ميريام ساسين تكتب عن والدها فارس ساسين، أستاذ الفلسفة والمفكر والمثقف الذي رحل قبل عشرة أيام تقريباً.
النص نشرته بالفرنسية في جريدة "الأوريان لو جور". هذه ترجمته إلى العربية..
حين أفكر في طفولتي، فإني أفكر في والدي بالدرجة الأولى، فغالبية ذكرياتي عن تلك الفترة مرتبطة به. فهو قد جعل من طفولتي طفولة خاصة، مثيرة، غير قابلة للنسيان.
شقيقتي كانت تكبرني بعشر سنوات، وحين بدأت أدرك ما يدور حولي، كانت هي في مرحلة عمرية أخرى.
والدتي كانت منشغلة بآلاف التفاصيل اليومية. تفاصيل الخروج من حربٍ أهلية وما يمثّله ذلك من صعوبات.
كنت أقضي الكثير من الوقت مع والدي. لا أدري إن كان ذلك بسبب امتلاكه وقت الفراغ، أم إنه كان يريد معاونة والدتي. في كل الأحوال، كان يصطحبني معه إلى كل الأمكنة: للتسوّق، ولمشاهدة أصدقائه، كما لحفلات الافتتاح أو توقيعات الكتب.
وتمضية الوقت مع فارس هي دائماً نوع من المغامرة. هذا يعني الإثارة والتعلّم.
كنا نمضي مسافات طويلة في السيارة، في استماع للموسيقى، وبخاصةٍ [جاك] بريل و[جورج] براسّانس، واللذَيْن كان يشرح لي كلمات أغانيهما حتى أستطيع تقدير قيمة تلك الأغاني بشكل صحيح.
كنا نمضي الساعات عند تاجر [الأعمال الفنّية] إميل حنّوش متأملين مقتنياته القديمة والجديدة: أيقونات دينية، لوحات لغيراغوسيان، وفاتح المدرّس، وعارف الريّس ورفيق شرف..
كان يعرّفني على طرائقهم، وعلى تمييز الحركات المختلفة والمؤثرات.
ينضم إليه أصدقاؤه؛ كنت أستمع إلى مناقشاتهم بافتتان يجعلني أشعر بانتمائي إلى مجموعتهم، وبأني أصبحت راشدة وبالغة، وهو ما يحلم به كل طفل في مثل عمري.
في طريق العودة، كنت أطرح عليه أسئلتي حول بعض عبارات النقاش التي استمعت إليها، وكان دائماً يتكفّل بالشرح بطريقة تسمح لي بفهم ما يقول.
لقد كان التعلم مع والدي مسلّياً حقاً.
حوارٌ لم يكن يعني سوى كلَينا نحن الاثنين، وحيث كنت أسعى إلى هزيمته دون أن أوَفَّق إلى ذلك قط.
في المنزل، كان يجعلني أكتشف كبار الرسامين: من فان غوغ إلى إيغون شييل، ومن السورياليين إلى الرومانطيقيين.
ما يحصل دائماً أنه كان يروي لي القليل، لكنه القليل الكافي لتأجيج فضولي ثم يتركني أكتشف الباقي بمفردي. ونفس الأمر كان يحصل في ما يتعلق بالأدب.
كان منذ طفولتي الباكرة حريصاً على أن يجعلني أشاركه عشقه للكتب، وعلى جعل الكتاب رفيقي الدائم في كل لحظة.
من المكتبة الوردية إلى الخضراء، [أسماء سلسلة من الكتب بالفرنسية تناسب الأعمار المختلفة]، كان يوجّه قراءاتي، ويخبرني عن إمكانية الانتقال إلى مستوى أعلى.
أتذكر أيضاً اليوم الذي أعطاني فيه كتاب أغاتا كريستي: العبيد العشرة الصغار، أو سيرة حياة فرويد.
كانت خطته كما يلي: كان يروي لي بطريقة شيّقة بداية القصة أو طرفةً ما، ثم يتوقف.
ـ "ثم ماذا؟" اسأله بفضول.
ـ "ليس أمامك إلا أن تقرأي الكتاب". كان يجيب.
وفي المساء، كان يقدم لي الكتاب.
كان لديّ انطباعُ أني أحيا في مكتبة، لأن كل الأعمال التي كان يحدثني عنها كانت موجودة لدينا.
كنت منبهرةً من قدرته في العثور على كتابٍ حدّثني عنه للتو، بين آلاف الكتب، دون أيّ خطأ.
كنت أعود إلى المنزل وأنا أحلم سراً بقراءة كل كتبه يوماً ما، وفي أن أتحدث معه عنها.
السينما كانت قصة حب أخرى دربني عليها والدي. لم يشأ يوماً أن يعرض عليّ فيلماً مخصصاً للأطفال. فهذه كان بإمكاني مشاهدتها في المدرسة، ومع أصدقائي وأقاربي. معه كنت أشاهد أفلاماً "حقيقية".
ذكرياتي الأولى كانت عبارة عن الفيديوات المخصصة للمنازل: VHS لـ "الناي المسحورة" لـ إنغمار بيرغمان، و "رفيقتي الشقراء" لـ جورج كوكور.
لم أكن أفهم لغة تلك الأفلام، ولا كنت أستطيع قراءة الترجمة، لكني كنت مأخوذة بالصور، وبالموسيقى وببعض الرموز التي كان يقدمها لي كي أفهم القصة.
استأجر في أحد الأيام فيلماً عن سبارتاكوس لـ ستانلي كوبريك من المركز الثقافي الفرنسي.
استحوذ الفيلم عليّ، وشاهدته على أربعة أيام متتالية، ما أقلق والدي على صحتي العقلية، فاستعجل بإعادة الفيلم إلى أصحابه.
كنا نقيم في بلدة جديتا، في سهل البقاع، حيث لم يكن يوجد صالة للسينما.
كنت في الثامنة من عمري حين اصطحبنا والدي كلَّنا إلى بيروت...
سحر الصالة المظلمة فعل فعله فيّ، وخرجت منها خلقاً آخر. ستصبح السينما منذ ذلك اليوم مكاني المفضّل في العالم.
طالبته بتكرار الذهاب إليها، فأقام والدي عهداً أو ميثاقاً بينه وبيني:
كل مرّةٍ أحصل فيها على علامة جيدة، يصحطبني لمشاهدة فيلمٍ في السينما
احترم كلانا هذا العهد، وأصبح طقساً مقدساً.
لقد أصبحت السينما المحطة التالية في حياتي.
وحين أعلنت لوالدي رغبتي في دراسة السينما، كان محبطاً بعض الشيء: "كنت أرغب أن تمتهني مهنة أكثر جدية، وأن تكون السينما كهواية.."، قال والدي. « J’ai envie que tu fasses un métier plus sérieux et que le cinéma soit ton violon d’Ingres. »
لكني أجبته بأن خياري هذا كان خطأه هو..
بعد ذلك دافع عن خياري هذا أمام العائلة كلها، وبخاصة أمام عمي الذي كان يريدني أن أكون محامية. لكنه اشترط عليّ أن أن أجتاز البكالوريا الفرع العلمي وليس الأدبي.
اكتشفت لاحقاً أنه كان يأمل في أن أبدّل رأيي، وكان يريد أن أحتفظ بكامل خياراتي (التي تتيحها البكالوريا العلمية فقط).
حصلت على شهادتي فرع علوم الحياة. من ناحيته التزم فارسٌ بوعده: لقد احترم خياري، وسمح لي باختيار جامعتي، ولم يحاول صرفي عن الخيار الذي ارتضيته.
ومن وقت لآخر كان يشجعني حتى على المجازفة وعلى متابعة شغفي.
وحين أصبحت منتجة سينمائية، تأكدت بأني انتهيت إلى نفس مهنته: هو كان ينشر الكتب، وأنا كنت أنتج الأفلام.
نحن كلينا اخترنا مهنَ الظلّ، ونحن كلينا نؤازر المبدعين ونقدم لهم الأدوات التي تساعدهم على إنجاز أعمالهم.
نحن كلينا نعمل من أجل الثقافة. هو لعب دوراً كبيراً في الوسط الأدبي اللبناني، وأنا أحاول أن أحارب من أجل سينما لبنانية.
لقد شاهد كل أفلامي، ولم أقرأ كل كتبه.
لم يمرّ يوم في حياتي الراشدة دون أن أفكر فيه، في رغبته بالتميّز، وفي سعيي لأن أجعله فخوراً.
سأبقى أفكر فيه كل الأيام، في عملي وفي أيامي العادية، من خلال الفنّ أو من خلال تذكري دروس الحياة التي علمني إياها والتي قد أواجهها مرةً أخرى في قادم الأيام.
(ميريام ساسين؛ عن الأوريون لو جور)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق