الأربعاء، 8 مايو 2019

حوارات: عن ديكارت وروسّو.




بين ديكارت وروسو

يقول روسو في كتابه "إميل" بأن المحسوسات بالنسبة لي "داخليةٌ، إذ تشعرني بأني موجود. لكن أسبابها [أي أسباب المحسوسات] خارجيةٌ، إذ تؤثر فيّ رغماً عني. تظهر وتختفي دون أمرٍ مني. أستخلص بوضوح أن المحسوس الموجود داخلي وسببَه أو موضوعَه الخارجي شيئان مختلفان."
إذا كان ديكارت قد اكتشف بداهة الفكر أو الوعي استناداً إلى الشك، لكنه لم يستطع أن يبرهن وجود المادة أو العالم الخارجي إلا بشكل تلفيقي وبعد إثباته وجود الله قبل ذلك، أيضاً بطريقة قابلة للنقاش، فإن روسو ينطلق من بداهة وجود الوعي ليثبت وجود العالم باستنتاج بسيط وسهل: فبمجرد أن أحاسيسي [بالعالم الخارجي المفترَض] "تظهر وتختفي دون أمر مني"، فهذا يعني أن سبب هذه الآحاسيس أمرٌ موجودٌ بشكل مستقل عني، وبالتالي فله وجوده الموضوعي، لكن دون أن يثبت طبيعة مادية هذه المؤثرات الخارجية، إلا إذا اعتبر أن كل ما يؤثر في من الخارج يمكن تسميته مادة، وهذا يختلف عن تعريف ديكارت للمادة التي يصفها بالامتداد، بينما هو يصف الفكر باللاامتداد، أو الفكر الذي لا يوجد في مكان.
هل من قيمة فلسفية لهذا البرهان الروسّوي على وجود العالم الخارجي؟
ولماذا تهمل الكتابات عن الكوجيتو الديكارتي هذه الإشارة لروسو حول وجود العالم؟
(م. ح. 8/5/ 2017)

تعليق الدكتور جمال نعيم:
 لا أعتقد أنّ روسو يأتي بجديد. والكوجبتو ليس بعيدًا عمّا يقوله روسو، بمعنى أنا أشك، أنا أفكر، أنا أتخيَّل، أنا أحسّ... وكل أفعال التفكير يتضمّنها الكوجيتو أو الأنا أفكر. وما يقوله روسو متداول وشائع قبل ديكارت وبعده، ودائمًا كان يُقال لمن لا يُؤمن بالعالم الموضوعي، فليُضرب بعصًا، فاذا أحسّ بالوجع، فعندئذٍ سيعتقد بوجود العصا كعصا مفارقة لما يُحسُّ به جوَّانيًّا، داخليًّا. ما يقول به روسو يقول به جميع النّاس، يقول به الوعي السّاذج. لكنّ ميزة ديكارت في محلٍّ آخر. فما يقوله روسو، بل وأكثر ممّا يقوله، يُؤمن به ديكارت، ويتصرَّف في حياته على أنّه صحيح. وديكارت يبتغي أكثر من ذلك، يبتغي أن يصل الى اليقين، الى اليقين القاطع الذي لا يرقى اليه أيُّ شك مهما بالغنا في شكِّنا. وعندما يعتمد ديكارت طريق الشّك، فإنّه يعتمده كطريق موقّت، ريثما يصل الى اليقين، ليس لأنّه لا يُؤمن بما تقوله الكتب السماوية أو بما يقوله علم عصره أو بما يأتينا عن طريق الحواس، بل لأنّه يريد أن يصل الى اليقين انطلاقًا من ذاته، انطلاقًا من النّور الطبيعي، انطلاقًا من النّور الفطري الموجود في كل واحد منّا بالضرورة. من هنا كان طرحه للمسألة الفلسفيّة الجديدة: كيف يمكن لما هو ذاتي أن يقوِّم ما هو موضوعي؟ وبعبارة أخرى: كيف يمكن للمحايث أن يطاول المفارق؟ وهو كان يعترف بنزوعٍ شديد، بميلٍ قويّ لدى النّفس للاعتراف بالعالم الموضوعي بناءً على ما تُحس به من إحساسات، لكن بما أنّ الحواس قد تُخطىء، وبما أنّه لا يمكنني استبعاد وجود شيطان ماكر مخادع يخلق فيّ هذه الأحاسيس، فإنّه استبعد هذه الأحاسيس للقول بالعالم الموضوعي واضطر الى اثبات وجود اله كامل مطلق لا يخدع بناء على فكرته الموجودة في الذهن. لذا، اعتبر الله بمثابة ضمانة ميتافيزيقية لاثبات وجود العالم الخارجي. وهذا ما عابه عليه كنط وهوسرل، لا سيّما هوسرل الذي اعتبر فلسفته بمثابة ديكارتيّة جديدة، شريطة رفض المضمون النظري لفلسفة ديكارت. واعتبر هوسرل أنّ ديكارت اكتشف الحقل، اكتشف الذاتيّة، اكتشف الأنا أفكّر، لكنّه خان المنطلق الذي انطلق منه، أي لم يسر باكتشافه حتى النّهاية حيث كان المطلوب اصلاح الفلسفة اصلاحًا جذريًّا وبالتالي إصلاح العلم وتأسيس الموضوعيّة. لذا، تابع هوسرل طريق ديكارت حتى النّهاية وعلّق وجود العالم الخارجي ووضعه بين مزدوجين وتابع الحفر في بنية الوعي حتى وصل الى الأنا المحض المطلق الذي بإمكانه تأسيس الموضوعية من دون الحاجة الى افتراض وجود اله كامل. وهكذا، نلاحظ أن هوسرل لم يعد الى روسّو، بل الى ديكارت، لكن بعد رفض المضمون الميتافيزيقي لأفكاره. من هنا، بإمكاننا القول إنّ ديكارت ليس أكثر من لاهوتيّ مستنير؛ لأنّه لم يستطع أن يسير بفكرته حتى النّهاية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق