نص لديفيد هيوم، من كتاب "مبحث في الفاهمة البشرية"
الفقرات 118، 119، 120، من فصل بعنوان: الفلسفة الأكاديمية أو الريبيّة.
يبدو من البيّن أن يكون البشر مدفوعين، بفطرةٍ طبيعية أو بانحياز
طبيعي، إلى الركون إلى حواسّهم، فنحن نفترض دائماً، من دون أي تفكير بل قبل أيّ
استعمالٍ للعقل، عالماً خارجياً لا يخضع لإدراكِنا، بل نفترض أنه سيوجد حتى لو
كنا، نحن وكل كائن حاسّ، غائبين عنه أو منعدمين. وحتى المخلوقات الحيوانية تتوجه
بظنٍ مماثل، وتحافظ على اعتقادها بالأشياء الخارجية، في كل أفكارها ومقاصدها
وأفعالِها.
ويبدو من البيّن أيضاً أن يسلّم البشر أبداً، حين يتبعون هذه
الفطرة الطبيعية العمياء القوية، بأن الأخيلة عينها التي تقدمها الحواس، هي الأشياء
الخارجية، وأن لا يراودهم أدنى شك في أنها ليست سوى تصورات عن الأشياء. فهذه الطاولة
نفسها التي نراها بيضاء ونحسها صلبة، نعتقد أنها توجد بمعزل عن إدراكنا، نعتقد
أنها شيء خارج عن ذهننا الذي يدركها. ولا يمنحها حضورنا الكينونة، ولا يجعلها
غيابنا منعدمة. وهي تحافظ على وجودٍ مطّرد وتامٍ ومستقل عن وضع الكائنات العاقلة
التي تردكها أو تتأملها.
لكن هذا الرأي البدائي والعام على جميع البشر، سرعان ما يتهاوى
أمام أضعف فلسفة تعلمنا أنه لا يمكن أن يكون حاضراً في الذهن سوى خَيْلٍ أو إدراك،
وأن الحواس هي مجرد كوى تدخل عبرها هذه الأخيلة، من دون أن تكون قادرةً على إحداث
صلةٍ مباشرة بين الذهن والموضوع. فالطاولة التي نراها تبدو أنها تنقص عندما نبتعد عنها. أما الطاولة
الحقيقية التي توجد، باستقلال عنا، فلا يطرأ عليها تبدل؛ لم يكن هناك شيء ماثل
للذهن إذاً سوى خيلِها. [هذه يشبه رأي
المدرسة العقلية] وتلك هي قراراتُ العقل الواضحة: لم يشكَّ أي إنسان يفكر، البتة،
في أن الموجودات التي نرى إليها عندما نقول: هذا البيت وهذه الشجرة، ليست سوى
إدراكاتٍ في الذهن، ونسخٍ عابرة أو تصورات عن موجوداتٍ أخرى تبقى ثابة ومستقلة. (ص 205)
119:
عند هذه النقطة إذاً، يُلزِمنا العقلُ بمناقضة الفطر البدئية
الطبيعية، إو بالانفصال عنها واعتناق مذهبٍ جديد بالنظر إلى بيّنة حواسنا. لكن الفلسفة
تجد نفسَها، هنا، في ضيقٍ بالغ عندما تريد أن تسوّغ هذا المذهب الجديد وأن تجيب
على تخرّصات الريبيين واعتراضاتِهم. ولا يعود بإمكانها أن تدافع طويلاً عن الفطرة
الطبيعية التي لا تخطئ ولا تقاوَم: لأن
هذه الفطرة تقدّم سستاماً مختلفاً تماماً تبيّن أنه يخطئ، بل إنه مغلوط. ولا [يعود
بإمكانها] أن تسوّغ هذا السستام الفلسفي المزعوم بسلسلةٍ من الحجج الواضحة
والمقنعة، أو حتى بأيّ مظهرٍ من الحجاج، [لأن ذلك] يفوق طاقة كل قدرة بشرية.
فبأيّ حجةٍ يمكن أن نثبت أنه يجب أن تكون إدراكات الذهن
مسبَّبة بالأشياء الخراجية المختلفة تماماً عنها، على الرغم من أنها تشبهها (إن
كان ذلك ممكناً)، وأ،ها لا يمكن أن تتولد من طاقة الذهن وحده، أو من إيحاء ذهنٍ
مجهول غير مري أو من سببٍ آخرَ نحن على جهل به أكبر أيضاً؟ فمن المسلّم به أنّ
عدداً من هذه الإدراكات، بالفعل، لا يتولّد من أيّ شيءٍ خارجي في الأحلام مثلاً،
أو في الجنون أو في أمراضٍ أخرى. وليس هناك من شيءٍ غير قابلٍ للتفسير أكثر من
الطريقة التي يعمل فيها الجسم في الذهن لينقل صورةً عن ذاته إلى جوهرٍ يفترض أنه
من طبيعةٍ بمثل ذاك الاختلاف بل التضاد أيضاً.
إنّ معرفةَ ما إذا كانت إدراكاتُ الحواس تحدثُها الأشياء
الخارجية، على شبهها، هي مسألةٌ واقعية؛ فكيف نقرّر بشأن هذه المسألة؟ ـ بالخبرة،
بالتأكيد، كما في كل المسائل الأخرى التي من طبيعةٍ مشابهة. لكن الخبرة هنا خرساء
تماماً ويجب أن تكون كذلك. فليس لدى الذهن أيّ شيءٍ حاضرٍ سوى الإدراكات، ولا
يمكنه الوصول إلى أيّ خبرةٍ عن اقترانها بالأشياء. فافتراض هذا الاقتران هو، إذاً،
من دون أيِّ أساسٍ معلّل.
120:
واللجوء إلى مصداقية الكائن الأسمى من أجل التدليل على مصداقية
حواسِّنا هو بالتأكيد التفاف مفاجئ جداً. فلو كانت مصداقيته تهتم أدنى اهتمام بهذه
المسألة لكانت حواسُّنا معصومةً عن الخطأ تماماً، إذ لا يمكن لله أن يخدَع قط. هذا،
من دون ذكر أنه ما إن يوضع العالم الخارجي موضع الشك حتى يصعب علينا أن نجد حججاً
تسمح لنا بالتدليل على وجود هذا الكائن أو على إحدى صفاته. (ص 206)
(في الفقرة الأخيرة يناقش هيوم باركلي في قوله بالضمانة الإلهية لوجود العالم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق