الأحد، 11 مارس 2018

الزمان؛ أندريه كونت سبونفيل؛ ترجمة حسن أوزال




الزمان ـ أندري كونت سبونفيل ـ ترجمة: حسن أوزال



** ملاحظة: توجد ترجمة ثانية لنفس المقالة ومنشورة على المدوّنة قبل سنوات.

وحده الحاضر يوجد
كريسيبوس
ما الزمان؟ “إذا لم يسألني عنه أحد، فإنني أعرفه، يصرّح القديس أغسطينوس؛ لكن إذا ما سُئلتُ عنه، وأردتُ أن أُفسّره، فإنني لا أعرفه أبدا”. إن الزمان بداهةٌ و سرٌّ في نفس الآن: كل واحد منا يختبره؛ لكن لا أحد يستطيع أن يُمسك به، لأنه لا ينفك يمضي. ولو تَوقَّف لحظة واحدة، كل شيء سيتوقف، ولن يكون ثمة أبدا زمان. بل لن يكون ثمة أي شيء. لن تكون ثمة حركة (لأننا في حاجة للزمان إذا أردنا أن نتحرك)، ولن يكون هنالك سكون (لأنّ البقاء في سكون يستلزم الزمان). ودونما زمان لن يكون هنالك حاضر، ممّا يعني انعدام الـ“يوجد” “il y’a ” : فكيف يمكن لشيء ما أن يوجد؟ مادام الزمان، كما أوضح كانط، هو الشرط القبلي لكل الظواهر. مما يعني أنه الشرط، بنظرنا، لوجود كل الأشياء.
لكن، من جهة أخرى، كيف بوسع الزمان أن يتوقف وهو الذي يقوم عليه كل توقف؟ يعلق “ألان” عن القول المأثور التالي: “أيها الزمان كُفَّ عن المضي بعجالة”، مؤكدا على أنه رجاء شاعر“يبدو أن التناقض ينخره، حالما نتوجه إليه بالسؤال: كم من الزمان سَيَكُفُّ الزمان عن المُضي بعجالة؟”. فليس علينا إذن إلا أن نختار ما بين أمرين: فإما أن الزمان لم يتوقف إلا لوقت معين، وهو بالتالي ما يعني أنه لم يتوقف؛ وإما أنه توقف نهائيا، وبالتالي لن يكون هناك من معنى حتى لمفهومي التوقف أو النهاية. فليس هناك مِنْ توقف إلا بالقياس إلى “ما قبل”؛ وليس هناك مِنْ نهاية إلا بالقياس إلى “ما بعد”.

بديهي والحالة هاته، أن الماقبل والمابعد، يفترضان الزمان: ذلك أن فكرة توقف الزمان، سواء كان توقفا لحظيا أو نهائيا، مستحيلة ولا تُتَصَوَّر إلا داخل الزمان، على اعتبار أن الزمان بالنسبة لنا هو أفق الوجود وكل موجود. لكن ماذا عن الأبدية؟ لو كانت هي ما يناقض الزمان، لما استطعنا أن نعرف عنها أي شيء، ولاستعصى علينا أن نتصور عنها أي شيء، أو أن نختبر منها أي شيء. لنتذكر أن “ديدرو” هو مَن صار يقول لنفسه لما أحْدَقَتْ به الويلات: “كل شيء يزول، كل شيء يموت ويمضي ووحده الزمان يدوم.”لأن لا شيء دون الزمان، يستطيع أن يبقى؛ بل لا شيء دونه يستطيع أن يمضي، أو أن يدوم ، أو أن يزول. فأن تكون يعني أن تكون في الزمان، لأنه ما يعني أيضا أن تستمر أو أن تكف عن الوجود. لكن، ما يكون الزمان إذن؟ ما يكون هذا الذي لا يمضي إلا بقدرما يبقى، ولا يبقى إلا بقدرما يمضي، ولا يُمَكِّنُنا من ذاته إلا عبر تجربة هروبه التي بفضلها ينفلت منا؟
ينبغي على الزمان إذن أن يكون، مادام ألا شيء بدونه ، يستطيع أن يوجد. لكن ما هوالزمان؟

إن ما ندعوه بالزمان هو قبل أي شيء آخر توالي الماضي و الحاضر والمستقبل. لكن الماضي لا يوجد؛ لأنه لم يَعُد قط موجودا. كذلك المستقبل، لأنه لم يوجد بعدُ. أمّا الحاضر فإنه على ما يبدو لا يُعتبر زمانا - وليس أبدية - إلا بقدرما لا يَكُفُّ من لحظة لأخرى عن الزوال. إن هذا الذي ليس يوجد إلا بقدرما يَكُفُّ عن الوجود -يكتب القديس اغسطينوس- هو ما ندعوه الحاضر: إنه تلاشي المستقبل في الماضي، وتَبَدُّدُ ما لم يوجد بعدُ في ما لم يَعُد له وجود. هل هو ما بين الاثنين؟ إنه المرور من الواحد نحو الآخر، لكنه مرور غير قابل للإدراك، بل ملتبس، وبدون مدة – مادام أن كل مدة بالنسبة للعقل، تتألف من ماض ومستقبل، لا وجود لهما. إنه (أي الحاضر) تلاش ما بين عدمين (المستقبل والماضي).إنه هروب مابين غِيَابَيْن. أو لنقل، شعاع ما بين لَيْلَتَين. لكن كيف بهذا أن يصنع عالما؟ كيف به أن يصنع مدة؟
لنتكلم عن اللحظة الحالية، حيث أنتَ بصدد قراءة هذا النص القصير، حول الزمان... لعل كل ما كُنتَ تَفْعَلُه فيما قبل، هو ضرب من ضروب الماضي وليس يعتبر شيئا، أو هو تقريبا لاشيء، لنقل بالأحرى أنه ما لم يَعُد موجودا قط: وهذا (الزمان) لا وجود له إلا بقدرما يتذكره في الزمن الحاضر، شخص من الأشخاص. لكن هذه الذكرى ليست بالماضي ولا يمكنها أن تكون كذلك: بل أثر الماضي أو ذكراه الحالية فحسب هما اللذان يشكلان جزءا من الحاضر. إن ذكراك لن تتذكرها أبدا لو مضت : فهي لن تعود ذكرى بل نسيانا جراء ذلك، فلا وجود للماضي بالنسبة إلينا إلا حاضرا أو في الحاضر: فهو ليس يوجد، وتلكم أكبر مفارقات الذاكرة، إلا باعتباره لم يمض.

تبعا لذلك هل سيغدو الماضي الذي لا يتذكره أحد بمثابة لا شيء، لا شيء بالمرّة؟ ليس الأمر بهذه البساطة. لأن ما لم يعد موجودا، يبقى هو أيضا في آخر المطاف حقيقيا- حقيقيا إلى الأبد- لأنه كان. إن لا أحد يعرف اليوم، اسم، ولا حتى ملامح وجه تلك الطفلة التي كانت تبكي في “أوشفيتز”، جراء تألمها من فرط البرد القارس والجوع، والرعب؛ وهي الطفلة التي تم حرقها ربما، أياما بعدئذ، في شهر شتنبر من عام 1942: لقد حدث ذلك منذ زمان؛ فكيف بنا أن نتذكر دموعها علما بأن كل من كانوا يعرفونها قد ماتوا، بل حتى جثتها قد أتلفت؟أ جل. لكن هذه الواقعة تبقى حقيقية، وستبقى كذلك، إلى ما لانهاية، حتى ولو لم يتذكرها أحد اليوم، بل حتى ولو لن يتذكرها أحد مستقبلا. إن كل دمعة من دموعها حقيقة خالدة، كما سيقول سبينوزا، وما من حقيقة عدا تلك. هل يعني ذلك أن الماضي يوجد بالرغم من كل شيء؟ ولئن كان موجودا فليس لأن هذه الحقيقة حاضرة، ودائمة الحضور، بل لأن الأبدية ليست، بالنسبة للفكر، غير هذا الحضور الدائم للحقيقي. من ثمة،
بوسعنا القول بأن الماضي ليس هو ما يبقى؛ بل الحقيقة هي التي لا تمضي.

ها أنت قد انتهيت من قراءة بعض من هذه السطور التي هي مجرد لحظة قصيرة من حاضرك، سوف تنساها بسرعة. فهل الحقيقة أنك قرأتها؟ بدون شك؛ لكن الحقيقة أيضا أنك ستنساها...ومع ذلك فإنك ستضطر إلى تذكرها طيلة حياتك، لأن هذه الدقائق ليست توجد خلفك، بالمرة. أكيد أنّه بوسعك أن تعيد قراءة هذه الصفحات غدا أو بعد عشرة أعوام، لكنك لن تستعيد أبدا هذه اللحظة التي لم يعد لها وجود. أقصد لحظة القراءة الأولى، أي اللحظة السالفة. ذلك أن الزمان لن يَكُف عن الاستمرار مثلما لن يَكُفَّ عن المضيّ والتبدل، وذلكم هو السرّ الحقيقي: فالحاضر يتلاشى دوما (في الماضي) دون أن ينتفي أبدا(لأنه يستمر). إن هذا السر هو الزمان، الذي لا يستطيع الماضي أن يوقفه ولا أن يبدده. لكن كيف للماضي أن يغدو زمانا، مادام أنه لم يعد له وجود؟ وكيف للزمان أن يغدو ماضيا، مادام أنه باق؟
وما المستقبل؟ إن المستقبل الأقرب والحقيقي بالنسبة لك، إنما هو مثلا أن تقرأ السطور الموالية...لكن ذلك ليس أكيدا، مثلما أنه ما لم يَحِنْ بعد: فبوسع صديق أن يُزعجك، كما يمكن للعيّ أن ينال منك، وقد تُفكر في شيء آخر، أو تُبْعِد عنك هذا الكتاب، وقد تموت بغتة...إن المستقبل 
l’avenir، هو ما لن يغدو بمثابة ما هو آتٍ à venir، لو كان موجودا: بل سيغدو حاضرا. إنه ليس يكون ما هو إياه، وتلكم هي المفارقة الكبرى بالنسبة للترقب، إلا بقدر ما لا يكون. فهو ليس بواقع، أكثر مما هو ضرب من ضروب الممكن والافتراضي والخيالي. فهل ستقرأ هذا النص حتى النهاية؟ لن تعرف ذلك إلا عندما تكون قد انتهيتَ منه: وبعدئذ، لن يبقى مستقبلا بل سيضحى ماضيا. أما من الآن حتى تلك اللحظة، فأنت لا تملك إلا أن تسترسل أو أن تتوقف: لكن الأمر هنا لا يتعلق بالمستقبل إنما بالحاضر. وماذا عن الرجاء؟ والترقب؟ والخيال؟ والعزم؟ إنها كلها أمور لا توجد بدورها إلا في الحاضر: فإما أن تكون كلها راهنية أو لا تكون. أما الغد؟والسنة المقبلة؟ وبعد عشرة أعوام؟ فهي ليست بمثابة ما هو آت، إلا لأنها لا توجد؛ وهي ليست ممكنة إلا لأنها غير واقعية. بوسعك أن تقفز على العديد من الصفحات، وتسرع الخطى لتصل إلى نهاية الكتاب، كما يمكنك أكثر من ذلك، أن تسرع باستمرار، لتمتطي القطارات، أو الطائرات أو الصواريخ ...لكنك مع ذلك لن تخرج من الحاضر، ولا من الواقع، ولا من الزمان. وإذا كان من اللازم علينا إما أن ننتظر وإما أن نتصرف، فلا أحد يستطيع الإقدام على أي منهما إلا في الهنا والآن. والحالة هاته كيف سيغدو المستقبل زمانا مادام أنه لم يوجد بعد؟ وكيف للزمان أن يغدو من عداد ما هو آت à venir مادام أنه موجود هنا سلفا وعلى الدوام، ومادام أنه يتقدمنا، ومادام أنه يرافقنا، ومادام أنه يَشْملنا؟

إن الزمان يمضي لكنه ليس بماض. إنه يأتي لكنه ليس بـ“آت”. لذلك لا شيء يمضي، لا شيء يأتي، لا شيء يحدث عدا الحاضر.
وفضلا عن ذلك، فهذا الحاضر لا يحدث كحاضر إلا في اللحظة ذاتها التي يتلاشى فيها: حاوِلْ أن تُمْسِك به، سترى أنه قد وَلَّى سلفا ومضى. إن الحاضر يلاحظ القديس أغسطينوس هو ما “لن يغدو زمانا بل أبدية” لو ظل حاضرا باستمرار دون أن يلتحق بالماضي. ويواصل صاحب الاعترافات قائلا لكن “إذا كان على الحاضر، كيما يكون زمانا، أن يلتحق بالماضي، فكيف لنا أن نصرح بأنه موجود، وهو الذي لا يمكنه أن يوجد إلا بعد أن يكفَّ عن الوجود؟”. لينتهي إلى خلاصة مفارقة كالتالي: “من ثمة فالذي يسمح لنا بالتوكيد على أن الزمان يوجد، إنما هو كونه ينزع إلى عدم الوجود.”
إنّ الصعوبة هنا تكاد تَقِلُّ، اعتبارا، لأنها غير بادية لعيان.

أوَّلا، لأن اعتراض القديس أغسطينوس “لو بقي الحاضر حاضرا لن يغدو زمانا بل أبدية” يفترض لا تطابق الزمان والأبدية، هذا ما لم يبرهن عليه ويبدو غير مناسب.
ثم أيضا لأن لا شيء يثبت بأن الحاضر يلتحق بالماضي، بل هو أمر غير مفهوم. إذ أين له أن يلتحق به مادام الماضي ليس يوجد؟ وكيف يلتحق به، مادمنا لا نستطيع أن نلتحق بأيٍّ كان إلا في الحاضر؟

وأخيرا، فالتحليل الذي قام به القديس أغسطينوس، والذي ظل حتى اللحظة مثاليا،هو ما أخذ يبتعد هنا عن تجربتنا. إذ من ذا الذي سبق له أن رأى الحاضر يتوقف؟ وهل يتغير؟ طبعا، لكن لا يمكنه ذلك إلا بقدرما يبقى. وهل ما كان يعتبر حاضرا لم يعد يعتبر كذلك؟ أكيد، لكن الحاضرهو نفسه ما يزال كذلك. هل سبق لك أن عِشْتَ شيئا آخر؟ ومنذ أن ولدت، هل عِشْتَ ولو ثانية من الماضي؟هل عشتَ جزءا من ألف الثانية من المستقبل؟ هل عشت لحظة واحدة ليست بالحاضر، أو يوما واحدا ليس باليوم الحاضر؟
وبأي معنى يمكننا القول بأن الحاضر“يتوقف عن الوجود” مادام لا شيء يمكنه أن يتوقف، إلا إذا كان الحاضر نفسه لا يتوقف؟ وبالنسبة لي، فإني على كل حال موقن كل اليقين بأنه لم يسبق لي أبدا أن رأيت الحاضر ينتفي، بل رأيته دوما يستمر ويدوم ويبقى. وكلما فكرتُ جيدا في الأمر، وجدتُ أن الحاضر هو الشيء الوحيد الذي ما كنتُ أبدا في حاجة إليه. صحيح أني غالبا ما كنت في حاجة للمال، وأحيانا أكون في حاجة للحب، والصحة والشجاعة ...لكني لم أكن يوما في حاجة للحاضر، إطلاقا. وهل كنتُ يوما ما في حاجة للزمان؟ أكيد، مثل كل الناس. لكن الزمان الذي كنتُ في حاجة إليه كان دوما -إلى حد ما-هو المستقبل (وهذا ما ندعوه بالاستعجال: أي عندما لا يكون أمامنا، ما يكفي من الوقت)، وأحيانا يكون هو الماضي (وهذا ما ندعوه بالنوستالجيا: الحاجة إلى ما تركناه وراءنا، حاجتنا إلى ما كان) لكن ليس قط بالحاضر: ذلك أن الحاضر هو ما يوجد دوما هنا، هو وحده وبالكامل. ومن جهة أخرى، كيف بنا أن نحتاج إلى ما يقوم عليه كل احتياج؟ كيف بنا أن نراه يكف عن الوجود، وهو ما تستدعيه كل رؤية، و يقوم عليه كل توقف ويستأذنه كل كائن ؟

إن الحاضر لا يتوقف أبدا مثلما لا يبدأ. وهو لا يأتي قط، من المستقبل، مثلما لا يتلاشى في الماضي: إنه يبقى ويتغير، يدوم ويتحول- وهو لا يستطيع أن يتغير أو أن يتحول إلا لأنه يدوم ويبقى .“إن المدة يقول سبينوزا، هي استمرار غير مُحَدَّد للوجود”. إنها الزمان ذاته: أي الحضور المتواصل ودائم التغيّر للوجود. علينا إذن أن نعمل على قلب صيغة القديس أغسطينوس حيث كتب:“إن ما يسمح لنا بالتوكيد على أن الزمان يوجد، هو أنه ينزع إلى ألا يوجد قط.” وعلى ما يبدو لي، فالعكس هو الصحيح: فالشيء الوحيد الذي يسمح لنا بالتوكيد على أن الزمان يوجد، إنما هو كونه لا يكفّ عن البقاء.
حينئذ، سيقال بأنّ الزمان والأبدية سيان. ولِمَ لا؟ لكنا سنترك هذا الأمر حتى الخاتمة. أما الآن فلنحدد الماضي باعتباره ما لم يعد له وجود، أما المستقبل فهو ما لم يوجد بعد: إذن لا وجود إلا للحاضر،الذي هو وحده الزمن الواقعي. لكنا مع ذلك، لا نحياه على ذلك النحو. إننا لا ندرك (نعي) الزمان بخلاف ما سبق، إلا لأننا نتذكر الماضي، ونتوقع (نحدس) المستقبل. إننا لا نعي الزمان أيضا إلا لأننا نستوعب بفضل العقل أو بفضل ساعاتنا، ما يميز ما بين الاثنين...بفضل ساعاتنا؟ لكن
هذه العقارب التي تتحرك، ليست إلا جزءا من الحاضر: إنها ليست زمانا يقول برغسون بل مكانا. ووحده العقل الذي يتذكر وضعيتهما السابقة و يتوقع وضعيتهما اللاحقة، يستطيع أن يرى في ذلك، مدة. أما إذا استغنينا عن العقل، فلن يبقى ثمة إلا حاضر بدون ماض ولا مستقبل: لن تتبقى غير الوضعية الحالية للعقارب؛ لن يتبقى غير المكان. لكن العقل مع ذلك، هنا، مادام أن الذاكرة هنا- ومادام أن الجسد هنا، وهو مَنْ يتذكر الماضي، والحاضر، بل حتى (أنظر إلى لقاءاتنا ومشاريعنا و وُعُودِنا...)المستقبل. إن القضية هنا لم تعد قضية مكان، بل مدة. لم تعد قضية حركة بل قضية وعي. لم تعد قضية لحظة، بل قضية فسحة l’intervalle . لذلك، يمكننا أن نقيس الزمان (حاول، إلى حد ما، أن تقيس الحاضر)؛ ولذلك هو الزمان بالنسبة لنا في تعارض مع الأبدية ( التي ستغدو حاضرا محضا بدون ماض ولا مستقبل)، ولذلك، نحن باختصار، موجودون في الزمان ( وليس فقط في الحاضر)- هذا إن لم يكن الزمان لربما هو الذي يوجد بداخلنا...
لكن لماذا هذا التردد؟ لأن هذا الزمان الذي نقيسه أو نتصوره هو ما يتكون أساسا من ماض ومن مستقبل، لا وجود لهما إلا بالنسبة للعقل: لكن أليس هذا هو شأن الزمان نفسه؟ إن هذا السؤال، الذي هو سؤال موضوعية أو ذاتية الزمان، سؤال بالغ الأهمية فلسفيا. فهل الزمان جزء من العالم، والطبيعة والواقع في حد ذاته؟ أم أنه بالأحرى، ليس يوجد إلا بالنسبة لنا، وبالنسبة لوعينا؛ أي ليس يوجد إلا ذاتيا؟ سوف نلاحظ على أن الأطروحتين، لا تتعارضان. وقد تكون كل واحدة منهما حقيقية، من وجهة نظر كل منهما، مما يعني أن ثمة زمانين مختلفين، أو لنقل طريقتين مختلفتين لتصور الزمان: فثمة من جهة أولى، الزمان الموضوعي، زمان العالم، أو الطبيعة، والذي ليس إلا “آنًا دائما” 
un perpétuel maintenant، كما كان يقول “هيجل”، وهو باعتباره كذلك، غير قابل للقسمة أبدا (حاول إلى حد ما أن تقسم الحاضر)؛ وثمة من جهة ثانية، زمان الوعي أو النفس والذي ليس إطلاقا- بالنسبة للعقل و بداخله- إلا مجموع الماضي و المستقبل. هكذا، فبوسعنا أن نسمي الأول بـ“المدة” ونسمي الثاني الزمان. لكن شريطة ألا ننسى أن الأمر يتعلق حقيقة بشيء واحد هو نفسه، شيء نأخذه بعين الاعتبار، من وجهتي نظر مختلفتين: وهو أن الزمان ليس إلا القياس الإنساني للمدة. “إن علينا لكي نحدد المدة يكتب سبينوزا، أن نقارنها بمدة الأشياء التي لها حركة ثابتة ومحدَّدَة، وهذه المقارنة هي ما يسمى الزمان”. لكن ما مِن مقارنة تصنع كائنا. وهذا ما يمنعنا من الخلط ما بين المدة و الزمان، قدرما يمنعنا أيضا من التمييز بينهما بشكل مطلق، كما لو كانا يوجدان على النحو نفسه. إن الأمر ليس كذلك. مادام أن المدة هي جزء من الواقع أو بالأحرى، هي الواقع ذاته: إنها الاستمرارية اللامُحَدَّدةُ، لِوُجوده. أما الزمان، فهو ليس إلا كائنا عقليا: إنه طريقتنا لتصور أو قياس مدة الكل، الغير القابلة للقسمة و القياس.

المدة إذن مِن “الوجود”، بينما الزمان هو، بهذا المعنى، مِن “الذات”. وهذا الزمان الأخي، الزمان المُعاش، الزمان الذاتي (الذي وحده يسمح بقياس الزمان الموضوعي: إذ ليس ثمة من ساعة إلا بالنسبة للوعي) هو ما يدعوه فلاسفة القرن العشرين، قصدا، بـ“الزمانية”
la temporalité. إنه بُعد من أبعاد الوعي بدلا منه بُعدا من أبعاد العالم. إنه امتداد للنفس كما كان يقول أيضا، القديس أغسطينوس، بدلا منه امتدادا للوجود. إنه شكل قبلي من الحساسية كما يقول كانط بدلا منه حقيقة موضوعية أو حقيقة في ذاتها. إنه معطى ذاتي بدلا منه موضوعي. لكن، ولئن كنا لا نستطيع أن نختبر الزمان إلا عبر الذاتية، وهو ما يعود الفضل فيه لكانط أو هوسرل، فذلك لا يدل على أنه مُختزَلٌ فيها، وهو أمر على ما يبدو لي غير صحيح. لأنه، كيف لنا أن نَحْدُث (نَكُون) في الزمان، لو لم يكن الزمان موجودا إلا بالنسبة إلينا؟ وما حقيقة، تلك الملايير من السنين، التي لا تَمْتَثِلُ للوعي، إلا على نحو استعادي (بفضل فزيائيينا، وعلمائنا في الجيولوجيا، والباليونتولوجيا)، من قبيل الزمن الذي هو قَبْلَنا، الزمن السابق للوعي، الزمن الذي بقدرما يسبق وعينا بقدرما لا يستطيع وعينا البروز، بدونه؟ و كيف تَمَكَّن الزمان من المضي مابين فترتي “البيغ بونغ” وظهور الحياة، لو لم يكن موجودا إلا بالنسبة لنا؟ وكيف تستطيع الطبيعة، أن تتطور وأن تتغير وأن تُبْدِع لو كان الزمان لا يمضي؟ ولو لم يكن للزمان إلا أن يكون ذاتيا، كيف يمكن للذاتية أن تنبجس في الزمان؟
لنأخذ على سبيل المثال، فترة معينة من الزمان، ولتكن هي هذا اليوم الذي نعيشه. إن جزءا قد فات، بينما الجزء الآخر آت...أما الحاضر الذي يفصل بينهما، فهو ليس إلا لحظة بدون مدة (وهو نفسه، من سيتكون لو طال، من ماض و مستقبل)، لحظة ليست زمانا في شيء. وإذا كنا نعيش هذا الأخير كزمان، فذلك ليس إلا لأن وعينا يحتفظ بما لم يعد له وجود، ويتوقع ما لم يوجد بعد؛ لنقل باختصار أنه (يقصد الوعي) يجعل موجودا في نفس الحاضر-الحاضر المعاش-ما لا يمكنه حقيقة أن يتواجد معا. لذلك، فالزمانية كما لاحظ جيدا “مارسيل كونش”، لا تسمح لنا بإدراك الزمان إلا لأنها أوَّلا، ما ينفيه: إن الإنسان يقاوم الزمان (مادام يتذكر ومادام يتوقع)؛ وجراء ذلك، فهو يعي الزمان. إن العقل ينفي على الدوام، والعقل نفسه هو الذاكرة والخيال، وهو الإصرار و الإرادة...لكننا لا نقاوم الزمان إلا داخل الزمان. ومع ذلك، فلا وجود لكل من الذاكرة والخيال والإصرار، بل و للإرادة ذاتها، إلا في الحاضر. لكن العقل لا يوجد إلا في العالم أو الجسد، وهذا ما نسميه بفعل الوجود
exister. لكن، كيف نستطيع أن نتغلب على الزمان مادام أننا لا نستطيع أن نصارعه إلا إذا كنا أوَّلا، ننتمي إليه؟

إن الزمان هو دوما الأقوى: لأنه هنا باستمرار، ولأن ثمة دوما زمان، ولأن الحاضر هو الـ“يوجد” الوحيد في الوجود 
le seul« il y’a » de l’être ، حيث كل شيء يمضي بينما هو لا يمضي. لذلك نشيخ ولذلك نموت. وهذا ما أبدع “رونسار” في التعبير عنه بشكل موجز، في بيتين شعريين:
“الزمان يمضي،الزمان يمضي، يا سيدتي...
لكنه للأسف! لا يرحل، بل نحن الراحلون !”

وتلكم حجة أخرى تدعونا إلى أن نغتنم فرصة الشباب و الحياة. لكن كيف؟

هل يكون ذلك بالعيش في الحاضر؟ أجل، ذلك هو المطلوب، لأنه وحده المتاح. أن نعيش في اللحظة؟ إطلاقا! لأنه هو ما يعني أن نتخلى عن الذاكرة، والخيال والإرادة – مثلما يفيد أن نتخلى عن العقل والذات. فكيف يمكننا أن نفكر دون أن نتذكر تصوراتنا؟ كيف بوسعنا أن نحب دون أن نتذكر من نحبهم؟ كيف نتصرف دون أن نتذكر رغباتنا، ومشاريعنا، وأحلامنا؟ إنك إن كنت تتابع دراستك أو تدخر مالا، من أجل التقاعد، فذلك إعدادا لمستقبلك، ولك الحق في ذلك. لكنك، والحالة هاته، تتابع دراستك أو تدخر في الحاضر لا في المستقبل! وإذا كنت تفي بوعودك فذلك، أولا لأنك تتذكرها، وهو ما يلزم. لكنك تفي بها في الحاضر لا في الماضي؛ لذلك، فأن تعيش في الحاضر، ليس يعني أن تتخلص من الذاكرة أو من الإرادة، لأنهما معا جزء لا يتجزأ منه. كما لا يعني، أيضا، أن تعيش في اللحظة، لأنه (أي الحاضر) يعني الدوام والاستمرارية، مثلما يعني أن نَكْبُر و أن نشيخ. بديهي إذن، أنه ما من لحظة يمكننا أن نعتبرها مسكنا للإنسان، عدا الحاضر، الذي يدوم ويتغير؛ وعدا العقل الذي يَتَخَيَّل و يتذكر. أما ألا يوجد هذا العقل ذاته إلا في الحاضر، - داخل الدماغ- فهو المؤكد. وعليه فأن نَكُون مِنَ العالم
monde du ليس شيئا آخر غير ما نسميه بالجسد، أما أن نكون في العالم au monde ، فهو ما نسميه بالعقل، والاثنين بنظري لا يشكلان إلا شيئا واحدا. لكن العالم هو بدون عقل. لكن العقل ليس هو العالم. لذلك، يهددنا النسيان على الدوام، وكذا الموت و العياء و الغباء و العدم. وعليه فأن توجد يعني أن تقاوم؛ أن تُفَكر يعني أن تُبْدع؛ أن تعيش يعني أن تتصرف.

لكن ذلك كله، غير ممكن إلا في الحاضر- مادام ألا شيء سواه يوجد- الذي لا يتلوه إلا حاضر آخر. وإلا فمن ذا الذي يستطيع أن يعيش في الماضي أو في المستقبل؟ اللهم إن كان من قبيل شخص لم يعد موجودا قط أو لم يوجد بعد. فأن تعيش في الحاضر على حد تعبير الرواقيين وكل الحكماء، ليس حلما أو شيئا مثاليا أو يوتوبيا: إنه حقيقة العيش الأكثر سهولة والأكثر صعوبة.
وماذا عن الأبدية؟ إذا كانت “يوما دائما” كما أراد القديس أغسطينوس، فمن العبث انتظارها في الغد. وإذا كانت “حاضرا خالدا” كما يقول أيضا، فهي الحاضر نفسه: فهي ليست نقيض الزمان بل حقيقته التي تتجلى في كونه حاضرا على الدوام، وبالتالي، راهنيا وفعليا باستمرار. نقرأ في كتاب الإتيقا لسبينوزا بـ“ أننا نحس و نختبر بأننا خالدون” وهذا ليس يعني أننا لن نموت قدرما ليس يفيد بأننا لا نوجد في الزمان. بل يعني بأن الموت لن يأخذ منا أي شيء (لأنه لن يأخذ منا إلا المستقبل الذي لم يوجد بعد) وبأن الزمان لا يَسْلُبنا أي شيء( لأن الحاضر هو كل شيء) وهو ما يعني أخيرا، بأنه من العبث أن نتمنى الأبدية – لأننا سلفا نوجد فيها.“ وإذا كنا نقصد بالأبدية يقول من جهته ”فتجينشتاين“، اللازمانية، وليس مدة غير محدودة، حينئذ إذن، يتمتع بحياة خالدة، ذاك الذي يحيا في الحاضر.”إننا نتمتع بها إذن، جميعا، وباستمرار: وكل منا قد بلغ الخلاص سلفا. هل لأننا لا زمانيون ؟ ليست هذه باللفظة التي سأستعملها. ذلك، لأن الأبدية، ليست في حقيقتها، شيئا آخر غير الحضور-الدائم
le toujours-présent للواقع وللحقيقي. فمن ذا الذي سبق له وأن عاش أمْسًا واحدا؟ غَدًا واحدا؟ إننا لا نعيش إلا أياما des aujourd’hui، وهذا ما نسميه الحياة.
إن النسبية لا تستطيع أن تُغَيّر أي شيء من ذلك. فالزمان ولئن كان مرتبطا بالسرعة والمادة، مثلما نعرف منذ “إنشتاين”، فهو لا يمكنه أن يُعِيد ما لم يعد له وجود ولا ما لم يوجد بعد.“ إن ما يُلفت النظر في فكر ”إنشتاين“، إنما هو كون النسبية عنده هي ما يعني على حد ملاحظة ”باشلار“، فترة من الزمان، إنها امتداد الزمان”؛ وهي ليست حتى بالحاضر. وذلك ما يؤكده المثال الشهير لـ“توأمي لانجفان”. تلك التجربة الفكرية، التي أثبتت صحَّتَها ،الحساباتُ والخبرةُ (على مستوى الجزيئات الأولية). والحال، أن الحكاية تدور حول أخوين توأمين، أحدهما بقي فوق الأرض، بينما الآخر، قام برحلة مكوكية بسرعة أقرب ما تكون من سرعة الضوء، ولمَّا عاد اتضح أن ثمة فرقا كبيرا بينهما في السن: الرحالة الفضائي، لم يزدد عمره سوى بشهور قليلة، خلافا لأخيه الذي بقي فوق الأرض، وازداد عمره بأعوام عديدة...نستنتج من خلال ذلك، ولنا الحق بلا شك، بأن الزمن يتغير بحسب السرعة، وبأنه لا وجود لزمان كوني ومطلق، مثلما كان يعتقد “نيوتن”، بل فقط أزمنة نسبية أو مطاطية، قابلة للتمدد إلى حد ما، بحسب السرعة...لكن الملاحظ أن هذا الأمر ولئن أضحى مُسَلَّما به، فذلك لا يستطيع أن يعيد لنا لا الماضي ولا المستقبل. كما أنه بالرغم من كل شيء، لم يسمح لأي واحد من التوأمين من مغادرة الحاضر ولو للحظة واحدة. لذلك، أيضا، وكما يقول “باشلار” “تبقى اللحظة، المحدَّدة بدقة، شيئا مطلقا في مذهب ”إنشتاين“”. إنها نقطة من الزمكان: “في الحال 
hic et nunc ؛لا هنا و الغد، ولا هنالك و اليوم”، بل هنا والآن. إنها الحاضر ذاته، أو بالأحرى الحاضر بالجمع les présents. كل حاضر، يختلف عن غيره، ويتغير كالجميع لكنهم كلهم راهنيون.

كيف إذن، يمكننا أن نخرج من الحاضر، مادام أنه كل شيء؟ لماذا نحبه مادام أن العقل نفسه ينتمي إليه؟ أنظر معي إلى هذا النص الذي يشرف على نهايته: فهو تقريبا، بالكامل خلفك، مثل ماض انقضى سلفا. لكنك لم تقرأه ولن تقرأه إلا في الحاضر. ويَصدُق هذا على حياتك، التي هي الأهم بشكل من الأشكال. فهي ليست مكتوبة في المستقبل، كقدر أو كوحش لا يفتآن يخيفاننا. ولا هي مطمورة في السماء كجنة أو كَوَعْد. ولا هي محبوسة في ماضيك، ككهف أو سجن. إنها هنا و الآن: وهي ما تحياه و تفعله. إنها في قلب الوجود. وفي قلب الحاضر. في قلب كل شيء- في مجرى الواقع و الحياة. فلاشيء مكتوب. ولا شيء موعود به. وإذا كان الحاضر وحده هو ما يوجد، كما كان يقول الرواقيون، فوحدها الأفعال حقيقية. أما أن تحلم و أن تهذي و أن تتخيل؟ فهي مرة أخرى مجرد أفعال، مادام أنها تعني أن تعيش لكن في حد أدنى. وقد تكون مخطئا إذا امتنعت عن ذلك، بل الأفظع أيضا إنما هو أن تكتفي بالعيش الأدنى. خُذ بالأحرى، زمام أمور حياتك بيدك: كن بالأحرى، حاضرا، عند الحضور!  “إن أكبر عائق أمام الحياة يكتب سينيك، هو الانتظار. فكل ما سيحدث فيما بعد، هو من قبيل اللايقين: عِشْ منذ الآن.”

وهل يستدعي الأمر منا أن نتحلى بحكمة (أُقْطُف نهارك 
Carpe diem)؟ ذلك ما ليس يكفي، لأن الأيام تَمُر، ولأن لا أحد يبقى. أقطف بالأحرى الحاضر، الذي يتغير ويستمر: Carpe aeternitatem.
أما أن تحيا في اللحظة؟ فلا نقاش في ذلك. لكن، كيف يمكنك، في اللحظة، أن تُهيء امتحانا، أوأن تُعِدَّ عُطَلَك، أن تَفِيَ بوعودك، وتُنشيء صداقة أو علاقة غرامية؟ وهل يجب أن تعيش في الحاضر؟ إنه السبيل الوحيد. إذ، كيف يمكنك أن تعمل و أن تمرح، وأن تتصرف أوأن تحب في المستقبل؟
إن الحاضر هو الفضاء الوحيد للفعل، والفضاء الوحيد للفكر، والفضاء الوحيد، كذلك، للذاكرة والانتظار. إنه “كايروس” العالم (اللحظة المواتية، والوقت الأهم: وقت الفعل) أو العالم كـ“ـكايروس”- لنقل أنه الواقع الفعلي.
تبعا لذلك، يمكننا القول على أن الوجود ليس يدوم لأنه في الزمان؛ بل هنالك زمان لأن الوجود يدوم.
أما أن تعيش في الحاضر؟ فهو ما يعني ببساطة أن تعيش حقا. ذلك، أننا نوجد سلفا داخل المملكة: فما الأبدية إلا الآن.
المصدر: 
André Comte-Sponville ،Présentations de la philosophie،éd ،Albin Michel S.A 2000 de la page 117 à 131.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق