الأحد، 5 مايو 2019

مقتطفات من كتاب "دثّريني يا خديجة"؛ سلوى بالحاج صالح.



مقتطفات من كتاب "دثّريني يا خديجة"

سلوى بالحاج صالح


من الملاحظ أن الدارس لا يعثر على أخبار كثيرة عن حياة محمّد وخديجة بعد زواجهما. فكل الكتب تكتفي بذكر أنهما عاشا حياة هادئة ورزقا الولد. وكان القاسم، الذي سيكنّى به محمد (ابو القاسم) أول ولدهما حسب معظم الروايات. لكنه توفي بعد عامين من ميلاده. ولا يُستبعد أن يكون الزوجان تألما من ذلك لحرصهما، شأنهما شأن كل العرب، على إنجاب الولد وخاصة منهم الذكور الذين يضمنون العقب.
ولكن موت القاسم لن يكدّر حياة الزوجين التي ستستمر لتثمر إلى حد البعث أربع بنات بقين على قيد الحياة وهنّ: زينب وأم كلثوم ورقيّة وفاطمة. كما تذكر أن محمداً واصل العناية بتجارة خديجة، وأنه كان يتردد على غار حراء.
وقد يعود الغياب الكامل للإخبار عن تلك الفترة إلى عددٍ من الأسباب: أولها، أن العناية بحياة محمد وسيرته بما في ذلك زواجه بخديجة لم يبدأ إلا في فترة لاحقة بعد وفاته؛ ثانيها، أن اهتمام الرواة كان مركزاً على فترة البعث وبشكل أخصّ على ما بعد هجرة محمد إلى المدينة؛ ثالثها، أن الاهتمام بخديجة كان من زاوية علاقتها بمحمد النبيّ وليس بوصفها شخصية مستقلة؛ رابعها، أن أخبار المصادر قليلة حول خديجة نفسها وخاصةً حول حياتها قبل البعث.
لكن غياب المعلومات لا يمنعنا من طرح عدد من التساؤلات ومحاولة الإجابة عنها ولو بفرضيات في ما يخص هذه الفترة الهامة من حياة محمد، أي بين زواجه والبعث، وقد دامت حسب الروايات خمس عشرة سنة، وهو أمر لا يمكن الحسم فيه لعدم دقة الإخباريين والمؤرخين. فهذه الفترة هي، في الواقع، فترة الإعداد الجدّي للنبوّة. فمحمد رشد وتزوج وتوفّر له الاستقرار العائلي والأمن المادي وولدت له خديجة الذرية. وكل هذه العوامل وفّرت له الوقت والطاقة للتفكير والتأمل. والغريب في الأمر أن الرواة عوض العناية بهذه الفترة نراهم أهملوها رغم أنها حاسمة. يخبِرون عن محمد (ولو إخباراً قليلاً) من ولادته إلى يوم زواجه، وينسبون إليه عدة كرامات (ميلاد خاص، شق القلب وتطهيره، السفر إلى الشام وقصة الراهب..) تنبئ من منظور المخيال الشعبي بمستقبل نبوّة. لكن ما الذي جعلهم يوقفون هذه الكرامات عند زواجه بخديجة؟ فطوال مرحلة الزواج التي سبقت البعث والحاسمة في نبوّة محمد ورسابته حسب رأينا، لا نجد ذكراً لخوارق في حياته إلى حدّ اليوم الذي سيظهر له فيه جبرائيل. وهو ما يدعو إلى الاستغراب. فلا محمّد أخبرنا عن هذه الفترة، ولا بناتُه حدثننا بالتفصيل عن حياة أبويهما. أما خديجة فقد ماتت قبل الهجرة بثلاث سنوات ولم تعش لترويَ عن حياتها وحياة محمد عندما بدأت العناية بذلك بذلك تقنيناً للسنّة: ماتت ولم يحرز الإسلام بعد النصر النهائي عقيدةً ودولة. (67)
لا شك في أنّ علاقة خديجة بورقة كانت متطوّرة. تذكر الكتب أنه كان لها أكثر من ابن عمٍّ [واحد]، لكن علاقتها بورقة كانت الأبرز. وإذا بحثنا عن تفسيرٍ لذلك فقد نجده في اهتمامات ورقة الروحية والعقائدية والفكرية التي قد تكون وراء انجذاب خديجة إليه.
وبالنظر إلى هذه العلاقة، فليس من المستبعد أن يكون محمدٌ طرفاً فيها، كما لا نستبعد أن تكون اهتمامات ورقة محور نقاش بين خديجة ومحمد الذي يرجّح، وهو الأكثر منطقاً وقبولاً، بأنه كان مهموماً بدوره بمستقبل قومه. كما يرجّح أنه كان على اطلاع على الأديان والمعتقدات الأخرى في الجزيرة العربية من خلال صلاته وأسفاره.
إن خديجة التي تكبر محمداً سناً والتي كانت تتمتع بشخصيةٍ قويّة قد يكون لها رأي هي أيضاً في الأزمة الإيديولوجية التي كانت تعيشها قريش. وقد يكون لها حتى تأثير إيجابي على محمّد نفسه دعماً لاهتماماته التوحيدية. وعلاقة محمد بورقة عن طريق خديجة قد تكون من بين مصادره للتعرّف على الأديان القديمة لما عُرِف عن ورقة من اطلاع عليها واستيعابٍ لها من خلال الكتب والأسفار والالتقاء بالأحبار والرهبان. (68)
إن كتب التاريخ تكتفي بذكر أن محمداً كان كثير التأمل خلال تلك الفترة، وكانت له خلوات بغار حراء. وكانت خديجة تساعده. وبالنظر إلى ما نعرفه عنها من قوة شخصية، بل ومن تبعية محمد لها (كانت تنفق عليه من مالها)، فلا نخاله يتغيّب للتأمل دون أن تكون سنداً له. كان يعيش من مالها في حراء ويطعم المساكين، وهي ترعى أولادهما. كما تشير كتب السيرة والتاريخ إلى أن محمداً كان يطوف بعد عودته من غار حراء سبعاً حول الكعبة. وبشكلٍ عام لم يظهر عليه في نظر قومه ما يفيد أنه "خرج عن دين آبائه وأجداده"، وهو ما سيؤاخذونه عليه بعد البعث.
إن أغلب الظن أن خديجة أدركت ما يشغل بال محمّد، وهو ما قد يكون يشغل بالها ايضاً، فشجّعته من موقع الاقتناع لا من موقع "التبعية الزوجية" أو "العاطفية". رُويَ عن عبد الله بن عمير: "أن من فضائل خديجة أنها ما زالت تعظم النبي .. وتصدّق حديثه قبل البعثة وبعدها". وبالنظر إلى ما عُرِف عن محمد من ميلٍ إلى العزلة والتأمل والتفكير، وهو ما قد يجعله ذا علاقات قليلة في المجتمع، فالأرجح أن كل شيء كان يقع في الداخل، أي في بيت خديجة، وأن حواراً مستمراً بينه وبينها كان قائماً. وهذا الحوار إن شئنا هو الذي أهملته المصادر. لقد اهتمّت بزواج محمد من خديجة وأهملت ما هو أهمّ وهو العلاقة داخل هذا الزواج، العلاقة بين شخصين متميّزين مثلما ستبيّن ذلك الأحداث. (73)

خديجة تحضر مخاض البعث وترعاه:
يجمع الرواة على أن خديجة كانت ملاذ محمد في أول لقاء له مع جبرائيل. كان استغراق محمد في تأملاته قد اشتد قبيل فترة البعث، وبدأته الرؤيا وأصبح ينزع أكثر من أي وقت مضى إلى الخلوة: "كان أول ما ابتدئ به رسول الله من الوحي الرؤيا الصادقة، كانت تجيء مثل فلق الصبح، ثم حبّب إليه الخلاء"، قالت عائشة. فلم يعد يكتفي بالذهاب شهراً كل سنة إلى غار حراء، بل أصبح يذهب إلى الخلاء بحثاً عن الوحدة، ويغرق في التفكير والتأمل. فكان رمضان (سنة 610م) النقطة التي "انفجر فيها النبع"؛ كان كل شيء قد بلغ من النضج ما أصبح يحتم الانطلاق في ثورة دينية سيكون لها ما سيكون من انعكاسات على مصائر قريش والعرب والعالم. (74)
.. لقد جاء الملَك محمداً وخاطبه، فإذا بمحمد يهرع من شدة الخوف إلى خديجة.. فتدثّره..
.. وتذكر رواية أخرى [ابن هشام] أن خديجة قالت لمحمد: "ابشر يا ابن عم واثبت، فوالذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبيّ هذه الأمّة". فخديجة لم تفاجأ ـ حسب هذه الروايات ـ بما حصل لزوجها ولم تفزع ولم تخف عليه، بل إنها تتصرّف تصرّفاً متزناً، حكيماً، فتجيب محمداً: "ابشر إنها النبوّة"! فلو لم تكن خديجة متعوّدة على الخوض في هذا الموضوع وفي أحوال أهل مكة عامة وما يلزمها من تغييرات، ولو لم تكن عارفةً بشخصية محمد وما تكمن فيها من طاقات وقدرات هائلة، لما أجابته مثل ذلك الجواب الهدئ واليقيني! إنها "المدثّرة" بحكمتها واتزانها وواقعيتها. (78)
.. إن خديجة التي كانت تقدمت في السن في ذلك الوقت أدركت بحسّها وعقلها ما يحصل. تقول عائشة: "انطلقت به خديجة (أي بمحمد) إلى ورقة بن نوفل بن أسد، قالت: اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا ابن أخي، ماذا ترى؟ فأخبره محمد حبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي أنزِل على موسى بن عمران. ليتني فيها جذع! ليتني أكون حياً حين يخرجك قومك! قال محمد: أمخرجيّ هم؟ قال: نعم، إنه لم يجئ رجل قط بما جئت به إلى عودي، ولئن أدركني يومُك أنصرك نصراً مؤزرا. وفي رواية أخرى، تذهب خديجة منفردة إلى ورقة لتعلمه، فتخبره بما أخبرها به محمد فيقول: "قدوس قدوس (أي طاهر طاهر) والذي نفس محمد بيده، لئن كنت صدقتني يا خديجة لقد جاءه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى وإنه لنبيّ هذه الأمة، فقولي له: فليثبت. ثم يتم اللقاء بين محمد وورقة في الكعبة أثناء الطواف حولها، فيعيد محمد خبره فيقول له ورقة: "والذي نفسي بيده، إنك لنبيّ هذه الأمة، ولقد جاءك الناموس الذي جاء موسى.."
إن لجوء خديجة إلى ورقة في أول حادث من أحداث البعث يؤكد ما قلناه سابقاً من أن علاقتها به كانت علاقةً بمرجع في الأمور الدينية. كان رد فعلها الأول طمأنة محمد عندما أخبرها بما حصل. ولم يكن تطمينها له من باب جبر الخاطر، بل كان تطميناً جاداً. ثم أخذته إلى ورقة للحصول على اليقين. ورقة أيضاً سأل عن "الرؤيا" أولى علامات النبوّة، ليتحقق من أن ما حصل لمحمّد يندرج ضمن هذا الصنف من "الرؤيا" وليس مجرد خيال أو هلوسة: "ماذا ترى؟" سأل ورقةٌ محمداً. وبعد أن قص عليه قصته، ردّ عليه جازماً: "إنه الناموس".. (82)
ولا تقف خديجة عند هذا الحد، بل تنادي محمداً وتقول له: "أي بان عم، أتستطيع أن تخبرني بصاحبك الذي يأتيك إذا جاءك؟ قال: نعم، قالت فإذا جاءك فأخبرني به، فجاءه جبرائيل كما كان يأتيه، فقال رسول الله لخديجة: يا خديجة هذا جبرائيل قد جاءني، فقلت: نعم، قم يا ابن عم، فاجلس على فخذي اليسرى، فقام .. قالت: هل تراه؟ قال: نعم، قالت: فتحول فاقعد على فخذي اليمنى، فتحول.. فقالت: فهل تراه؟ قال: نعم. قالت: فتحوّل فاجلس في حجري، فتحوّل.. قالت: هل تراه؟ قال نعم، فتحسّرت فألقت خمارها.. قالت هل تراه؟ قال: لا. فقالت: يا ابن عم، اثبت وابشر فوالله إنه لملَك وما هو بشيطان.
فعلت خديجة ذلك لأن محمداً ما زال يعتقد أنه واهم وأنه مجنون. وهي كعادتها تتصرّف، في علاقة به، تصرف الأم من ناحية، والحكيمة من ناحية ثانية: تضعه على فخذها الأيسر فالأيمن ففي حجرها كما تضع الأم طفلها. ومحمد يطاوعها كما يطاوع الطفل أمه وهي تسأله لتقول له في النهاية: "اثبت، إن من أتاك هو الملك جبرائيل وليس الشيطان".
وبالتالي فهي عالم بمن هو جبرائيل ومن هو الشيطان وبسلوكهما في المخيال الروحي الشعبي: واحد رمزٌ للطهارة والحياء، والآخر لـ "الرجس والفساد".. (83)

خديجة من التصديق إلى نهاية سرّية الدعوة:
 لقد كانت خديجة ذات سلطة معنويّة كبيرة في اسرتها، فهي عملياً العائلةُ لها، وقد كان محمّد يأخذ بآرائها. لذلك ليس من الغريب أن تكون هي التي توجهت إلى بناتها لإعلامهنّ بما حدث لأبيهنّ ومطالبتهنّ بتصديثه. وفيما عدا بناتها، لا يوجد ذكرٌ بكونها استقطبت أخريات أو آخرين للإسلام في تلك الفترة الأولى. ورغم إشارة المصادر إلى اعتتناق ولديها [ابنتيها] هالة وهند من زوجها أبي هالة التميمي وبنتها هند من زوجها عتيق المخزومي الإسلام وذكرهم ضمن الصحابة، فإننا لم نعثر على أخبار حول كيفية دخولهم الإسلام. وفي المصادر أيضاً إشارةٌ إلى أن خديجة كانت تتابع حديث محمّد مع أبي بكر قبل إسلامه، فلما أسلم قالت من وراء الباب: "الحمد لله الذي هداك يابن أبي قحافة".
وقد روى ذلك عبدالله بن مسعود.
هذه الفترة الأولى من الدعوة التي لم تتصل فيها خديجة إلا ببعض أفراد عائلتها لم تكن لتتميّز حسب المصادر بنشاط حثيث للدعوة حتى من قِبل المسلمين الآخرين. فمحمّد نفسه لم يدخل على يديه سوى الصبيّ عليّ بن أبي طالب والمولى (الابن) زيد بن حارثة. فقد كان دوره في الأساس ـ وسيتواصل إلى فترة ـ عقائدياً. ناهيك بأنه لمّا توجّهت إليه عمّاته اللاتي زرنه في البيت في آخر فترة سرّية الدعوة وسألنه عن حاله، أجابهنّ بأن الله طلب منه أن ينذر عشيرته، فكان ردّهن أن طلبن منه أن يتوجّه إلى أزواجهنّ: "وخرجن من عنده، وهنّ يقلن: إنما نحن نساء".
إن أبا بكر هو الذي سيكون له في البداية دورٌ تعبويّ على غاية من الأهمية، إذ سيجلب خمسة من شباب قريش من ذوي الجاه ينتمون إلى خمس قبائلَ مختلفةٍ وهم: عثمان بن عفّان، الزبير بن العوّام (ابن أخي خديجة)، عبد الرحمن بن عوف، سعد بن أبي وقّاص، وطلح بن عبيد الله. ولا يمكن أن يكون ذلك عرضاً. فالأرجح أنهم كانوا ينتمون إلى "الحلقة" نفسها، وأنهم كانوا قد بلغوا درجةً معيّنةً من التفكير في نقد الحالة الدينية والروحية عند قريش، سهّلت عليهم قبول الدين الجديد. (90)
.. ومما يلفت الانتباه أن خروج خديجة إلى الصلاة علناً وبالتالي إجهارها بإسلامها لم يجلب إليها سخط قريش حسب ما لدينا من معلومات تارخية، ولسنا ندري أسباب ذلك بالتدقيق إذا صحّت الرواية التي اعتمدناها [عن مشاركة خديجة في الصلاة العلنية الأولى في الكعبة]. فخديجة لم تهاجَم. كما أن محمّداً لم يعيَّر بخروجها وبكونها عائلتَه [معيلته] أو بكونها أكبر منه سنّاً. فهل إن ذلك راجع إلى أخلاق قبليّة أم إلى خوفٍ من ردود فعل قومها؟ ولا نعتقد أن يكون عدم تعرّض قريش لما فعلته من باب اللامبالاة أو الاستخفاف بها كامرأة. (93)
.. وقد كانت خديجة من بين المغادرين إلى الشعاب. وتفيدنا الروايات، على ندرتها، بما جرى خلال هذا لاحصار، واضطلاعها بدور شيخة المسلمين في التخفيف من حدّته. فقد استغلت مكانتها لدى قومها لتوفير المؤونة للمحاصرين. ففي إحدى الروايات، تتوجه خديجة إلى ابن ابن عمها زمعة بن الأسود بن المطلب الأسدي لتشكوه أبا جهل الذي كان يحاول منع وصول أيِّ بضاعة إلى المحاصرين، فيتحرك زمعة وينهى أبا جهل عن فعله فيمسك. وفي الرواية ذاتها أن ابن أخيها حكيم بن حزام بن خويلد بعث إليها ناقةً عليها دقيق.  (100)
إن ما يثير الانتباه هو تعدّد زوجات محمّد بعد هذه الوفاة [أي بعد وفاة خديجة]. فقد عاش حسب الروايات خمساً وعشرين سنة معها دون أن يتزوج عليها أو يتسرّى، في حين أنه تزوّج من إحدى عشرة امرأة في الثلاث عشرة سنة التي تلت وفاتها، بل إنها عاش مع تسع منهنّ في الوقت نفسه. (106)
هنّ: سودة بنت زمعة وعائشة بنت أبي بكر وحفصة بنت عمر بن الخطاب وزينب بنت خزيمة وأم سلمة وهند بنت أبي أميّة وزينب بنت جحش وأم حبيبة بنت أبي سفيان وجوبريّة واسمها برّة بنت الحارث وصفيّة بنت حيّ (ورد اسمها صافية بنت هويا في تفسير الطبري، ج22، ص47) وميمونة بنت الحارث..
في اعتقادنا أن خديجة بما كان لديها من نفوذ معنوي ومادي على محمد كانت هي من جعله يمتنع عن التفكير بالتزوج عليها. فكما سبق أن بيّنا، كانت خديجة بالنسبة إلى محمد اليتيم والفقير الزوجة ـ الأم من ناحية، والعئلة من ناحية ثانية (ووجدك عائلاً فأغني)، وصاحبة الحكمة في الفترات الحرجة من ناحية ثالثة. لقد كانت تهيمن عليه بشخصها، لذلك كان يصعب على محمد، في مثل هذه الحالة، أن يفكر في غيرها، وكان من الصعب أن تقبل هي بضرّةٍ أو بضرائر. إن زواجها من محمّد بالذات كان في ضمانٌ لكي يكون زواجاً أحادياً. وإلى ذلك، فإن ظروف محمد بعد البعث وطوال المرحلة التي عاشتها معه خديجة كانت على غاية من الصعوبة. كان فيها محمد محل اضطهاد من قريش، وبعبارةٍ أخرى لم يكن له من القوّة والسلطة ما يخوّله، على سبيل المثال، تجاوز سلطة خديجة لسبب من الأسباب والتزوج أو التسرّي عليها. (108)
بعد موت خديجة سيتزوّج محمّد في البداية زواجاً واحداً من امرأةٍ متقدّمة إلى حدٍ ما في السنّ حسب الروايات وهي سودة بنت زمعة بن قيس، من بني عامر بن لؤيّ. لكن هذا الزواج سيُتبَع بزيجات عديدة ومختلفة. ولا غروَ في أن ما حوّل حياة محمد الشخصية يكمن أولاً في موت خديجة، أي في زوال عائقٍ معنوي كبير من حياته هذه كان يصدّه ويثنيه؛ وثانياً في ما أصبح له من نفوذ وقوّة في المدينة بوصفه نبياً وزعيماً سياسياً وقائداً عسكرياً له نصيبٌ من الغنائم، ومنها النساء، مثل: صفية بنت حيّ اليهودية وجويرية (برة بنت الحارث).. لقد عاد محمد إلى العيش كما يعيش عادةً من هو ذوو نفوذ وسلطان، يعددون الزوجات ويتسرَّوْن، وإن كان ذلك في إطار عقائدي وأخلاقي جديد، لم يقضِ على كل العادات والتقاليد الاجتماعية القديمة ولكنه حافظ على البعض منها مع تقنينها والتخفيف من حدّتها أحياناً. كما أنه نزع إلى العيش على غرار من سبقه من الأنبياء حسب ما جاء في القرآن: (ما كان على النبيّ من حرج فيما فرض الله له من سنّة الله في الذين خلوْا من قبلُ وكان أمرُ الله قدَراً مقدورا). ويشير القرطبي تفسيراً لهذه الآية إلى "أن الله أراد أن يعلم الذين ينتقدون محمّداً على بعض زيجاته أنّ هذا ونحوَه هو السّنن الأقدم في الأنبياء أن ينالوا ما أحلّه لهم. أي سنّ لمحمد التوسعة عليه في النكاح سنّة الأنبياء الماضية كداود وسليمان.
إن الأطروحات الإسلاموية التي تحاول أن توجِد تبريراتٍ "موضوعيةً" لزيجات محمّد المتعددة، تسقط في مواقف لاتاريخية وتخرج بمحمّد من كينونته الاجتماعية ظناً منها أن في ذلك "صيانةً" لنبوّته، فيصبح بذلك السلوك الاجتماعي لمحمّد، الذي يتنزّل في فترةٍ تاريخية محدّدة، قوالب قدسية و"رموزاً" لا صلة لها بسلوك البشر العاديين، بل "أستثناءٌ إلهيّ".
ونحن نعتقد أن هذا الأسلوب يسهّل مهمّة "الخصوم الذاتيين" للعرب والمسلمين ويقف حاجزاً أمام تطوّر الفكر الديني نفسِه الذي يتحوّل إلى فكرٍ مسقَط ومتحجّر، غير خاضع للتطوّر التاريخي.
أما أطروحات بعض المستشرقين التي تريد أن توجِد في زيجات محمد استجابة لعقد نفسية، فإنها لا تختلف في شيء عن الأطروحات سابقة الذكر من زاوية عدم إلمامها بالواقع الاجتماعي الذي عاش فيه محمد بدون مكيّفات ميتافيزيقية وقدسيّة. فلم تأخذ بعين الاعتبار ما كان فيه من تقاليد وعادات بما فيها الزواج ببنات صغيرات السنّ.
وعلى صعيد آخر، ينبغي الإقرار بأن زواج محمّد الأحادي من خديجة كان ضمن له استقراراً كبيراً على المستوى العائلي والنفسي ساعده على عدم تشتيت طاقته وتركيزها على نشاطه الروحي والديني. بينما حياته متعدّدة الزوجات نشأت فيها مشاكل وقضايا جديدة.
إن فارق السنّ بين محمّد وزوجاته علاوة على كثرتهنّ سيكون سبباً لغيرةٍ عميقة: غيرة محمد على نسائه وغيرةُ نساء محمّد من بعضهنّ البعض ومن كل امرأةٍ تقربه. ومن ثم ستتكاثر منازعات الرسول الزوجية. ستطالبه زوجاته بالتسوية بينهنّ وبين عائشة في المعاملة (في الفراش). وقد وصل الأمر بزينب بنت جحش التي أرسلتها زوجات الرسول لمناقشته في الأمر أن سبّت عائشة بحضوره. وتفيد الروايات أيضاً أن محمّداً تأذى من نسائه إلى حدّ أنه اعتزلهنّ. وفي رواية بسند عائشة أن سبب هذا التأذّي رد زينب هدية الرسول لعدم رضاها بنصيبها، فأقسم بهجرهنّ شهراً، فمكث تسعاً وعشرين ليلةً ثم دخل عليهنّ.
وهنالك روايةٌ لابن عبّاس تقول إن الرسول اعتزل نساءه تسعاً وعشرين ليلةً بسبب إفشاء حفصة حديثاً إلى عائشة يخصّ وطء محمّد جاريةً يوم حفصة وفي دارها. وقد طلب منها التكتم على ذلك فلم تفعل. وفي هذا الإطار نزلت آية "التخيير" حسب رواية الزهري بسند عائشة. لقد دعا القرآن نساء محمّد للتخيير بين البقاء معه وبين الطلاق. وحذّرهنّ من ارتكاب الفاحشة لأنّ عقابهنّ في هذه الحالة سيكون مضاعفاً. وفي المقابل وعدهنّ خيراً إن بقين معه: (ي أيها النبيُّ قل لأزواجك إن كنتنّ تردنَ الحياةَ الدنيا وزينتَها فتالين أمتّعكنّ وأسرّحكُنّ سراحاً جميلاً، وإن كنتنّ تردن الله ورسوله والدارَ الآخرةَ فإن الله أعدّ للمحسِناتِ منكنّ أجراً عظيماً، يا نساء النبيِّ مَنْ يأتِ منكنّ بفاحشة مبيّنةٍ يضاعَف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا).
وإلى ذلك كانت نساء محمّد وخاصةً الصغيرات والجميلات منهنّ (عائشة، أم سلمة، زينب بنت جحش، جويريّة، صفيّة بنت حيّ) عرضةً للإزعاج كلما خرجنَ إلى المدينة. وكان خصوم محمّد يثيرون حولهنّ الإشاعات ويتحرّشن بهنّ. (عن ابن سعد)
وقد وصل الأمر في فترةٍ لاحقة إلى التشكيك في سيرة بعضهنّ خصوصاً عائشة التي اتُهِمت بالزنا بعد غزوة "بني المصطلق". أرّق كل ذلك محمداً وخصوصاً قضيّة عائشة التي كادت أن تؤدي إلى مواجهة بين القبائل في المدينة. ولم ينفرج الأمر إلا بتدخّل السماء التي برّأت عائشة. (سورة النور؛ 24/11 وما بعدها).
لقد واجه محمّد على المستوى الشخصي العائلي مشاكلَ كثيرةً بعد موت خديجة. وهي مشاكل اجتماعية طبيعية في ظل زواجٍ تعدّدي. إن صفته كنبيّ ورسول وما كانت تضفي عليه من هالةٍ قدسية لم توفّر عليه تلك المشاكل لأن الاجتماعي، الحيّ، الملموس، يبقى في الحقيقة أقوى من كل قالب ديني. لقد وصل الأمر بعائشة أن قالت له: "..ما أرى ربَّك إلا يسارع في هواك.." (عن البخاري) عندما نزلت "تُرجي من تشاء منهنّ"، تشرّع له العلاقة بمن يريد (زواجه من زينب بنت جحش)، وبعد أن كانت عائشة عبّرت عن ضيقها وتعجّبها من اللاتي يعرضن أنفسهنّ دون حياء على "رجل" (تقصد الرسول). وقد كانت كل المشاكل التي اعترضت محمداً في حياته العائلية سبباً في بعض الأحيان لنزول آياتٍ سيكون لها الأثر العميق على وضع النساء المسلمات. سيستغلها الفقهاء والحكّام لإنزال المرأة إلى الدرك الأسفل، ونعني هنا خصوصاً آية "الحجاب" الذي تحوّل إلى "حجبٍ" للمرأة حتى عن الشمس والهواء والحياة.
وإننا لنتساءل هنا، رغم ما في السؤال من مجازفة، كيف كانت ستكون الأمور لو عاشت خديجة؟ إننا نعرف أن الآيات المنظّمة للحياة الاجتماعية كانت لها أسبابُها، أي إنها جاءت رداً على وقائع اجتماعية تقدم لها أجوبة، وتقنّن السلوك الواجب اتباعه. فلو عاشت خديجة، هل كان محمّد سيعدّد زوجاته بحكم موقعه الجديد: النبي والرسول ورئيس الدولة ذو النفوذ الكبير؟ هل كان سيحرّره هذا الوضع من الوزن المعنوي لخديجة؟ أم إنه كان سيظل أُحادي الزواج؟ وفي هذه الحالة بأي وجهٍ كانت ستظهر بعض التشريعات؟ (112)
إن هذه الحياة الجديدة لمحمد بمشاكلها واضطراباتها لم تُنسِه، في حقيقة الأمر خديجة. وكأننا بها بقيت بالنسبة إليه رمزاً شامخاً لتلك الحياة العائلية الهادئة والمستقرة التي قضاها معها والتي لم تكن تتقاذفها الغيرة ولا محاسبة الضرائر و"مؤامراتُهنّ". كان محمد في أكثر من مناسبة يدعو خديجة. ومن أهم ما ذكر من أحديث حول خديجة تعكس علاقة محمد بها ما روته عائشة إذ قالت: "كان رسول الله لا يكاد يخرج من البيت حتى يذكر خديجة فيحسن عليها الثناء. فذكرها يوماً من الأيام فأدركتني الغيرة. فقلت: هل كانت إلا عجوزاً لقد أخلف الله لك خيراً منها؟ فغضب حتى اهتمز مقدم شعره من الغضب، ثم قال: لا والله ما أخلف اللهُ لي خيراً منها. لقد آمنت بي إذ كفر الناس، وصدّقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني أولادَها إذ حرمني أولاد النساء. قالت: فقلت بيني وبين نفسي لا أذكرها بسوء أبداً".
.. إذا ما أردنا أن نبحث عن أسباب التمييز الذي حظيت به خديجة وخصوصاً عن العلاقة الممكنة بينها وبين مريم، فقد تكون برأينا في أوجه الشبه القائمة بين المرأتين. فمريم "الطاهرة" اصطفاها الله حسب القرآن لتأتي بنبيّ، وخديجة "الطاهرة"، كما كان يقول عنها العرب "في الجاهلية" وكما لُقّب بها بنو بنتها هند: "بنو الطاهرة"، اصطفاها الله حسب القرآن أيضاً لتكون زوجةً لمحمّد، تعوّض له عن يتمه وفقره وتشدّ أزرَه في الرسالة. وبعبارةٍ أخرى، فكأننا بخديجة أتت روحياً بالنبيّ، فكانت ولاّدةَ محمد النبي التي اصطفاها الله لتكون كذلك. الولاّدة هنا بالمعنى الروحي واليس بالمعنى الحسّي. ومن هذه الزاوية فحتى ولادة عيسى، التي لم تكن عادية، يغلب عليها الجانب الروحي القدسي. فكأننا بها ولادةً روحية قدسية أكثر منها ولادةً مادية. (114)
عن عائشة أن خديجة سألت النبي عن ورقة بن نوفل، فقال: "قد رأيته فرأيت عليه ثياباً بيضاً فأحسبه لو كان من أهل النار لم يكن عليه ثياب بيض"
ومن الملاحظ أن مآل ورقة الحنيف الذي لم يسلم وإن كان عبّر عن كونه سيدافع عن محمد لو أدرك نبوّته، أفضل من مآل أبي طالب، عمّ الرسول، رغم ما بذله من جه دوتضحيات في سبيل محمد حتى يحميه من أذى قريش. فكونه مات وهو على "دين آبائه"، جعل من مقامه يوم القيامة جهنّم: "نعم، ومن مات على ما مات عليه عبد المطلب دخل النار". قال محمد ذلك في حديث رُفِع إليه رداً على عمه أبي لهب الذي جاء يسأله إن كان مصير أبي طالب النار أم الجنة. (115)
إننا لا نجد ذكراً مباشراً لخديجة في القرآن. لقد أشير إليها فقط بصفةٍ غير مباشرة في الآية (ووجدك عائلاً فأغنى)، شأنها شأن عبد المطلب وأبي طالب المشار إليهما في الآية (ألم يجدك يتيماً فآوى). وكما هو واضح في كلتا الحالتين، فإن عملية الإغناء والإيواء تمت برعاية "الله"، إذ إنه هو الفاعل. كما أننا لا نجد ذكراً لخديجة في أسباب نزول بعض الآيات. ومن المعلوم أن عائشة وزينب الزوجتين اللاحقتين لمحمد ذُكِرتا في القرآن ولو دون تسميتهما. كما أن زوجته الأخرى، أم سلمة، ذكرها المفسرون في تطرقهم إلى أسباب نزول بعض الآيات. وقد كنّ ثلاثتهنّ يفتخرن بهذه الحظوة الإلهية. لكننا لا نعتقد أن في ذلك امتيازاً لهنّ على خديجة. فذكر عائشة جاء بمناسبة "حديث الإفك" الذي خلق مشكلة في صلب المسلمين، وأزّم محمداً أيما تأزيم، لأنه شعر بخدش في كرامته وفي شرف أقرب المقرّبين إلى قلبه ومسّ بأصدق أصدقائه أبي بكر، والد عائشة. فنزل الوحي ليعيد الاعتبار لهؤلاء جميعاً.
أما ما نزل في زينب بنت جحش فقد كان على أثر تململ شمل الصحابة أنفسهم بسبب زواج محمد بها. والحال أنها كانت زوجة ابنه بالتبني زيد بن حارثة، وهو ما كان محرّماً في "الجاهلية". فأحلّ القرآن ذلك الزواج وحرّم التبنّي: (وما جعل أدعياءكم أبناءكم). أما أم سلمة فيروى أنها سألت محمداً لماذا يتوجه القرآن للرجال فقط؟ فنزلت السورة اللاحقة لهذا الحديث مخاطبةً الذكور والإناث. (سورة الأحزاب) (116)
.. إن محمداً الأب، الذي كان يحبّ فاطمة حباً استثنائياً ولا يريد أن يكدّرها شيء كتقاسم زوجها مع امرأةٍ أخرى مثلاً، أعلن من فوق المنبر حسب حديث رُفِع إليه: "ألا إن بني هشام بن المغيرة استأذنوني أن يُنكِحوا ابنتهم عليّاً. ألا وإني لا آذن، ثم لا آذن، ثم لا آذن. إنما فاطمة بضعةٌ مني، يريبني ما رابها". ولا شك أن ما راب محمداً الأب وفاطمة البنت قد راب غيرَه من الآباء وغيرها منالبنات، ولنها العادات والتقاليد التي كان يتكوّن منها الوعي الاجتماعي في ذلك العصر، والتي لئن شعر المرء بوطأتها إذا مسّته مباشرةً، انسجم معها إذا كان المستفيدَ منها. (118)
عندما اشتكت امرأة لمحمد أن زوجها الصحابي ضربها، كان محمد على استعداد لتسليط العقاب عليه وفقاً لمبدأ القصاص. لكن الصحابة سيتململون وسيتدخّل عمر لكي ينبّه محمداً إلى خطورة موقفه على المجموعة. وقتها تنزل الآية لتشرّع ضرب الرجال للنساء. فينفجر المكبوت لدى الرجال ويتعرّض في الليلة ذاتها عدد كبير منهنّ للضرب، فتتظاهر في الغد العشرات منهن أمام منزل محمد.
تذكر الروايات أن محمداً قال للمرأة المتضرّرة: "أردتُ شيئاً وأراد الله شيئاً آخر". أراد محمدٌ شيئاً يتماشى مع نزعته إلى المساواة التي وعد بها الناس، وأراد المجتمع الذي يسوسه شيئاً آخر يتماشى مع البنى الاجتماعية والتقاليد السائدة ومع الحالة التي تعوّدت المرأة أن تكون عليها، أي خاضعةً للرجل. وقد كان ضرب المرأة ممارسةً شائعةً في الجاهلية كوجه من أوجه ذلك الخضوع. فجاء القرآن ليقنّن السائد ويسمح للزوج بتأديب زوجته إذا خاف نشوزها. أما في حالة نشوز الزوج، فالحلّ في الصلح بينهما دون عنفٍ أو ضغط! (119)
إن ما أُهمِل في شخصية خديجة هو بالذات تكوينها الروحي ـ المعتقدي؛ فهي تبدو لنا على استعداد لتقبّل دين توحيدي يتجاوز وثنية قريش. وما من شك في أن المحيط الذي عاشت فيه، ومن ضمنه ورقة بن نوفل، كان له تأثيرٌ في ذلك.
إن امتهان خديجة للتجارة لهُوَ من العناصر التي كان لها دورٌ في تكوين شخصيتها. فقد فتح عقلها، ووصلها بالمجتمع، ودرّبها على المعاملات ومعرفة الناس، ومكّنها من الاطلاع على أخبار العرب، علاوةً على ما وفّره لها من استقلالية مادية وقدرةٍ على اتخاذ القرار في ما يخص حياتها الشخصية.
خديجة صاحبة هذه الشخصية هي التي ستقرر وحدَها الزواج بمحمد الذي يصغرها سناً واليتيم الفقير. وهي التي ـ خلافاً لكل العادات والتقاليد السائدة في قريش ـ ستعرض عليه هذا الزواج.
ولا نعتقد أن علاقتها به طوال الفترة التي سبقت البعث كانت تقف عند حدود العلاقات العائلية البحتة. إننا نتصوّرها حبلى بالأحاديث والحوارات حول واقع قريش (وربما العرب) الروحي والمعتقدي والأخلاقي والاجتماعي، وربما استخلصا منها حاجته إلى ثورة دينية تكنّس ما كانا يريانه "باطلاً".
 إن ردّ فعل خديجة على أول تباشير البعث ليس فيه أيُّ لبس، إذ أكدت لمحمّد أن وقت النبوّة قد جاء وأن ليس عليه أن يشكّ في ذلك، وأخذته إلى ورقة ـ "المرجع" ـ ليعيد على مسامعه القول نفسه. ومن تلك اللحظة وخديجة لم يداخلها أيّ شكٍ في ما جاء محمداً وفيما ينبغي أن يقوم به؛ كانت تقابل تردّده وإحباطَه وانهياره أحياناً، سواءٌ بسبب الخوف من عبْء الرسالة أو الضغوط والمظالم المسلّطة عليه من قبل قومه، بصلابةٍ روحيّة وعقلية كبيرة؛ كانت تمتاز ببعد نظر، فلا تخفي يقينها بأنه سينتصر، لذلك كانت تدعوه إلى الثبات والمثابرة.
وستبرز هذه الروح لدى خديجة يوم الجهر بالدعوة بعد ثلاث سنوات من السرّية: خديجة، الشخصية الوقورة، تخرج ـ حسب الروايات ـ إلى الكعبة وتصلي أمام الملأ وراء محمد وعليّ. وحينما تتخذ قريش قرار الحصار ضد بني هاشم وبني المطّلب، ستكون خديجة الأسدية من بين أوائل المغادرين، تاركين مكة في اتجاه الشعاب. وهناك لن تدّخر جهداً لإيجاد الحلول لإطعام المحاصرين، مسلمين ووثنيّين، الذين تجمعهم الحميّة القبلية.
ولما توفّيت خديجة وفارقت محمداً، فإنما تركت الإسلام وهو في عامه العاشر، وقد بدأ عوده يصلب، وكان من الصعب أن تعود الأمور إلى الوراء. فكانت قد خاضت مع محمّد برباطة جأش كبيرة مرحلة التأسيس العقائدي للإسلام، وهي مرحلة حاسمة: التوحيد، مكارم الأخلاق، البعث والحساب، أي القواعد الأساسية للعقيدة الإسلامية التي ستنبني عليها قيم الدولة الجديدة والتنظيم الاجتماعي الجديد.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق