هو غير تقليدي خوفًا من رأي
العامة، صفوة القول: إن العاطفة تدمغ العقل وتصبغه بطرائق لا حصر لها، وطرائق خفية
تَنِدُّ عن الإدراك في بعض الأحيان.
•••
(٥٠) غير أن أكبر عائق للفهم
البشري على الإطلاق وأكبر زيغ إنما يأتي من بلادة الحواس وقصورها وخداعها،
فالأشياء التي تمس الحواس لها الأرجحية على الأشياء التي لا تمسها مباشرةً مهما
علا شأنها، هذا ما يجعل التأمل يتوقف في أغلب الأحوال حيثما يتوقف البصر، بحيث لا
يؤبَه للأشياء غير المرئية، وبذلك يبقى كل فعل الأرواح المكنونة في الأجسام
الملموسة٢٢ خفيًّا غير ملحوظ من
الناس، وخَفِية بالمثل تلك التغيرات البنيوية٢٣ الأدق في أجزاء
الأشياء الكثيفة (والتي تشيع تسميتها بالتغير ولكنها في حقيقة الأمر حركة جسيمات
دقيقة)، ولكن ما لم يتم بحثُ هذين الأمرين المذكورين وإخراجُهما إلى واضحة النهار
فلن يمكن تحقيق نتائج ذات قيمة في الطبيعة، وكذلك الطبيعة الجوهرية للهواء المشاع
ولجميع الأجسام الأقل كثافةً من الهواء (وهي كثيرة جِدًّا) فهي أيضًا مجهولة
تقريبًا؛ ذلك أن الإحساس بحد ذاته كليلٌ وعُرضة للخطأ، ولا تفيده كثيرًا الأدواتُ
المستخدَمة لتوسيعه وشحذه، أمَّا التفسير الأصدق للطبيعة فإنما يتحقق بواسطة
الشواهد وبواسطة التجارب المناسبة وذات الصلة، حيث يحكم الحس على التجربة وحدها،
بينما تحكم التجربةُ على الطبيعة والشيء ذاته.
•••
(٥١) الفهم البشري يميل
بطبيعته الخاصة إلى التجريد، ويفترض جوهرًا (ثابتًا) وواقعًا فيما هو عابرٌ
ومتغيرٌ، غير أنه أفضل لنا أن نُشَرِّح الطبيعةَ إلى أجزاء من أن نجردها، وهذا ما
فعلته مدرسة ديمقريطس التي حققت تقدُّمًا أكبر من غيرها في اختراق الطبيعة، إن
المادة — وليست الصور — هي ما ينبغي الالتفات إليه: المادة وبنيتها وتغيرات هذه
البنية والفعل المحض٢٤ وقانون هذا الفعل،
أمَّا الصور فما هي إلا وهم العقل البشري، إلا إذا أطلقنا اسم «الصور» على قوانين
الفعل.
•••
(٥٢) هكذا هي أوهام
القبيلة، التي تنشأ إما عن اطراد جِبِلة الروح البشرية أو عن تحيزاتها أو قصور
مَلَكاتها أو حركتها الدائبة أو عن تأثير الانفعالات أو عن عجز الحواس أو عن شكل
انطباعاتها.
•••
(٥٣) أمَّا «أوهام الكهف» idola specus فتَصدُر عن الطبيعة الخاصة لعقلِ كل فرد وجسمه، وعن ثقافته أيضًا
وعاداته وظروفه، ورغم أن هذه الفئةَ متنوعةٌ ومركَّبة إلا أننا سنتناول منها تلك
الجوانب الأكبر خطرًا وأشد إفسادًا لصفاء الفهم.
•••
(٥٤) يقع الناس في غرام
قطاعات معينة من المعرفة والأفكار، إما لأنهم يظنون أنفسهم مؤلفيها ومبتكريها،
وإما لأنهم أنفقوا فيها جهدًا كبيرًا وصاروا على إلفٍ كبيرٍ بها، إذا عَمَدَ مثل
هؤلاء الناس إلى الفلسفة والتأملات ذات الصبغة الكلية فإنهم يلوون بها ويفسدونها
لكي تلائم خيالاتهم المسبقة، ولدينا من أرسطو نموذجٌ واضحٌ لهؤلاء: لقد أخضع فلسفة
الطبيعة تمامًا لمنطقه، فجعل منها شيئًا خِلافيًّا ولا خيرَ فيه، ولدينا أيضًا
جماعة الخيميائيين، فقد شيَّدوا فلسفةً خياليةً ضيقةَ النطاق للغاية، قوامُها بضعُ
تجارب في الأتون، وكذلك جلبرت Gilbert٢٥ فبعد أن كرَّس جهدًا كبيرًا في دراسة الحجر المغناطيسي وملاحظته
توجَّه للتو إلى تلفيق فلسفةٍ كاملةٍ أخضعها لموضوعه الأثير.
•••
(٥٥) أمَّا أكبر الفروق
بين العقول وأكثرها جذرية في مجال الفلسفة والعلوم، فهو أن بعض العقول أقْدَر
وأمْيَل إلى ملاحظة الفروق بين الأشياء، وبعضها الآخر إلى ملاحظة التشابهات بينها،
فالعقول المدقِّقة الدءوبة بوسعها تثبيت الانتباه وتركيزه فترات طويلة على كل فارق
طفيف، أمَّا العقول الرصينة الاستدلالية فبوسعها التفطن إلى أخف التشابهات
وأعمِّها والمضاهاة بينها، وكلا الصنفين من العقول عُرضةٌ للشَّطَط، سواء بالتشبث
بالفروق التافهة أو بخيالات التشابه.
•••
(٥٦) ثمة عقولٌ أُشرِبَت
بإعجاب لا حدود له بالقديم، وعقولٌ أخرى مُغْرَمَة بالجديد، وقلَّما نجد من يقف
موقفًا متوازنًا فلا يَبخَس القدماء إنجازاتهم الصائبة ولا يزدري الإسهامات
الوجيهة للمحدَثين، وهذا خسران مبين للعلوم والفلسفة، فهذه ليست أحكامًا مستبصِرة
بل مجرد وُلوع بالقديم أو بالجديد، أمَّا الحقيقة فينبغي ألا تُلتمَس في حظوة زمنٍ
بعينه، فهذا أمرٌ غير مضمون، بل في ضوء الطبيعة والتجربة، وهو شيءٌ أزلي، علينا
إذن أن نجتنب مثل هذه الأهواء ونُعيذ فكرنا أن ينساق إليها.
•••
(٥٧) إن ملاحظة الطبيعة
والأجسام في أجزائها البسيطة من شأنها أن تكسر الفهمَ وتُشتِّته، في حين أن ملاحظة
الطبيعة والأجسام في تكوينها الكلي وبنيتها المركبة من شأنه أن يُذهِل الفهمَ
ويوهِنه، وهذا التمييز نراه في أوضح صورة عند مقارنة مدرسة ليوسيبوس وديمقريطس٢٦ بغيرها من الفلسفات،
فهذه المدرسة مشغولة بالجزئيات بحيث أغفَلَت البنيةَ إلى حد كبير، بينما المدارس
الأخرى منبهرةٌ بمشاهدة البنية فلا تكاد تَنفُذُ إلى بساطة الطبيعة. ينبغي إذن أن
نتناوب هذين الصنفين من الملاحظة، بحيث نجعل الفهم ثاقبًا وشاملًا في الوقت نفسه،
ونتلافى العيوبَ المذكورة لكلٍّ من الطريقتين والأوهامَ التي تنجم عنها.
•••
(٥٨) كذا فَليَكُن
الحَذَرُ في الملاحظة، الكفيلُ بنفي أوهام الكهف، تلك الأوهام التي تنشأ في معظمها
من غُلُوٍّ في التركيب أو شَطَطٍ في التقسيم، ومن التحيز لعصورٍ تاريخية بعينها،
ومن كِبَر موضوعات الملاحظة أو صغرها،٢٧ وبصفة عامة: فعلى كل
دارس للطبيعة أن ينظر بارتيابٍ إلى كل ما يفتن عقلَه ويأخذ بِلُبِّه، وأن يجعل ذلك
هَمَّه الأكبر في هذا الصنف من البحث؛ كيما يحفظَ ذهنَه صافيًا ومتوازنًا.
•••
(٥٩) غير أن «أوهام السوق» idola fori٢٨ هي أكثر الأوهام إزعاجًا، تلك الأوهام التي انسرَبَت إلى الذهن من
خلال تداعيات الألفاظ والأسماء؛ ذلك أن الناس يظنون أن عقلهم يتحكم في الألفاظ،
بينما الحقيقةُ أيضًا أن الألفاظ تعود وتشن هجومًا مضادًّا على الفهم، وهذا ما جعل
الفلسفة والعلوم مغالِطَة وعقيمة؛ لأن الألفاظ تكوَّنت في معظمها لكي تلائم قدرةَ
العامة من الناس، وهي تحدد الأشياء بخطوط تقسيمٍ تَسهُل على الذهن العامي، وحالما
أراد ذهنٌ أكثرُ حِدَّة أو ملاحظَةٌ أكثرُ تدقيقًا أن تغير هذه الخطوط لتلائم
التقسيمات الأصوب للطبيعة فإن الألفاظ تعترض الطريق وتقاوم التغيير، ومِنْ ثَمَّ
تنتهي الحوارات الرفيعة والجليلة — في كثيرٍ من الأحيان — إلى خلافات حول ألفاظ
وأسماء؛ ولذا فمن الأسلم (اقتداءً بحذر علماء الرياضيات) أن نبدأ منها ونُضْفِي عليها
النظام باستخدام التعريفات، إلا أن مثل هذه التعريفات لا يمكنها أن تعالج هذا
الخلل إذا كان موضوع الدراسة هو الطبيعة والمادة؛ لأن التعريفات نفسها تتكون من
ألفاظ والألفاظ تولِّد ألفاظًا؛ ولذا فإن علينا أن نلجأ إلى شواهد محددة وإلى
تسلسلها المطرد ونظامها، كما سنذكر حالًا عندما نعرض للمنهج والطريقة فيما يتصل
بتكوين التصورات والمبادئ.
•••
(٦٠) هناك نوعان من
الأوهام تفرضهما اللغةُ على الفهم، وهما إما أسماء لأشياء لا وجود لها (فإلى جانب
الأشياء التي تفتقر إلى أسماء؛ لأنها لم تُلاحَظ بعد، هناك أيضًا أسماء تفتقر إلى
أشياء؛ لأنها وليدة افتراضات خيالية لا تناظرها أشياء في الواقع)، وإما أسماء
لأشياء موجودة ولكنها مختلطة وغير محددة؛ لأنها انتُزِعَت من الأشياء على عجلٍ
ودون تدقيق، من الصنف الأوَّل لفظ fortune٢٩ و«المحرك الأوَّل» و«الأفلاك الكوكبية»٣٠ وعنصر «النار»، إلى غير ذلك من الخيالات التي تعود في نشأتها إلى
النظريات الزائفة العقيمة، هذا الصنف من الأوهام يسهل التخلص منه، إذ من الممكن
استئصالها بواسطة التفنيد المستمر أو التخلي عن النظريات نفسها، أمَّا الصنف
الثاني من الأوهام فهو معقَّد ومتجذِّر؛ لأنه ناتج من تجريد مغلوط وأخرَق، ولنأخذ
كمثال كلمة «رطب»، وننظر إلى أي حد تتسق الأشياء المُشار إليها بهذه اللفظة، وسنجد
أن كلمة «رطب» لا تعدو أن تكون علامة تُستخدَم بتسيُّبٍ وخلطٍ لتدل على أفعال
متباينة لا يجمعها أي اطراد أو قاسم مشترك، فهي تشير إلى ذلك الذي ينشر نفسَه حول
شيء آخر، وذلك الذي لا تخوم له ولا ثبات، وذلك الذي يستسلم في كل اتجاه، وذلك الذي
يسهل انقسامه وتناثره، وذلك الذي يسهل تدفقه وتحريكه، وذلك الذي يسهل التصاقه بجسم
آخر وترطيبه، وذلك الذي يُرَد بسهولة إلى الحالة السائلة، أو هو صلب يسهل انصهاره،
ومِنْ ثَمَّ فإذا أتيت إلى استعمال هذا اللفظ فستجد من جهة أن اللهب رطب، ومن جهة
أخرى أن الهواء رطب، ومن أخرى أن التراب الدقيق رطب، ومن أخرى أن الزجاج رطب،٣١ هكذا يتبين بسهولة أن
هذا التصور قد انتُزِعَ على عجلٍ من الماء والسوائل الشائعة والعادية فحسب بدون أي
تمحيص واجب.
ثمة درجات من القصور والخطأ في الألفاظ،
فأقل فئات الألفاظ خطأً أسماء المواد وبخاصة النوع الأقل تجريدًا وأكثر تحديدًا
(تصور الطباشير والطين حسن، وتصور التراب سيئ)، تليها أسماء الأفعال مثل «يولِّد»
«يفسد» «يغيِّر»، أمَّا أكثر الفئات خطأً فأسماء الكيفيات (باستثناء الموضوعات
المباشرة للإحساس)، مثل: «ثقيل» «خفيف» «مخلخَل» «كثيف» … إلخ، على أنه في جميع
الفئات تكون بعض التصورات بالضرورة أفضل قليلًا من البعض الآخر، وفقًا لكثرة أو
قلة الأشياء التي تقع في نطاق الحواس.
•••
(٦١) أمَّا «أوهام المسرح» idola theatric فليست فطرية ولا هي تَسترِق إلى الذهن سِرًّا، وإنما يتم إدخالُها
عَلَنًا وتقبُّلُها عن طريق النظريات الخرافية والقواعد المغلوطة للبرهان، ولكن
ليس بما يتفق مع ما أعلنتُه آنفًا أن أحاول أو أضطلع بتفنيدها، فما دمنا لا نتفق
حول المبادئ ولا حول البراهين فلا محل للجدل، وهذا من حسن الحظ بقدر ما يحفظ
للقدماء كرامتهم، فأنا لا أنتقص من قدرهم، إذ لا يعنيني في مذهبي كله إلا الطريقُ
الذي يُتَّبَع، وكما يقول المثل: «الأعرجُ على الطريق الصحيح يَسبِق العَدَّاء على
الطريق الخطأ.» بل إن الذي يتخذ الطريقَ الخطأ يزداد ضلالًا وبُعدًا عن المقصِد
كلما كان أمهرَ وأسرع.
إن منهجي في الكشف مصمَّم بحيث لا يعوِّل
على حِدَّة الموهبة الفردية وقوتها، بل إنه يكاد يُسوِّي بين المَلَكات والأفهام،
فمثلما أن رسم خط مستقيم أو دائرة دقيقة يعتمد كثيرًا على ثبات اليد ودُربتِها
بينما لا حاجةَ لأي ثباتٍ ودُربة إذا ما استُخدِمَت مسطرةٌ أو فرجار، كذلك الأمر بالضبط
في منهجي المقترَح، ولكن رغم أني لا أعرِض لتفنيداتٍ بعينها، إلا أن شيئًا ما
ينبغي أن يُقال، أوَّلًا عن مذاهب هذه النظريات وأنواعها، ثم عن وجود دلائل خارجية
على ضعفها، وأخيرًا عن أسباب مثل هذا الفشل ومثل هذا التشبث الطويل بالخطأ
والإجماع عليه، أتَغيَّا من ذلك أن أجعل المسلك إلى الحقيقة أقلَّ عِثارًا، والفهم
البشري أكثر نزوعًا إلى التطهر ونبذ الأوهام.
•••
(٦٢) هناك الكثير من
«أوهام المسرح» أو أوهام النظريات، ويمكن أن تكون هناك وربما ستجدُّ فيما بعد
أوهامٌ أخرى كثيرة، إذ لولا أن عقول الناس قد انشغلت أحقابًا طويلةً بالمسائل
الدينية واللاهوتية، والحكومات المدنية (وبخاصة الملكيات) قد أبغضت مثل هذه
التجديدات حتى في الفكر (بحيث لا يمكن لأحد أن ينخرط فيها دون خطر وضرر، ولا يعدم
الثواب فحسب بل يلحقه الازدراء والحسد)، لولا ذلك لكانت أدخلت — بلا شك — مذاهب
فلسفية ونظرية أخرى كثيرة مثل تلك التي ازدهرت مرة بوفرة وتنوع كبير عند اليونان،
فمثلما يمكن تشييد نظريات خيالية كثيرة من ظواهر السماء، فمن الممكن — بل والأيسر
— تشييدُ اعتقاداتٍ متنوعة كثيرة من ظواهر الفلسفة، وفي مسرحيات هذا المسرح
الفلسفي قد تلاحظ نفس الشيء الموجود في مسرح الشعراء: أن القصص المؤلَّفةَ للمسرح
أكثر تماسكًا ووجاهةً وإمتاعًا من القصص الحقيقية من التاريخ، وأقرب لرغبات الناس.
وبصفة عامة فإن الناس يأخذون كأساسٍ
لفلسفتهم: إما أشياء كثيرة جِدًّا من موضوعات قليلة، وإما أشياء قليلة جِدًّا من
موضوعات كثيرة، وفي كلتا الحالتين تتأسس الفلسفة على أساسٍ ضيِّقٍ جِدًّا من
التجربة والتاريخ الطبيعي، وتُقَرَّر الأحكام بناءً على شواهد أقل مما يجب،
فالفلاسفة العقليون يلتقطون من التجربة تنويعةً من الأمثلة العامة لم يَتِم فهمُها
بدقة ولا فحصها ووزنها بعناية، ويعتمدون فيما تبقَّى على التأمل والنشاط الفكري.
وهناك أيضًا فئة أخرى من الفلاسفة ما
يكادون يعكِفون بعناية وصدق على بضع تجارب حتى يسارعوا باستنباط فلسفاتهم منها
ويشيدوها تشييدًا، ويلوون كل الوقائع الأخرى بطرق عجيبة لكي تنسجم مع هذه الفلسفات.
وهناك بَعدُ صنفٌ ثالث من الفلاسفة يحملهم
إيمانهم ووقارهم على أن يخالطوا فلسفتهم باللاهوت والتعاليم، مِن هؤلاء مَنْ بَلَغ
بهم الغرور مبلَغًا جعلهم يحاولون اشتقاق العلوم من الأرواح والعفاريت. ثمة إذن
ثلاثةُ مصادرَ للخطأ وثلاثةُ أنواع من الفلسفة الزائفة: السوفسطائية٣٢ والتجريبية العشوائية
والخرافية.
•••
(٦٣) وأوضح مثل على الصنف
الأوَّل من الفلاسفة هو أرسطو، الذي أفسد الفلسفة الطبيعية بمنطقه، وشَيَّدَ
العالمَ بمقولاته، ونَسَبَ إلى الروح البشرية — أنبل الجواهر جميعًا — جنسًا يقوم
على كلمات من المقصد الثاني،٣٣ وحوَّل التفاعل بين
الكثيف والمُخلخَل (الذي به تَشغَل الأجسامُ محلًّا أكبر أو أصغر) إلى تلك التفرقة
الباردة بين القوة والفعل، وأكَّدَ أن لكل جسم حركة فريدة خاصة به، فإذا شارك في
حركةٍ أخرى فإن هذه الحركة تعود إلى علة خارجية، وفَرَضَ على الطبيعة أشياء أخرى
لا حصر لها وفقًا لهواه، فقد كانت تعنيه دائمًا التعريفاتُ والدقة في صياغة قضاياه
أكثر مما تعنيه الحقيقة الداخلية للأشياء، يتجلى هذا في أوضح صورة إذا ما قارنَّا
فلسفته بغيرها من الفلسفات الذائعة بين اليونان: فاﻟ «هومويوميرا»٣٤ (الأجزاء المتماثلة) عند أنكساجوراس، والذرات عند ليوسيبوس
وديمقريطس، والسماء والأرض عند بارمنيدس، والتنافر والانسجام عند أمبدوقليس،
وتلاشي الأجسام في الطبيعة غير المتمايزة للنار ثم عودتها إلى الصلابة مرة أخرى
عند هيراقليطس، كل أولئك يحمل داخله شيئًا من الفلسفة الطبيعية ومن حس الطبيعة
والتجربة والأجسام، في حين لا تكاد تسمع في فيزيقا أرسطو أي شيء عدا مصطلحات
المنطق، والتي أعاد تدويرها مرة أخرى في ميتافيزيقاه تحت تسمية أكثر جلالًا،
زاعمًا أنه واقعي realist أكثر منه اسميًّا nominalist، ولا يخدعن أحدًا كثرةُ التجائه إلى التجربة في كتبه «عن الحيوان»
و«مشكلات» ورسائل أخرى، فحقيقة الأمر أنه قد حَسَمَ أمرَه مسبقًا ولم يستشِر التجربة
حقَّ المشورة كأساسٍ لأحكامه ومبادئه. إنه يعتسفُ أحكامه اعتسافًا ثم يلوي
بالتجربة حتى تُلائم أفكاره، ويجُرُّها كما يُجَرُّ أسيرٌ في موكب، ومِنْ ثَمَّ
فهو أفدح ذنبًا من تابعيه المحدَثين (الأسكولائيين) الذين هجروا التجربة تمامًا
ونفضوا أيديهم منها.٣٥
•••
(٦٤) تتولد عن المدرسة
التجريبية معتقداتٌ أكثر تشوُّهًا ومَسخًا مما تُنتِجه المدرسة السوفسطائية أو
العقلية؛ ذلك لأن هذه المعتقدات لا تتأسس في ضوء التصورات العامة (التي رغم ضعفها
وسطحيتها فهي بشكل ما عمومية وتشير إلى أشياء كثيرة)، بل تقوم على أساسٍ ضيِّق
ومعتم من حفنة تجارب، مثل هذه الفلسفة تبدو محتملة وشبه يقينية عند أولئك الذين
ينخرطون كل يوم في مثل هذا الصنف من التجارب فأفسدوا مخيلتهم بها، أمَّا لغيرهم
فتبدو بعيدة عن التصديق وغير ذات جدوى، ولدينا عليها مثال صارخ في أهل الخيمياء
ومعتقداتهم، وهي عدا ذلك نادرة الوجود في زمننا هذا، ربما باستثناء فلسفة جلبرت،
ويبقى علينا رغم ذلك أن نحذر من مثل هذه الفلسفات؛ ذلك أننا ندرك ونتوقَّع أنه إذا
أصغى الناس لنصيحتنا وكرَّسوا أنفسهم حقًّا للتجربة (بعد أن ودعوا المذاهب
السفسطائية) فإن هذه الفلسفة ستكون مصدر خطر حقيقي على أقل تقدير، وذلك بسبب
تسرُّع العقل وتهوره، وقفزه أو طيرانه إلى العموميات وإلى مبادئ الأشياء، ذلك
الخطر الذي ينبغي مِنْ ثَمَّ أن نكون متأهبين — حتى في هذه اللحظة — لمواجهته.
•••
(٦٥) على أن الفساد الذي
يأتي الفلسفة من الامتزاج بالخرافة والثيولوجيا هو أوسع انتشارًا وأشد ضررًا
عليها، سواء على منظوماتها الكلية أو على أجزائها، فتأثر العقل البشري بالخيال لا
يقل عن تأثره بالأفكار الشائعة. إن الصنف الجدلي والسوفسطائي من الفلسفة يوقِع
العقل في شَرَك، أمَّا الصنف الآخر أي الفلسفة الخيالية الطنانة شبه الشعرية
فتُغويه. إن بالإنسان ضربًا من طموح الفكر لا يقل عن طموح الإرادة، وبخاصة لدى
الشخصيات الشامخة النبيلة.
وهناك مثال لافت على هذا بين اليونان نجده
في فيثاغوراس، وإن كانت الخرافة لديه فظة ثقيلة، ومثال آخر في أفلاطون ومدرسته حيث
الخرافة أخطر وأرقى، وهذا الإثم نجده أيضًا في جوانب من الفلسفات الأخرى،
متمثِّلًا في القول بالصور المجردة والعلل الغائية والأولى،٣٦ مع إغفالٍ كثيرٍ
للعلل الوسطى وما إليها. إن علينا أن نتخذ أشد الحذر هنا، فليس ثمة ما هو أسوأ من
تمجيد الخطأ، فحين تؤلَّه الحماقةُ فذلكم بلاءٌ يحيق بالفكر، في هذه الحماقة انغمس
بعضُ المحدَثين، وبغفلةٍ متناهيةٍ حاولوا أن يؤسِّسوا فلسفةً طبيعيةً على الفصل
الأول من سِفْر التكوين Genesis وسِفْر أبواب وأجزاء أخرى من الكتاب المقدس، باحثين — هكذا — عن
الموتى بين الأحياء،٣٧ ومثل هذه الحماقة يجب
أن توقَف وتُقمَع بكل قوة، فمن هذا المزج غير الصحي بين البشري والإلهي لا تنبثق فقط
فلسفةٌ وهميةٌ، بل ودينٌ هرطقيٌّ، ومِنْ ثَمَّ فإن رأس الحكمة والاتزان أن نعطي
للإيمان ما هو للإيمان ولا نَتَزَيَّد.
•••
(٦٦) بحسبنا هذا عن السلطة
الخبيثة للفلسفات القائمة على تصورات عامة أو تجارب قليلة أو على الخرافة، ويبقى
أن نتحدَّث عن الموضوعات الخاطئة للتأمل العقلي، وبخاصة في الفلسفة العقلية، إن
العقل يضل السبيل إذ ينظر إلى ما يجري في الفنون الميكانيكية، حيث الأجسام تتغير
تمامًا عن طريق التركيب والتفريق، فيفترض أن شيئًا شبيهًا بذلك يحدث في الطبيعة
الكلية للأشياء، وهذا هو مصدر الوهم القائل ﺑ «العناصر» elements واحتشادها
لتكوين الأجسام الطبيعية، كذلك عندما يتأمَّل الإنسان في الطبيعة وهي تعمل بحرية،
فإنه يلتقي بأجناسٍ شتى من الأشياء: حيوانات، نباتات، معادن، ومن هنا ينزلق بسهولة
إلى تصور أن في الطبيعة صورًا أوليةً للأشياء تريد أن تنتجها، وأن ما عدا ذلك من
تنويعات إنما يأتي من جراء عوائق وأخطاء للطبيعة في إنجاز مهمتها، أو من صراع بين
الأجناس المختلفة، أنتجَت الفرضية الأولى مذهب الخواص الأولية، والثانية أنتجت
مذهب الخواص الخفية والقوى النوعية، وكلا التصورين ينتميان إلى تلك الفئة من
المختصرات الفكرية الفارغة التي فيها يسترخي العقلُ وينصرف عن موضوعات أكثر أهمية،
وحسنًا يفعل الأطباء حين يُكِبُّون على الخواص الثانوية للمادة وعمليات الجذب
والطرد والتكثيف والبسط والقبض والتشتيت والنضج وما إلى ذلك،٣٨ ولقد كانوا حَرِيين
بتحقيق تقدم أكبر لو لم يَعْمَدوا إلى التصورات المبسوطة التي تحدثتُ عنها (أي
الخواص الأولية والقوى النوعية) فيُفسِدوا بها هذه الملاحظات القويمة باختزالها
إلى خواص أولية وأخلاط دقيقة غير قابلة للمقايسة، أو بعدم تتبعها بملاحظات أكثر
قوة ودقة إلى خواص ثالثة ورابعة، والتوقف فجأة عن الملاحظة قبل الأوان، مثل هذه
القوى (أو ما شابهها) لا ينبغي أن نبحث عنها بين أدوية الجسم البشري فحسب، بل
أيضًا في العوامل التي تغيِّر الأجسام الطبيعية الأخرى.
وأشد خطرًا من ذلك أنهم يبحثون ويتقصُّون
المبادئ الساكنة للأشياء التي «منها» أتت الأشياء نفسها إلى الوجود وليس المبادئ
المتحركة التي «بواسطتها» أتت،٣٩ فالأولى تتعلق
بالحديث، والثانية بالعمل، وليس ثمة أي قيمة في التمييزات الشائعة للحركة والتي
نلحظها في الفلسفة الطبيعية التقليدية، مثل: الكون والفساد والزيادة والنقصان
والتغير والحركة الموضعية، فكل ما تعنيه هو أنه إذا ما تحرك جسم — هو على ما هو
عليه فيما عَدا ذلك — مِن مكانه، فهذه هي الحركة الموضعية (النقل)، فإذا تغير في
الكيف بينما بقي المكان والنوع على حاله فهذا هو «التغير» alteration، أمَّا إذا نتج من هذا
التغير أن الكتلةَ نفسها وكَمَّ الجسم لم يظلا كما هي فهذه هي حركة «الزيادة» augmentation و«النقصان» diminution، فإذا استمر التغير إلى أن تبدل النوعُ نفسه والجوهرُ ذاته، فهذا
هو «الكون»
generation و«الفساد» corruption، ولكن كل هذه أمور معلومة
ومبتذلة، ولا تنفذ إلى عمق الطبيعة على الإطلاق؛ لأنها تشكِّل مقاييس الحركة
وحدودها وليس الأنواع المختلفة للحركة، فهي تشير إلى «كم» (إلى أي درجة) وليس إلى
«كيف» (بأية وسيلة) أو «من أين» (من أي مصدر)، ولا تخبرنا بأي شيء عن نزوع الأجسام
أو عن صيرورة أجزائها، بل تحدِس فحسب بتقسيم للحركة عندما تُظهِر هذه الحركة
للحواس بطريقة واضحة أن شيئًا ما لم يعد كما كان من قبل، وحتى عندما يريدون تفسير
شيء ما عن علل الحركات وأن يؤسسوا تقسيمًا لهذه العلل، فإنهم يضعون تمييزًا بين
الحركة الطبيعية والحركة العنيفة، وهي نقلة غاية في العقم؛ لأن هذا التمييز هو
نفسه مُسْتَمَد تمامًا من تصور عامي، حيث إن الحركة العنيفة هي أيضًا في الحقيقة
حركة طبيعية، أي علة خارجية تجعل الطبيعة تعمل بطريقة مختلفة عما كانت عليه من قبل.
ولكن لنضرب صفحًا عن كل هذا، فإذا ما لاحظ
أي شخص — على سبيل المثال — أن في الأجسام نزوعًا إلى الاتصال المتبادل، بحيث لا
تسمح لوحدة الطبيعة أن تنفصم أو تنحطم تمامًا وللفراغ بالتالي أن يتكون، أو إذا
لاحظ أي شخص أن في الأجسام نزوعًا إلى استعادة أبعادها أو ضغطها الطبيعي، بحيث إذا
ضُغِطَت أو مُطَّت أكثر من ذلك أو أقل جهدت على الفور لاستعادة واسترداد حجمها
وامتدادها السابق، أو إذا لاحظ أي شخص أن في الأجسام نزوعًا إلى التجمع مع كتل
الأشياء التي من صنفها، أي نزوع الأجسام الثقيلة إلى الأرض، والأشياء الهزيلة
والخفيفة إلى محيط السماء؛ فكل هذه الأشياء وأمثالها هي في الحقيقة أنواع فيزيقية
من الحركة، أمَّا تلك الأشياء الأخرى فهي نظرية ومدرسية قلبًا وقالبًا كما هو واضح
جلي من هذه المقارنة فيما بينها.
وليس أهون من ذلك أنهم في فلسفاتهم
وملاحظاتهم يهدرون جهودهم في بحث وتناول المبادئ الأولى للأشياء والعلل القصوى
للطبيعة ultimatibus
naturae، رغم أن كل الجدوى وفرص
التطبيق تكمن في العلل الوسطى in
mediis؛ لذا لا يكف الناس عن
تجريد الطبيعة إلى أن يصلوا إلى مادة ممكنة وغير مُشَكَّلة، ولا هم من الجهة
الأخرى يكفون عن تشريح الطبيعة إلى أن يصلوا إلى الذرة، وهي أشياء — حتى لو صدقت —
قلَّما تُجْدِي نفعًا في تحسين حالة الجنس البشري.٤٠
•••
(٦٧) على الذهن أيضًا أن
يأخذ حِذرَه من الإفراط الذي تُبديه المذاهب الفلسفية في إبداء الموافقة أو
الامتناع عنها، ويبدو أن هذا الإفراط يُرَسِّخ الأوهامَ وأنه بطريقةٍ ما يطيل
عمرَها، غيرَ تاركٍ أيَّ منفذٍ للوصول إليها والتخلص منها.
ثمة نوعان من هذا الإفراط: الأول هو الذي
يأتيه أولئك الذين يتسرعون في إصدار الأحكام، فيجعلون العلوم جازمةً تسلطية،
والثاني يأتيه أولئك الذين ينكرون أن بإمكاننا أن نعرف أي شيء (acatalepsia)، فيفتحون المجال لنوع
هائم من البحث لا يهدف إلى شيء ولا ينتهي إلى شيء، من شأن النوع الأول أن يقمع
الذهن، أمَّا الثاني فيوهِنه، فبعد أن فرغت الفلسفة الأرسطية من تدمير الفلسفات
الأخرى (على طريقة العثمانيين تجاه إخوتهم)٤١ بتفنيدات عدائية، أخذ أرسطو يؤسس أحكامًا في كل شيء، ثُمَّ أخذ هو
نفسُه يطرح اعتراضات من عنده؛ كَيلا يلبث أن يتصدى لها، بحيث لا يترك أمرًا إلا
وهو يقيني محسوم، وهي طريقة ما زالت قائمة اليوم بين أتباعه.
أمَّا مدرسة أفلاطون فأدخلَت مذهب الشك،
بدأ ذلك هَزلًا وتهكُّمًا من جراء استيائها من قُدامى السوفسطائيين — بروتاجوراس
وهيبياس وغيرهما — الذين كانوا يستخذون من الظهور بمظهر مَن يتردد بإزاء أي شيء،
غير أن الأكاديمية الجديدة تصلَّبت في الشك واتخذته عقيدة، إنه لَمنهجٌ أكثرُ
صدقًا من الترخُّص في سَكِّ الأحكام؛ لأنهم قالوا بأنهم لا يقوِّضون كل بحث بأي
حال مثلما كان يفعل فيرون و«المتوقفون عن الحكم» Ephectici، بل يسمحون باستقصاء بعض
الأمور على أنها احتمالية، وإن لم يسمحوا بأي شيء أن يُؤخذ كحقيقة، غير أن العقل
البشري ما إن ييأس من العثور على الحقيقة حتى يأخذ شغفُه بكل الأشياء في الخمود،
وينتهي الأمر بأن ينصرف الناس إلى مناقشاتٍ وأحاديثَ لطيفةٍ، وإلى نوعٍ من التطواف
حول الأشياء دون المثابرة على البحث الجاد، ولكن — كما أسلفنا في البداية وكما
نؤكد على الدوام — فإن علينا ألا ننتقص من سلطة الحواس البشرية والفهم البشري —
على قصورهما — بل علينا أن نزودهما بما يساعد ويُعِين.
•••
(٦٨) انتهينا الآن من عرض
لمختلف ضروب «الأوهام» idola وخصائصها، وكلها أوهام ينبغي التخلي عنها وشجبها، وتطهير العقل وتحريره
منها، حتى لا يبقى ثمة إلا مدخل واحد إلى مملكة الإنسان، المدخل القائم على
العلوم، مثلما أنه «لا مدخل إلى مملكة السماء إلا عبر طهارة الطفولة».٤٢
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق