الثلاثاء، 20 نوفمبر 2018

نصوص مقتبسة (1)؛ كارل بوبر.


المجتمع المفتوح وأعداؤه 

(نصوص مقتبسة من كتاب كارل بوبر "المجتمع المفتوح وأعداؤه" الجزء الأول)



كارل بوبر قارئاً أفلاطون.

يقع كتاب كارل بوبر "المجتمع المفتوح وأعداؤه" في مجلدين: الكتاب الأول يضم حوالي ثلاثمائة وخمسين صفحة. الفصل الأخير في الكتاب بعنوان: المجتمع المفتوح وأعداؤه، في حوالي الخمسين صفحة. أما ما تستغرقه بقية صفحات الكتاب التي تقارب الثلاثمائة صفحة فهي مخصصة لعرض ومناقشة أفلاطون.
الكتاب الثاني أكبر من الكتاب الأول بحوالي المائة صفحة، يخصص قسماً كبيراً منها لمناقشة النظرية الماركسية في التاريخ.
إنه لأمر لافت للانتباه أن يخصص بوبر كل هذه الصفحات لعرض ومناقشة آراء أفلاطون.
يتعامل بوبر مع أفلاطون كفيلسوف سياسي بشكلٍ أساس. مع أن الاتجاه السائد في قراءة أفلاطون تتعامل معه بوصفه فيلسوفاً ميتافيزيقياً.
هل كانت الميتافيزيقا عند أفلاطون كمحاولة تأصيلية لنظريته السياسية، أم إن نظريته السياسية جاءت كنتيجة منطقية لنظريته في الميتافيزيقا؟
هل الميتافيزيقا كانت الأساس في فلسفة أفلاطون أم السياسة؟
مهما كانت الإجابة المرجَّحة، يبقى صحيحاً على ما أعتقد بأن الإلمام بتاريخ اليونان وبتجربة أفلاطون الشخصية بالغ الأهمية في فهم كتابات أفلاطون بشكل أقرب إلى الصواب. مع أن المنهج البنيوي يذهب إلى عكس ذلك، فللنص وجود مستقل بعيداً عن صاحبه. لكني لست مع هذا الرأي، وإن كان أيُّ منهج لا يمكن أن يلغي أهمية بقية المناهج، ففي تكاملها يتم تسليط الضوء بشكل أوضح على مضامين النصوص ومضمراتها، والتي يشكل المنهج التاريخي أحد أهم تلك المناهج على ما أعتقد: لا يمكن فهم أي نص خارج سياق ظروف إنتاجه.
31/7/2018


يخبرنا السيد نفادي، مترجِم كتاب "المجتمع المفتوح وأعداؤه" لكارل بوبر بأنه لم يترجم هوامش الكتاب، لأنها "لا تهم سوى المتخصصين، كما يذهب إلى ذلك بوبر، فضلاً عن أنها تحتل مساحةً كبيرةً من الكتاب"، كما يذكر في مقدمته لترجمة الكتاب.
ببساطة إنه يخبرنا بأنه لم يترجم قسماً مهماً من الكتاب يهم المتخصصين، دون كتابة أي مقدمة أو تعريف بالكتاب.
إيه نعم..



لا يمكن لكتابٍ أن ينتهي على الإطلاق. فأثناء العمل فيه نتعلّم بما فيه الكفاية أنه في اللحظة التي نقرر الانصراف عنه، نجده غيرَ ناضج.
(كارل بوبر)

إن ما ندعوه المجتمع الشمولي إنما ينتمي إلى ما هو سائد سواءٌ أكان قديماً أم حديثاً. (أي الذي يستبعد التفكير النقدي)
(كارل بوبر)


التغيّر.
كان هيراقليطس أول فيلسوف يتعامل ليس فقط مع "الطبيعة"، وإنما أكثر من ذلك مع المشكلات الأخلاقية والسياسية التي خبرها في عصر الثورة الاجتماعية. وكانت الأرستقراطية القَبَلية اليونانية، في عصره قد بدأت تذعن للقوة الوليدة للديموقراطية.
(كارل بوبر؛ المجتمع المفتوح وأعداؤه؛ ص 33)


في حالة هيراقليطس، فإن التشديد على التغيّر إنما يؤدي به إلى نظرية أن كل الأشياء المادية، سواءٌ كانت جامدةً أو سائلةً أو غازيّة، إنما هي مثل اللهب، ولا تعدو أن تكون عمليات أكثر منها أشياء، وأنها جميعاً تحولاتٌ من النار.؛ فالأرض الصلبة ظاهرياً (والتي تتكوّن من الرماد) إنما هي نارٌ فحسب في حالة تحوّل...
"
فكل شيء هو تحوّل للنار، والنار إلى كل شيء، تماماً كتحوّل الذهب إلى سلع، والسلع إلى ذهب".
(كارل بوبر ص 36)

"
إن هذا الترتيب الكوني، والذي هو نفسه بالنسبة إلى كل الأشياء، لم يكن مخلوقاً، لا من قِبل الآلهة ولا من قبل الإنسان، كان دائماً ولا يزال، ولسوف يظل، ناراً حيّةً أبداً، تتوهج وفقاً لمقياس (بمقدار) وتخبو بمقدار.. وفي اندفاعها إلى الأمام فإن النار سوف .. تنفّذ أحكامها على كل شيء".
(هيراقليطس. أوردها بوبر. ص 38)


طبقاً لإحدى محاورات أفلاطون (محاورة السياسي)، فإن العصر الذهبي، عصر كرونوس، وهو العصر الذي يحكم فيه كرونوس بنفسه العالم، والذي يَبعث فيه البشر من الأرض، يُتبع بعصرنا نحن، عصر زيوس، وهو عصرٌ تتخلى فيه الآلهة عن العالم، وتتركه لموارده الخاصة، وهو بالتالي عصر ازدياد الفساد.
وفي قصة السياسي هناك أيضاً إشارةٌ إلى أنه، بعد بلوغ الفساد ذروته، سوف تتولّى الآلهة دفّة السفينة الكونية، وسوف تبدأ الأشياء بالتحسّن من جديد.
(بوبر، ص 46)

بوبر يجعل من السياسة نقطة انطلاق في قراءته لتاريخ الفلسفة:
يقول كارل بوبر في كتاب "المجتمع المفتوح..": لقد "عمم هيراقليطس خبرته عن التدفق الاجتماعي بتمديدها على عالم "الأشياء جميعاً". 
ولقد نوّهت إلى أن أفلاطون فعل الشيء نفسه. بيد أن أفلاطون قد سحب أيضاً اعتقاده هذا في الدولة الكاملة التي لا تتغيّر على عالم كل الأشياء."

بين الطبيعي والعرف الاجتماعي..
إن انحلال القَبَليّة السحرية مرتبط كل الارتباط بإدراك أن المحرّمات مختلفة في القبائل المختلفة، وأنها مفروضةٌ ومعَضّدة من قبل الإنسان، وأنها قد تُنتهَك من دون أن يترتب على ذلك ردود أفعال غير سارّة، فقط إذا كان في مقدور المرء أن ينجو من العقوبات المفروضة عليه من قبل إنسان آخر. ويتدعّم هذا الإدراك أكثر عندما نلاحظ أن القوانين تعدَّل وتُسنّ من قِبل مشرّعين بشر.
(بوبر، ص 108)

تُعدّ المماثلة الأساسية بين الدولة والفرد الإنساني، واحدةً من الموضوعات النمطية للجمهورية [جمهورية أفلاطون]. ومما هو جدير بالذكر في هذا الصدد، أن المماثلة تفيد في تعميق تحليل الفرد أكثر منها في تحليل الدولة. وربما يكون من الممكن الدفاع عن وجهة النظر التي تقول بأن أفلاطون لم يقدّم نظرية بيولوجية للدولة بقدر ما قدّم نظرية سياسيةً عن الفرد الإنساني وأعتقد أن هذا الرأي يتفق تماماً مع مذهبه بأن الفرد أدنى من الدولة، وهو نوع من النسخ غير الكامل لها. (ص 137)
**
الحاكم والقانون.
لسنا في حاجة، لكي نثير مسألة الرقابة الدستورية على الحكّام، أن نفترض أكثر من أن الحكومات ليست دائماً خيّرة أو حكيمة..
ولعلّني أميل إلى الاعتقاد بأن الحكّام نادراً ما كانوا فوق المعدّل الأخلاقي أو العقلي، وإنما كانوا دائماً تحته.
..
ويبدو لي أنه من الجنون أن نعلّق جهودَنا السياسية على أملٍ واهٍ بأننا سنوفَّق في الحصول على حكّامٍ ممتازين، أو حتى ذوي أهليّة.
(كارل بوبر؛ المجتمع المفتوح.. ص 205)
**
يمكن التمييز بين نوعيْن رئيسيين من الحكومة. يتألف النوع الأول من حكوماتٍ يمكننا أن نتخلّص منها دون إراقةٍ للدماء، حتى عن طريق انتخابات عامةٍ مثلاً، فيقال إن المؤسسات الاجتماعية تنتج وسائلَ يمكن بها التخلّص من الحكّام عن طريق المحكومين، وأن تكفل التقاليدُ الاجتماعية أن هذه المؤسسات لن تتحطم ببساطة من قِبَل أولئك الذين في يدهم السلطة. ويتألف النوع الثاني من حكوماتٍ لا يمكن للمحكومين أن يتخلّصوا منها إلا بثورة ناجحة، وذلك في معظم الحالات وليس في كلها. وأقترح أن يوضع مصطلح "ديموقراطية" كعنوان مختزل، على الحكومة من النوع الأول، ومصطلح "طغيان" أو "دكتاتورية" على النوع الثاني. (ص 208)
**
المؤسسات شبيهة بالقلاع، يتوجّب أن يُراعى حسن تصميمها وتجهيزها بالرجال. (211)
الديموقراطية إنما تقدم إطاراً مؤسساتياً لإصلاح المرسسات السياسية. وهي تتيح إصلاح المرسسات من دون استخدام العنف، وبالتالي باستخدام العقل في تصميم مؤسسات جديدة أو تعديل أخرى قديمة.
.. من الخطأ البيّن أن نلوم الديموقراطية بسبب سياسة لدولةٍ ديموقراطية. وإنما ينبغي، بدىً من ذلك، أن نلوم أنفسَنا، أو بعبارة أخرى، أن نلوم مواطني الدولة الديموقرراطية. (212)
**
بوبر ناقداً أفلاطون في اختيار الحاكم
"لا يزال فرض أفلاطون بأنه يتعيّن أن تكون مهمة التربية (أو بدقة أكثر، مهمة المرسسات التعليمية) هي أن تختار قادة المستقبل، وأن تدربّهم على القيادة، هو الادّعاء الملّم به على نطاق واسع حتى يومنا هذا. وبتحميل هذه المؤسسات أعباءً تعدى نطاق أي مؤسسة، يكون أفلاطون مسرولاً جزئياً عن حالتها البائسة. (213)
**
كان سقراط أخلاقياً ومفعماً بالحماسة. وكان نموذجاً للرجل الذي ينتقد أية صورةٍ من صورِ الحكم بسبب عيوبه (وفي الواقع، فإن مثل هذا النقد يكون ضرورياً ونافعاً بالنسبة لأي حكم، على الرغم من أنه يكون ممكناً فقط تحت مظلة حكم ديموقراطي). بيد أنه أقرّ بأهمية الولاء لقوانين الدولة. وكما تصادف فقد أمضى معظمَ حياتِه تحت شكلٍ من أشكال الحكم الديموقراطي، وكديموقراطيٍّ صالح وجد أنّ من واجبه أن يفضح عدم أهليّة وادّعاء بعض القادة الديموقراطيين في عصره. وقد عارض، في الوقت نفسه، أيَّ شكلٍ من أشكال الطغيان؛ ولو أخذنا في الاعتبار سلوكَه الشجاع تحت حكم الطغاة الثلاثين لن تكون لدينا حجةٌ لافتراض أن انتقاده للقادة الديموقراطيين كان مدفوعاً بأي ميولٍ معارضة للديموقراطية. (214)
(هنا إشارة من بوبر إلى اختلاف موقف سقراط عن موقف أفلاطون الذي كان معادياً للنظام الديموقراطي).
**ل
وفقاً لسقراط ربما يمكن تعليم إحدى المهارات، مثلاً الخطابة، بطريقةٍ دوغماطيقية بواسطة خبير.. بيد أن الحكمة، والمعرفة الحقة ، والفضيلة أيضاً يمكن تعليمهم فقط بطريقة يصفها بأنها صورةٌ من صور فنّ التوليد. ويمكن مساعدة أولئك المتلهفين إلى التعلّم على تحرير أنفسهم من أفكارهم المسبقة.. فيمكنهم تعلّم النقد الذاتي، وأن الحقيقة لا يمكن بلوغها بسهولة.. ولكن عليهم أيضاً أن يتعلّموا كيف يقررون ويركنون، بصورة نقدية، إلى قراراتهم وإلى بصيرتهم. (216)
**
"لسوف يمتزج الديد بالفضة، والبرونز بالذهب، ولسوف يولَد من هذا الاختلاط التنوعُ وعدمُ الانتظام المنافي للعقل؛ وعندما يولد هؤلاء سينجبون الصراع والعداء. وهذه هي الكيفية التي ينبغي أن نصف بها سلسلة النسب وميلاد النزاع أينما ينشأ" (أفلاطون؛ أوردها كارك بوبر؛ ص 234)
**
لقد كان كريتياس، الشاعر، أول من مجّد الأكاذيب الدعائيّة، التي ابتدعها والتي وصفها في أبياتٍ قويةٍ ممتدحاً الرجل الحكيم والبارع الذي ابتدع الدين، لكي "يقنع" الناس، أي يتوعّدهم للدخول في الطاعة.
"وحينئذٍ، حضر في ما يبدو، ذلك الرجلُ الحكيمُ البارع،
حاجباً الحقيقة بأستارٍ من المعرفة الكاذبة.
فأنبأنا بمقرّ الآلهة المرهوبة،
فوق، في الأقبية الزرقاء الدوّارة، التي منها تدوّي الرعودُ،
وتتوهّج أضواءُ البرق المخيفة، تبهر العيونَ..
وهكذا فإنه يطوّق الرجالَ بقيودٍ من الخوف، يحيطهم بآلهةٍ في مقالماتٍ طليقة،
وبتعاويذِه سبى عقولَهم، وثبّط عزمَهم،
وتحولت الفوضى إلى قانونٍ ونظام". (ص 236)
**
فالدين، في رأي كريتياس، ليس سوى فريّةٍ كبرى لرجلِ دولةٍ عظيم وذكي. وآراء أفلاطون تشبه ذلك تماماً بصورةٍ ملفتةٍ للنظر، في كلٍ من مقدمة الأسطورة في الجمهورية (حيث يعترف بفظاظة أن الأسطورة فريّة) وفي "القوانين" حيث يقول: إن تنصيب الطقوس والآلهة يُعدّ "مادةً خصبة لمفكر عظيم" ولكن هل هذه كل الحقيقة عن موقف أفلاطون الديني؟ وهل كان مجرد انتهازي في هذا المجال؟ وهل كانت الروح المختلفة تماماً في أعماله الأولى مجرد إيحاءات سقراطية؟ ليس ثمة وسيلةٌ بالطبع لحسم هذه المسألة بيقين، على الرغم من أنني أشعر حدساً، أنه قد يكون ثمة شعور دينيّ حقيقي أكثر يظهر أحياناً في الأعمال المتأخرة. وأعتقد أنه حيثما تطرّق أفلاطون إلى الأمور الدينية في علاقتها بالسياسة، فإن انتهازيته السياسية تزيح كل المشاعر الأخرى جانباً. وهكذا يطالب أفلاطون، في القوانين بتوقيع أشد العقوبة حتى على الأشراف أو الوجهاء، إذا ما انحرفت آراؤهم المتعلقة بالآلهة عن تلك التي قررتها الدولة. فيجب أن تُحاكَم أرواحُهم أمام مجلس ليلي من المحققين، وإذا لم ينكروا، أو إذا كرروا الإساءة، فإن تهمة الكفر تعني الموت. فهل نسي أن سقراط كان قد سقط ضحية لهذه التهمة ذاتها؟
ولقد أشار أفلاطون في مذهبه الديني المركزي إلى أن الملهِم لهذه المطالب هو بصفةٍ رئيسية مصلحة الدولة أكثر منه الاهتمامن بالإيمان الديني ذاته. (ص 237)
**
الجمالية والكمالية اليوتوبية
أو: [بين الهندسة اليوتوبية والهندسة المتدرجة]

ثمة مداخلةٌ معيّنة في علم السياسة متأصّلة في برنامج أفلاطون أعتقد أنها خطيرة إلى أبعد حد. وتحليلُها يُعَدّ ذا أهمية عمليّة كبيرة من وجهة نظر الهندسة الاجتماعية العقلانية. ويمكن أن توصف المداخلة الأفلاطونية، التي أعنيها، بأنها مداخلة الهندسة اليوتوبية، كمقابل لنوع آخر من الهندسة الاجتماعية التي أعتبرها النوع العقلاني الوحيد، والتي يمكن وصفُها باهندسة المتدرّجة. أما المداخلة اليوتوبية فهي الأخطر، لأنها قد يبدو أنها البديل الواضح للنزعة التاريخية الصريحة ـ لمداخلةٍ تاريخانية متطرفة تقتضي ضمناً أننا لا نستطيع تعديل مسار التاريخ، وتبدو، في الوقت نفسه، أنها تكملة ضرورية لنزعة تاريخية أقل تطرفاً، مثل نزعة أفلاطون التي تسمح بتدخل إنساني.
وربما توصَف المداخلة اليوتوبية على النحو التالي: لا بدّ أن يكون لأيّ فعلٍ عقلاني هدفٌ معيّن. وهو عقلاني بنفس الدرجة لأنه يتعقب هدفه بوعي وباتساق، ولأنه تحدَّد وسائلُه وفقاً لهذا الهدف. ولذلك فاختيار الهدف هو الشيء الأول الذي يتعيّن أن نفعله إذا رغبنا في أن نؤدّي عملاً بصورة عقلانية، ويجب علينا أن نحدّد بعنايةٍ أهدافَنا الحقيقية أو النهائية، والتي منها يجب أن نميّز بوضوح تلك الأهداف الوسيطة أو الجزئية التي هي في الواقع وسائلُ فقط، أو خطواتٌ على الطريق، نحو الهدف النهائي. وإذا أهملنا هذا التمييز، فعلينا أيضاً أن نهمل السؤال عمّا إذا كانت تلك الأهداف الجزئية قادرةً على دفعنا نحو الهدف النهائي، وبناءً عليه فسوف نخفق في التصرف العقلاني.
 فإذا ما طُبِّقت هذه المبادئ على حقل النشاط السياسي، فإنها تتطلب ضرورة تحديد هدفنا السياسي النهائي، أو الحالة المثالية، قبل الشروع في أداء أيِّ فعلٍ عملي. وفقط عندما يتم تحديد هذا الهدف النهائي، على الأقل في صورة تقريبية، وفقط عندما يكون في حوزتنا شيءٌ ما شبيهٌ ببرنامج عمل للمجتمع الذي نهدف إليه. حينئذٍ فقط يمكننا أن نبدأ في أن نفكر في أفضل الطرق والوسائل لتحقيقه، وأن نرسم خطّة للفعل العملي. هذه هي الأوليات الضرورية لأي تحرك سياسي عملي يمكن أن يُطلَق عليه اسم عقلاني، وخصوصاً للهندسة الاجتماعية.
هذه باختصار، هي المداخلة المنهجية التي أدعوها بالهندسة اليوتوبية. وهي مقنعة نجذابة. كما أنها، في الواقع، نوعٌ من المداخلة المنهجية التي تجذب كل هؤلاء الذين يتأثرون بالأفكار المسبقة التاريخانية، أو الذين يعملون ضدّها، وذلك ما يجعلها الأخطر، ويجعل نقدَها أكثر إلحاحاً.
وأودّ قبل المضيّ قُدماً في نقد الهندسة اليوتوبية بشكلٍ أكثرَ تفصيلاً، أن أضع مخططاً تممهيدياً لمداخلة أخرى للهندسة الاجتماعية، أعني للهندسة المتدرّجة. وهي أطروحةٌ أعتقد أنها سليمة من الناحية المنهجية. إن السياسي الذي يتبنّى هذا المنهج قد يكون، أو لا يكون، لديه برنامج عمل للمجتمع أمام ناظريه، وقد يأمل، أو لا يأمل، في أن يقيم الجنسُ البشري في يوم من الأيام دولةً مثالية، ويحقق السعادة والكمال على الأرض. بيد أنه لن يدرك أن الكمال، حتى لو كان يمكن إحرازُه بعيدُ المنال إلى حدٍّ كبير، وبالتالي [فإن] الجيل الحالي أيضاً لديه شيءٌ يطالب به، قد لا يكون هذا الشيء المطالبةَ بتحقيق السعادة، لأنه لا توجد وسائل مؤسساتية تجعل الإنسان سعيداً، ولكنه على الأرجح يطالب بألا يكونَ تعيساً، طالما كان في الإمكان تفادي ذلك. وعندما يعاني الناسُ فإن مطلبَهم يكون توفيرَ كلِّ مساعدةٍ ممكنة. ولسوف تتبنى الهندسة المتدرّجة، بناءً على ذلك، منهجاً للبحث عن، والكفاح ضد أعظم شرور المجتمع وأكثرها إلحاحاً، أكثر من البحث عن، والنضال من أجل، خيره النهائي الأعظم. وهذا الاختلاف بعيد عن كونه مجرد اختلاف لفظي. وإنما هو، في الواقع، غايةٌ في الأهمية. إنه الاختلاف بين منهج معقول لتحسين أحوال كثيرٍ من الناس، ومنهج، إذا ما اختُبِر حقيقة، قد يؤدي ببساطة إلى تزايد لا يطاق في معاناة الإنسانية. إنه الاختلاف بين منهج يمكن تطبيقه في أي لحظة، ومنهج الدفاعُ عنه قد يصبح ببساطة وسيلةً لفعلٍ مؤجل بصفة مستمرة حتى تاريخ لاحق، عندما تكون الظروف أكثر ملاءمة. وهو أيضاً الاختلاف بين المنهج الوحيد لتحسين الأحوال الذي طُبِّق بنجاح حقيقي حتى الآن، في أي زمان، وفي أي مكان (بما في ذلك روسيا، كما سنرى) والمنهج حيثما تمّ تطبيقُه، أدى فقط إلى استخدام العنف بدلاً من العقل، وتم استبعاد خطته الأصلية، إن لم يُستبعّد المنهج كلّية.
 (كارل بوبر؛ المجتمع المفتوح وأعداؤه؛ ص 261، 262)
**

المجتمع المفتوح والمجتمع المغلق.
هناك بعض الخواص التي يمكن أن توجَد في معظم، إن لم يكن في كلّ المجتمعات القبليّة. وأعني اتجاهها السحري واللاعقلاني نحو عاداتِ الحياة الاجتماعية والصرامة المناظرة لهذه العادات.
..
وعندما أتحدث عن صرامة العصبية القَبَلية، فإنني لا أعني بأنه ليس ثمّة تغيّر يمكن أن يحدث في الطرق القَبَلية للحياة. وإنما أعني بالأحرى، أن التغيّرات النادرة نسبياً لها خاصّية التحولات أو التغيرات الدينية المفاجئة، أو إدخال محرّمات سحرية جديدة. إنها غير مستندة إلى محاولة عقلانية لتحسين الأحوال الاجتماعية.
..
وفيما يلي، سيطلق أيضاً على المجتمع السحري أو القبلي أو الجمعي اسم المجتمع المغلق، وعلى المجتمع الذي يجابَه فيه الأفراد بقرارات شخصية، المجتمع المفتوح.
ويمكن مقارنة المجتمع المغلق بحق بمجتمع عضوي. ويمكن أن ينطبق عليه إلى حدٍّ كبير ما يسَمّى بالنظرية العضوية أو البيولوجية للدولة. فالمجتمع المغلَق يشبه القطيع أو القبيلة في أنه وحدةٌ شبه عضوية يرتبط أعضاؤها بعضهم ببعض بروابط شبه بيولوجية كالنسب، والحياة المشتركة، والمشاركة في المجهودات المشتركة، والأخطار المشتركة، والأفراح المشتركة، والأتراح المشتركة. إنها لا تزال جماعة متعيّنة من أفرادٍ متعينين، يرتبط كل منهم بالآخر ليس عن طريق علاقات اجتماعية مجردة فحسب، كتقسيم العمل وتبادل السلع، وإنما عن طريق علاقات فيزيقية متعيّنة كاللمس والشم والرؤية. وعلى الرغم من أن مجتمعاً مثل هذا قد يكون قائماً على العبودية، إلا أن وجود العبيد لا يحدث بالضرورة مشكلة تختلف في الأساس عن تلك التي تحدثها حيواناتٌ مروّضة. ومع ذلك فثمّة مظاهر منقوصة تجعل من المستحيل تطبيق النظرية العضوية بنجاح على مجتمع مفتوح.
والمظاهر التي أعنيها ترتبط بحقيقة أنه في مجتمع مفتوح، يكافح أعضاءٌ كثيرون من أجل الصعود الاجتماعي، واحتلال أمكنة أعضاءٍ آخرين. وقد يؤدي هذا، على سبيل المثال، إلى ظاهرة اجتماعية هامة كالصراع الطبقي. ولا يمكننا أن نعثر على أي شيء شبيه بالصراع الطبقي في مجتمع عضوي. إذ إن خلايا أو أنسجة الكائن الحيّ التي يقال أحياناً إنها تنطبق على أعضاء الدولة قد تتنافس على طعام؛ بيد أنه ليس ثمّة ميلٌ متأصّل في عضو الساق يسعى إلى أن يصبح الدماغَ، .. ولأن لا شيء في الكائن العضوي يناظر واحدةً من أكثر الخصائص أهمّية للمجتمع المفتوح، المنافسة على المكانة بين أعضائه، فما يسمّى بالنظرية العضوية للدولة يستند إلى مماثلة باطلة.. أما المجتمع المغلق، من ناحيةٍ أخرى، فلا يعرف الكثير عن هذه الميول.. فمؤسساته، بما في ذلك طوائفُه، لا تُمَسّ، إنها محرّمات. والنظرية العضوية هنا تجد مكاناً.. لذلك فليس من المستغرَب أن نجد أن معظم محاولات تطبيق النظرية العضوية على مجتمعنا ليست سوى أشكال مقنّعة من الدعاية للعودة إلى العصبية القَبَلية.
(ص 283، 284، 285)
[مرحلة الانتقال إلى المجتمع المفتوح]
يطيب لي أن أطلِق على هذا الجيل الذي يمثّل نقطة تحوّل في تاريخ الجنس البشري [التحول إلى المجتمع المفتوح والديموقراطية وتجاوز مرحلة الطبقات المقفلة التي دافع عنها أفلاطون في "جمهوريته، كما يذهب إلى ذلك بوبر] اسم الجيل العظيم؛ فهو الجيل الذي عاش في أثينا مباشرةً قبل، وخلال الحروب البيلوبونيزية. وكان يوجد بينهم محافظون عظام، مثل سوفوكليس [496ـ 405 ق.م]، أو ثيوسيديدس [460ـ 395 ق.م]. كما كان يوجد بينهم رجال يمثّلون مرحلة الانتقال وهم أولئك الذين كانوا مترددين مثل يوريبيدس [480ـ 406 ق.م]، أو متشككين مثل أريستوفان. ولكن كان هناك أيضاً الرائد العظيم للديموقراطية، بيركليس، الذي صاغ مبدأ المساواة أمام القانون، ومبدأ الفردية السياسية، وهيرودوت، الذي قوبل بالترحيب والتحية في مدينة بيرقليس بوصفه مرلّف العمل الذي مجّد هذه المبادئ. وبروتاغوراس، المولود في أباديران والذي أضحى ذا تأثير في أثينا، ومواطنه ديموقريطس الذي يجب أيضاً أن يُعَدّ من الجيل العظيم. وهم الذين صاغوا المبدأ الذي ينادي بأن المؤسسات الإنسانية للغة، والعادة، والقانون ليست ذات سمة سحرية كالمحرّمات، ولكنها من صنع الإنسان، ليست طبيعية، وإنما عرفية، مصرّين في الوقت نفسه، على أننا مسؤولون عنها.
وكانت توجد آنذاك مدرسة جوجياس، التي تضم ألخيداماس، وليكوفرون وأنتستين، الذين طوّروا العقائد الرئيسية المعادية للعبودية، وللنزعة الحمائية العقلانية، والمعارضة للقومية، أعني العقيدة التي تدعو إلى أمبراطورية عالمية للإنسان. وكان يوجد، ربما أعظم من كل هؤلاء، سقراط، الذي علّم الدرسَ بأنه يتعيّن علينا أن نضع ثقتنا في العقل الإنساني، وأن نحترس في الوقت نفسه من الدجماطيقية، وأنه يجب علينا أن ننأى بأنفسنا عن كل من كره التفكير أو النقاش، وعن الارتياب في النظرية، وفي العقل، وعن الاتجاه السحري لأولئك الذين يقيمون صنماً للحكمة، وهو الذي علّمنا، بعبارة أخرى، أن روح العلم هي النقد.
 (ص 302)
**



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق