الأحد، 8 نوفمبر 2020

مفهوم القبليّة عند هوسّرل؛ أنطوان خوري.

 


مفهوم القبلية عند هوسّرل

أنطوان خوري 


[يعرّف أنطوان خوري بثلاثة مفاهيم عند هوسرل: القصدية؛ العِيان المقولي [حدس الماهيات]؛ مفهوم القبلية]

.. من العبث الكلام عن مقولات مجردة من كل تجربة. وكانط ذاته ما كان ليستطيع الكلام عنها لو لم يتوصل إليها على نحوٍ شكليّ صِرف من خلال لائحة الأشكال الحكمية التقليدية. إنه، إذاً، لم يستقرئها من التجربة الفعلية. من هنا إن الفصل الكانطي بين "الشيء ـ بحدّ ـ ذاته" والظاهرة هو مجرّد نتيجة لفرضياته اللافينومينولوجية.

خلاصة القول هنا أنه لا يوجد، في نظر هوسرل، أي إدراك حسي منعزل عن سياق الحياة الفعلية، كما لا يوجد أي إدراك حسّي صرفاً. إن ما ندعوه إدراكاً حسياً هو دائماً تداخل موحَّد وأحياناً مؤسَّس من عِيانات حسية ومقولية. وحتى هذا الإدراك الحسي المقولي المؤَسَّس والموحَّد لا يوجد في معزل عن الحكم وباستقلال عنه ـ ذلك لأنه إدراك للأنّيّات الحكمية. وهكذا فتوحيد الفهم والحس في عيان متدرج وموحَّد، وتأكيد ضرورة الحكم لكلا الفهم والحس، على أن يؤخذ الحكم كأنّية معنوية تحتوي على عناصر مقولية مختلفة ويُستقرأ من أنماط التجربة الواقعة لا من لائحة لأشكال خارجية: هذا ما تبدّى لهوسرل من خلال الوصف الفينومينولوجي لأفعال الإدراك، وهذا ما دفع به، منذ البداية، إلى مناهضة كانط. 

 

مفهوم القبليّة: 

تكلّمنا أعلاه عن الإدراك بصفته تداخلاً حسّياً مقولياً موحّداً موضوعُه أنّية حكمية.

هذا الإدراك قد يكون بسيطاً وقد يأتي مركباً.

إن من شأن كل فعلٍ إدراكي، مهما جاء بسيطاً، أن يأتي إدراكاً (رغم جوّانيته، أي رغم كونه إدراكاً لجانبٍ معي!ن من الموضوع) لكلّية الشيء.

فعندما أدور حول هذا الكرسيّ فإنني ألتقط منه جوانبَ مختلفةٍ تختلف بختلاف تموقعي منه. إلا أنّني في كل لقطةٍ من لقطات هذا الكرسي إنما أدركُه هو ذاته ككرسيّ، بل كنفس الكرسي الواحد. بذلك فإنّ كلّ إدراكٍ لأحد جوانبه المتعددة إنما هو، بآنٍ، إدراك لكونه كرسياً، إدراكٌ لكرسيَّوِيَّتِه ـ إذا جاز التعبير.

أيّ إن إدراكي له ككرسيّ ليس حصيلةً تركيبية لفعل تجريدي أقوم به بعد الانتهاء من الدوران حول هذا الكرسي وعلى أساس إدراكاتي المتعددة للكراسي. إنّ في هذا الإدراك البسيط لشيئية الشيء دليلاً، في نظر هوسرل، على "واقعية" "شيءِ" هذا الإدراك وخلوصه، بالتالي، من كل مشروطية ذاتية. 

 

[الإدراك المقولي والتقاطع مع الجشطالتية]

انطلاقاً من هذا الإدراك البسيط للشيء الواقع نستطيع أن نحقق إدراكاتٍ تركيبية.

إن إدراكَنا لانتظام أشياءَ واقعةٍ في نظام معيّن هو إدراكٌ مركّب. إننا نرى صفّاً من العسكر فإذا بإدراكنا هذا إدراكٌ مؤسَّس في إدراكاتٍ بسيطة. ليس أننا ندور حول كل عسكريّ لنخلص من ذلك إلى تركيب إدراكٍ عام لصف العسكر. إننا نرى منذ البداية صفاً من العسكر. هذا الإدراك هو منذ البداية إدراك لعمومية الصف التي نجد، عند التدقيق بها، أنها موضوعٌ لإدراكٍ مؤسَّس في إدراكات بسيطة كل منها يلتقط جانباً من أحد العساكر على أنه جانب لعسكري تام. على أنه، بالتالي، جانب لموضوع حاضر بذاته في الإدراك. طبعاً إنّ بوسعنا الدوران حول كل عسكري بمفرده. لكن مجموع هذه الإدراكات لن يشكل إدراكاً لصفٍ من العسكر. هذا الإدراك لصفٍ من العسكر بوصفه صفّاً هو إدراك أوّلي نحصل عليه كما بضربةٍ واحدة. وكل ما تبقّى هو من باب تحليل هذه الرؤية الشمولية الأولى. من هنا إن إدراكي الأوّلي لشمولية الصف هو إدراك مؤسَّس ومركّب وذلك بحيث يُفهم هذا التأسيس وهذا التركيب على نحوٍ يتماشى مع أولية الإدراك الشمولي وليس على نحوٍ يجعل من شمولية الإدراك طابعاً متأخراً أساسه الانطلاق التجريدي من إدراكات بسيطة مبعثرة. إن الصف هو موضوع عام لهذا الإدراك المؤسَّس ولا يمكن ردُّه إلى معطيات الإدراك الحسية أو التحقق منه فيها ومن خلالها صرفاً. إنه إدراكٌ مقوليّ

بل إن هذا الإدراك التركيبي هو أحد الأنحاء الممكنة للعِنان المقولي المؤسَّس. ولا يخفى أن كل عِيان مقولي هو عِيان مؤسَّس في عِيان حسّي. وذلك بمعنى خاص لهذا التأسيس: تداخله منذ البدء مع حسّية الإدراك بطابعها المنظوري الجوانبي الذي يجعل من الإدراك، رغم جوانبيته، إدراكاً للشيء بتمامه.

وإذا كان التركيب أول أنحاء العِيان المقولي فإن "المَمْثَلة" ideation هي نحوُه الثاني. إنها بدورها، إدراك أوّلي لموضوع عام.

[الحدس الماهوي: "الممثلة" ideation  ]

فـ عندما ننظر إلى صفٍّ بين العساكر... إن أول ما نرى في هذا الإدراك هو عسكرية هؤلاء العساكر، أي ما هو عام ومشترك بينهم.

هذا وإن هذه المَمْثَلة هي مقوِّم ماهويّ حتى لإدراكنا الخاص لعسكري بمفرده. إن أول ما نرى فيه هو ما يجمعه بباقي العسكر. ونحن لا نتوصل على نحوٍ منطقي أو تجريدي إلى إدراك هذا العام في العسكري. إن عسكريتَه هي أول ما نراه. منذ البداية نرى أنه عسكري. 

وهكذا ننتهي إلى القول إنّ كِلا التركيب والمَمْثَلة يشتركان في كونهما أفعالاً مؤسَّسة، أو في كون كليهما يفترضان شيئاً معطى من قبل في إدراكٍ حسّي. كما ،هما يشتركان في كون كليهما فعلاً عِيانياً هو فعل إدراكٍ لموضوعٍ من نوعٍ جديد، موضوعٌ يتسم بطابع معنوي معام، موضوعٌ هو غير موضوع الإدراك الحسي البسيط المؤسِّس لهذه الأفعال العِيانية العليا. إلى ذلك فإن إدراك هذا الموضوع العام، في كلا التركيب والممثلة، لا يلغي الموضوعات الحسية المؤسِّسة، إذ تبقى هذه حاضرةً فيه ومعنيّة على نحوٍ خاص بالتركيب من جهةٍ والمَمثَلة من جهةٍ آخرى. 

إن المحصلة الإبستيمولوجية لهذه التفاصيل تتبدّى من خلال السؤال عن صدق الحكم الإدراكي. إذ ذاك فإن هوسّرل يريد القول إن صدق الحكم لا يتوقف على حصر أنظارنا في المعطيات الحسية لموضوع الإدراك مهملين المقوِّمات المعنوية الأخرى على أنها إضافات ذاتية من عمل العقل. بذلك يتوجّب علينا، من خلال الوصف، تبيّن موضوعية موضوع الإدراك وكيفية عنيِها في الحكم كفعلٍ قصدي. إذ ذاك يبِين لنا موضوع الإدراك كبنية ذات طبقات متعددة، أدناها حسّي وأعلاها مقولي معنوي، أدناها خاص وأعلاها عام. إن في هذا المفهوم الموسَّع للموضوع توسيعاً لماهية الموضوعية بالذات بحيث تحتوي في صلبِها ما كان يُحسَب من قبل مجرد إضافات وتلوينات ذاتية للموضوع. بل إن أهمية هذا التوصع لمفهوم الموضوعية تكمن في كونه المفتاح الرئيس لإمكانية تأسيس علمية العلم.

إن الكلام أعلاه عن العِيان المقولي في شكليّ التركيب والممْثَلة قد مهّد لنا الطريق لولوج موضوع القبلية في المعرفة.

 إن القبلي في المعرفة هو ما يتسم بطابع أوّلي بحيث لا يتقدّم عليه أيّ شيء آخر. ديكارت رآه في الـ "أنا أفكر" وإدراكاته الذاتية المحصورة ضمن بطون الذات. التجريبيون اعتبروا الانطباع الحسي العاري أول طريق المعرفة. أما كانط فكأنه رأى للمعرفة بدايتين مختلفتين على طرفيّ نقيض: الانطباعات الحسية الخام والمشوّشة من جهة، والأشكال الذاتية (مكان، زمان، مقولات) من جهةٍ أخرى، التي تضفي على هذه الانطباعات نظاماً قبلياً وتجعل من هذا الشواش كوناً معنوياً

إلا أنّ هذا المفهوم الذاتي البطوني للقبلية، وهو ما يدفع كانط، كنتيجة لبطونيته، إلى السؤال عن إمكانية الأحكام القبلية التركيبية كشرط لإمكانية المعرفة الموضوعية خارج بطون الذات وفي فروقية عالم العلوم المختلفة، لا يجد في متكآت الفينومينولوجيا مسنداً لرأسه.

إن أول ما يجده الوصف الفينومينولوجي ليس انطباعات حسية متفرقة ولا أشكالاً ذاتية صِرفاً، بل أنِّيّات حكمية تنطوي على معانٍ عامة هي من صلب موضوع الإدراك أو من صلب كون الشيء موضوعاً للإدراك. هذا ما تبيّناه من خلال فضّ معنى التركيب والممثلة، وهو بالتالي القبلي في المعرفة. ليس القبلي، إذاً، في كمون الذات وقواها الذاتية، بل في أنّية الحكم بصفتها موضوع الإدراك. إذ ذاك فإن القبلي هو المعاني العامة التي تنطوي عليها أنّيات الأحكام بصفتها ما يُعرَف من خلالها (كما في التركيب) من جهة، أو بصفتها ماهيات عامة (كما في الممثلة) هي أوّل ما يُدرَك حتى في الإدراكات المنظورية الطابع للأشياء. (48)

بذلك نصل إلى مقوّم هام في مفهوم القبلية عند هوسّرل. إن المعاني العامة المتبدّية لنا في الأنّيات الحكمية تتسم بطابع منظوريّ رغم ما فيها من حضور الموضوع ذاته في الإدراك. هذا الطابع المنظوري هو من صلب قبلية الموضوع العام ومن صلب أوليّته الإدراكية. من هنا إن الموضوع الإدراكي الحاضر بذاته في منظورية العِيان يحيلنا إلى منظورات أخرى تكتمل من خلالها رؤيتُنا لجوانبه المختلفة ـ ولو أنّ اكتمالَها الفعلي يبقى حداً مثالياً نسعى إليه دون أن ندركَه بالفعل. المهم أن الموضوع هو ذاته ما يحيلنا على جوانبه الأخرى وأنّ هذه الإحالة هي من صلب قبلية طابعه العام، من صلب عِيانية قبليته. بذلك فإن الطابع العِياني (التجريبي بالمعنى الواسع للكلمة) الذي يميّز عمومية الموضوع الإدراكي هو في أساس التركيب والمَمْثلة بحيث أنّ البنى المعنوية العامة الناتجة عن هذين النحوين الرئيسين للعيان المقولي لا تأتي من باب التجريد البسيكولوجي أو التنظير الميتافيزي، بل تتبدّى لنا من صلب موضوعية العِيان ومن صلب عيانية الموضوع. وخلاصة القول إن القبلي في المعرفة هو المعنى المقولي العام، كما أنّ هذا المعنى المقولي العام، في شكلي التركيب والمَمْثلة، هو من صلب موضوع الإدراك، وبالتالي من صلب عِيانيته. إذ ذاك فهذا قبليّ مضموني وليس مجرد شكل عقليّ يسبغه الوعي على مضمونٍ غريب. إن الجهة الخلفية للكرسي، وهي لا تبين لي من موقعي الراهن، هي مما تحيلني عليه، قبلياً، كرسيّويّة هذا الكرسي. هذه الجهة الخلفية للكرسي ليست من عنديّاتي، بل من عند الكرسي الحاضر بذاته في إدراكي المنظوري ـ المعطى لي قبلياً كذي طابع منظوري. كذلك صف اصطفاف العسكر أو حتى كثرتهم عموماً (مقوليّ على نحو المَمْثَلة) ـ ليس شيء من هذه جميعها مجرد ظهور نسبي من عنديّاتي الذاتية. كل هذه جميعها معطاة لي قبلياً في عِيان أولي يلتقطها على نحوٍ مباشر بصفتها من مقوّمات أنّية الموضوع.

وهكذا فما علينا من أجل تحقيق صدق الحكم الإدراكي سوى الانطلاق بقصد الحكم (أي بنحو عَنْيِه لموضوعه) من ملء مضامين أنّيته العيانية بما فيها من معطيات وافق قبلية، بحيث يتمرأس السؤال عما إذا كان الموضوع يحيلنا قبلياً عيانياً على ما هو معنيّ في حكمه. إذ ذاك يتحقق التطابق بين بنية الموجود ومضمون الحكم، فيدعى هذا التطابق بداهة ـ على أن لا تحصر هذه البداهة في الحكم بل تتسع لاحتواء قصدية الوعي عموماً أو لكون الوعي عموماً "وعياً لشيء" على النحو الذي فصلناه تحت عنوان "القصدية" أعلاه. بذلك تصبح البداهة طابعاً يميز التجربة عموماً وبدرجات مختلفة من حيث الكمال. ولئن كانت هذه التجربة، وبالتالي، بداهاتها المختلفة، تتسم دائماً بطابع منظوري من شأنه، ربما دائماً، أن يخفي في آفاقه أكثر مما يعرِض في واجهته، فحسبها أنها تجربة للشيء ذاته وبذاته وأنها، بالتالي، تجربة للحضور العِياني ـ بما في العيان من فهم وحسّ. 


(أنطوان خوري؛ مدخل إلى الفلسفة الظاهراتية؛ دار التنوير، بيروت؛ صص 44،49)


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق