المدلول الحضاري لفلسفة هوبز السياسية
جورج زيناتي
عن مجلة الفكر
العربي
العدد 22
أيلول ـ تشرين أول
1981
تمهيد:
تبدو فلسفة
هوبز السياسية وكأنها كُتبَت تحت إلحاح ضغطِ الظروف التاريخية التي كانت تعيشها
بلاده إنجلترا، في منتصف القرن السابع عشر، فلقد انتشر كتابُه "عناصر القانون
الطبيعي والسياسي" وهو ما زال مخطوطاً سنة 1640 من أجل الدفاع عن سلطة الملك
المطلقة في وجه البرلمان، ولقد نشره هوبز بعد ذلك بعشر سنين كمؤلّفَيْن منفصلين
تحت اسم "في الطبيعة البشرية" و "في الجسم السياسي". هذا
الكتاب لم يفد الملك وعرّض صاحبَه للخطر، حين قرّر مجلس العموم مناقشته، فهرب هوبز
إلى فرنسا التي كان قد زارها سابقاً، ووقعت الحرب الأهلية سنة 1641 م وظهر كرمويل
على مسرح الأحداث مؤيداً البرلمان في صراعه مع الملك، وعرفت إنجلترا الحرب الأهلية
بعد الأخرى إلى حين وفاة قائدها كرمويل سنة 1658م وعودة الملكية إليها. وكذلك
انتهى هوبز من كتابة أشهر كتبه على الإطلاق: "لاوياثان" Leviathan سنة 1651م تحت وطأة الحروب
الأهلية المنتشرة في شتى أنحاء المملكة، وكأنه، بهذا الكتاب، أراد أن يقول للجمهور
الإنجليزي الذي أثخنته المنازعات الداخلية، لقد وجدت لكم الدواء لوقف النزيف
المتأتي من سيطرة الأهواء والعواطف.
غير أن الواقع هو
أن توماس هوبز تأثر برجال العلم والفكرالذين التقاهم في حياته أكثر بكثير من تأثره
بالتاريخ المضطرب لإنجلترا في أيامه، فالذي حدث أنّ رياحاً جديدةً من النهضة
العلمية والثقافية كانت تجتاح كل أوروبا، مع مطلع القرن السابع عشر، لتقيم العصر
الحديث على أشلاء الفلسفة السكولائية السائدة. وقد التقى هوبز كل أعلام زمنه خلال
إقاماته المتعددة في القارة الأوروبية بعيداً عن إنجلترا. حياة هوبز يمكن أن
تُختصَر في هذا التنقل المتلاحق بين بلده وبقية بلدان أوروبا. زار فرنسا للمرة
الأولى سنة 1610م. وهناك شهد الصراع الفكري ضد فلسفة القرون الوسطى و[ضد] سيطرة
أرسطو، وكان غاليليو قد استعمل التلسكوب في حين كان كبلر قد ألف كتابه حول
"الفلك الجديد" إلا أنه من الظاهر أن هوبز لم يعِ في تلك الفترة كل ما
كان يجري من جديد في القارة الأوروبية، إذ كان ما يزال منشغلاً في دراساته
الأدبية، إلا أنه عاد ثانيةً إلى القارة وهناك اكتشف كتاب "العناصر"
لأوقليدس فوقع في غرامه مباشرة، إذ اعتقد أنه وجد المنهجية الصالحة لمعالجة كل
الأمور بطريقة رياضية. ثم عاد مرةً ثالثةً إلى فرنسا سنة 1634م ومن هناك مضى إلى
إيطاليا حيث التقى بغاليليو، وكان لهذا اللقاء التأثير الحاسم على كل فكره، وهو
يخبرنا بأنه أثناء عودته بعد لقاء العالم الإيطالي كان الكون كله يبدو له مليئاً
بالأشياء المتحركة. وفي باريس التقى بمرسين وغاسّندي وديكارت وكانت اجتماعاتُه بهم
أهم، في نظره، من كل ما درسه في الجامعات. ثم عاد هوبز للمرة الرابعة إلى فرنسا
هرباً من الاضطرابات في بلاده ليبدأ أهم فترة منتجة في حياته، وليكتب أهم كتبه
السياسية وأشهرها لاوياثان، وقد انتهى منه سنة 1651م.
هذا الكتاب هو من
الكتب الكلاسيكية في الفكر السياسي الغربي شأنه شأن "رسالة في اللاهوت
والسياسة" لسبينوزا، و"الأمير" لميكيافيللي و"روح
الشرائع" لمونتسكيو، و"العقد الاجتماعي" لروسو و"مقالة حول
الحرية" لجون ستيورت ميل، وهو يحمل كل فلسفة هوبز وكل فكره السياسي.
كان لا بدّ لنا من
هذا التمهيد الوجيز حول حياة هوبز ولقاءاته مع علماء عصره لنبيّن بوضوح مصادر فكره
السياسي، فلقد لعبت الصراعات السياسية الدائرة في إنجلترا في ذلك العصر دوراً
هاماً في تكوين النظام السياسي لفيلسوفنا، وكذلك كان لاكتشافه لهندسة أوقليدس
ولفيزياء غاليليو ولعقلانية ديكارت الدور الحاسم في رسم معالم هذا النظام كما
سنرى.
بعد هذه المقدمة
يمكننا أن نبدأ بعرض الفلسفة السياسية لتوماس هوبز في أفكارها الرئيسية كما تجلّت
بشكلٍ خاص في كتابه "لاوياثان"، لنرى بعد ذلك أين تكمن أصالته ومساهمته
في تطوّر الفكر السياسي الغربي، ثم لنرى أخيراً المدلول الحضاري لهذه الفلسفة، أي
كيف أنها تعكس جوهر الحضارة الغربية، غير أنه من المفيد لنا، قبل ذلك، أن نقول
كلمةً حول العنوان الذي أعطاه هوبز لأشهر كتبه.
2ـ لاوياثان: لقد
اختار هوبز اسم لاوياثان من كتاب "العهد القديم"، وقد ورد في مزامير
داود وكتاب أيوب وسفر أشعيا ذكره، وهو يمثل وحشاً قديماً يتخذ صوراً مختلفة، تارةً
صورةَ حيّةٍ وتارةً صورة حيوان بحريّ كبير، وتارة صورة وحش متعدد الرؤوس. ولعل هذه
الصورة الأخيرة التي وردت في المزمور الرابع والسبعين هي التي استهوت فيلسوفنا؛
فهذا الحيوان المخيف برؤوسه المتعددة أقوى من أن يستطيع فردٌ من البشر أن ينازله،
ولا يستطيع الناس رضّ رؤوسه لأنه أشد بأساً وبطئاً منهم جميعاً، وفي المزمور، الله
وحده في جبروته استطاع ذلك.
لاوياثان عند هوبز
هو رمز الدولة الحديثة التي يقيمها الأفراد لتكون أقوى من كل واحد منهم، الدولة أو
الكومنولث أو المدينة/الدولة هي المؤسسة الضخمة التي تتعاقد مجموعةٌ من الأفراد
على إقامتها لتصبح ذلك الوحش المخيف الذي يؤمن للأفراد الأمن في الداخل والسلام في
الخارج. لقد اعتبر هوبز الفرد الإنساني آلة طبيعية تتحكم فيها الحركة، ولاوياثان
هو الدولة الحديثة التي تقيمها الآلات الطبيعية أي مجموعة من البشرية كآلة اصطناعية
ضخمة ذات بأس، مهمتها المحافظة على المنفعة الأولى لجميع الأفراد الذين ارتضوا صنع
هذه الآلة الحامية، وهي السلامة.
لاوياثان هذه
الآلة المرهِبة التي يقيمها الناس بالتراضي بينهم هي الضامن الوحيد، بفضل سلطتها
التطلقةن لتخلّي الأفراد عن أهوائهم وعواطفهم الطبيعية التي تقودهم إلى حب السيطرة
والأنانية وبالتالي إلى الحروب التي تجلب البؤس والفقر والهمجية والموت.
مهمة لاوياثان أن
يكون القوة القاهرة الرادعة التي تخرج الفرد من حالته الطبيعية المتميّزة
"بالكبرياء والبخل والطموح والخوف من الموت" إلى حالة قوانين الطبيعة
المتميّزة "بالعدل والإنصاف والتواضع والرحمة" أي بتطبيق مبدأ أن نفعل
للآخرين ما نريد أن يفعله الآخرون لنا، وبدون هذه القوة لا يكون هناك أي معنى لأي
اتفاق بقيمة أفراد فيما بينهم، ذلك أن "الاتفاقات بدون السيف ليست سوى
كلمات" (لاوياثان الفصل السابع عشر). لاوياثان هو إذاً هذا السيف المصلت فوق
الجميع ليمنعهم من الاستسلام لطبيعتهم الشريرة وليجنبهم بالتالي التقاتل والخراب،
ليؤمن لهم بدل ذلك أهم ما يصبو إليه الفرد وهو حب البقاءز ولكن من هو الذي يستطيع
أن يلعب هذا الدور دون تسليط سيف العقاب فوق رؤوس الجميع؟ لاوياثان هو الدولة
الحديثة، دولة الشرائع الطبيعية في وجه الأهواء الطبيعية، غير أن هذه الدولة ليست،
عند هوبز، بمفهوم مجرد، إنها تتمثل بالسلطة المطلقة الشاملة التي يضعها الأفراد في
يد شخصٍ واحد فقط، أو إذا احتاج الأمر إلى هيئةٍ واحدة أو جمعية واحدة. وهكذا فإن
لاوياثان هذا لاوحش الاصطناعي الحديث هو في نهاية المطاف الحاكم المطلق الذي لا
تحدّ من سلطته أية قيود أو شروط، سواء أكان هذا الحاكم فرداً واحداً أم مجلساً
واحداً.
3ـ فلسفة هوبز
السياسية:
لاوياثان أو
الدولة الحديثة القائمة بالتراضي أي بالعقد بين مجموعةٍ من الأفراد تتمثل ، كما
قلنا، في إعطاء السلطة المطلقة لفردٍ واحدٍ أو لمجلسٍ واحدٍ يقوم مقام هذا الفرد،
وبالتالي يمكننا أن نختصر فلسفة هوبز السياسية بالقول إنها فلسفة الدفاع عن السلطة
المطلقة للحاكم. ولقد أثارت فلسفتُه هذه استياء الجميع حين صدورها في وقت كان
الشعب الإنجليزي يعلن الثورة تلو الأخرى دفاعاً عن صلاحيات البرلمان في وجه الملك،
غير أن هوبز لم يتراجع عن آرائه، وفي التحقيق معه أمام البرلمان شدّد باستمرار على
وجوب إيجاد سلطة مطلقة تكون المرجع الفصل في كل القضايا. إن التسليم بالسلطة
المطلقة لفردٍ واحد (الملك) أو لهيئة مؤلفة من مجموعةٍ من الأفراد (البرلمان) أمرٌ
حتمي وضرورة منطقية لتأمين حماية الفرد في الداخل من حرب أهلية، والدفاع عنه ضد
الخطر الخارجي.
يمكنالقول بأن
هوبز نادى بالسلطة المطلقة للحاكم لا يفيدنا الكثير لمعرفة فلسفته السياسية، ذلك
أن تنظير السلطة المطلقة والدفاع عنها كان القاعدة التي اتبعها المفكرون الغربيون
منذ العصر الوسيط، وبهذا لا يكون هوبز قد أتى بجديد، غير أن الدخول في التفاصيل هو
الذي يلقي الأضواء على أصالة هذا الفكر. وللدخول في التفاصيل لا بدّ من الإجابة
على عدة أسئلة أولها: من أين يستمد الحاكم حقه في ممارسة السلطة المطلقة وبتعبير
آخر من هو صاحب مثل هذا الحق؟ والسؤال الثاني ما الذي يبرر قيام هذه السلطة
المطلقة؟ وأخيراً: أليس لهذه السلطة المطلقة من حدود؟ وسنحاول أن نجيب باختصار على
هذه الأسئلة.
أـ مصدر حق ممارسة الحاكم للسلطة المطلقة:
تبدأ الإجابة على هذا السؤال من جوانبه السلبية، أي من استبعاد المصادر التي كانت
سائدة في عصر هوبز. أول هذه المصادر هو الحق الإلهي. نحن نعرف أن الحق الإلهي
بممارسة الحكم كان المصدر الأساسي لشرعية الملوك في الغرب، الملك يمثل الله على
الأرض وهو المنفّذ للإرادة الإلهية بين رعاياه. ولق دأثار هذا الحق الكثير من
المشاكل بين ملوك أوروبا والبابوية. الملك يمثل السلطة الزمنية التي يستمدها من
مشيئة الله، أما البابا فيمثل السلطة الروحية، وكثيراً ما كانت السلطة الزمنية
تتعارض مع السلطة الروحية فيقوم الخلاف، وقد نادى توما الإكويني، على سبيل المثال
بأفضلية السلطة الروحية لأن الروحي أهم من الزمني، فبرر خضوع الملوك لإرادة
الفاتيكان. وهوبز نفى هذا الحق الإلهي جملةً وتفصيلاً، ذلك أن مثل هذا الحق لا
يستند إلى أيّ منطقٍ عقلي، وليس هناك ما يبرره حين ننظر إلى منفعة الأفراد.
ونستطيع أن نقول الشيء ذاته بالنسبة إلى حق
الوراثة إذ ليست هناك أية ضرورة عقلانية تبرر حق ابن الحاكم أن يرث أباه، الملكية
الوراثية لا تقوم إذاً على أيّ أساسٍ طبيعي تستمد منه شرعيتها.
إذا كان الحاكم لا يستمد شرعيته، لا من حق
إلهي ولا من حق مكتسب بالوراثة، فهل يعني هذا أنه يستمد مثل هذا الحق من صفاته
الأخرقية كما كان يرى الكثير من فلاسفة العرب وأفلاطون من قبلهم، وكذلك بعض مفكري
الغرب في أيام هوبز نفسه؟
هوبز ينسف هذه النظرية من أساسها ويعتبر أنْ
لا معنى لها على الإطلاق، وهو بهذا كان رائداً في الفكر الغربي، إذ إنه أيقن بأن
المشاكل السياسية، ما دامت تُطرَح بتعابير أخلاقية فلن تجد لها حلاً. الحل لا
يتأتى إلا حين نتخلص من الاعتبارات الأخلاقية لطرح المسائل السياسية بطريقة
فيزيائية أي حين يُنظَر إليها كقوى متصارعة، وقد سبقه إلى مثل هذا الطرح، في الفكر
الغربي، الإيطالي ماكيافيللي.
إن أخلاق الحاكم لا يمكن أن تكون إطلاقاً
الضمان من أجل إقامة شريعة العدل والرحمة بين المواطنين، ذلك أننا حين نقول بأن
هذا الحاكم أفضل الناس ليتولى السلطة، فإننا نستعمل كلمة ليس لها من معنى أصلاً،
وهي كلمة "أفضل"، فأفضل بالنسبة لمن؟ إن الأفضل بالنسبة للحاكم هو تحقيق
أهوائه في السيطرة والتحكم لإشباع طموحاته وكبريائه، ومردُّ ذلك أنّ هوبز يعتبر
الخير ما يتمشىمع المصالح الأنانية لكل فردٍ منا، وبالتالي فإن ما هو خيرٌ بالنسبة
لواحد من الناس هو شرٌّ بالنسبة لغيره حتماً، إذ ليس هناك من غايةٍ أخيرة يسعى
الناسُ إليها، وليس هناك من خير مطلق كما يؤكد فلاسفة الأخلاق، بل هناك لدى كل فرد
رغبةٌ لا تعرف الراحة من أجل السيطرة والسلطة لا تتوقف إلا بالموت. (لاوياثان:
الفصل الحادي عشر)
إنّ الحاكم يستمد حقه في ممارسة السلطة من
العقد الذي تقيمه مجموعة من الأفراد في ما بينها، وبالتالي فإنّ شخص الحاكم
ومؤهلاتِه ليس لها أية أهمية في نظر هوبز، وفيلسوفنا يساوي هنا بين كرمويل والملك.
وهوبز سبق جان جاك روسو في اعتبار العلاقة القائمة بين الدولة والفرد علاقة عقد أي
علاقة اتفاق بين طرفين، غير أنّ هوبز لا يجعل الدولة في ناحية والفرد في ناحية
أخرى، العقد عنده قائم من جهة واحدة بين جميع الأفراد الذين يؤلفون الدولة. والقوة
في نظره هي التخلي عن حق، وهنا لا بدّ من بعض الإيضاح ذلك أن الحق الطبيعي يقود
إلى صراع العواطف والأهواء وبالتالي إلى حالة من الحرب الدائمة بين الأفراد. وفي
العقد الاجتماعي يتنازل الأفراد عن هذا الحق، عن حق استعمال القوة الفردية للحصول
على ما يبتغيه الفرد، والحرية في العمل والتصرف ليقيم بدل هذا الحق الطبيعي
القانون الطبيعي ـ وتنفيذ هذا القانون الذي يرتضيه الأفراد اختياراً هو العدل، وكل
مخالفة لهذا العقد ـ الاتفاق بين الأفراد هو الظلم (لاوياثان، الفصل الرابع عشر
والفصل الخامس عشر)
في هذا التمييز بين الحق الطبيعي والقانون الطبيعي
تبدو واقعية هوبز وعقلانيّته، فهو حين يؤكّد بأن الإنسان حين يُترَك لحقّه الطبيعي
يصبح ذئباً كاسراً في غابةٍ شريعتها الحرب التي لا تتوقف، يؤكّد بأن الأهواء
الذاتية تطغى تماماً على العقل وتجعل من الإنسان كائناً تتحكّم فيه أنانيته وحدها،
وهو في تحليله هذا يعكس واقعاً كان يراه يسيّر تاريخ البشر. غير أن هوبز ابن القرن
السابع عشر، ابن عصر العقلانية الديكارتية، فإذا كانت العواطف والنزوات طاغيةً
فليس معنى ذلك أنّ العقل يقف عاجزاً تماماً أمامها. العقل يستطيع أن يميّز بين كل
هذه الأنانيات الأنانية الأقل ضرراً للفرد وبالتالي فإنّ العقل يسرم الطريق أمام
بناء الدولة القائمة على شريعة ما يراه العقل أي على الأنانية العقلانية ـ إذا جاز
التعبير. العقل يبيّن أنه إذا تُرِك الإنسان لطبيعته فإنه يهدد ذاته بالفناء
بحروبه المتواصلة. الحل العقلاني الأناني إذاً هو في التخلي عن الحق الطبيعي
والحرية مقابل القيمة الأولى والأهم للفرد وهي البقاء على قيد الحياة والعيش في
سلام، والأمان للفرد ومقتنياته. القانون الطبيعي الذي يقره العقل ويرتضيه الناس
طواعية لأنه يحقق لهم أغلى هدفٍ في الحياة ت الاستمرار في الحياة ـ هو الاتفاق/
العقد الذي يقيمونه بينهم ويسلّمون بموجبه السلطة المطلقة لأحد الأفراد ليضمن عن
طريق التهديد بالعقاب، غقامة العدل أي احترام العقد.
الحاكم يستمد إذاً حقه في السلطة المطلقة من
الاتفاق الاختياري الملزِم الذي يقيمه أفراد المدينة / الدولة في ما بينهم ليضعوا
حداً لصراعات الحق الطبيعي أي الاستسلام للأهواء ليقيموا سلطة القانون الذي يؤمن
لكل فرد الأمن الداخلي والسلام الخارجي، وإذا كانت مثل هذه السلطة مطلقة، لأنه
بدون مثل هذه القوة غير المحدودة لا يمكن أن يقام عدلٌ، فهذا يعني خضوع السلطة
الدينية للسلطة المدنية. وهوبز يدافع عن حق الحاكم في فرض الدين الذي يراه على
جميع المواطنين ـ وهذا ما فرضه في الواقع الملك لويس الرابع عشر في فرنسا، وهوبز
يعتقد أن مثل هذا الإكراه لا يتعارض مع معتقدات الفرد الحميمة إذ يستطيع الفرد أن
يظل محتفظاً بقناعاته بينه وبين نفسه.
ب ـ ما الذي يبرر قيام السلطة المطلقة؟
إن مثل هذا السؤال مرتبط بنظرة هوبز إلى
الطبيعة البشرية، ولقد كانت المشكلة الرئيسية التي تشغله هي مشكلة العواطف البشرية
وكيفية السيطرة عليها. والواقع إنّ هذه المشكلة كانت القضية الرئيسية في فلسفة
أفلاطون السياسية. ولقد نادى الفيلسوف اليوناني بحكم الفلاسفة لأن هؤلاء يحكمون
بلا أهواء، مما يمكّنهم من إقامة العدل، ولقد جعل من السيطرة على الذات أمّ جميع
الفضائل، فمن لم يستطع أن يحكم ذاتَه وأن يتحكّم في عواطفه لم يكن أهلاً لأن يحكم
أي إنسان غيره. الطبيعة البشرية تتحكم فيها الأهواء وإن تُرِك الإنسان على طبيعته
أي لو تُرِك لحقّه الطبيعي لأصبح كل إنسان ذئباً في وجه الإنسان الآخر ولكانت قامت
حرب الجميع ضد الجميع.
العقل عبد للأهواء وبالتالي لا يستطيع أن
يرينا دافعاً مستقلاً للعمل، لا يستطيع أن يرينا الخير المطلق، وهنا يخالف هوبز ديكارت في فكرة الكمال الموجودة في الذات، ليس هناك
من كمال أملك فكرته في نفسي كما يؤكد ديكارت والطلب إلى الناس الالتزام
الأخلاقي لا يُجدي نفعاً، غير أنّ هذه الفلسفة الطبيعية، هذه الرؤية المتشائمة
للطبيعة البشرية لا تقف حائلاً دون عودة هوبز إلى العقلانية والدفاع عنها: داخل
هذا لاصراع المستميت والحرب الضروس يستطيع العقل أن يُريَ الناس الوسائل الأنجع
لإشباع رغباتهم، فبين الرغبات المتصارعة يستطيع العقل أن يقيم تفاضلاً. العقل
يرينا أنه يجب التخلي عن حالة الطبيعة لأنها حالة الحرب ضد الجميع، ومن كان اليوم
منتصراً يصبح غداً ضحية. إن مثل هذه الحالة لا تقود إلا إلى البؤس والهلاك، العقلُ
يقرّر أنّ المصلحة الحقيقية للفرد، أمام مثل هذا الواقع، هي مصلحة البقاء. وهذه
المصلحة الأنانية يجمع عليها جميع الناس لأن حب البقاء والاستمرار في حياة هادئة
هو المطمح الأخير لكل فرد. ولمّا كان الإنسان آلة طبيعية تتحرك كان لا بدّ من آلة
اصطناعية تتحرك هي السلطة المطلقة للدولة الكفيلة وحدها بتحقيق الغاية الأفضل التي
ارتآها العقل، وهي وضعُ حدٍّ لحرب كل واحد ضد الآخر، وتأمين الأمن للجميع.
ج ـ حدود السلطة المطلقة:
إن العلاقة القائمة بين الأفراد الذين ارتضوا
إقامة لاوياثان أي الدولة الحديثة التي يتولى فيها السلطة المطلقة فردٌ واحدٌ أو
مؤسسة واحدة هي علاقة عقد أو اتفاق أو معاهدة لتأمين الحماية لكل فرد ولما يملك.
إنّ مثل هذه المعاهدة تُنقَض، لا حين تكون المجموعة في خطر، ولكن حين تتعرض حياة
الفرد للخطر، ذلك أنّ هوبز نظر باستمرار غلى المدينة ـ الدولة كمجموعة من الأفراد
اختاروا طواعية العيش معاً في ظل قانون العقل، وظلّ همّه الأول حماية الفرد لا
المجموعة، وإذا كان العقد الاجتماعي يعني تخلّي كل فرد عن حقه الطبيعي في استخدام
عنفه للوصول إلى غاياته الأنانية لإقامة العدل القائم على تأمين الحماية لكل فرد
فإنّ أحداً لا يستطيع أن يتخلى عن حقه بتخليص نفسه من الموت أو التعذيب أو السجن،
لأن تجنب هذه الأمور هو الغاية من التنازل عن أي حق (لاوياثان: الفصل الرابع عشر).
وبتعبير آخر فإن القبول بالسلطة المطلقة ينتهي حين يهدَّد الفرد في حياته وسلامته،
وهذا هو الحد الأول للسلطة المطلقة للحاكم، أما الحد الثاني فهو يقوم حين لا يعود
الحاكم قادراً على حماية الفرد، إذا فقد الحاكم قدرته على حماية الأفراد ينتهي
الاتفاق القائم سابقاً. وباختصار فإن حدود السلطة المطلقة هي حدود أمن الفرد أي إن
ما لا يمكن لأي فرد التنازل عنه من أجل غاية أخرى هو سلامته الشخصية، غير أنّ هوبز
لا يذهب على الإطلاق إلى حدّ المطالبة بالتمرد على السلطة القائمة كما فعل مواطنُه
ومعاصره جون لوك الذي اعتبر أن إسقاط الحكم لا يعني إسقاط المجتمع. [توماس هوبز
(1588ـ 1679)؛ جون لوك (1632ـ 1704)]
هوبز ظل يعتبر أنّ أيّ عصيان يعني العودة إلى
المجتمع البربري، مجتمع التناحر والفناء، وأنّ إسقاط الدولة يعني نهاية المجتمع
المتحضّر.
4ـ مدلولها الحضاري:
للوهلة الأولى تبدو فلسفة هوبز السياسية
وكأنها انعكاس لما عانته إنجلترا من حروب أهلية في القرن السابع عشر، فصراع
الأهواء والانفعالات كانت أمامه ولم يكن بحاجة لقراءة كتب التاريخ اليونانية
ليتأكد من أنّ مشكلة العواطف البشرية والسيطرة عليها هي المشكلة السياسية الأولى.
وكذلك قد نرى في مثل هذه الفلسفة انعكاساً للعقلية الإنجليزية التي ترى في
القوانين الشرط الأساسي الذي بدونه لا يمكن أن تقوم حضارة. وكذلك نستطيع أن نقول
بأن دفاعه عن السلطة المطلقة للحاكم يخلو من كل أصالة فقد دافع الكثيرون من
المفكرين الغربيين قبله عن مثل هذه الآراء منذ العصر الوسيط، أما مناداته بإخضاع
السلطة الدينية للسلطة المدنية فكان قد سبقه إليها كل الرشديين اللاتين في القرن
الرابع عشر وكان أشهرهم مارسيليو الباداوي Padova
صاحب كتاب "المُدافع عن السلم" وكذلك وليم الأوكامي. كل الرشدية
اللاتينية كانت قد تحوّلت في القرن الرابع عشر إلى رشدية سياسية تطالب بفصل الدين
عن الدولة وتحارب السلطة الزمنية للبابوية.
غير أنّ كل هذه الاعتبارات تظلّ، في نهاية
التحليل، سطحية، ذلك أنّ فلسفة هوبز السياسية لها مدلول حضاري هام إذ إنها تعكس،
بصورة واضحة تماماً، العقلية الغربية في التعاطي مع المشكلات الأخلاقية والسياسية،
وطريقة إيجاد الحلول لها. فإذا كانت الفلسفة الغربية قد
مرّت بمراحل ثلاثٍ هي المرحلة اللاهوتية والمرحلة الفلسفية والمرحلة العلمية، فإن
هوبز قد عاش في عصرٍ من التوازن، عصر انتصار الفلسفة والاستعانة في العلم لتحرير
الفرد. وإذا كانت الحضارة الغربية هي حضارة كسب حريات مجسدة للفرد وقد تميّزت
بتحويلها كل مشكلة أخلاقية إلى مشكلة فيزيائية ليسهل إيجاد الحل لها فإن فلسفلة
هوبز تعكس تماماً مثل هذه العقلية.
أ ـ الاستعانة بالعلم:
لقد وجدت الفلسفة الغربية في العلم
حليفاً ثميناً لمحاربة الكثير من المعتقدات السائدة، ولقد استعان هوبز بعلوم عصره
لمحاربة السكولائية التي كانت الفلسفة شبه الرسمية للكنيسة الكاثوليكية، ولقد أكد
أنه سيفعل للفلسفة الأخلاقية والسياسية ما فعله غاليليو وكوبرنيك وكبلر للعلوم
الدقيقة أي إنه يريد تحريرها من كل ما يغشاها من الشوائب اللاهوتية والميتافيزيقية
ليتمكّن الفرد من رؤية مصلحته الحقيقية. والواقع أنه استعان بمنهجية كتاب
"العناصر" لأوقليدس إذ اعتبر أنه يجب تحليل السياسة إلى عناصرها البسيطة
مما يسهل إيجاد الحل. وكتابه لاوياثان مليء بالتعريفات والاستنتاجات الرياضية
والواقع أنّ مطالبته بالسلطة المطلقة للحاكم جاءت كاستنتاج هندسي للنظر في الطبيعة
البشرية: إذا كان الإنسان بطبيعته ميالاً للأنانية، وإذا كان يريد أن يختار
أنانيته الفضلى أي تلك التي لا تعرّضه للبؤس والدمار فإن الحساب الدقيق يريه ضرورة
إقامة السلطة المطلقة للحاكم وهو في هذا المجال رائدٌ تأثر به حقاً مواطنه بنتام
في كتابه "مبادئ الأخلاق والتشريع" المنشور سنة 1780م حين حاول إقامة
رياضيات للذة وجعل من المنفعة أقصى السعادة لأكبر عددٍ من الناس. وكان جون ستيورت
مل، فيما بعد، من أكبر أنصار مبدأ المنفعة هذا، إذ اعتبر أنّ تجنّب الألم والتمتع
باللذة هما المنفعة الحقيقية التي يسعى إليها البشر. ونستطيع أن نقول بأن السعي
وراء هذه المنفعة الفردية الخالية من الألم هو الذي دفع هوبز إلى المطالبة بالسلطة
المطلقة للحاكم.
أما العالِم الذي تأثر به الفيلسوف
الإنجليزي فكان بلا شك غاليليو ونظريته في الحركة، إذ اعتبر هوبز أنّ العالَم الذي
نعيش فيه تتحكم به الحركة. والإنسان نفسه هو آلة طبيعية، وحين نقول آلةً فإننا
نقول بالضرورة حركة. الإنسان آلة تتحرك في سبيل تحقيق أنانيتها، والعقلُ يُري هذه
الآلة الاتجاه الذي يجب أن تتحرّك فيه لنيل أقصى سعادتها وهي الطمأنينة والسلام.
والدولة أيضاً آلة ضخمة رادعة ولكنها آلة اصطناعية يبنيها الأفراد طواعيةً
للمحافظةِ على غايتهم الأخيرة.
رياضيات أوقليدس وفيزياء غاليليو
كانت وراء المنهجية التي اتّبعها فيلسوفُنا للنظر في الطبيعة البشرية وفي مبادئ
الأخلاق والأسس التي يجب أن تُبنى عليها الدولة الحديثة.
ب ـ الدفاع عن الفرد:
قد يبدو هذا القول تناقضاً فاضحاً مع ما
يؤكّده هوبز عن السلطة المطلقة للحاكم، حتى أنّ بعض الباحثين رأوا فيه أحد منظّري
التوتاليتارية، والواقع أنّ غالبية المنادين بالسلطة المطلقة كان رائدهم مصلحة
المجموعة وضمان استمرارها، في حين أنّهوبز لم ينسَ الفرد على الإطلاق، بل يمكننا
أن نقول إن كل فلسفته السياسية هي عبارةٌ عن خطاب حول منفعة الفرد وأين تكمن
مصلحتُه الحقيقية. أنانية الطبيعة تقود إلى الهلاك، أما الأنانية التي يبرهِن عنها
العقل فتقود إلى الأمان. كل فلسفة هوبز السياسية عبارةٌ عن مرافعة لمصلحة أمن
الفرد وسلامته. ما فعله هو حسابٌ دقيقٌ من أجلِ تأمين هذه الغاية وكذلك فإن الحدود
التي وضعها للسلطة المطلقة كانت، كما رأينا، حدود أمنِ الفرد. وفي دفاعه المستمر
عن الفرد عكَس هوبز أحد المناحي التي اتجهت فيها الفلسفة الغربية في صراعها من
أجل انتزاع حقوق مجسّدة للأفراد من السلطة القائمة.
ج) طرح المشكلة الأخلاقية بتعابير فيزيائية: قد يكون من أهم الميزات
التي طبعت الحضارة الغربية تحويلها كل مشكلة أخلاقية وكل مشكلة سياسية إلى مشكلة
فيزيائية أي تحويلها إلى ميزان قوى تتجاذب.
والفلسفة السياسية عند هوبز مرتبطة، كما ذكرنا، بمفهومه عن الإنسان
ومشكلة الخير والشر أي إنها مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالمشكلة الأخلاقية. ولقد حوّل
هوبز هذه المعضلة إلى معادلة فيزيائية حين اعتبر الإنسان آلةً طبيعية تتحرك، وحاول
أن يوضّح أن أهم ما تقصد إليه هذه الحركة هي الديمومة والاستمرارية. الإنسان في
المجتمع البربري آلة تتحرك، والإنسان في المجتمع المتحضّر آلة تتحرك أيضاً، والفرق
بين الحركتين ليس فرقاً أخلاقياً، بل هو فرقٌ بين ما تؤدي إليه كل من الحركتين،
التحرك الأول يقود إلى إفناء الحركات وتعطيلها، في حين أن الثاني يقود إلى بقاء
الحركة أطول مدة ممكنة، ومن هنا كانت النتيجة المنطقية بتفضيل الحركة الثانية
بدافع أناني محض.
ولقد فعل هوبز الشيء نفسه حين عارض الحق الإلهي والحق الوراثي ولاحق
الأخلاقي في الحكم، ليجعل من الدولة آلة اصطناعية تتحرك بحركة أقوى من جميع حركات
الأفراد مما يسمح لها بممارسة السلطة القامعة المطلقة. الدولة تصبح الآلة المتحركة
الأكبر والأقوى القادرة على إنزال العقال بمن لا يحترم العقد القائم بين الأفراد.
لقد عاش هوبز في مرحلة هامة من تاريخ إنجلترا والغرب، وقد عكست فلسفته
السياسية مجمل المشاكل التي كانت مطروحةً في زمانه وعكست الكثير من تطلعات الغرب
نحو عالم عقلاني متحرر من رواسب الماضي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق