التعليم الرسمي ما قبل الجامعي في لبنان
في مقاربةٍ توصيفية تحليلية لوضع التعليم
ما قبل الجامعي في لبنان، يمكن التوقف عند بعض العناوين بالأرقام والنسب بدايةً،
ثم استخلاص بعض النتائج والمواقف.
الموضوعات التي سنتوقف عندها تتناول
المقارنة بين التعليم الخاص والتعليم الرسمي. بين مرحلة التعليم الأساسي ومرحلة
التعليم الثانوي. بين أساتذة الملاك وأساتذة التعاقد في كلتا المرحلتين، والأساتذة
الملحقين في جهاز الإرشاد التربوي.
بين التعليم الخاص
والتعليم الرسمي:
تقول الإحصائيات الواردة في بحث أكاديمي
بعنوان "الاستخدام الفعال للموارد البشرية في القطاع التعليمي الرسمي"
بأن أعداد التلامذة في مرحلة التعليم الأساسي الرسمي للعام الدراسي 2010ـ 2011،
كانت 207510 (مائتين وسبعة آلاف وخمسمائة وعشرة تلاميذ)، بينما كانت أعداد طلاب
المرحلة الثانوية 68609 (ثمانية وستين ألفاً وستمائة وتسعة طلاب).
ويشكل الطلاب والتلامذة في التعليم الرسمي
في لبنان نسبة تقارب الثلاثين في المائة من مجموع طلاب لبنان، مع هامش يقارب
الاثنين في المائة ما بين العام 2011 والعام 2017 بحسب دراسة أكاديمية ثانية
بعنوان "المدرسة في لبنان، أرقام ومؤشرات".. بينما يستحوذ التعليم الخاص
حوالي السبعين في المائة يعود بغالبيته إلى التعليم الخاص غير المجاني (حوالي
53%).
مع إشارةٍ سريعة إلى أن هذه النسب قد تكون
شهدت تغيراً بسيطاً خلال السنتين الأخيرتين ومع ترجيح أن تشهد المزيد من التغير في
السنوات القادمة مع تزايد الإقبال على المدارس والثانويات الرسمية بسبب الوضع
المعيشي الصعب، ما يرتّب أعباءً ومسؤولياتٍ إضافيةً على وزارة التربية للقيام بما
يلزم للتعامل مع مثل هذا الاحتمال.
تذكر الإحصائيات أيضاً بأن متوسط عدد
الطلاب إلى الأساتذة هي في حدود التسعة طلاب للأستاذ الواحد في التعليم الأساسي،
وثمانية طلاب للأستاذ الواحد في التعليم الثانوي، وهي نسبةٌ متدنية لعدد الطلاب
نسبةً إلى الأساتذة، بخاصة في مرحلة التعليم الأساسي، إذ إنّ النصاب القانوني
لأستاذ التعليم الأساسي هو 27 ساعة في الأسبوع، مقابل 24 ساعة في الأسبوع للمرحلة
المتوسطة، وعشرين ساعة أسبوعياً في مرحلة التعليم الثانوي.
تساؤلات وتعليقات:
من الأسئلة البديهية التي تخطر في البال:
لماذا يستحوذ التعليم الخاص على حوالي 70% من طلاب لبنان على عكس ما يحصل في
غالبية دول العالم؟
ولماذا هذا العدد الوافر والفائض من
الأساتذة نسبةً إلى عدد الطلاب؟
ولماذ لا يؤدي هذا الفائض في الأساتذة إلى
تفوّق المدرسة الرسمية على مدارس التعليم الخاص؟ يدل على عدم تحقق مثل هذا التفوق استمرار رفد
المدارس الخاصة بالمزيد من الطلاب.
وهل اللجوء إلى المزيد من التعاقد مع
الأساتذة هو بسبب الحاجة الفعلية إلى ذلك، أم بسبب عدم قيام أساتذة الملاك
بواجباتهم؟
ولماذا اللجوء الدائم إلى التعاقد لسد
حاجات المدارس والثانويات، وليس من خلال فتح دور المعلمين وكلية التربية بشكل دوري
لضخ الكفاءات التعليمية إلى ملاك التعليم الرسمي؟
يقول أحد المديرين بأن أحد أركان النجاح في
المدرسة هو تطبيق العدالة والقانون: أَنْ يقوم كل أستاذ بواجبه القانوني. بينما
وجود فائض من الأساتذة سيؤدي إلى إرباك وإلى تزاحم بين الأساتذة في محاولة للاستفادة
من تناقص المزيد من الحصص التعليمية.. وبالتالي فإن الزيادة غير الطبيعية لعدد
الأساتذة في المؤسسات التعليمية سيؤدي إلى نتيجة عكسية وإلى تراجع في مستوى تلك
المؤسسات.
ولماذا هذا الوجود الفائض في الأساتذة، في
وقت يتم اللجوء إلى المزيد من التعاقد؟
السبب يكمن في التدخلات السياسية المسؤولة
عن التوزيع السيّئ للأساتذة: محسوبيات وزبائنية ومناقلات تنفيعية لراحة الأتباع.
أين وكيف تبدأ هذه التدخلات السياسية
التخريبية؟
هي في الواقع تبدأ في كل المستويات. بدءاً
من أعلى الهرم الإداري مروراً بالمدراء ورؤساء المناطق ومدراء المؤسسات التعليمية
وصولاً إلى الحجّاب والخدم.
وكل هذه المستويات تؤمن الخدمات الزبائنية
وردّ الجميل السياسي الذي أوصل من وصل إلى حيث هو.
وكل طرف سياسي من أطراف الطبقة السياسية الحاكمة
له حصته وأزلامه في الإدارة، وفي المناطق، وفي إدارات المؤسسات التعليمية.
هذه الآلية الزبائنية تجعلنا نفهم بسهولة
لماذا يسخون بنقل مئات الأساتذة من مؤسساتهم التعليمية إلى جهاز الإرشاد الذي
يتعرض للكثير من السجال حول قانونيته وحول جدواه وحول دوره في تفريغ الثانويات
تحديداً من كثير من الكفاءات هي بحاجة إليها، وتجعلنا نفهم أيضاً لماذا يتم ذلك
بشكل لافت في عهود وزراء محددين. في المقابل، نجد تقتيراً وبخلاً في ملء الفراغات
في جهاز التفتيش التربوي. لأن أطراف السلطة يناسبها حال التسيب والفوضى ولا
يناسبها جهاز تفتيش يقوم بالمراقبة والمحاسبة على تجاوزاتهم.
لقد تمت عرقلة إلحاق دفعة من المفتشين
التربويين لأكثر من عامين لا يتجاوز عددها الثلاثين مفتشاً تربوياً، يفترَض أن
تكون وزارة التربية بأمسّ الحاجة إلى دورِهم.
ثانياً، إن إغراق المؤسسات التعليمية
بأساتذة لا يعملون، يسمح لأطراف السلطة بمزيد من التدخل لسد النقص بالمزيد من
التعاقد خارج الأطر القانونية وباستثناءات صارت هي القاعدة.
الأساتذة بين التعاقد
والملاك:
يقول الباحث في شؤون التربية الدكتور عدنان
الأمين بأن نسبة المتعاقدين في عَقد السبعينيات لم تكن نسبته تتجاوز الـ 2.2%..
"فمن أصل 18 ألف معلّم لم يتجاوز عدد المتعاقدين العام 1974ـ 1975 الأربعمائة
متعاقد (أو 2.2%)" (عدنان الأمين؛ سياسة المتعاقدين في الوظيفة العامة)
بينما "وصل [عدد المتعاقدين] العام 2003ـ
2004 إلى ما يقارب 16 ألف متعاقد، شكّلو أكثر من ثلث مجموع أفراد الهيئة
التعليمية" (عدنان الأمين؛ المرجع نفسه)
وربما هي تشكّل الآن نسبة أعلى من ذلك.. إذ
تشير الإحصاءات إلى أن عدد الأساتذة الذين تزيد أعمارهم على إحدى وخمسين سنة )51
سنة) كانت في التعليم الأساسي حوالي الأحد عشر ألفاً (11000)، وفي التعليم
الثانوي حوالي الثلاثة آلاف وثلاثمائة 3300 أستاذاً، والذين يكونون بغالبيتهم قد
وصلوا الآن إلى سن التقاعد.
كان عدد أساتذة الملاك في التعليم الأساسي
في العام 2011 حوالي العشرين ألفاً (20000)، في مقابل ثمانية آلاف (8000) أستاذ
متعاقد، بنسبة تعاقد تقارب الـ 30%، بينما كان عدد أساتذة الملاك في التعليم
الثانوي حوالي 8300 أستاذ مقابل ألفيّ (2000) أستاذ متعاقد. (المجموع: 10280
أستاذاً)
اليوم، تشير التقديرات إلى أن عدد الأساتذة
في ملاك التعليم الثانوي يقارب السبعة آلاف (7000) أستاذ، وهذا يعني أن عدد
الأساتذة المتعاقدين يقارب الأربعة آلاف (4000) أستاذ متعاقد. وهذا يعني أن نسبة
المتعاقدين تزيد على 35% من عدد أساتذة التعليم الثانوي.. وهي نسبة تقريبية، لكن
أظنها تقترب كثيراً من الواقع، مع هامش بسيط في الزيادة أو في النقصان، لا يغيّر
كثيراً في المشهد العام والاستنتاج.
كل هذا يثير بعض الأسئلة البدهية. من هذه
الأسئلة:
ما هو الخيار الأفضل لمستوى التعليم الرسمي
في لبنان؟ هل هو خيار الاعتماد على أساتذة التعاقد، أم هو خيار إعداد الأساتذة في
كلية التربية ودور المعلمين عبر آلية المباراة؟
وإذا كان خيار كلية التربية هو الأفضل،
فلماذا يلجأ المعنيون إذاً إلى خيار التعاقد؟
لا شك أن خيار كلية التربية هو الأفضل،
بخاصةٍ أن التعاقد لا يستند في الغالب إلى مقاييس موضوعية، فالأفضلية دائماً هي
للمحاسيب.
إضافةً إلى أهمية المعلومات والمهارات التعليمية
(الديداكتيك) التي يكتسبها طلاب كلية التربية، أو التي يفترَض أن يكتسبوها، لأن
كلية التربية، مثلها مثل كل المؤسسات الأخرى، طالتها لوثة المحسوبية والتنفيعات
وأفقدتها الكثير من فعاليتها.
إذاً لماذ لا يُبقِي المسؤولون كليةَ
التربية في حالة استنفار دائم من أجل الإعداد الجيد للأساتذة في التعليم الرسمي؟
بكل بساطة، لأن الفساد والاستتباع هو ما
يلائم مصلحة الطبقة السياسية الحاكمة.
فتْحُ كلية التربية لرفد التعليم الرسمي
بحاجته من الكوادر التعليمية، يعني حصول آلاف المتعلمين على وظائفهم بفضل كفاءتهم
وحدَها دون الحاجة إلى تزكية المراجع والزعامات السيساسية والمناطقية، وهذا لا
يناسب تلك المراجع التي تحاول أن تجعل من البلاد مزرعة يتقاسمون خيراتها وناسها كل
في منطقة نفوذه.
ولأن
قاعدة التعاقد أصبحت تقوم على "الولاء السياسي، أي حصول التعاقد عن طريق
القوى السياسية الفاعلة في كل محيط، أي الميليشيات." كما يقول الدكتور عدنان
الأمين، فقد أصبحت المباريات المحصورة بالمتعاقدين تؤدي إلى وصول أصحاب الولاء
السياسي أنفسهم إلى الملاك التعليمي، مستبعدين الآخرين من حق الاشتراك في
المباريات.
يحصل "التعاقد عن طريق القوى السياسية
الفاعلة في كل محيط" وبعد عدد من السنوات يتم إجراء مباراة لا يحق الاشتراك
بها إلا لهؤلاء المتعاقدين أنفسهم، مستبعدين من هذا الحق كل من تم استبعادهم
سابقاً من التعاقد.
وكان لافتاً في هذا المجال توجس الهيئة
الإدارية لرابطة أساتذة التعليم الثانوي من الدفعة الأخيرة من الأساتذة الثانويين
الذين تم قبولهم في كلية التربية بناءً على مباراة مفتوحة، دون المرور بالتعاقد
وبتزكية الزعماء السياسيين، وهم بالتالي غير معروفي الولاء والانتماء السياسي.
هذا التدخل الميليشياويّ الطابع في الشأن
التربوي أدى إلى مشاكل تتفاقم عاماً بعد عام:
تراجع في مستوى التعليم الرسمي.
إيجاد عشرات الآلاف من الأساتذة المتعاقدين
في ظروف صعبة ومحرومين من الكثير من الحقوق ومن متطلبات الحياة الكريمة.
تحويل الهاجس الأساسي في وزارة التربية إلى
هاجس إنساني وصعّب عليها سلوك سبل تطوير المستوى التعليمي في المدارس والثانويات
الرسمية لو جاء من يريد ويحاول الوصول إلى ذلك.
تدنّي الفرص أمام الكفاءات من خرّيجي
الجامعات الجدد، حرمان التعليم الرسمي من الاستفادة من تلك الكفاءات.
أكثر من ذلك، فإن "من يقرأ تقارير
المفتشية العامة التربوية" كما يقول الدكتور عدنان الأمين، يرى بأن
"التعاقد (والتعيين) لا يتمّ بالضرورة نتيجة حاجةٍ أو لا يسدّ حاجةً
بالضرورة، بل إنه كثيراً ما يزيد الفائض هنا ويبقي الحاجة على حالها هناك، ولا
قدرة للوزارة على التحكم بالأمر" وكل ذلك بسبب التدخلات السياسية.
الإرشاد التربوي:
تقول الصحافية فاتن الحاج بأن عدد الأساتذة
الملحقين بجهاز الإرشاد التربوي بلغ بداية العام الدراسي 2017ـ 2018 خمسمائة
وثلاثة أساتذة. (367 أستاذ تعليم ثانوي، و 136 مدرس تعليم ابتدائي) ثم ارتفع عددهم
في العام نفسه إلى 634، بعد إلحاق 131 مرشداً جديداً.
وتضيف بأن "الأعوام 2011 و2012 و2014
و2016 شهدت إلحاق 415 أستاذاً ومدرّساً بالإرشاد والتوجيه، أي ما نسبته 82.5% من
مجموع الملحقين، فيما أُلحق 10 أساتذة فقط في الأعوام 2013 و2015 و2017، أي ما
نسبته 1.98%، ما يشير إلى «عشوائية الإلحاق وعدم اعتماده على أسس محدّدة».
وتستطرد الحاج بالقول بان "القناعة
راسخة لدى التفتيش التربوي، ومعظم الأساتذة والنقابيين، بأنّ مديرية الإرشاد
والتوجيه باتت مساحة للاسترخاء واللاإنتاجية، وأن نقل هذا العدد من الأساتذة
وإلحاقهم بالجهاز من شأنه إفراغ الثانويات الرسمية من عدد كبير من الأساتذة من الفئات
العمرية الفتية في ملاك التعليم الرسمي، ويخلق حاجة يتم سدّها بالتعاقد في معظم
الأحيان."
يمكن اختصار ما تقوله فاتن الحاج بثلاث
نقاط:
النقطة الأولى هي عدم قانونية جهاز الإرشاد
التربوي.
النقطة الثانية هي تبعية مسؤوليه لأحد
أطراف السلطة السياسية، وهو تضخَّمَ تحديداً خلال وجود وزير تربية من ذلك الفريق
السياسي المعروف.
النقطة الثالثة هي عدم إنتاجية هذا الجهاز
أو ضعف هذه الإنتاجية.
يبدو أن هذا التوصيف لا يجافي الواقع. مع
بعض الاستثناءات التي لا بد من التنويه بها، وبجهود بعض الأساتذة المكلفين بمهام
الإرشاد.
التعليم في لبنان، رغم كل مشاكله، يبقى معقولاً
مقارنة بمستوى التعليم في دول المنطقة. لكن هذا لا يكفي، فالتعليم هو رصيد لبنان
الأساسي، ويجب المحافظة عليه وتطويره وعدم التفريط به.
أما أهم الأخطار التي تهدد التعليم ومستواه
فتعود، كما سبق القول، إلى تدخل السياسة في شؤونه.
كف يد السياسيين عن شؤون التربية والتعليم
مدخل ضروري لصيانة مستوى التعليم وتطويره.
وكف يد السياسيين لا يعني تلقائياً حصول
الإصلاح وانتفاء الفساد. لكن يستحيل القيام بأي إصلاح حقيقي، في قطاع التعليم كما
في غيره، دون ذلك، أي دون كفّ يد السياسيين عن هذا القطاع.
كورونا والتعليم:
أخيراً، لا بدّ من التوقف عند الآثار التي
تركتها وستتركها جائحة كورونا التي عصفت في البلاد وفي العالم خلال السنتين الماضيتين..
يضاف إليها الانهيار الكبير في الوضع الاقتصادي والحياتي مما يخلق ضغوطات إضافية
على اللبنانيين، ويحجم قدرة الدولة على مد يد العون إلى من يحتاج إلى العون.
مناهج دراسية لم تُنجَز.
طلاب مزجورون في منازلهم.
تعليم عن بعد لا يستوفي الشروط الضرورية:
كهرباء، أنترنت، أجهزة كمبيوتر، ضغط نفسي على الأهل والطلاب بفعل متابعة التعليم
للعديد من الأبناء في مساحة محدودة. محدودية الخبرة في تقنيات التعليم عن بعد لدى
الكثير من الأساتذة، عدم كفاية هذه التقنية في بعض المواد الأساسية مثل الرياضيات.
السؤال: ما هي الآثار التي ستترتب على
هاتين السنتين العجاف: في المدارس، وفي الجامعات، وعلى الخرّيجين؟
أسئلة من الصعب الإجابة عنها، لكن لا شك
أنه سيكون لهاتين السنتين نتائج كبيرة تستوجب الاستنفار والتعامل بجدية من قبل
الجميع لمحاولة احتواء آثارها السلبية.. دون أن نغفل بعض الآثار الإيجابية التي
ستترتب على ذلك. فرُبَّ ضارّةٍ نافعة. واعتماد تقنيات التواصل عن بعد بين الطالب
والأستاذ، واللجوء إلى عالم المعلوماتية للبحث عن المعلومة ووسيلة الإيضاح هي من
الأمور الإيجابية التي ستبقى ويجب أن تتعزّز في المرحلة المقبلة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق