الثلاثاء، 20 نوفمبر 2018

نصوص مقتبسة. (كارل بوبر)


المجتمع المفتوح وأعداؤه

(نصوص مقتبسة من كتاب كارل بوبر "المجتمع المفتوح وأعداؤه"، الجزء الثاني)


"أرسطو.. لم يسهم مباشرةٌ في التاريخانية.
..
ورغم ذلك، من الواضح هنا أن نظريته في التغيُّر تُعِيرُ نفسَها للتفاسير التاريخانية، وتتضمن كل العناصر اللازمة لتشييد فلسفة تاريخانية فخمة البناء. (ولم يستغل فيلسوفٌ تلك الفرصةَ بشكل كامل قبل مجيء هيغل)" (ص 26)

يمكن تلخيص تطوّر الفكر منذ أرسطو بالقول إن كل مجال معرفي ما دام يستخدم المنهج  الأرسطي في التعريف، سيظل أسير حالة من الإطناب الفارغ والمدرسيّة الجوفاء، ويتوقف تحقيق أيِّ تقدم في أيّ علمٍ على درجة تخلّصه من المنهج الجوهراني. (29)
مما لا شك فيه أن أرسطو كان على حقٍ عندما أصرَّ على وجوب ألا نحاول إثبات "كل" معرفتنا أو البرهنة عليها. فكل دليل لا بدّ أن ينبثق عن مقدمات منطقية. ولذا، فالدليل بحد ذاته ـ أي الاشتقاق من مقدمات منطقية ـ لا يمكنه الفصل في صدق أيِّ استدلال فصلاً نهائياً، ولكنه لا يبيّن سوى أن الاستنتاج كي يكون صحيحاً لا بدّ أن تعطيه مقدماتٌ منطقيةٌ صحيحة. ولو طالبنا بضرورة البرهنة على المقدمات المنطقية أيضاً فستتزحزح مسألة الصحة [الصدق] إلى الوراء عن طريق خطوةٍ أخرى إلى مجموعةٍ جديدة من المقدمات المنطقية، وهكذا، إلى ما لا نهاية. وكان من أجل تجنب ذلك التراجع اللانهائي (كما يقول المناطِقة) إنْ قال أرسطو بضرورة افتراض وجود مقدماتٍ منطقية لا شك في صحتها ولا تحتاج إلى أيّ دليل؛ وهي ما يسميها "المقدمات المنطقية الأساسية" [فرضيات أساسية]. فإذا سلّمنا جدلاً بمناهجِ استمداد الاستدلالات من تلك المقدمات المنطقية الأساسية، فعندئذٍ يمكننا القول ـ طبقاً لأرسطو ـ بأن كل المعرفة العلمية متضمّنة في المقدمات المنطقية الأساسية، وبأننا سنمتلك المعرفة كلها لو تمكنّا من الحصول على قائمةٍ موسوعية بالمقدمات المنطقية الأساسية. لكن كيف نحصل على تلك المقدمات المنطقية الأساسية؟. اعتقد أرسطو ـ كما اعتقد أفلاطون ـ أنه يمكننا اكتساب كل المعارف عن طريق إدراك حدسي بجواهر الأشياء. يقول أرسطو: "يمكننا معرفة الشيء لو عرفنا جوهره فحسب، فمعرفة الشيء هي معرفة جوهره". وطبقاً له، ليست "المقدمة المنطقية الأساسية" سوى عبارةٍ خبرية تصف جوهر الشيء. وتلك العبارة يسميها أرسطو تعريفاً. وهكذا فكل "المقدمات المنطقية الأساسية للأدلة" هي تعريفات.
على أيّ نحوٍ يكون التعريف؟. "الجرو"، وهي تسمّى الحد المعرَّف؛ أما الكلمات "كلبٌ صغير السن" فتسمى صيغة التعريف. في العادة تكون صيغة التعريف أطول وأعقد من الحد المعرَّف، وأحياناً تطول كثيراً جداً. ويعتبر أرسطو الحد المعرَّف اسماً لجوهر الشيء، أما صيغة التعريف فهي وصف ذلك الجوهر. وهو يصرّ على أن صيغة التعريف لا بد أن تعطي وصفاً شاملاً للجوهر أو لخصائص الشيء الجوهرية محلّ البحث؛ ولذا فرغم صحة عبارةٍ كـ"الجرو لديه أربعة أرجل" فهي ليست تعريفاً كافياً، ما دامت لا تتضمن قماشة [خام] جوهرية الجروية، فهي تصدق على الحصان أيضاً. وبالمثل، رغم أن العبارة "الجرو بنيّ اللون" تصدق على بعض الجراء فلا تصدق على كل الجراء؛ لأنها تصف ما ليس جوهرياً بل خاصة عارِضة من خواص الحد المعرَّف.
لكن المسألة الأصعب هي كيف يمكننا الحصول على التعريفات أو المقدمات المنطقية الأساسية، وتأكّدُنا من صحتها، أي: لم ينكن مخطئين، ولم نمسك بالجوهر الغلط. مع أن أرسطو ليس واضحاً بهذا الشأن، فثمة قدر ضئيل من الشك في اقتفائه خطى أفلاطون بصفةٍ عامة. يقول أفلاطون إنه يمكننا إدراك الأفكار [المثل] بمعونة حدسٍ عقلي غير خاطئ؛ بمعنى أننا نتصور [نتخيل] [المثل أو الأفكار] أو ننظر إليها بـ "عين العقل"، وهي عملية يعتقد أفلاطون أنهامماثلة لفعل النظر، ولكنها تعتمد اعتماداً كلياً على عقلنا فتستبعد أيَّ عنصر يعتمد على حواسنا. أما وجهة نظر أرسطو فأقل جذرية وأقل إلهاماً من وجهة نظر أفلاطون، ولكنها ترقى إليها في نهاية المطاف. فرغم قوله بأننا لا نصل إلى التعريف إلا بعد قيامنا بملاحظات عديدة، يعترف بأن الخبرة الحسية لا تدرِك بحد ذاتها الجوهر الكلي، ولذ لا يمكنها تحديد تعريفٍ كامل. وفي النهاية يفترض أرسطو سلفاً ـ بكل بساطة ـ أننا نحوز حدساً عقلياً، بمعنى: مَلَكة ذهنية أو عقلية تمكننا من إدراك جواهر الأشياء ومعرفتها دون الوقوع في خطأ. والأكثر من هذا، يفترض أننا لو عرفنا جوهراً ما معرفةً حدسيةً فلا بد أن نكون قادرين على وصفه ومن ثَمّ تعريفه. (إن حججه في "التحليلات الثانية" لصالح تلك النظرية ضعيفةٌ بشكلٍ مدهش. فهي لا تتألف إلا من الإشارة إلى أن معرفتنا بالمقدمات المنطقية الأساسية لا يمكن البرهنة عليها ما دامت ستقودنا البرهنة إلى تراجع لانهائي، وأن المقدمات المنطقية الأساسية لا بدّ أن تكون صحيحة ويقينية كالاستدلالات المؤسَّسة عليها. يقول أرسطو: "وينتج عن ذلك عدم وجود معرفة برهانية في المقدمات المنطقية الأولية. وبما أنه لا شيء سوى الحدس العقلي أصح من المعرفة البرهانية، فيترتب على ذلك وجوباً أن الحدس العقلي هو الذي يدرك المقدمات المنطقية الأساسية". في كتابه "النفس"، وفي الجزء اللاهوتي من كتابه "الميتافيزيقا"، نجد أزيد من حجة؛ لأن لدينا هنا "نظرية" حدس عقلي يرتبط بموضوعه، الجوهر، بل يصبح وإياه شيئاً واحداً. "المعرفة الفعلية [الواقعية] متطابقة مع موضوعها").
ويتلخيص هذا التحليل الموجز يمكننا ـ في م أعتقد ـ إعطاء وصفٍ معقول [منصف] للمثل الأعلى الأرسطي الخاص بالمعرفة الكاملة والتامة لو قلنا إنه يرى الهدف الأخير من كل بحث هو جمع تصنيفي موسوعي يتضمن التعريفات الحدسية لكل الجواهر، أي أسماءها المقترنه بصيغها التعريفية؛ ويعتبر أن تقدم المعرفة يتألف من تراكم تدريجي في موسوعة من هذا القبيل، ومن توسيعها وملء الثغرات فيها، ومن الاشتقاق القائم على القياس المنطقي لـ "متن الحقائق الكامل" الذي يشكل المعرفة البرهانية. وما من شك في تناقض تلك الرؤى ووجهات النظر الجوهرانية تناقضاً كاملاً مع مناهج العلم الحديث. (ويدور في ذهني العلوم التجريبية، وليس منها ربما الرياضيات البحتة). أولاً، في العلم نبذل قصارى جهدنا للعثور على الحقييقة، ونحن على وعيٍ بأننا غير متأكدين مما إذا كنا حصلنا عليها أم لا. لقد تعلَّمنا في الماضي، من خيبات أملٍ عديدة، أننا يجب ألا نتوقع حالةً نهائيةً ثابتة [غائية]. وقد تعلمنا ألا تصيبنا خيبة أملٍ بعد الآن ما دامت نظرياتنا العلمية يتم إسقاطها [الإطاحة بها]. ففي معظم الحالات، وبثقة كبيرة، يمكننا تحديد أي النظريتين هي النظرية الأفضل. ولذا بوسعنا معرفة أننا نحرز تقدماً؛ تلك هي المعرفة التي تعوّضُنا عن فقدان وهم الغائية أو اليقين. وبكلمان أخرى، "نعرف أن نظرياتنا العلمية يجب أن تظلَّ فرضياتٍ دوماً، وأنه بوسعنا في حالات عديدةٍ مهمة اكتشاف ما إذا كانت فرضيةٌ جديدةٌ أفضل من فرضيةٍ قديمة. فلو اختلفت الفرضيات فستؤدي إلى توقعات مختلفة، يمكن اختبارها تجريبياً في كثيرٍ من الأحيان. وعلى أساس تجربةٍ حاسمة من هذا القبيل، بوسعنا أحياناً اكتشاف أن النظرية الجديدة تؤدي إلى نتائج مُرضِية فتنهار النظرية القديمة. ومن ثّمّ، يمكننا القول بأنه أثناء بحثنا عن الحقيقة، نستبدل باليقين العلمي التقدمَ العلمي. (صص 30، 33)
هامش: حين نقول عبارةً من قَبِيل "نستبدل باليقين العلمي التقدمَ العلمي"؛ فهذا معناه أن الشيء المتروك هو الوارد بعد حرف الباء مباشرةً، وليس العكس. بمعنى أنه يشيع التركيب "نستبدل اليقين العلمي بالتقدم العلمي" ظناً أن المروك هو الذي لا يلتصق به حرف الباء، وهذا خطأ تركيبي شائع بتأثير من التركيب الإنجليزي. (حسام نايل)


يختلف دور التعريفات، لا سيما في العلم، اختلافاً كبيراً عمّا كان يعتقده أرسطو. قال أرسطو إنه في التعريف نشير أولاً إلى الجوهر ـ عن طريق تسميته ـ ومن ثَمَّ نصفه بمعونة الصيغة المعرِّفة، كما هو الحال في عبارة عادية مثل "هذا لاجرو بُنّي اللون"؛ فنحن نشير أولاً إلى شيءٍ محدد بقولنا "هذا الجرو"، ثم نصفه بأنه "بُنّي". ويقول إنه عن طريق وصف الجوهر الذي يشير إليه الحدُّ المعَرَّف، نحدد "معنى" الحدّ أو نشرحه أيضاً. وعليه، يجيب التعريفُ في آنٍ معاً عن سؤالين مترابطين غاية الترابط. السؤال الأول: "ما هو؟"، مثلاً: "ما هذا الجرو؟"؛ فهو يتساءل عما يكونه الجوهر المشار إليه في الحدِّ المعرَّف. أما السؤال الثاني: "ماذا يعني هذا؟"، مثلاً: "ماذا تعني كلمة "جرو"؟"، فيتساءل عن معنى الحدّ [الكلمة] (على وجه التحديد، معنى الكلمة التي تشير إلى الجوهر). في السياق الحالي، ليس من الضروري التمييز بين هذين السؤالين؛ بل المهم ؤؤية ما ينطويان عليه من قواسمَ مشتركة. وإني لأريد لفت الانتباه ـ على الأخص ـ إلى أن كلا السؤالين يثيرهما الحدّ الذي يقف في عبارة التعريف على الجانب الأيس، وتجيب عنهما الصيغة المعرِّفة التي تقف على الجانب الأيمن. وتلك خصيصة تميّز الرؤية الجوهرانية التي تختلف جذرياً عن المنهج العلمي المتبع في صياغة التعريفات.
فبينما يمكننا القول بأن التفسير الجوهراني يقرأ التعريف قراءةً "عادية"، أي من "اليسار إلى اليمين"، يمكننا القول بأن التعريف كما يُستخدَم عادةً في العلم الحديث يجب أن يُقرأ من الخلف إلى الأمام أو من اليمين إلى اليسار؛ نظراً إلى أنه يبدأ بالصيغة المعرِّفة ويطلب وصفاً قصيراً له. ومن ثَمّ، فالرؤية العلمية للتعريف ـ "الجرو كلبٌ صغير السن" ـ ستكون أنه إجابة عن السؤال "ما الذي ينبغي أن نسميه كلباً صغير السن؟" وليس إجابةً عن السؤال "ما الجرو؟". (فالأسئلة من قبيل "ما الحياة؟"، أو "ما الجاذبية؟"، لا تقوم بأيّ دور في العلم). الاستخدام العلمي للتعريفات، الذي يتميز بالبدء "من اليمين إلى اليسار" يسمّى تفسيراً "إسمياً"، في مقابل التفسير الأرسطي أو "الجوهران". في العلم الحديث، التعريفات الإسمية وحدها تحدث، أي: رموز أو أوصاف مختزَلة تعطي خلاصة قصيرة. وعلى الفور نفهم من ذلك أن التعريفات "لا" تقوم بأي دورٍ مهم في العلم. وبطبيعة الحال، تحل دوماً محلّ الرموز المختزَلة تعابيرُ أطول؛ أي: الصيغة المعرِّفة التي ترمز إليها الرموز. وهذا من شأنه في بعض الحالات جعْل لغتنا العلمية عبئاً معرقِلاً؛ وهو ما يعني إضاعة الوقت والورق والحبر. لكن، ينبغي ألا نفقد أقل تفصيلة من تفصيلات المعلوما عن الوقائع. فـ"معرفتُنا العلمية"، بالمعنى الذي يمكن به استخدام هذا المصطلح استخداماً ملائماً صحيحاً، لن تتأثر بالمرّة لو ألغينا كل التعريفات؛ والأثر الوحيد الوارد يتعلق بلغتنا التي لن تفقد الدقة بل مجرد الإيجاء. (يجب ألا يُفهَم من ذلك عدم وجود ضرورة علمية ماسّة لتقديم تعريفات في العلم، تحرّياً للإيجاز). لا يوجد تباين أكبر من التباين بين تلك الرؤية للدور الذي تقوم به التعريفات ورؤية أرسطو. فالتعريفات الجوهرانية عند أرسطو هي المبادئ التي تُستمدّ منها كل معرفتنا، ومن ثَمّ تتضمن كل معرفتنا، وهي تعمل على استبدال صيغةٍ طويلة بصيغةٍ قصيرة. وعلى النقيض من هذا، لا تتضمن التعريفات العلمية أو الإسمية أية معرفة مهما كانت، ولا حتى أيَّ "رأي"؛ فهي لا تقدم سوى عناوين مختزَلة اعتباطية جديدة، إنها خلاصة قَول.
وتلك العناوين ذات فائدة كبرى في الممارسة. ومن أجل إدراك هذا، لا نحتاج سوى إلى النظر في الصعوبات الشديدة التي ستنشأ لو أن عالِماً في علم الجراثيم كلما تحدث عن سلالة من الجراثيم وجَب عليه تكرار بياناتها [وصفها] بالكامل (بما في ذلك طرائقها الصّبغية إلخ، التي تميّزها عن أنواعٍ أخلى مماثلة). ونفهم أيضاً ـ لاعتبار مماثل ـ لماذا يذهب طيّ النسيان في كثير من الأحيان، حتى من قِبل العلماء أنفسِهم، وجوب قراءة التعريفات العلمية "من اليمين إلى اليسار"، كما شرحنا أعلاه. بالنسبة إلى معظم الناس، عند الدراسة الأولى لعلمٍ ما، وليكن علم الجراثيم، لا بدّ من محاولة إيجاد معاني كل المصطلحات التقنية الجديدة التي سيقابلها الدارِس. بهذه الطريقة، سيتعلم الدارس في واقع الحال التعريف "من اليسار إلى اليمين"، كما لو أنه تعريف جوهراني، مستبدلين بالقصة القصيرة جداً قصةً طويلةً حداً. لكن ذلك مجرد مصادفة سيكولوجية؛ فالمعلِّم أو كاتبُ نصٍ في كتاب يتصرف بطريقة مختلفة تماماً؛ أي لا يقدّم مصطلحاً تقنياً إلا بعد ظهور حاجةٍ ملحّة إليه.
حتى الآن حاولت إيضاح الاختلاف الكامل بين الاستخدام العلمي أو الإسمي للتعريفات وبين النهج الجوهراني في التعريفات عند أرسطو. ومن الواضح أيضاً أن الرؤية الجوهرانية في التعريفات لا يمكن الدفاع عنها في حد ذاتها، بكل بساطة. وكيلا نطيل في هذا الاستطراد أكثر مما يجب سأنتقد اثنين فحسب من المذاهب الجوهرانية لهما مغزى وأهمية؛ لأن بعض المدارس الحديثة الفاعلة لا تزال تستند إليهما. الأول هو المذهب الباطني في الحدس العقلي، والثاني مذهب عاميّ جداً [شعبي جداً] يقول بأنه "علينا تحديد كلماتنا" لو أردنا الدقة. (صص 35، 37)

[حدس الماهيات، لا هو بالعلم ولا هو بالفلسفة]
يتفق أرسطو مع أفلاطون في أننا نحوز مَلَكَةً أو حدساً عقلياً يمكّننا من تصوّر الجواهر وإيجاد التعريف الصحيح لها، ويعتنق العديد من فلاسفة الجوهر المحدثين هذا المذهب. وثمة فلاسفةٌ آخرون من أتباع كانط يزعمون أننا لا نحوز أيَّ شيءٍ من هذا القبيل. وأرى أنه بوسعنا ـ وبسهولة ـ الاعتراف بامتلاكنا ما يوصف بأنه "حدسٌ عقليٌّ"، أو بتعبير أدق: بعض خبراتنا العقلية أو الفكرية توصَف بأنها حدوسٌ عقلية. مَن "يفهم" فكرةً أو وجهة نظر أو طريقةً في الحساب ـ مثلاً عملية الضرب الحسابي ـ بمعنى أن لديه "ألفة استعمال"، يفهم هذا الأمر حدسياً، وثمة عدد لا يُحصى من التجارب العقلية على هذه الشاكلة. ولكني من جهةٍ أخرى، أصرُّ على أن تلك التجارب ـ وهي مهمة بالنسبة إلى جهودنا العلمية ـ لا تقوم بدورٍ في إثبات صدق [صحة] أية فكرةٍ أو نظرية؛ ومع ذلك فقد يشعر شخصٌ شعوراً حدسياً قوياً بأنها صحيحة أو أنها "بديهية". إن حدوساً من هذا القبيل لا تُكوّن حجّة، مع أنها تدفعنا إلى البحث عن الحجج. وعند شخصٍ آخر قد يوجد حدسٌ قويٌّ وصائب بأن النظرية نفسها غير صحيحة أو زائفة. إن طريق العلم مرصوفٌ بنظرياتٍ مهجورة كان يقال إنها بديهية؛ فمثلاً كان فرنسيس بيكون (1561ـ 1626) يتهكم ممن أنكروا الحقيقة البديهية القائلة بأن الشمس والنجوم تدور حول الأرض التي كان من الواضح أنها لا تتحرك. لا ريب في قيام الحدس بدورٍ كبيرٍ في حياة العالِم، كالدور الذي يقوم به في حياة الشاعر. فهو يؤدي به إلى اكتشافات، وقد يؤدي به إلى إخفاقاتٍ أيضاً. ولكن يظل الحدس دوماً شأناً خاصاً بالمرء، إن جاز القول. فالعلم لا يَسأل عن الطريقة التي توصّل بها المرء إلى أفكاره، ولا يلقي بالاً سوى إلى الحجج التي يمكن لكل أحدٍ اختبارُها. وقد وصف عالِم الرياضيات العظيم غوسّ Gauss هذا الموقف وصفاً جدّ دقيق حين هتف ذات مرة: "لقد حصلتُ على فكرتي، ولكني لا أعرف كيف توصلت إليها". وبطبيعة الحال، ينطبق ذلك كلّه على مذهب أرسطو في الحدس العقلي بما يُسمّى الجواهر، الذي روّج له هيغل، ثم في زمننا روّجه هوسرل وتلامذته الكُثُر؛ وهو ما يشير إلى أن نهج "الحدس العقلي بالجواهر" أو "الفينومينولوجيا المحضة" كما يسميه هوسرل، ليس علماً، كلا، ولا فلسفة. (فالسؤال الذي كان محل جدلٍ كثير بخصوص ما إذا كان هذا المنهج اختراعاً جديداً، كما يعتقد أصحاب الفينومينولوجيا المحضة، أم ربما بلورة للديكارتية أو الهيغلية، يمكن الفصل فيه بسهولة: إنه بلوةٌ للأرسطية). (صص 38، 39)

هيغل ـ مصدر كل التاريخانية المعاصرة ـ كان تابعاً مباشراً لهيراقليطس وأفلاطون وأرسطو. ولقد أنجز الأشياء الأكثر إعجازاً. فهو منطقيٌّ بارع، من ألعاب الطفولة بالنسبة إلى مناهجه الجدلية القويّة رسمُ أرانب ماديةٍ حقيقية تخرج من قبّعات حرير ميتافيزيقية محضة. فهكذا، بدءاً من محاورة "ثيماوس" لأفلاطون وباطنيتها العددية، نجح هيغل في "إثبات" وجوب حركة الكواكب طبقاً لقوانين كبلر، عن طريق مناهج فلسفية بحتة (بعد 114 عاماً من "مبادئ" نيوتن). ثم توصّل إلى استنباط موقع الكواكب الحقيقي، فأثبت عدم وجود كوكب بين المريخ والمشتري (ولسوء حظه، فات عليه أن هذا الكوكب اكتُشِف وجودُه قبل بضعة أشهرٍ من استنباطه). وكذلك أثبت أن جاذبية الحديد تعني زيادة وزنه، وأن نظريات نيوتن عن القصور الذاتي [العطالة] والجاذبية تتناقض إحداها مع الأخرى (وطبعاً لم يكن بمقدوره التنبؤ بأن أينشتاين سيبيّن التطابق بين الكتلة العاطلة والجاذبة)، وثمة أمورٌ أخرى عديدة على هذه الشاكلة. ومما يبعث على الدهشة أن منهجاً فلسفياً قوياً من هذا القبيل ـ حُمِلَ على محمل الجِدّ ـ لا يمكن تفسيره جزئياً إلا بتخلّف العلوم الطبيعية في ألمانيا تلك الأيام. فالحقيقة ـ في ما أعتقد ـ هي أن رجالاً جادين من أمثال شوبنهور لم يحملوا منهج هيغل منذ البداية على محمل الجِدّ، كلا ولا العلماء ـ من أمثال اديموقريطس ـ "الذين يفضلون اكتشاف قانون سببيّ واحد على الفوز بمُلك فارس".
..
كان نجاح هيغل بداية "عصر التضليل" (على ما يصف شوبنهاور فترة المثالية الألمانية) و"عصر انعدام المسؤولية" (على ما يصف هايدن عصر الكليّانية الحديثة)؛ أولاً انعدام المسؤولية الفكرية ثم انعدام المسؤولية الأخلاقية، في عصر جديد يحكمه سحر الكلمات الرنّانة وسلطة الرطانة.
(55)
إن تأثير هيغل ظل القوّة الأقوى، رغم أن العلماء لم يحملوه أبداً على محمل الجِدّ وأن العديد من الفلاسفة (بغضّ النظر عن "التطوريين") بدأوا يفقدون الاهتمام به. بيد أن تأثير هيغل، ولا سيما رطانتُه، لا يزال قوياً جداً في الفلسفة الأخلاقية والاجتماعية وفي العلوم الاجتماعية والسياسية (مع استثناء وحيد هو الاقتصاد)، لا سيما وأن فلاسفة التاريخ والسياسة والتعليم لا يزالون يقعون تحت تأثيره بدرجة جدّ كبيرة. ويتضح ذلك في السياسة بشكلٍ أكثر صرامة؛ فالجناح الماركسي المتطرّف اليساري، وكذلك الوسط المحافظ واليمين الفاشي المتطرّف، كلها تؤسس فلسفاتِها السياسية على هيغل؛ فالجناح اليساري وإن كان قد أحلّ محلّ حربِ القوميات الذي ظهر في مخطط هيغل التاريخاني حربَ الطبقات، وأحلّ اليمينُ المتطرّف محلّه حربَ الأعراق، فقد اقتفى كلاهما أثر هيغل بشكلٍ واعٍ تقريباً. (أما الوسط المحافظ فأقل وعياً بديونه لهيغل، في الغالب).
.. لسببٍ ما، حافظ الفلاسفة على قدرٍ من أجواء السحر حول أنفسهم، حتى في أيامنا هذه. فقد اعتُبِرت الفلسفة مجالاً غريباً وغامضاً يتناول الأسرار نفسها التي يتناولها الدين، لكن ليس بالطريقة التي "يوحَى بها إلى أطفال" أو إلى عوام الناس؛ فقد اعتُبِرت عميقة جداً، اعتُبرت دين المفكرين ولاهوتَهم، دين المتعلم والحكيم ولاهوته. وتتلاءم الهيغلية مع تلك الاعتبارات بشكلٍ رائع؛ فهي على وجه الضبط ما يفترضه في الفلسفة هذا النوعُ من الخرافات الشعبية. فالهيغلية تَعرِف كل شيء عن كل شيء، ولديها إجابة جاهزة عن كل سؤال. ثم حقاً، مَن يمكنه التأكد من أن الإجابة ليست صحيحة؟. (60)
بدأت النزعة الاستبدادية القروسطية في التلاشي مع عصر النهضة. لكن على مستوى القارة، لم يتعرض نظيرها السياسي ـ وهو الإقطاعية القروسطية ـ لتهديدٍ جادّ قبل الثورة الرنسية (ولم تفعل حركة الإصلاح سوى تعزيزها). فلم يبدأ الكفاح من أجل المجتمع المفتوح مرة أخرى إلا مع أفكار 1789؛ فجرّبت المَلَكيّات الإقطاعية جدّية هذا الخطر. وعندما بدأ في عام 1815 الحزب الرجعي استئناف سلطته في بروسيا، وجد نفسَه في حاجةٍ ماسّة إلى أيديولوجيا. وقد نُصِّبَ هيغل لتلبية ذلك المطلب عن طريق إحياء أفكار أعداء المجتمع المفتوح الأوائل الكبار: هيراقليطس وأفلاطون وأرسطو. وكما أعادت الثورة الفرنسية اكتشاف الأفكار الخوالد للجيل العظيم والمسيحية والحرية والمساواة والأخوّة بين البشر، كذلك أعاد هيغل اكتشاف الأفكار الأفلاطونية الكامنة خلف الثورة الدائمة على الحرية والعقل. الهيغلية هي نهضة النزعة القَبَليّة. وتتمثل أهمية هيغل التاريخية في أنه "الحلقة المفقودة" ـ لو جاز التعبير ـ بين أفلاطون والشكل الحديث من الكُلّيانية. (60)
[بين كانط وهيغل]
كارل بوبر
لم يحاول هيغل أبداً دحض كانط [أو تفنيده (في قوله باستحالة الميتافيزيقا)]. لقد أبدى له احتراماً، ثم انعطف بوجهة نظره إلى نقيضها. تلك هي الكيفية التي حُوِّل بها "ديالكتيك" كانط ـ الهجوم على الميتافزيقا ـ إلى "ديالكتيك هيغلي"، وهو الأداة الرئيسية للميتافيزيقا.
لقد أكّد كانط في كتابه "نقد العقل المحض" بتأثير من هيوم ـ أن التأمل الخالص أو العقل المحض متى تجاسر على الدخول في حقلٍ لا يقبل احتمال المراجعة التجريبية، فهو معرَّضٌ للسقوط في التناقض أو "التضارب" وإنتاج ما يصفه كانط بأنه "محض أهواء" و"لغو" و"أوهام" و"دوغمائية عقيمة" و"زعم سطحي بمعرفة كل شيء".
لقد حاول كانط تبيان أن كل قولٍ ميتافيزيقي، أو "فرضيّة"، في ما يتعلق مثلاً ببدء العالم في الزمان، أو وجود الله، يتناقض مع قولٍ آخر نقيضٍ أو "فرضيّة نقيضة"؛ وكلاهما ينجمان عن الفرضيات نفسها، ويمكن إثباتُهما أو البرهنة عليهما بـ"الدليل" نفسه. وبعباراتٍ أخرى، عند مغادرة حقل التجربة، لا ينطوي تأمُّلُنا أو تفكيرنا على أيِّ تقدير علمي، ما دام يوجد لكل حجةٍ ـ حتماً ـ حجةٌ مضادة لها المشروعية نفسها. وكان كانط يهدف من هذا إلى إيقاف "التزايد اللعين" للكتَبَة والنُسّاخ المتحدثين في الميتافيزيقا، نهائياً. ولكن لسوء الحظ جاءت النتيجةُ جدَّ مختلفة. فلم يوقف كانط سوى محاولاتِ الكتبة والنُسّاخ توظيف الحجة العقلانية؛ فكفّوا عن التعليم، ولكنهم لم يكفّوا عن إغواء العامة وفتنتهم (كما قال شوبنهور). وتبعاً لهذا التطور، يتحمل كانط نفسه بلا ريب نصيباً معتبَراً من اللوم؛ لأن الأسلوب الغامض الذي اتبعه في كتابه (الذي كتبه على عجلة كبيرةٍ من أمره، وإن جاء بعد سنوات طويلة من التأمل) أسهم إلى حدٍ كبير في زيادة عدم وضوح الكتابة النظرية الألمانية. ولم يبذل الكَتَبة الميتافيزيقيون الذين جاءوا بعد كانط أية محاولة لتفنيد أفكاره أو دحضها. وهيغل على الأخص، تجرّأ على مناصرة كانط بهدف "إحياء اسم الديالكتيك وإعادته إلى القائمة المبجَّلة"؛ فقال إن كانط كان محقاً تماماً في الإشارة إلى التضارب [والتناقض] ولكن جافاه الصواب في قلقه بشأنه؛ لأن التناقضَ مباطِنٌ لطبيعة العقل نفسه الذي يناقض نفسَه حتماً، فالتناقض ليس ضعفاً في مَلَكاتنا البشرية ـ  كما يجزم هيغل ـ بل هو جوهر عيني لكل العقلانية التي لا بدّ أن تعمل من خلال التناقض والتعارض، فهو الطريق الوحيد الذي يتطوّر العقلُ به. ويؤكد هيغل أن كانط حلّل العقلَ كما لو كان شيئاً جامداً؛ فنسي أن البشرية تتطوّر، ومعها يتطوّر ميراثُنا الاجتماعي. فعقلُنا هو ثمرة هذا الميراث الاجتماعي، وثمرة التطور التاريخي للجماعة الاجتماعية التي نعيش فيها، ألا وهي الأمة [الشعب]. وهذا التطوّر ينتقل ديالكتيكياً، أي من خلال إيقاعٍ ثلاثي. فأولاً توجد الفرضية، ولكنها ستُنتِج نقداً لأن خصومَها سيناقضونها مؤكدين صحة نقيضها، أي الفرضية النقيضة؛ وفي أثناء صراع وجهات النظر هذا، نحصل على التركيب أو التوليف، أي على وحدة الأضداد التي تمثّل حلاً وسطاً توفيقياً على مستوى أعلى. فالتوليف أو التركيب يمتص، لو جاز القول، الموقفين الأصليين المتعارضين، بنسخهما كل على حدة والحلول محلهما؛ فهو يختزلهما إلى مكوناته، عن طريق الإلغاء والرفع والحفظ. بذلك يتأسّس على الفور التوليف أو التركيب، وتكرِّر العملية بكاملها نفسَها على المستوى الأعلى الذي وصلت إليه. ذلك بإيجاز هو إيقاع التقدم الثلاثي الذي يسميه هيغل "المثلث الديالكتيكي" [المثلث الجدلي].
وإني لأعترف بأن هذا ليس وصفاً سيئاً للطريقة التي يتقدم بها النقاش النقدي أحياناً ومن ثَمّ التفكير العلمي أيضاً. فالنقد كله يتألف من الإشارة إلى بعض التناقضات أو التضاربات، ويتألف التقدم العلمي إلى حدٍ كبير من إلغاء التناقضات متى عثرنا عليها. وهو ما يعني أن العلم يتقدم على افتراض عدم جواز التناقض، وتجنبه، بحيث يفرض اكتشاف التناقض على العالِم بذلَ كل محاولةٍ لإلغائه أو التخلص منه؛ فحين يُعترَف بوجود تناقض لا بدّ أن ينهارالعلمُ كله. لكن هيغل يستمد من مثلثه الديالكتيكي درساً جدَّ مختلف، وهو الآتي: ما دامت التناقضات هي أدواتٍ يتقدم بها العلم، يخلص هيغل إلى أن التناقضات ليست جائزةً وواردةً فحسب، بل مرغوباً في وجوداها للغاية أيضاً. تلك هي عقيدة هيغل التي تهدم حتماً أية حجة وأيَّ تقدم علمي. فالتناقضات حين تكون حتميةً ومرغوباً فيها فلا ضرورة للتخلص منها، وبهذه الطريقة وحدها يصل التقدم إلى غايته حتماً.  (صص 71، 73)
[الملك والدستور]
يقول هيغل: "الكليّة الحيّة الواقعية التي تصون الدولةَ ودستورَها، وتنتجُهما باستمرار، هي الحكومة.. فمن خلال الحكومة ـ وهي كلٌّ عضوي ـ تكون سلطة الملك أو الأمير هي إرادة الدولة وداعمةَ الكل وآمرة الكل، فهي ذروتها العليا ووحدتها المهيمنة على الكل. في شكل الدولة الكامل هذا، الذي من خلاله.. يصل كل عنصرٍ إلى وجوده الحر، تكون الإرادة هي إرادة الشخص المهيمن [الآمر] الموجود بالفعل (وليست أغلبيةً تكون فيها وحدة الإرادة المهيمنة بلا وجودٍ حقيقي متعيّن). وهذه الإرادة هي النظام المَلَكي. ولذا، فالدستور الملكي هو دستور العقل المتطوّر، أما الدساتير الأخرى فتنتمي كلها إلى مراحلَ من العقل وتحقُّقِه الذاتي أقل تطوّراً".  ولكي يكون هيغل أكثر تحديداً، يشرح أو يفسر في فقرة موازية من كتابه "فلسفة الحق" ـ والاقتباسات السابقة مأخوذة كلها من كتابه "الموسوعة" ـ أن "القرار الأخير.. وأن التحديد الذاتي المطلق يشكل سلطة الملك بحد ذاتها" وأن "المبدأ الحاسم على نحو مطلق في الكل.. شخصية واحدة هي الملك".(81)
أنتقل الآن إلى عرضٍ إجمالي شديد الإيجاز لقصةٍ غريبةٍ نوعاً ما؛ ألا وهي قصة "صعود النزعة القومية الألمانية". لا ريب في أن الاتجاهات المباطِنة لهذا التعبير تنطوي على صلةٍ قوية بالثورة على العقل والمجتمع المفتوح. فالنزعة القومية تناشد استعداداتِنا الفطرية [غرائزنا] القَبَلية، تناشد العاطفةَ والتحيّزَ [والأحكام المسبقة]، ورغبتنا الحنينية في التخلص من توتر المسؤولية الفردية التي تريد أن يحلَّ محلها مسؤولية جمعية أو مسؤولية الجماعة. وتماشياً مع تلك الاتجاهات نجد أن الأعمال الأقدم عن النظرية السياسية، حتى نظرية الأوليجاركية القديمة [حكم القلة القديم] ـ وهو ما نلحظه جلياً في أعمال أفلاطون وأرسطو ـ تعبّر عن رؤى قومية دون شك؛ حيث كُتِبت تلك الأعمال في محاولة لمحاربة المجتمع المفتوح والأفكار الجديدة عن الإمبريالية والكونية والمساواة. ثم توقف، في تلك المرحلة المبكرة، تطور النظرية السياسية القومية لفترة قصيرة مع أرسطو. ثم مع أمبراطورية الإسكندر اختفت النزعة القومية القَبَلية الطبيعية من الممارسة السياسية نهائياً، ولوقتٍ طويل، من النظرية السياسية. فمنذ الإسكندر وصاعداً كانت كل الدول المتحضرة [المدنية] في أوروبا وآسيا أمبراطوريات تحتضن سكاناً من أصولٍ مختلطة اختلاطاً غيرَ محدود. فالحضارة الأوروبية وكل الوحدات السياسية التابعة لها ظلت دولية أو على وجه أدق بين قَبَلية منذ ذلك الوقت. (ويبدو أنه ـ تقريباً ـ قبل الإسكندر بوقت طويل ـ كما كان الإسكندر قبلنا بوقت طويل ـ أبدعت أمبراطوريةُ سومر القديمة الحضارة العالمية الأولى). فما اعتُبر خيراً في الممارسة السياسية ظل خيراً في النظرية السياسية. وحتى قبل حوالي مائة سنة، كانت قد اختفت النزعة القومية الأفلاطونية الأرسطية عملياً من العقائد السياسية. (وبالطبع، ظلت المشاعر القَبَلية الضيّقة المحدودة قويةً). ثم حين أُحيِيَت النزعة القومية منذ مائة سنة، كانت في إحدى أشد المناطق اختلاطاً في أوروبا، في ألمانيا، ولا سيما بروسيا بسكانها السلافيين إلى حدٍ كبير. (وليس من المعروف أن بروسيا قبل قرنٍ تقريباً، بغلبة سكانها السلافيين، لم تكن تُعتبر دولةً إلمانية إطلاقاً؛ وإن كان ملوكها بوصفهم أمراء براندنبرغ لهم "حق اختيار" الأمبراطور الألماني، كانوا يُعتبرون أمراءَ ألمان. في مؤتمر فيينا 1830 كان هيغل لا يزال يتحدث حتى عن براندنبرغ ومكلنبورغ بوصفهما مأهولين بـ "سلافيين لهم طابع ألماني").
وهكذا، لم يمضِ سوى وقت قصير حتى أعيد تقديم "مبدأ الدولة القومية" في النظرية السياسية. ورغم هذه الحقيقة، فمن المقبول على نطاق واسع في أيامنا أن يؤخذ الأمر على علّاته عادةً، وفي الأغلب الأعم دون وعي به. فهو يشكل الآن ـ إن جاز التعبير ـ فرضيةً ضمنية في الفكر السياسي الشعبي، بل يعتبره الكثيرون مسلّمة أساسية في الأخلاقيات السياسية، لا سيما منذ مبدأ تحديد الذات القومية الذي أصدره عن حسن نيّة ويلسون وإن لم يُدرَس بعنايةٍ كبيرة. كيف لأيّ شخصٍ يعرف التاريخَ الأوروبي أدنى معرفة ويعرف تغيّر واختلاط كل أنواع القبائل وموجاتٍ لا تحصى من شعوب جاءت من موطنها الآسيوي الأصلي فانقسمت واختلطت عند وصولها إلى متاهة أشباه الجزر المسمّاة القارة الأوروبية، كيف لأيّ شخصٍ يعرف ذلك كلَّه أن يضع مثل هذا المبدأ غير القابل للتطبيق؟. من الصعب أن نفهم. التفسير هو أن ويلسون، الذي كان ديموقراطياً صادقاً (ومازاريك أيضاً وهو أحد أعظم المحاربين من أجل المجتمع المفتوح)، سقط ضحية حركةٍ نجمت عن فلسفة سياسية أكثر رجعية وخنوعاً فُرِضت أكثر من أيّ وقت مضى على بشر خنعوا بعد معاناةٍ طويلة. لقد سقط ضحية تنشئته في جوّ نظريات أفلاطون وهيغل السياسية الميتافيزيقية، وضحية الحركة القومية القائمة عليها.
إن "مبدأ الدولة القومية"، أي المطالبة السياسية بضرورة تطابق أراضي كل دولة مع الأراضي التي يسكنها شعبٌ واحد، لم يكن بأيّ حال من الأحوال مبدأً بديهياً ظاهراً لكثير من الناس إلى اليوم. وحتى لو عرف أيُّ شخصٍ ما يقصده حين يتحدث عن الجنسية فلن يكون واضحاً بالمرّة لماذا ينبغي قبول الجنسية بوصفها تصنيفاً سياسياً أساسياً، أهم مثلاً من الدين أو الميلاد في منطقة جغرافية معيّنة، أو الولاء لسلالة حاكمة، أو لعقيدة سياسية كالديموقراطية (التي تشكّل كما قد يقول قائل عاملَ التوحيد بين لغات متعددة في سويسرا). لكن بينما الدين أو الإقليم أو العقيدة السياسية عامل محدّد بشكلٍ واضح تقريباً فلا أحد بمقدوره إيضاح ما يعنيه بالأمة [أو الشعب]، على نحو ما تُستخدَم بوصفها أساساً للسياسات العملية. (وبطبيعة الحال، إذا قلنا إن الأمة هي عدد من الناس الذين يعيشون أو يولدون في دولة بعينها، فسيتضح كل شيء إذاً؛ لكن ذلك سيعني التخلي عن مبدأ الدولة القومية الذي يطالب بأن الدولة ينبغي أن تحددها الأمة، وليس العكس). فلا نظرية من النظريات القائلة بأن الأمة يوحّدها أصلٌ مشترك أو لغةٌ مشتركة أو تاريخ مشترك، يمكن قبولها أو تطبيقها في الممارسة العملية. مبدأ الدولة القومية [ليس] لا يقبل التطبيق فحسب بل غير متصوَّر [مفهوم] بشكل واضح. فهو أسطورة. إنه غير عقلاني، حلم رومانسي طوباوي، حلم بنزعة طبيعية ونزعةٍ جَمعية قَبَليّة.
ورغم ميولها الرجعية اللاعقلانية الأصلية فيها، فإن النزعة القومية الحديثة ـ الغربية بما يكفي ـ كانت في تاريخها القصير قبل هيغل عقيدةً ثوريةً وليبرالية. وبواسطة ما يشبه مصادفةً تاريخية ـ غزو الأراضي الألمانية بواسطة أول جيش قومي، هو الجيش الفرنسي بقيادة نابليون، وردّ الفعل الذي سبّبه هذا الحدث ـ شقت النزعة القومية طريقها إلى معسكر الحرية. ولا يخلو من فائدة رسم تاريخ ذلك التطور، وتاريخ الطريقة التي بها أعاد هيغل النزعة القومية إلى معسكر الكلّيّانية الذي تنتسب إليه منذ أن قال أفلاطون إن اليونانيين مرتبطون بالبرابرة ارتباط السادة بالعبيد.
لقد صاغ أفلاطون للأسف ـ ولن يُنسى ذلك ـ مشكلته السياسية الجوهرية بالسؤال: من ينبغي أن يحكم؟، ومَن ينبغي أن يَسِنّ القانون؟. قبل روسّو، كان الجواب المعتاد عن هذا السؤال: الأمير.
ثم جاء روسو فأعطى الجواب الجديد الأكثر ثورية: ليس الأمير بل الشعب هو الذي ينبغي أن يحكم، ليست إرادة شخصٍ واحد بل إرادة الكل هي التي ينبغي أن تحكم. بهذه الطريقة، اخترع روسّو إرادة الشعب، أو الإرادة الجَمعيّة أو "الإرادة العامة"، كما سمّاها؛ أما الشعب الذي مُنِح فجأةً إرادةً فكان يجب رفعه [ترقيته] إلى مستوى شخصيةٍ عُليا، يقول روسّو: "بالنسبة إلى ما هو خارج عنه (أي: بالنسبة إلى شعوبٍ أخرى) يصبح الشعب وجوداً مفرداً واحداً، فرداً واحداً". ثمة قدر طيّب من نزعةٍ جَمعيةٍ رومانسية في هذا الاختراع، دون مَيلٍ إلى نزعةٍ قومية. لكن نظريات روسّو تضمنت جرثومة النزعة القومية، وعقيدتها الأكثر تميّزاً هو أن الأمم المتنوّعة تُعتبَر شخصيات متنوّعة. وقد اتُّخِذَت الخطوة العملية الكبيرة في الاتجاه القومي عندما دَشَّنت الثورةُ الفرنسية جيشَ الشعبِ القائم على التجنيد الوطني. (صص 78، 90)
يقول هيغل في كتابه "فلسفة الحق": "بدأ البعض مؤخراً في الحديث عن "سيادة الشعب" في مقابل سيادة الملك. لكن عبارة "سيادة الشعب" عندما تُعارَضُ بسيادة الملك، لا تسفر سوى عن تصور عام مضطرب لـ"الشعب" ليس فيه أيّ تدبّر. فبدون الملك.. لا يكون الشعب سوى حشد لا قوام له". (96)
يقول هيغل: "الدولة القومية هي الروح في عقلانيتها الجوهرية وتعيّنها الواقعي المباشر، ولذا فهي سلطة مطلقة على الأرض.. الدولة هي روح الشعب نفسه. الدولة المعيّنة واقعياً تحركها تلك الروح، في كل شؤونها تفصيلاً وفي حروبها ومؤسساتها.. الوعي الذاتي لدى شعبٍ بعينه هو الوسيلة من أجل .. تطور الروح الجمعية، .. تمنحها روحُ الزمنِ الإرادةَ. وفي مقابل تلك الإرادة لا حقوق للعقول الوطنية الأخرى: هذا الشعب يهيمن على العالم".
يقال إن العِرقَ هو أناسٌ يوحّدهم ليس أصلهم بل خطأ مشترك بشأن أصلهم. وبطريقة مماثلة، بمستطاعنا القول إن الأمة التي يعنيها هيغل هي أناسٌ يوحّدهم خطأ مشترك بشأن تاريخهم. (98)
لقد اكتشفتُ أن المؤرخين يميلون إلى تقييم هيغل بوصفه فيلسوفاً.. ويميل الفلاسفة إلى الاعتقاد بأن إسهاماتِه (إن وُجِدَت) كانت في فهم التاريخ. لكن النزعة التاريخانية ليست تاريخاً، وأعتقد أنها لم تكشف فهماً تاريخياً، كلا ولا حساً تاريخياً. ولو أردنا تقييم عظمة هيغل بوصفه مؤرخاً أو بوصفه فيلسوفاً فيتعيّن علينا ألا نسأل أنفسَنا ما إذا كان البعض يجد رؤيته للتاريخ ملهمه، بل ما إذا كانت توجد حقيقة في تلك الرؤية. (100)
يقول هيغل معلّقاً على مشروع كانط من أجل السلام الدائم: "اقترح كانط تحالف الأمراء"، (وهيغل يتحدث هنا على نحوٍ غير دقيق، فقد اقترح كانط اتحاداً فيدرالياً لما نسميه اليوم الدول الديموقراطية)، "وظيفته تسوية الخلافات بين الدول، وإقامة تحالف مقدس يطمح ربما إلى أن يكون مؤسّسياً. لكن الدولة فرد، وبفرديتها تنطوي جوهرياً على نفي أو سلب. وقد يؤلف عددٌ من الدول عائلةً، لكن هذا الاتحاد الكونفيدرالي بوصفه فردية، لا بدّ أن يخلق النقيض وهكذا ينجب عدواً". (108)
"ليست الحرب ضرورةً عملية فحسب، بل هي ضرورة نظرية أيضاً، اقتضاء منطقي. فمفهوم الدولة ينطوي على مفهوم الحرب، لأن جوهر الدولة هو القوة. والدولة هي الشعب المنظَّم من خلال قوة مهيمنة". (هيغل) (ص 108)
[يقول هيغل] "عندما لا تتفق الإرادات المستقلة للدول فالحرب وحدَها هي فيصل نزاعاتها. والمخالفة التي ستُعَدُّ خرقالأ لمعاهدة، أو انتهاكاً للاحترام والكرامة، لا بدّ أن تظل غير محددة.. يجوز للدولة أن تحدد عدم تناهيها وكرامتها في كل جانبٍ من جوانبها". "لأن .. العلاقة بين الدول متقلبة، ولا يوجد قاضٍ يضبط خلافات الدول". وبكلمات أخرى: "لا توجد سلطة تقرر للدولة ما هو الحق.. فالدول قد تدخل في اتفاقيات متبادلة، ولكنها في الوقت نفسه أعلى من تلك الاتفاقيات".. "المعاهدات بين الدول.. تعتمد في نهاية المطاف على الإرادات السيادية المستقلة، ولذا يجب ألا يُعَوَّل على المعاهدات". (109)

الحرب تحمي الشعب من الفساد الذي يجلبه سلامٌ دائم. ويبيّن التاريخُ المراحلَ التي تضرب الأمثلةَ على أن الحروب الناجحة تقضي على الاضطرابات الداخلية.. فالأمم التي تمزّقها صراعاتٌ داخلية تفوز بالسلام في الوطن بعد حربٍ خارجيةٍ ناجحة". تكشف تلك الفقرة المأخوذة من كتاب هيغل "فلسفة الحق" عن تأثير تعاليم أفلاطون وأرسطو المتعلقة بـ "مخاطر الرخاء". (113)
ليست البسالة الشخصية ذات أهمية. فالجانب الممهم يكمن في إخضاع الذات للكل. هذا الشكل الأعلى يجعل .. الشجاعة تظهر أكثر آليةً [دون تدبّر أو رويّة].. العداوة ليست موجّهة ضد أفراد منفصلين، بل ضد كلٍ معادٍ" (وهنا لدينا استشراف لمبدأ الحرب الشاملة)؛ ".. البسالة الشخصية تظهر بوصفها غير شخصية. وقد أدى هذا المبدأ إلى اختراع البندقية؛ فهي لم تُخترَع مصادفةً.." (114)

الرجل العظيم في عصره هو الذي يعبّر عن إرادةِ عصره، هو الذي يقول لعصره ما يريده العصر، وينفذ تلك الإرادة. فهو يتصرف طبقاً للروح والجوهر المباطِنَيْن لعصره، ويحققهما. فمن لا يفهم كيف يحتقر الرأي العام المنتشر في كل مكان لن ينجز أيَّ شيء عظيم. (118)
ما من شأنٍ عظيم في العالم قد تحقق دون مشاعر.. هذا ما يمكن أن نسميه دهاء العقل الذي يوجّه المشاعر من أجل العمل لصالح العقل.,
المشاعر والأهداف الخاصة وإشباع الرغبات الأنانية هي.. الينابيع الأكثر تأثيراً في الفعل. وتكمن قوتها في أنها لا تحترم أياً من الحدود التي تفرضها عليها العدالةُ والأخلاق، وأن تلك الدوافع الطبيعية لها تأثيرها الأكثر مباشرةً في الأتباع من تأثيرها في الانضباط المصطنع والممل الذي يميل إلى النظام وتقييد النفس والقانون والأخلاق. (119)

".. المِلكيّة والحيا هي أمورٌ عارضة.. دعِ الخطر يأتي على هيئة فرسان بسيوفٍ لامعة، يظهرون نشاطهم الحادّ!" (121)
العادةُ وجودٌ كفّ عن قذف نفسه بحماسٍ في موضوعه..، وجودٌ بلا فكرٍ أو حيويّة (121)
لا يتقدم العلمُ سوى بالتجربة والخطأ. ولقد حاول ماركس، ومع أنه أخطأ في عقائده الرئيسية فلم تذهب محاولته سدى. لقد فتح أعيننا وشحذها في نواحٍ كثيرة. والعودة إلى ما قبل علم الاجتماع الماركسي أمرٌ غير وارد. فكل الكتّاب المحدثين مدينون لماركس، حتى وإن لم يعرفوا ذلك. تلك هي الحقيقة، لا سيما عند مَن لا يوافقون على عقائده، كما هو حالي؛ فأنا على استعداد للاعتراف بأن تناولي لأفلاطون وهيغل، مثلاً، يحمل بصمة ماركس.
..
كان اهتمام ماركس بالعلم الاجتماعي والفلسفة الاجتماعية اهتماماً علمياً في الأساس؛ فرأى في المعرفة سبلَ تعزيز تقدم الإنسان. فلماذا نهاجم ماركس إذاً؟. فيما أعتقد كان ماركس رغم مزاياه نبيّاً زائفاً. لقد كان نبيَّ مسسيرة التاريخ، ولم تتحقق نبوئاته؛ لكن هذا ليس مناط إدانتي الرئيسي له. فالأهم من هذا، أنه ضلّل العشرات من الأشخاص الموهوبين الأذكياء؛ فقادهم إلى الاعتقاد بأن النبوءة التاريخية هي الطريقة العلمية لمعالجة المشكلات الاجتماعية. إن ماركس مسؤول عن التأثير المدمّر للنهج التاريخاني في الفكر داخل صفوف مَن أرادوا رفع شأن المجتمع المفتوح وإعلاء قيمته. (132، 133)
إن "الحجة المعقولة [المقبولة ظاهرياً] القائلة بأن العلم يمكنه التنبؤ بالمستقبل ـ لو أن المستقبل محددٌ سلفاً، وإن جاز التعبير لو أن المستقبل حاضر في الماضي ومتداخل فيه ـ قادته [قادت ماركس] إلى تبنّي اعتقاد خاطئ مُفاده أن المنهج العلمي الصارم يجب تأسيسه على حتمية صارمة. .. لكن الاعتقاد بأن مصطلحَيّ "العلمي" و"الحتمي" مترابطان تماماً إن لم يكونا مترادفين، يُعَدُّ إحدى خرافات عصرٍ لم ينقضِ بعدُ" (136)
الحتمية ليست شرطاً قبلياً ضرورياً في علمٍ يمكنه تقديم تنبؤات. ولذا، ليس بمقدور المنهج العلمي أن يتكلم لصالح تبنّي الحتمية الصارمة. فالعلم بمقدوره أن يكون علمياً صارماً دون ذلك الافتراض. (بوبر 137)
لا يوجد سببٌ يوضح لماذا ينبغي علينا الاعتقاد بأن العلم الاجتماعي من بين كل العلوم هو القادر على تحقيق حلمٍ قديم: حلم الكشف عمّا يخبئه المستقبل لنا. هذا الإيمان بالكهانة العلمية لا يقوم على الحتمية وحدها؛ فأساسه الآخر هو الخلط بين التوقُّع العلمي كما نعرفه في الفيزياء أو علم الفلك، وبين النبوءة التاريخية الشاملة التي تتنبأ في خطوطٍ عريضة باتجاهات تطوّر المجتمع الرئيسية مستقبلاً. فهذان النوعان من التنبؤ أو التوقع جدُّ مختلفين، وعلمية الأول ليست حجة لصالح علمية الثاني. (138)
إن رؤية ماركس التاريخانية لأهداف العلم الاجتماعي تعكس إلى حدٍ كبير البرغماتية التي قادته في الأصل إلى تأكيد وظيفة العلم التنبؤية. لقد اضطرته إلى تعديل وجهة نظره الأسبق القائلة بأن العلم ينبغي عليه تغيير العالم وهو يستطيع. نظراً إلى أنه إذا وُجِدَ علمٌ اجتماعي تترتب عليه نبوءة تاريخية، فلا بدّ أن يكون المسار الرئيسي للتاريخ قد حُدِّد سلقاً، وهكذا لن يتمكن حُسنُ النية ولا العقل من تغييره. أما ما يتبقى لنا فهو تدخّل معقول يؤكد ـ عبر النبوءة التاريخية ـ مسار التطوّر الوشيك، ويزيل من طريقه العقبات الأسوأ. (138)

المهمة الرئيسية للعلوم الإجتماعية:
ليست هذه المهمة ـ كما يعتقد التاريخاني ـ التنبؤ بالمسار المستقبلي للتاريخ، بل على الأصح اكتشاف عدم الاستقلال الأقل وضوحاً في المجال الاجتماعي وتفسيره. إنها اكتشاف الصعوبات التي تقف في طريق الفعل الاجتماعي، وإن جاز التعبير دراسة الصعوبات العسيرة والنكوص أو تقصّف النسيج الاجتماعي، ومقاومته لمحاولاتنا صياغته والتعامل معه. (150)
"نظرية المؤامرة على المجتمع":
تنشأ تلك الرؤية لأهداف العلوم الاجتماعية من نظرية مغلوطة؛ مُفادها أن كل ما يحدث في المجتمع ـ لا سيما أحداثٌ كالحرب والبطالة والفقر وأشكال القصور التي يراها الناس أموراً غير مرغوبةٍ في العادة ـ إنما ينتج عن تخطيط يقصده بعض الأفراد والجماعات القوية. هذه النظرية رائجة على نطاقٍ واسع، وهي أقدم حتى من النزعة التاريخانية (التي كما يتضح من نموذجها الإيماني البدائي، مشتقةٌ من نظرية المؤامرة). وفي نماذجها الحديثة، هي ـ كالتاريخانية الحديثة، والموقف الحديث بعينه من "القوانين الطبيعية" ـ نتيجة نمطية لعَلمنة الخرافات الدينية. فالاعتقاد بأن الآلهة الهومرية تفسّر مؤامراتُها تاريخ الحرب الطروادية قد ولّى. فالآلهة أزيلت عن أماكنها. ثم احتل مكانها رجالٌ أو جماعاتٌ أقوياء ـ جماعات الضغط الشريرة بخبثها مسؤولة عن كل الشرور التي نعاني منها ـ كحكماء صهيون أن المحتكرين أو الرأسماليين أو الإمبرياليين.
ولا أقصد أن المؤامرات لا تحدث أبداً. على العكس، إنها ظواهر اجتماعية نمطية. ولكنها تصبح مهمة مثلاً متى وصل مَن يرمنون بنظرية المؤامرة إلى السلطة. فمن يؤمنون مخلصين بأنهم يعرفون كيف يجعلون السماء على الأرض [يصنعون جنةً أرضية] من المرجح أكثر أن يتبنَّوْا نظرية المؤامرة، فيشتركوا في مؤامرة مماثلة ضد متآمرين غير موجودين. لأن التفسير الوحيد لعجزهم عن إنتاج سمائهم [جننتهم الأرضية] هو نوايا الشيطان الشريرة، الموكول إليه أمر جهنم.
المؤمرات تحدث، ولا بد من الاعتراف بهذا، لكن الحقيقة اللافتة التي تدحض نظرية المؤامرة ـ رغم وقوع مؤامرات ـ هو أن القليل من تلك المؤامرات ينجح في نهاية المطاف. "نادراً ما يُتِمُّ المتآمرون مؤامراتِهم".
لماذا يحدث ذلك؟. ولماذا تختلف المنجزات اختلافاً واسعاً عن الطموحات؟. لأن ذلك هو في العادة حال الحياة الاجتماعية، سواءٌ كانت توجد مؤامرةٌ أم لا. الحياة الاجتماعية ليست مجرد اختبار قوة بين جماعتين متعارضتين: إنها فعل داخل إطار مرن أو هشّ تقريباً من المؤسسات والتقاليد، وهي تخلق ـ بصرف النظر عن أيّ فعلٍ مضادٍ واعٍ ـ العديد من ردود الأفعال غير المتوقعة في هذا الإطار، وبعضها ربما لا يمكن التنبؤ به حتى. (151ـ 152)

يقول ماركس: إن "مملكةَ الحرية لا تبدأ واقعياً وفعلياً إلا حيث ينتهي العمل الذي تمليه الحاجة وأغراضٌ خارجية، ومن ثَمّ فهي تكمن بشكلٍ طبيعي تماماً خارج نطاق الإنتاج المادي الفعلي".. "إن تقليص يوم العمل هو الشرط الأساسي الأول" [لبدء مملكة الحرية]. (164)
إن صديق ماركس، الشاعر هايني Heine فكّر في تلك الأمور بطريقة جدِّ مختلفة، فهو يقول: "انتبهوا أيها الرجال الفخورون بالفعل [بالعمل]، فلستم سوى أدواتٍ غيرِ واعيةٍ في أيدي رجال الفكر الذين ـ غالباً بانعزالهم الأكثر تواضعاً ـ قد جهّزوكم لمهمتكم الحتمية. لقد كان ماكيميليان روبسبيير مجرّد يد جان جاك روسّو..". (171)
ونحن نرى أن هايني كان ـ بمصطلحات ماركس ـ مثالياً، وأنه طبّق تفسيره المثالي للتاريخ على الثورة الفرنسية التي كانت أحد أهم الشواهد التي استخدمها ماركس لصالح نزعته الاقتصادية، والتي بدت حقاً مناسبةً لتلك العقيدة، لا سيما إذا قارنّاها بالثورة الروسية. (172)
وأرجو ألا يفسَّر نقدي لمادية ماركس التاريخية بأنه تعبير عن أيِّ تفضيل لـ"المثالية" الهيغلية على "مادية" ماركس، وإني لآمل أن يكون قد اتضح تعاطفي مع ماركس في الصراع بين المثالية والمادية. فما أريد إيضاحَه أن "التفسير المادي للتاريخ" لدى ماركس، المقيَّم بما هو كذلك، يجب ألا يُحمَل على محمد الجِدّ؛ فيجب ألا نعتبرَه أكثر من مجرد اقتراح قيّم لنا يفيدنا في النظر إلى الأشياء في علاقتها بخلفيتها الاقتصادية.
"ستَهزِم الحرية نفسَها إذا كانت غيرَ محدودة. وتعني الحرية اللامحدودة أن الإنسان القويّ حرٌّ في الضغط على آخر ضعيف فيسلبه حريته. وهذا هو السبب في مطالبتنا بأن الدولة ينبغي أن تحدّ من الحرية إلى مدىً معيّن، بحيث تكون حرّية كل شخصٍ محميّةً بالقانون. وينبغي ألا يكون أحدٌ تحت "رحمة" آخرين، بل الجميعُ لهم "حقٌ" في أن تحميهم الدولة.
وأعتقد أن تلك الاعتبارات ـ ويُقصَد منها في الأصل أن تُطبَّق على عالم القوة الغاشمة والتخويف المادي أو الإرهاب ـ لا بدّ أن تُطبَّق على العالم الاقتصادي أيضاً. فحتى لو حمت الدولةٌ مواطنيها من تعرضهم للقسوة الناجمة عن العنف الجسدي (كما هو حاصل من حيث المبدأ في ظل نظام الرأسمالية المنفلتة)، فلن تتحقق أهدافُنا بسبب عجزها عن حماية مواطنيها من إساءة استعمال اقوة الاقتصادية. وفي هذه الحالة، لا يزال القوي اقتصادياً حراً في الضغط على الضعيف اقتصادياً وسلبه حريته. في ظل تلك الظروف تَهزم الحريةُ الاقتصاديةُ غير المحدودة نفسَها بنفسها كالحرية الجسدية غير المحدودة سواءٌ بسواء، فتقترب القوة الاقتصادية في خطرها من خطر العنف الجسدي؛ لأن من يمتلكون فائض المواد الغذائية يُجبِرون مَن يتضوّرون جوعاً على تقبّل العبودية "بحُرّية" من دون استخدام عنف. وعلى افتراض أن الدولة تحدد أنشطتها بإخماد العنف (وحماية المِلْكيّة)، فالأقليّة القوية اقتصادياً تستغِل بتلك الطريقة أغلبيةَ مَن هم ضعفاء اقتصادياً.
إذا كان هذا التحليل صحيحاً، فستتضح طبيعة العلاج. يجب أن يكون العلاج "سياسياً"، يماثل العلاج الذي نستعمله ضد العنف الجسدي. يجب علينا بناء المؤسسات الاجتماعية، بإلزام من سلطة الدولة، لحماية الضعفاء اقتصادياً من الأقوياء اقتصادياً. يتعيّن على الدولة التأكد من عدم اضطرار أحد ـ أياً كان ـ إلى الدخول في هيئة جائرة خوفاً من الموت جوعاً أو العوَز الاقتصادي.
وبطبيعة الحال، يعني ذلك ضرورة التخلي عن مبدأ عدم التدخّل، وهو مبدأ النظام الاقتصادي المنفلت، لو أردنا صيانة الحرية، أي يجب علينا المطالبة بأن يحلّ تدخّل اقتصادي مخطَّط من الدولة محل سياسة الحرية الاقتصادية غير المحدودة. يجب المطالبة بأن تفسح "الرأسمالية" المنفلتة المجال لـ"سياسة التدخل الاقتصادية". وهذا هو ما يحدث على وجه التحديد . فالنظام الاقتصادي الذي وصفه ماركس وانتقده لم يعد موجوداً. لقد استُبدِل به، ليس نظاماً تبدأ معه الدولة في فقد وظيفتها وأدوارها ومن ثمّ "تضمحلّ وتذوي"، بل أنظمةٌ تدخُّلية متنوعة، تمتد فيها وظائف الدولة في الحياة الاقتصادية إلى أبعد من حماية المِلكية والتعاقدات الحرة. (192، 193)
أريد وصف النقطة التي توصّلنا إليها هنا بأنها النقطة الأكثر مركزية في تحليلنا. فمن هنا يمكننا البدء في إدراك أهمية الصدام بين النزعة التاريخانية والهندسة الاجتماعية، وتأثير ذلك في السياسة العامة لأصدقاء المجتمع المفتوح.
تزعم الماركسية أنها أكثر من علم، وأنها تقدم أكثر من نبوءة تاريخية. فهي تدّعي أنها أساس الفعل السياسي العملي، وتنتقد المجتمع القائم، فتفتح الطريق إلى عالمٍ أفضل. لكن طبقاً لنظرية ماركس، لا يمكننا متى أردنا تغيير الواقع الاقتصادي بإصلاحات قانونية مثلاً. فما تفعله السياسات لا يزيد عن "تقصير آلام المخاض وتخفيفها". وهذا في ما أعتقد برنامج سياسي فقير للغاية، وينجم فقرُه عن موقع الدرجة الثالثة الذي يُعزى إلى السلطة السياسية في تراتبية السلطات. فوفقاً لماركس، تكمن السلطة الحقيقية في تطور الآلات، ثم يليها في الأهمية نظامُ العلاقات الطبقية الاقتصادية، أما التأثير الأقل أهمية فهو للسياسات.
لكن الرؤية المقابلة مباشرةً مضمَّنة في الموقف الذي توصلنا إليه في تحليلنا. وهي تعتبرالسلطة السياسية سلطةً أساسية. انطلاقاً من هذه الرؤية، يمكن السيطرة على القوة الاقتصادية. وهذا يعني توسعاً غير محدود في مجال النشاطات السياسية. ويمكننا التساؤل عما إذا أردنا تحقيق ذلك وكيفية تحقيقه. مثلاً، بمقدورنا تنمية برنامج سياسي عقلاني لحماية الضعفاء اقتصادياً. نستطيع عمل قوانين تحُدُّ من الاستغلال. يمكننا تقليص يوم العمل، بل يمكننا عمل أكثر من هذا بكثير. فبموجب القانون، نستطيع التأمين على العمال (والأفضل، كل المواطنين) ضد العجز والبطالة والشيخوخة. وبهذه الطريقة، نقضي على صوَر الاستغلال القائم على وضع اقتصادي بائس لعاملٍ يُذعن لأيّ شيءٍ كي لا يموت جوعاً. وعندما نكون قادرين بموجب القانون على ضمان سبل العيش لكل مَن يريد العمل، ولا يوجد سببٌ يمنعنا من تحقيق ذلك، فستكتمل تقريباً حماية حرية المواطن من الخوف الاقتصادي والترهيب الاقتصادي. ومن وجهة النظر تلك، السلطة السياسية هي مفتاح الحماية الاقتصادية.. ويجب ألا يُسمَح لقوّةٍ اقتصادية بالهيمنة على السلطة السياسية، وإذا لزم الأمر فلا بد من محاربتها وإخضاعها لهيمنة السلطة السياسية. (194)

المال بحدّ ذاته ليس خطيراً بشكلٍ خاص، ولكنه يصبح خطيراً لو أمكنه شراء السلطة، إما مباشرةً أو باستعباد الضعفاء اقتصادياً المضطرين إلى بيع أنفسهم كي يعيشوا.
.. لا بدّ من إدراك أن السيطرة على القوّة المادية وعلى الاستغلال المادي يظل المشكلة السياسية الرئيسية. وكي نحقق هذه السيطرة، علينا تحقيق "حرّيةٍ رسمية ليس إلا". وبمجرّد تحقيقها وتعلُّم كيفية استعمالها للسيطرة على السلطة السياسية، سيقع كل شيء على عاتقنا. وعندئذٍ يجب ألا نلوم أيَّ شخصٍ آخر، وألا نصرخ ضد شياطين اقتصادية شريرة قابعة خلف الكواليس. فبالديموقراطية سنمسك بمفاتيح التحكّم في الشياطين والسيطرة عليهم. يمكننا ترويضهم. وعلينا إدراك ذلك واستعمال المفاتيح. لا بدّ أن نبني مؤسسات للسيطرة الديموقراطية على القوّة الاقتصادية، كي تحمينا من الاستغلال الاقتصادي. (197)
لقد قال الماركسيون الكثير عن إمكان شراء أصوات الناخبين، إما مباشرةً أو بشراء الدعاية. لكن الاعتبار الأقرب يبيّن وجود مثالٍ جيد على موقف السلطة السياسية الذي حلّلناه أعلاه. فبمجرد تحقيق الحرية الرسمية، نستطيع السيطرة على شراء الأصوات بأية صورة من الصور. ثمّة قوانين للحدّ من الإنفاق على الدعاية الانتخابية، ويقع على عاتقنا بالكامل إعداد قوانين لهذا الغرض أكثر صرامة. يستطيع النظام القانوني إنشاء أداةٍ قوية لحمايته. أضف إلى هذا، أنه يمكننا التأثير في الرأي العام والإصرار على قواعد أخلاقية أشد صرامةً في الشؤون السياسية. كل ذلك يمكننا عمله، لكن يجب أولاً إدراك أن هندسةً اجتماعيةً من هذا النوع هي مهمتنا، وفي وسعنا القيام بها، ويجب ألا ننتظر زلازل اقتصادية عجيبة لإنتاج عاَلمٍ اقتصاديٍّ جديد لنا، بحيث يكون كل ما علينا عمله هو إزاحة الستار عنه، لخلع عباءةٍ سياسية قديمة. (198)
لست في كل الحالات وتحت كل الظروف ضد ثورةٍ عنيفة. وأعتقد مع بعض مفكري العصور الوسطى ومفكري النهضة المسيحيين بإجازة إعدام الحاكم المستبد، حيث لا يوجد في ظل الاستبداد احتمال آخر، وحيث تكون الثورة العنيفة مبرَّة. لكني أعتقد أيضاً أن أية ثورة من هذا النوع ينبغي أن يكون هدفها الوحيد تأسيس الديموقراطية، ولا أعني بالديموقراطية شيئاً غامضاً غموض "حكم الشعب" أو "حكم الأغلبية"، بل مجموعةٌ من المؤسسات (من بينها بصفةٍ خاصة الانتخابات العامة، أي حق الشعب في إقالة الحكومة) تسمح بالرقابة العامة على الحكّام وإقالتهم من قِبل المحكومين، وتُمَكِّن المحكومين من تحقيق إصلاحاتٍ من دون استعمال العنف، ولو ضد إرادة الحكّام. وبكلماتٍ أخرى، استعمال العنف مبرَّر فقط في ظل وجود استبداد يجعل الإصلاحات دون عنفٍ أمراً مستحيلاً، وينبغي أن يكون له هدفٌ واحد فقط، ألا وهو إيجاد حالةٍ عامة تجعل الإصلاحات دون عنفٍ ممكنة. (226)

إن الموقف الواقعي هو ما أوجزه وأجمله باركيس  Parkes في عبارةٍ واحدة مُنصِفة: "الأجور المنخفضة وساعات العمل الطويلة وعمل الأطفال كانت سماتِ الرأسمالية في طفولتها وليست سماتِها في سنّ الشيخوخة كما توقّع ماركس".
لقد ذهبت الرأسمالية المنفلتة وولّتْ. فمنذ أيام ماركس، أحرزت نزعةُ التدخّل الديموقراطية تقدماتٍ هائلة. وأتاحت إنتاجيةُ العمل المحسَّنة ـ نتيجة تراكم رأس المال ـ القضاء عملياً على البؤس. ويبيّن ذلك أن الكثير قد تحقق، رغم وجود أخطاءٍ فادحةٍ لا شك فيها، وهو ما يشجعنا على الاعتقاد بأن الكثير يمكن تحقيقه. فثمّة الكثير لا يزال يتعيّن عمله، والكثير مما يتعيّن التراجعُ عنه. ونزعةُ التدخّل الديموقراطي هي وحدَها التي تجعل ذلك ممكناً. وهو ما يقع على عاتقنا القيام به. (272)
[تأثيرات ماركس الأخلاقية في أوروبا]
لا أفترض أن إصلاح موقف الكنيسة نحو الفقراء في إنجلترا لم يبدأ منذ فترة طويلة قبل أن يكون لماركس أيُّ تأثيرٍ في إنجلترا، ولكن ماركس أثّر في هذا التطوّر لا سيما على مستوى القارة؛ فصعود الاشتراكية كان له تأثير في تعزيزه في إنجلترا أيضاً. ومن الممكن مقارنة تأثير ماركس في المسيحية بتأثير لوثر في الكنيسة الرومانية. كلاهما كان تحدّياً، وكلاهما أدى إلى إصلاح مضاد في معسكرات أعدائهما، وإلى مراجعة المعايير الأخلاقية وإعادة تقييمها.
..
[يمكن للمرء أن يقول] إن الماركسية في أوّلها، بصرامتها الأخلاقية، وتركيزها على الأفعال عوضاً عن الكلام، كانت ربما الفكرة التصحيحية الأهم في عصرنا. وهو ما يفسّر تأثيرَها الأخلاقي الهائل. (290)
في الفصول السابقة ذكرتُ "النزعة الوضعية الأخلاقية" (ولا سيما نزعة هيغل)، وهي نظرية عدم وجود معيار أخلاقي، بل الأخلاق هي التي توجد، وأنّ ما يوجد هو المعقول والخير. ولذا، فـ"القوة هي الحق". الجانب العملي في تلك النظرية هو: استحالة النقد الأخلاقي للأوضاع القائمة؛ ما دامت تلك الأوضاع بحد ذاتها هي التي تحدد المعيار الأخلاقي للأمور. وعلى هذا، ليست النظرية التاريخانية الأخلاقية التي ننظر فيها [أي الماركسية] سوى صورةٍ أخرى من النزعة الوضعية الأخرقية، لأنها تؤمن بأن "القوة القادمة هي الحق"، وهنا يحل المستقبل محل الحاضر؛ هذا كل ما في الأمر. (298)
[يعتبر كارل بوبر بأن التأثير الأساسي لماركس كان موقفَه الأخلاقي، (رغم أنه لم يكتب في الأخلاق)، وليس نظريته العلمية.]
يقول بوبر: "لا يمكن الشك في أن سرّ تأثير [ماركس] كان في ندائه الأخلاقي، وأن نقده للرأسمالية كان مؤثّراً أساساً لكونه نقداً أخلاقياً. لقد بيّن ماركس أن نظاماً اجتماعياً يمكن بحد ذاته أن يكون غيرَ عادلٍ، وأنه حين يكون النظام سيئاً فكل الاستقامة الخلقية لدى الأفراد الذين يتكسّبون منه هي مجرّد استقامةٍ خلقية مفتعلة وزائفة. هي مجرّد نفاق. فمسؤوليتنا تمتد إلى النظام، وإلى المؤسسات التي تسمح له بالاستمرار.
تلك هي نزعة ماركس الراديكالية الأخلاقية، وهي التي تفسّر تأثيره، وتلك هي الحقيقة الآملة في حد ذاتها. ولا تزال تلك الراديكالية الأخلاقية حيّة بيننا إلى اليوم. ومن مهمتنا الحفاظ عليها حيّة، ومنعها من الذهاب إلى الطريق الذي تذهب فيه راديكاليته السياسية. الماركسية "العلمية" ماتت. أما شعورها بالمسؤولية الاجتماعية ومحبتها للحرية، فلا بد أن يظلّا على قيد الحياة. (304)






سوسيولوجيا المعرفة
لا ريب في أن فلسفات هيغل وماركس التاريخانية نتاجاتٌ مميّزة لعصرهما؛ عصر التغيّر الاجتماعي. فشأنها شأن فلسفات هيراقليطس وأفلاطون، وفلسفات أوغست كونت ومِل ولامارك وداروِن، هي فلسفات التغيّر، وهي تشهد على تأثيرٍ أدى إليه تغيّر البيئة الاجتماعية في عقول من عاشوا فيها، ولا شك في أنه تأثيرٌ هائل ومرعب نوعاً ما. وكان ردّ فعل أفلاطون على وضعٍ من هذا القبيل أن حاول إيقاف أيِّ تغيّر. أما الفلاسفة الاجتماعيون الأحدث عهداً فقد ظهر لي أن ردة فعلهم مغاير تماماً، حيث تقبلوا التغير بل هللوا له، وإن بدا لي أن حب التغيّير عندهم يساوره قدْرٌ من التردّد والتناقض. فهم وإن تخلَّوْا عن أيِّ أملٍ في إيقاف التغير، اجتهدوا بوصفهم تاريخانيين في التنبؤ به، ومن ثمّ جعْله قيد سيطرةٍ عقلانية، ولا ريب في أن هذا بدا محاولةً لترويضه. لذا، يبدو أن التغيّر عند التاريخاني لم يفقد تماماً أهوالَه ورعبَه.
في عصرنا، حيث لا يزال التغيّر أسرع، نجد رغبةً لا في النبّؤ بالتغيّر فحسب، بل في السيطرة عليه من خلال تخطيط مركزي واسع النطاق. تلك الرؤى الكلّية [الشمولية] (التي انتقدتُها في كتابي "فقر النزعة التاريخانية") تمثل حلاً وسطاً توفيقياً، لو جاز التعبير، بين نظريات أفلاطونية وماركسية. فقد اندمجت إرادة أفلاطون لإيقاف التغيّر بعقيدة ماركس في حتميته، فأثمرتا معاً "توليفاً" هيغلياً، مُفادُه المطالبة بأنه ما دام لا يمكن إيقاف التغيّر تماماً فينبغي على الأقل أن "تُخطط له" الدولة بسلطتها الممتدة الواسعة، وأن تسيطر عليه.
إن موقفاً كهذا يبدو ـ للوهلة الأولى ـ محتوياً على نزعةٍ عقلانية، فهو يرتبط ارتباطاً وثيقاً بحلم ماركس بـ"مملكة الحرية" التي يكون فيها الإنسان سيد مصيره للمرة الأولى. لكن هذا الموقف في حقيقة حاله، يرتبط ارتباطاً وثيقاً بعقيدة تتعارض مع العقلانية على وجه التحديد (ولا سيما مع عقيدة وحدة الجنسالبشري العقرنية، انظر الفصل الرابع والعشرين)، وهي عقيدةٌ تتماشى تماماً مع الاتجاهات اللاعقلانية والباطنية في عصرنا. وإني لأضع في اعتباري الاعتقاد الماركسي بأن آراءنا ـ بما فيها آراؤنا العلمية والأخلاقية ـ تحددها المصلحة الطبقية والوضع التاريخي والاجتماعي لعصرنا بشكلٍ أعم. وتحت اسم "سوسيولوجيا المعرفة" أو "المذهبية السوسيولوجية" تطورت تلك العقيدة مؤخراً (فطوّرها شيللر ومانهايم على الأخص) بوصفها نظرية في الحتمية الاجتماعية للمعرفة العلمية.
تقول سوسيولوجيا المعرفة إن التفكير العلمي ولا سيما في الشؤون الاجتماعية والسياسية، لا يمضي قدماً في الفراغ، بل يحدث في جوٍّ مشروط اجتماعياً. فهو متأثر إلى حدٍ كبير بعناصرَ لاواعيةٍ أو بعناصرَ دون الوعي. وتظل تلك العناصر خفيةً عن عين المفكِّر فلا يلحظها؛ لأنها تشكل ـ إن جاز التعبير ـ المحلّ الفعلي الذي يسكن هو نفسه فيه، أي "موطنه الاجتماعي". إن الموطن الاجتماعي الخاص بالمفكر يحدده النظام الكلّي للآراء والنظريات التي تبدو له صحيحة أو بديهيةً لا يطولها الشك. فهي تبدو له كما لو أنها صحيحةٌ وبسيطةً جداً على المستوى المنطقي، مثلاً كعبارة "كل الموائد هي موائد". وهذا ما يفسّر عدم إدراكِه إطلاقاً أيّةَ فرضياتٍ يتحرك على أساسها. ويمكننا الوقوف على فرضياته الكامنة لو قارنّاه بمفكر آخر يعيش في موطنٍ اجتماعي مغير تماماً، فهو أيضاً سيمضي قدماً انطلاقاً من نظام فرضيات لا يرقى إليه شكٌ أبداً، لكنه نظام مختلفٌ تماماً. ولأنه مختلف فلا يوجد جسرٌ فكري ولا حلٌ وسط توفيقي يمكن عمله بين هذين النظامين. فكل نظام منهما له فرضياته المختلفة والمحددة إجتماعياً، وهو ما يُطلِق عليه سوسيولوجيو المعرفة "أيديولوجيةً كلّية". (309)
تُعتَبر سوسيولوجيا المعرفة بلورةً هيغليةً لنظرية كانط في المعرفة؛ لأنها تواصل اتجاهات كانط في انتقاد ما نصطلح على تسميته بنظرية المعرفة "السلبية". وأقصد نظريةَ الإمبيريقيين وصولاً إلى هيوم، وبمن فيهم هيوم، التي تقول بتدفّق المعرفة علينا من خلال حواسنا، وبأن الخطأ الذي نقع فيه يرجع إلى تدخّلنا في المادة الحسّية المعطاة، أو إلى تداعيات تطورت في نطاقها، والطريقة المُثلى لتجنب الوقعوع في الخطأ هو أن نظلَّ سلبيين تماماً تجاه تدفق المعرفة وستقبلين لها فقط. وضد نظرية وعاء المعرفة هذه (وهي ما أُطلِقُ عليها "نظرية العقل الجردل")، يجادل كانط بأن المعرفة ليست مجموعةً من العطايا تستلمها حواسُّنا وتخزّنها في العقل كما لو أنه متحف، بل المعرفة ثمرة نشاطنا العقلي إلى حدٍ كبير حيث يتعيّن علينا الانخراط بفاعلية ونشاط في البحث، مقارنين، وموحِّدين، ومعمِّمين، إن كنا نريد تحصيل معرفة. ونطلق على تلك النظرية نظرية المعرفة الإيجابية. وفي هذا الصدد، يتخلى كانط عن نموذج في العلم يخلو من أية فرضيات مسبقة، ولا يمكن الدفاع عنه. (وحتى هذا النموذج ينطوي على تناقض ذاتي، وهو ما سيتضح في الفصل التالي). لقد أوضح كانط إيضاحاً تاماً أنه لا يمكننا البدء من لا شيء، وأنه يتعيّن علينا التعامل مع مهمتنا المجهَّزة بنظامٍ من فرضيات مسبقة نتمسك بها دون اختبارها بمناهج العلم لتجريبية؛ ويسمى هذا النظام "جهاز المقولات". وقد اعتقد كانط أنه من الممكن اكتشاف جهاز مقولات واحد وصحيح ثابت، يمثّل إن جاز التعبير إطاراً ثابتاً بالضرورة لعُدّتنا الفكرية، أي "العقل" الإنساني. هذا الجانب من نظرية كانط تخلّى عنه هيغل الذي لم يؤمن ـ مخلفاً كانط ـ بوحدة الجنس البشري. كان هيغل يقول إن عُدّة الإنسان الفكرية متغيّرة باستمرار، وإنها جزء من ميراثه الاجتماعي. وعلى هذا، لا بدّ أن يتزامن تطور العقلالإنساني مع التطور التاريخي لمجتمعه، أي مع تطور الأمة التي ينتمي إليها.
ونظرية هيغل تلك، لا سيما اعتقاده بأن كل المعرفة وكل الحقيقة "نسبية" ـ بمعنى أن التاريخ هو الذي يحددها ـ يُطلَق عليها أحياناً "نزعة تاريخية" historism، تمييزاً لها عن "النزعة التاريخانية" historicism، كما ذكرتُ في الفصل السابق)، ومن الواضح أن سوسيولوجيا المعرفة أو "النزعة السوسيولوجية" ترتبط ارتباطاً وثيقاً بها أو تتطابق تقريباً معها، والفرق الوحيد هو أنها ـ في ظل تأثير ماركس ـ تركز على أن التطورالتاريخي لا ينتِج "روحاً قومية" موحَّدة، كما يرى هيغل، بل ينتج "أيديولوجيات كلّية" متعددة وأحياناً متعارضة داخل الأمة الواحدة، وفقاً للطبقة أو الفئة الاجتماعية أو الموطن الاجتماعي، عند من يعتنقون تلك الإيديولوجيات.
ولكن التماثل مع هيغل يمضي إلى أبعدَ من هذا. لقد قلتُ أعلاه إنه طبقاً لسوسيولوجيا المعرفة، ليس من الممكن إنشاء جسرٍ فكري أو حلٍّ وسط توفيقي بين الإيديولوجيات الكلية المختلفة. ولا يُقصَد حمل تلك الشكّية الراديكالية على محمل الجِد تماماً كما يبدو. فثمة طريقة للخروج منها، طريقةٌ تناظر المنهج الهيغلي في تجاوز الصراعات التي سبقته في ترايخ الفلسفة. فهيغل ـ وهو روحٌ متوازنة تحلّق بحرّية فوق دوامة فلسفات متعارضة ـ يختزلها كلَّها إلى مجرد مكوّناتٍ في توليفات أعلى داخل نظامه الفلسفي. وبالمثل، يرى سوسيولوجيو المعرفة أن "التفكير المتوازن المتحرّر" عند النخبة [الأنتلجنسيا] المغروزة بشكلٍ فضفاض في تقاليدَ اجتماعيةٍ قادرٌ على تجنب مزالق الإيديولوجيات الكلّية: فتقدر النخبة على اختراقها والرؤية من خلالها، وكشف النقاب عن تنوعها وعن الدوافع الخفية والمحدِّدات الأخرى التي تلهمها. ومن ثم، تؤمن سوسيولوجيا المعرفة بأن درجة الموضوعية الأعلى يمكن تحقيقها عن طريق تفكير متوازن متحرر يحلل الإيديولوجيات الخفية المتنوعة وجذورها في اللاوعي. يبدو أن الطريق إلى معرفةٍ صحيحة هو كشف النقاب عن فرضيات لاواعية، وهو نوع من علاجٍ نفسي لو جاز التعبير، أو إن جاز لي القول "علاج اجتماعي". وحدُه من يستطيع أن يحلل تحليلاً اجتماعياً ومن يتحرر من ذلك المركّب الاجتماعي، أي من إيديولوجيته الاجتماعية، يستطيع الحصول على توليفة المعرفة الموضوعية الأعلى.
في فصلٍ سابق، عند تناول "الماركسية الجلفة" ذكرتُ اتجاهاً يمكن ملاحظته لدى مجموعة فلاسفة محدثين، وهو الاتجاه إىل كشف النقاب عن الدوافع الخفية التي تحرك أفعالنا. تُعزى سوسيولوجيا المعرفة إلى تلك المجموع، ومعها التحليل النفسي وفلسفات بعينها تكشف النقاب عن "اللامعنى" في مبادئ أو تعاليم خصومها. وفيما أعتقد، تكمن شعبية وجهات النظر تلك في سهولة تطبيقها، وفي الارتياح الذي تمنحه لمن يرون من خلالها الأشياء، عبر حماقات غير مستنيرة. ولكن تلك السعادة مؤذية وضارة، إن لم تكن كل تلك الأفكار مسؤولة عن هدم الأساس العقلاني لأية مناقشة، بإقامة ما أسمّيه "تمكين الدوغمائية". (وهو ما يماثل إلى حدٍما "الأيديولوجيا الكلّيّة"). وقد فعلت الهيغلية ذلك بإعلانها قبول التناقضات، بل وحتى إثراءها. لكن إن لم نتخلص منالتناقضات فسيستحيل أيّ نقد وأيّ نقاش، ما دام النقد يقوم على الإشارة إلى التناقضات إما داخل النظرية محل النقد، أو بينها وبين بعض حقائق التجربة. والموقف من التحليل النفسي مماثل: فالمحلل النفسي يمكنه تفسيسر أية اعتراضات بإيضاح أنها ترجع إلى أشكالٍ من الكبت لدى الناقد. ولا يحتاج فلاسفة المعنى ـ مرةً أخرى ـ سوى إلى الإشارة إلى أن ما يتمسك به خصومهم خَلْوٌ من المعنى، وهو ما سيظل صحيحاً دوماً، ما دام "اللامعنى" يمكنه إقرار أن أية مناقشة حوله هي بحكم التعريف بلا معنى. وقد اعتاد الماركسيون، بطريقة مماثلة، على تفسير اختلاف عدوهم بتحيّزه الطبقي، واعتاد سوسيولوجيو المعرفة على تفسير اختلافه [اختلاف عدوّهم] عنهم بإيديولوجيته الكلّية. ومن اليسير تعبئة مناهج من هذا القبيل والتسلّي بها عند من يتمسكون بها، لكنها تهدم بشكلٍ واضح أساس النقاش العقلاني، وستؤدي في نهاية الأمر حتماً إىل مناهضة النزعة العقلانية، وإلى نزعةٍ باطنية.
ورغم تلك المخاطر، لا أفهم السببَ في أنه ينبغي عليَّ التخلّي تماماً عن متعة التعامل بتلك المناهج. فمثل المحلل النفسي الذي يطبِّق التحليل النفسي على الناس بشكلٍ أفضل، يدعو المحللون السوسيولوجيون إلى تطبيق مناهجهم على أنفسهم بسخاء لا يقاوَم تقريباً. أليس وصفهم للإنتليجنسيا المتجذّرة [المغروزة] بشكلٍ فضفاض في التقاليد وصفاً جدَّ قريبٍ من جماعتهم الاجتماعية؟، وأليس من الواضح أيضاً ـ على افتراض أن نظرية الأيديولوجيات الكلّية [الوعي الطبقي] نظريةٌ صحيحة ـ أنه جزءٌ  من أية أيديولوجيا كلّية تؤمن بأن جماعة المرء تخلو من التحيّز وأن النخبة هي القادرة وحدَها على تبنّي الموضوعية؟ ثم أليس من المتوَقّع لهذا السبب، على افتراض صدق تلك النظرية، أن من يتمسّكون بها سيَخدعون أنفسهم دون وعيٍ بإنتاج تعديل على النظرية من أجل إنشاء موضوعية وجهات نظرهم؟.
وهل بمقدورنا إذاً أن نحمل على محمل الجِد زعمَهم بأنه عن طريق تحليلهم السوسيولوجي لأنفسهم يحققون درجةً أعلى من الموضوعية، وزعمَهم بأن التحليل الاجتماعي يمكنه طرحُ أية أيديولوجيا كلّية جانباً؟. لكن بمقدورنا حتى التساؤلُ عمّا إذا لم تكن النظرية بأكملها تعبّر ببساطة عن المصلحة الطبقية لتلك الجماعة الخاصة، وعن الإنتليجنسيا المتجذّرة بشكلٍ فضفاض في التقاليد، وإنْ كان من الثابت بما فيه الكفاية أن الهيغلية هي لسانُهم الأمّ.
كم هم قلّة سوسيولوجيّو المعرفة الذين نجحوا في العلاج الاجتماعي!؛ أي في استئصال أيديولوجيتهم الكلّية، وهو ما سيتّضح بشكلٍ خاص، لا سيما لو وضعنا في حسباننا علاقتهم بهيغل. فلا يخطر على بالهم أنهم ليسوا سوى تكرارٍ له، ولا يعتقدون أنهم تجاوزوه فقط، وإنما نجحوا في الرؤية من خلاله وحلّلوه سوسيولوجياً أيضاً، وأن بمقدورهم الآن النظر إليه، لا من أيِّ موطن اجتماعي خاص، بل موضوعياً من موضعٍ أعلى منه ومتفوّقٍ عليه. ويقول لنا هذا الفشل الملوس في تحليل الذات ما فيه الكفاية.
لكن، فلنُنَحِّ المزاح جانباً، ثمة اعتراضاتٌ أخطر. فسوسيولوجيا المعرفة لا تُبيد الذات فحسب، ولا تشجِّع على التحليل الاجتماعي فحسب، بل تكشف أيضاً عن فشلٍ مذهلٍ في فهم موضوعها الرئيسي فهماً دقيقاً، أي: الجوانب الاجتماعية في المعرفة، أو على الأصح، في المنهج العلمي. فهي تَعتبر العلمَ أو المعرفة علميةً تحدث في عقل العالِم الفرد أو "وعيه"، أو ربما هي نتاج عمليةٍ على هذه الشاكلة شريطة فهمها بتلك الطريقة، فما نسميه الموضوعية العلمية يصبح غير قابلٍ للفهم تماماً أو حتى مستحيلاً حقاً، لا في العلوم الاجتماعية أو السياسية فحسب، حيث تلعب المصالحُ الطبقيةُ والدوافع الخفيّة المماثلة دوراً، بل الأزيد في العلوم الطبيعية أيضاً. وكل من لديه فكرة عن تاريخ العلوم الطبيعية يعرف الإصرار والمثابرة العاطفية التي تميّز العديد من خلافاتها. فالتحيّز الذي يبديه بعض علماء الطبيعة لصالح ذرّيتهم الفكرية أشد بكثير من قدر التحيّز السياسي المؤثر في النظريات السياسية.
ولو عثرنا على الموضوعية العلميّة في حِياد عالِمٍ أو موضوعيته، كما تفترض بسذاجة النظرية السوسيولوجية في المعرفة، فسيتعيّن علينا توديعها بعبارةٍ بسيطة: "مع السلامة". وفي الواقع، لا بدّ أن نتحلّى بارتيابٍ أكبر مما تتحلّى به سوسيولوجيا المعرفة؛ فلا شك في أننا نعاني جميعاً في ظلِّ نظام تحيّزاتنا (أو "الإيديولوجيات الكلّية"، لو فضّلنا هذا المصطلح)، وأننا جميعاً نسلم بالعديد من الأشياء على أنها بديهية، فنقبلها دون تمحيص، وحتى باعتقاد ساذج ويقيني بأن النقد غير ضروري بالمرة، ولا يُستثنى العلماء من هذه القاعدة، حتى وإن طهّروا أنفسهم سطحياً من بعض تحيّزاتهم في مجال عملهم. لكنهم لم يطهّروا أنفسهم بواسطة تحليل اجتماعي أو أيّ منهج مماثل؛ فهم لم يحاولوا القفز إلى مستوىً أعلى من الذي يُمكِنُهم فهمه، فيحللوا اجتماعياً حماقتهم الإيديولوجية وينقّحوها. فبجَعلٍ عقولهم أكثر "موضوعية"، من المحتمل عدم تمكّنهم ن اكتساب ما نسميه "الموضوعية العلمية". كلا، فما نعنيه عادةً بهذا المصطلح يرتكز على أسسٍ مختلفة. إنها مسألة منهجٍ علمي. وبما يكفي من المفارقة، ترتبط الموضوعية ارتباطاً وثيقاً بالجانب الاجتماعي في المنهج العلمي، فالعلم والموضوعية العلمية لا ينجمان (ولا يمكنهما أن ينجما) عن اجتهادات عالِمٍ فردٍ كي يكون "موضوعياً"، بل عن "التعاون غير الودّي بين علماء كثُر". من الممكن وصف الموضوعية العلمية بأنها تفاعل ذوات المنهج العلمي. لكن هذا الجانب الاجتماعي في العلم يهمله إهمالاً تاماً تقريباً من يُسَمُّون أنفسهم سوسيولجيو المعرفة. (314)
إن جانبَين في منهج العلوم الطبيعية على درجةٍ من الأهمية في هذا الصدد، ويشكلان معاً ما أسميه "الطابع العام في المنهج العلمي". الجانب الأول، هو الدخول في "انتقاد حرّ". فالعالِم يعرض نظريته وهو على اقتناع كامل بأنها محصّنة تماماً ضد النقد. ولكن اقتناعه لن يؤثر في زملائه ومنافسيه من العلماء، فالحاصل أن النظرية تتحدّاهم: بمعنى أنهم يعرفون أن الموقف العلمي يعني انتقاد كل شيء، وقَلّ أن تردعهم سلطاتٌ مرجعية. وثانياً، يسعى العلماء إلى تجنب الحديث بأغراض متعارضة (وأذكّر القارئ أني أتحدث عن العلوم الطبيعية، ولكن جانباً من علم الاقتصاد الحديث يدخل في هذا السياق)؛ فيسعون بمنتهى الجدِّية إلى الحديث بلغةٍ واحدة وباللغة نفسها، حتى ولو استخدموا لغاتهم الأم المختلفة. ويتحقق ذلك في العلوم الطبيعية عن طريق الاعتراف بالتجربة بوصفها الحَكَم غير المتحيّز في خلافاتهم. وحين أتحدث عن "التجربة"، أقصد تجربة شخصية "عامة" كالملاحظات والتجارب، في مقابل التجربة الجمالية أو الدينية "الأخصّ". ولن تكون التجربة "عامةً" إلا حين يتمكن كل شخصٍ من تكرارها. ومن أجل تجنّب الحديث بمانٍ متضاربة، يسعى العلماء إلى التعبير عن نظرياتهم بصورة تمكّنهم من اختبارها، أي تفنيدها ودحضها (أو تأييدها) من خلال التجربة بهذا المعنى السالف.
وذلك هو ما يشكل الموضوعية العلمية. فكل مَن يتعلم تقنية فهم النظريات العلمية واختبارها يمكنه تكرار التجربة والحكم بنفسه. ورغم ذلك، سيوجد دوماً بعض من يتوصّلون إلى أحكام جزئية أو حتى شاذّة. ولكن ذلك لا يساعد في ـ ولا يُخِلّ إخلالاً جاداً تـ ـ عملِ مختلف المؤسسات الاجتماعية الهادفة إلى تعزيز الموضوعية والنقد العلميين، كالمختبرات والدوريات والمؤتمرات العلمية. ويكشف هذا الجانب من المنهج العلمي عمّا يمكن أن تحققه مؤسسات هادفة إلى إتاح رقابةٍ عامة، وتحققه علَنيّة الرأي العام، حتى لو كان هذا الرأي العام قاصراً على دائرة المتخصصين. أما حين تُستخدم السلطة السياسية لقمع حرية النقد، أو حين تعجز عن حمايته، فستضعِف دورَ تلك المؤسسات، التي يعتمد عليها في النهاية كل التقدم العلمي والتقني والسياسي.
ومن أجل شرحٍ إضافيٍّ إذ لا يزال ذلك الجانب من المنهج العلمي مهمَلاً للأسف، من الأفضل تمييز العلم بمناهجه لا بنتائجه. فلنفترض أن عرّافاً كتب كتاباً بأسسلوب الحالم أو ربما بأسلوب الكتابة التلقائية. ثم لنفترض كذلك أنه في سنواتٍ لاحقة نتيجة اكتشافاتٍ علمية حديثة وثورية، كتب عالِمٌ كبير (لم يكن قد رأى ذلك الكتاب) نفس الكتاب بالضبط. أو لنقل بشكل مختلف، نفترض أن العرّاف "رأى" كتاباً علمياً لم يكن قد كتبه بعد عالِمٌ بسبب أن عديداً من الاكتشافات ذات الصلة لم تكن معروفةً في ذلك الوقت. ونحن نتساءل الآن: هل من المستحسَن القول بأن العرّاف كتب كتاباً علمياً؟. نفترض أنه لو عُرض في ذلك الوقت على علماءَ مختصين كي يحكموا عليه فسيوصف بأنه غير مفهوم إلى حدٍ ما، وخياليٌ إلى حدٍّ ما، ومن ثمّ سيتعيّن علينا القول بأن كتاب العرّاف لم يكن حين كتبه كتاباً علمياً ما دام لم يكن ثمرة منهجٍ علمي. وسأطلق على ثمرةٍ من هذا القبيل ـ ليست نتاجَ منهج علمي رغم أنها تتفق مع بعض النتائج العلمية ـ قطعةً من "العلم المنزَّل" [علمٌ موحىً به].
ومن أجل تطبيق تلك الاعتبارات على مشكلةِ العلنية والشيوع في المنهج العلمي، فلنفترض أن روبنسون كروزو (وهي سيرة تخيلية تحكي عن شاب انعزل في جزيرة وحيداً لمدةٍ طويلة دون أن يقابل أحداً من البشر، ثم بعد سنوات قابَل أحد المتوحشين، وعلّمه بعض ما وصل إليه الإنسان المتحضر، وفي نهاية القصة عاد إلى أوروبا حيث الحضارة ـ المترجِم ـ ) نجح في أن يبني على جزيرته مختبرات فيزيائية وكيميائية، ومراصد فلكية، إلخ..، ثم نجح في كتابة عدد كبير من الأوراق، بناها كلها على الملاحظة والتجربة. ولنفترض أنه قضى وقتاً طويلاً في إعدادها وتنظيمها، وأنه نجح في بناء أنظمة علمية وصفية، تتوافق فعلاً مع النتائج التي يقبلها علماؤنا في الوقت الحاضر. عند التفكير في صفة هذا العلم المنسوب إلى كروزو، سيميل بعض الناس ـ للوهلة الأولى ـ إلى الجزم بأنه علم حقيقي وليس "علماً منزّلاً"؛ فهو بلا ريب أشبه بالعلم ن الكتاب العلمي المنزّل على العرّاف، لأن روبنسون كروزو طبّق قدراً كبيراً من المنهج العلمي. ولكني أجزز بأن ذلك العلم المنسوب إلى كروزو لا يزال من النوع "المنزّل" وأنه يفتقر إلى مبدأ المنهج العلمي. وبموجب ذلك، فكوْن أن كروزو توصّل إلى نتائجنا نفسها لهو أقرب ما يكون إلى المصادفة والإعجاز كما في حالة العرّاف. فلا أحد غيره قد راجع نتائجه، ولا أحد غيره صحّح أحكامه المسبقة وتحيّزاته الناجمة حتماً عن تاريخه الذهني، ولا أحد أعانه على التخلص من العمى الغريب المتعلق بالاحتمالات الكامنة في نتائجنا الناجمة عن أن معظمها قد تُوِصِّل إليه غبر مقاربات خارجة عن الموضوع نسبياً. وأما عن أوراقه العلمية فهي ليست سوى محاولاتٍ لتفسير عمله لأشخاص لم يقوموا بها بحيث يمكنهم تحقيق انضباط، عبر تواصل واضح ومعقول هو أيضاً جزءٌ من المنهج العلمي. الخلاصة ـ وهي غير مهمة نسبياً ـ أن وصف علم كروزو بأنه علمٌ "منزّل" أمرٌ واضح، وأقصد اكتشاف كروزو لـ "معادلته الشخصية" (لأن علينا افتراض أنه قام بذلك الاكتشاف)، واكتشافه لزمن ردِّ فعلِه الشخصي الذي يؤثر في ملاحظاته الفلكية. وبطبيعة الحال، من المتصوَّر أنه اكتشف ـ لنقلْ ـ التغيرات في زمن ردِّ فعلِه، وأنه انتهى بتلك الطريقة إلى عمل التفاوتات المحتملة فيه. لكن لو قارنّا تلك الطريقة في اكتشاف زمن ردِّ الفعل، بالطريقة التي اكتُشف بها في العلم "العام" ـ من خلال التناقض بين نتائج يتوصل إليها ملاحظون مختلفون ـ فإن وصف علم روبنسون كروزو بأنه "منزّل" يصبح وصفاً ظاهراً جلياً. (317)
ولتخليص تلك الاعتبارات، من الممكن القول بأن ما نسميه "الموضوعية العلمية" ليس نتاج حياد عالِمٍ واحد، بل نتاج الطابع الاجتماعي أو العام للمنهج العلمي؛ فحياد العاِم الفرد ـ ما دام يوجد ـ ليس هو المصدر وإنما هو نتاج موضوعية العلم المنظَّمة اجتماعياً أو مؤسسياً.
ويرتكب الكانطيون والهيغليون على السواء الخطأ نفسه، مفترضين أن فرضياتِنا المسبقة (ما دامت هي أدواتنا التي نبدأ بها ولا نستغني عنها ولا يرقى إليها الشك، وهي التي نحتاجها في "القيام" بتجاربنا) لا يمكن تغييرها بقرار ولا دحضُها بالتجربة؛ فهي أعلى من المناهج العلمية المستخدَمة في اختبار النظريات، وتتجاوزها، فتشكل فرضياتٍ أساسيةً سابقة على كل الفكر. لكن ذلك مبالَغة، مبنية على سوء فهم العلاقات بين النظرية والتجربة في العلم. لقد كان أحد إنجازات عصرنا العظمى، إيضاح أينشتاين أننا في ضوء التجربة نسائل فرضياتِنا المسبقة عن المكان والزمن ونراجعها، وهي أفكارٌ يُرى أنها فرضيات مسبقة ضرورية لكل العلم وتنتمي إلى "جهاز مقولاته". ومن ثَمّ، فالهجوم الارتيابي على العلم الذي بدأته سوسيولوجيا المعرفة انهار في ضوء المنهج العلمي. لقد أثبت المنهج التجريبي أنه قادرٌ تماماً على الاعتناء بنفسه. (318)
لكنه يفعل ذلك، لا عن طريق التخلص من أحكامنا المسبقة كلها مرة واحدة، بل بالتخلص منها واحدةً فواحدة. والحالة الكلاسيكية في صميم الموضوع هي مة أخرى اكتشاف أينشتاين لأحكامنا المسبقة المتعلقة بالزمن. لكن أينشتاين لم يكن ينوي اكتشاف الأحكام المسبقة، ولم يكن ينوي حتى انتقاد تصوراتنا عن المكان والزمن. فمشكلته كانت مشكلة ملموسة في الفيزياء، ألا وهي إعادة صياغة نظريةٍ كانت قد انهارت بسبب عدة تجارب بدت في ضوء النظرية تُناقِض إحداها الأخرى، فأدرك أينشتاين ومعظم الفيزيائيين أن النظرية كانت خاطئة. واكتشف أننا لو غيّرناها عند نقطةٍ كان كل شخصٍ يعتبرها حتى الآن بديهية ـ ولذا كانت تفلت من الملاحظة ـ فسنتغلّب على المشكلة. وبكلمات أخرى، طَبَّق أينشتاين مناهج النقد العلمي والاختراع والتخلص من النظريات ومناهج التجربة والخطأ. ولا يؤدي هذا الأسلوب إلى التخلي عن كل أحكامنا المسبقة، وإنما يمكّننا من اكتشاف أنه لم يكن لدينا حكم مسبق إلا بعد التخلص منه.
[الأنسب القول: ولا يمكنّنا من اكتشاف أنه كان لدينا حكم مسبق إلا بعد التخلص منه.]
لكن من المؤكد ضرورة الاعتراف بأن نظرياتنا العلمية ـ في أية لحظة محددة ـ لن تعتمد على التجارب فقط، إلخ..، في تلك اللحظة، بل أيضاً على أحكامٍ مسبقة مفروغ منها أيضاً، لم نكن واعين بها (رغم تطبيق مناهج منطقية بعينها تساعدنا على الكشف عنها). وعلى أية حال، نستطيع القول في هذا لاصدد إن العلم قادر على التعلم وعلى تحطيم بعض قشوره. وقد لا تكون العملية مكتملة، لكن لا يوجد حاجز ثابت ونهائي يجب التوقف عنده. فأية فرضيّة يمكن من حيث المبدأ انتقادها. وحين يكون بمقدور أيِّ أحدٍ انتقادها، تتشكل الموضوعية العلمية.
ولا تكون النتائج العلمية "نسبية" (لو استخدمنا هذا المصطلح) إلا بقدر ما هي نتائج مرحةٍ معيّنة في التطوّر العلمي يمكن تجاوزها أثناء مسار التقدم العلمي. لكن ذلك لا يعني أن الحقيقة "نسبية". كلا ولا أن قولاً صحيحاً فهو صحيح إلى الأبد. وإنما لا يعني سوى أن معظم النتائج العمية لها طابع الفرضيات، أي هي عبارات يكون  الدليل عليها غير قاطع، ولذا فهي قابلةٌ للمراجعة في أيّ وقت. هذه الاعتبارات (التي تناولتُها بشكلٍ أكمل في موضعٍ آخر)، رغم أنها ليست ضرورية لانتقاد السوسيولوجيين، قد تساعد على تعزيز فهم نظرياتهم، وتلقي أيضاً بعض الضوء ـ وأعود إلى انتقادي الرئيسي ـ على الدور المهم الذي يلعبه تعاوت الذوات وتفاعلها وعلَنية المنهج في النقد العلمي والتقدم العلمي.
من الصحيح أن العلوم الاجتماعية لم تحقق تماماً بعدُ علنية المنهج وشيوعه. ويرجع ذلك جزئياً إلى تأثير أرسطو وهيغل الهادم للعقل. وربما جزئياً أيضاً إلى إخفاقهما في استخدام الأدوات الاجتماعية المتعلقة بالموضوعية العلمية. وهكذا، فـ"الإيديولوجيات الكلّية" في حقيقة أمرها، غير قادرةٍ ـ بل ولا تريد ـ التحدث بلغةٍ مشتركة، أو لو تكلمنا بشكلٍ مختلف، بعض العلماء الاجتماعيين غير قادرين على التحدث بلغةٍ مشتركة، كلا ولا يريدون. لكن السبب ليس المصلحة الطبقية، والعلاج ليس توليفاً جدلياً هيغلياً، كلا ولا تحليل الذات. المسار الوحيد المفتوح أمام العلوم الاجتماعية هو نسيان كل ما يتعلق بالاستعراضات اللفظية، ومعالجة مشكلات عصرنا العلمية بمعونة المناهج النظرية الموجودة أساساً في كل العلوم. أقصد مناهج التجربة والخطأ وابتكار فرضيات يمكن اختبارها عملياً، وتخضع لاختباراتٍ عملية. التكنولوجيا الاجتماعية ضرورية، ويمكن اختبار نتائجها عن طريق الهندسة الاجتماعية التدرجية. والعلاج المقترح هنا للعلوم الاجتماعية هو على طرف نقيض من العلاج الذي تقترحه سوسيولوجيا المعرفة. فالمذهبية السوسيولوجية تعتقد أنها لا تتميز بأمور غير عملية، وإنما تتشابك المشكلات العملية والنظرية كثيراً في مجال المعرفة الاجتماعية والسياسية، وتخلق صعوبات منهجية في تلك العلوم. وهكذا يمكننا أن نقرأ في أحد الأعمال الرائدة عن سوسيولوجيا العرفة: "إن خصوصية المعرفة السياسية على عكس المعرفة "الدقيقة"، تكمن في أن المعرفة والإرادة، أو المبدأ العقلاني والنطاق اللاعقلاني، يتشابكان جوهرياً على نحوٍ لا ينفصم". وردُّنا على ذلك هو أن "المعرفة" و"الإرادة" لا ينفصلان أبداً بمعنى محدد، ولا تؤدي هذه الحقيقة بالضرورة إلى أية عرقلة خطيرة. فلا عالِم يمكنه إحراز معرفة دون مجهود، ودون تبني همٍّ، وفي مساعيه يوجد في العادة قدر معيّن من المصلحة الذاتية الضمنية [المتوارية]. المهندس يدرس الأشياء بصورة رئيسية من وجهة نظر عملية. وهكذا يفعل المزارع. الممارسة ليست عدوّ المعرفة النظرية بل هي الباعثالأكثر قيمة عليها. ومع أن قدراً محدداً من الترفّع قد يصير إليه العالِم، فثمة العديد من الأمثلة توضح أنه ليس مهماً للعالِم أن يكون طول الوقت بلا أغراض أو اهتمامات عملية، بل المهم له أن يظل على اتصال بالواقع وبالممارسة، فمَن يتغاضَوْن عن هذا يسقطون في المدرسيّة. ولذا، فالتطبيق العملي لاكتشافاتنا هو الوسيلة التي نُخلِّص بها العلم الاجتماعي من اللاعقلانية، وليس محاولة فصل المعرفة عن "الإرادة".
أما سوسيولوجيا المعرفة فعلى عكس ذلك تأمل في إصلاح العلوم الاجتماعية بجعل العلماء الاجتماعيين واعين بالقوى والأيديولوجيات الاجتماعية التي تكتنفهم دون وعيٍ منهم. لكن المشكلة الرئيسية المتعلقة بالأحكام المسبقة هي عدم وجود طريق مباشر للتخلص منها. لأنه كيف لنا معرفة أننا نحقق أيَّ تقدم في محاولتنا تخليص أنفسنا من الأحكام المسبقة؟. ألا تقول لنا الخبرة المشتركة أن من هم أكثر اقتناعاً بالتخلص من الأحكام المسبقة هم الأكثر تحيّزاً؟. فمَن يعتقد أن الدرس السوسيولوجي أو السيكولوجي أو الأنثروبولوجي أو أيَّ درسٍ آخر للتحيّزات والأحكام المسبقة يساعدنا على تخليص أنفسنا منها لهو مخطئ تماماً؛ لأن العديد ممن يواصلون تلك الدراسات غارقون في التحيّز والأحكام المسبقة، فتحليل الذات لا يساعدنا في تجاوز الحتمية غير الواعية لوجهات نظرنا [قط]، بل يقود في الغالب إلى خداعٍ للذات أدهى. ومن ثَمّ، يمكننا أن نقرأ في العمل نفسه عن سوسيولوجيا المعرفة الإشارات الآتية إلى نشاطاتها: "ثمة ميلٌ متزايد إلى الوعي بالعوامل التي حكمتنا دون وعي منّا حتى الآن... فمن يخشون من أن زيادة المعرفة بالعوامل المقيّدة التي تشلّ قراراتِنا وتهدد "الحرية" ينبغي أن يريحوا عقولهم. نظراً لأن من لا يعرف العوامل المقيِّدة الأكثر جوهرية فيتصرف بشكل مباشر تحت ضغط محدّدات وتقييدات مجهولة له، لهو وحده المقيَّد حقاً". وليس ذلك سوى تكرار واضح لفكرةٍ عزيزة على قلب هيغل كرّرها إنغلز بسذاجة حين قال: "الحرية هي تقدير الضرورة". وإن ذلك لهو حكمٌ مسبق رجعي. فهل من يتصرفون تحت ضغط تقييدات ومحدّدات معروفة، مثلاً تحت ضغط استبداد سياسي، قد جعلتهم معرفتهم بها أحراراً؟. وحده هيغل من يقدر على إخبارنا بحكاياتٍ من هذا القبيل. إلا أن سوسيولوجيا المعرفة التي تحافظ على ذلك الحكم المسبق الخاص تظهِر بوضوح كافٍ عدم وجود طريق مختصر لتخليصنامن إيديولوجياتنا. (هيغلي الآن، وهيغلي على الدوام). إن تحليل الذات ليس بديلاً عن الأفعال العملية الضرورية لتأسيس مؤسسات ديموقراطية تضمن ـ وحدها ـ حرية الفكر النقدي وتقدُّم العلم. (322)

الفلسفة النبوئية والثورة على العقل


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق