الخميس، 25 يوليو 2019

ما يتجاوز التجربة عند ديفيد هيوم: قراءة السطور المهملة؛ محمد الحجيري.



ما يتجاوز التجربة عند ديفيد هيوم: (قراءة ما بين السطور، أو السطور المهملة)
(محمد الحجيري)


ما يتمُّ التركيزُ عليه عادةً عند هيوم هو قولُه إنَّ التجربةَ الحسية هي أساسُ كلِّ معرفة، وهو رأيٌ يعود في جذوره إلى أرسطو الذي كان يقول بأن الحواس هي بداية كل معرفة، مع التشديد على "بداية". وربما تعود الفكرة إلى ما قبل أرسطو.
لكن ما يُنسَب إلى هيوم والأمبيريين عموماً هو القول بأن كلَّ معارفَنا تتأتى من الخبرة الحسية. وهذا ما دفع بإيمانويل كانط لتحليل بنية الذهن البشري في كتابه "نقد العقل المحض"، حيث ميّز بين ما هو فطري أو قبلي، الذي يبقى كحالة كمون. هذا الفطري الذي يقوم بتنظيم معارفِنا بعد استخدام المادّة الأولية التي تقدمها الحواس.
ما يفاجئنا هو أن "جرثومة" هذه الفكرة حول نشاطية الذهن البشري كانت موجودةً بالفعل عند هيوم. دون أن يدرك أهميتها ربما، لأنه كان يعلن [بسذاجةٍ ربما] أنَّ الأفكار هي النسخة الباهتة لـ "الانطباعات" أو للإدراكات الحسّية.
لكن المتفحص لفكر هيوم يمكن له أن يتوقف عند بعض الملاحظات:
إن هيوم حين يتحدث عن التخيل وحدود حرية الفكر في حركته، فهو يحاول إعادته إلى سجن الحواس، مهملاً فكرةً تخرج به عن حدود هذا الاعتبار.
يقول هيوم إننا حين "نفكر في جبلٍ من ذهب، فإننا نجمع بين فكرتين متلائمتين نعرفهما سلفاً: الذهب والجبل".. ثم يتابع القول بأنّ "كلَّ موادِّ التفكير مستمدَّةٌ من الحواس الخارجية أو الباطنة، وما يخضع للذهن أو الإرادة إنما هو خلطها وتركيبها وحسب. أو ما أعبّر عنه بلغةٍ فلسفية: جميع أفكارنا، أو إدراكاتنا الأضعف، [لاحظ هنا عودته إلى نغمة أن الأفكار هي إدراكاتٌ ضعيفة]، هي نسخٌ عن انطباعاتنا أو إدراكاتِنا الأكثر حياة." (مبحث في الفهم البشري؛ ص 40)
الفكرة التي يتجاوزها هيوم مواربةً هنا هي قدرة الذهن على تركيب لوحات جديدة من معطياتٍ أوّلية حسّية. هذه القدرة على تخيل جبل الذهب، أو الحصان الفاضل كما يشير إلى ذلك في نفس الفقرة.
في كل الأحوال، هذه فعالّيةٌ ذهنية أو نشاطٌ ذهني، وهو برأيي ما سلّط الأضواء عليه إيمانويل كانط.
إضافةً إلى أنّ القارئ يفاجأ بفقرة أخرى في فصل لاحق يتحدث صراحةً عن بعض النشاط الذهني الذي لا يُستمَدُّ من الانطباعات الحسّية، ألا وهو علم الرياضيات بفروعه الثلاثة. أكثر من ذلك، فإن استنتاجات هذا العلم هي صحيحة بالمطلق وضرورية، إما لأنها نتيجة حدوس يقينية، أو بفضل ما ينتج عنها من استنباط ضروري.
والمعروف بأن هيوم يعتبر بأن كل المعارف المستمَدَّة من الخبرة الحسّية لا يمكن أن تكون ضرورية البتّة، وهو محقٌّ تماماً في ذلك.
نقرأ عند هيوم هذه الفقرة اللافتة والغنية. يقول هيوم:
"
يمكن لجميع موضوعات العقل البشري أو البحث أن تنقسم، طبيعياً، إلى ضربين، هما: علاقات الأفكار، والوقائع. من الضرب الأول علوم الهندسة والجبر والحساب، وباختصار كلُّ إثبات يكون يقينياً إما بالحدس أو بالبرهان. فـ "مربع الوتر يساوي مربع الضلعين" [في المثلث قائم الزاوية] قضية تعبّر عن علاقة بين هذه الخطوط. و"ثلاثةٌ ضرب خمسة تساوي نصف ثلاثين" تعبر عن علاقة بين هذه الأعداد. والقضايا التي من هذا الضرب يمكن اكتشافها بإعمال الفكر وحدَه من دون الخضوع في شيء لما يوجد في العالم. بل حتى لو لم يكن في الطبيعة أيُّ دائرةٍ أو مثلث، ستظل الحقائق التي برهنها إقليدس محتفظةً بيقينها وبداهتها. (م. ن. 49)
ثم يقارن بين هذا النوع من المعرفة مع المعرفة المستمدَّة من التجربة في الفقرة الحادية والعشرين من كتابه بالقول:
"
أما الوقائع، التي هي من الضرب الثاني من موضوعات العقل البشري، فلا يمكن التيقّن منها بالطريقة عينها. وليست بيّنتُنا على صدقها، مهما عظُمَت، من طبيعة مماثلةٍ للسابقة، فالضد من أيِّ واقعةٍ يظل ممكناً، لأنه لا ينطوي على أيِّ تناقض، والذهن يتصوّره بمثل السهولة والتميّز الذي سيتصوّره به لو كان مطابقاً تماماً للحقيقة. والقضية "الشمس لن تشرق غداً" ليست أقل معقولية ولا تنطوي على تناقض أكثر مما تنطوي عليه القضية "ستشرق". فباطلاً إذاً ما نجرّب البرهنة على خطئها. إذ حين تكون برهانياً خاطئةً ستنطوي على تناقض ولن يمكن للذهن قط أن يتصوّرها بتميّز." (نفس المصدر؛ 50)


(م. ح. 25 تموز 2019)


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق