الجمعة، 16 مارس 2018

إميل سيوران (حوار)؛ ترجمة كريم جواد.






حوار خاص مع اميل سيوران
حوار مع المفكر اميل سيوران
نقلها عن الإنكليزية: كريم جواد
(عن الفيسبوك)

سيوران: أسأل أولئك الذين أحب أن يكونوا طيبين بما يكفي ليشيخوا
تغطي المقابلة التالية أهم الطروحات والآراء التي عرف بها سيوران خلال مسيرته الفلسفية ، فضلا عن جوانب حياتية، ترتبط وثيقا بالمنعطفات التي شكلت ملامح أساسية في تلك المسيرة التي هي مسيرة منعطفات وذرى. وإلى جانب الشمولية التي تتصف بها من حيث أنها استعادة واستجلاء لمقولات سابقة، فهي لاقترانها بمفكر عرف بشكوكيته ولا استقراره، تمثل إضافة فكرية بل ربما إضافات تتوازى حينا وتتقاطع في أحيان كثيرة مع آرائه ومواقفه السابقة، الأمر الذي يمنحها مثل القوة والإثارة التي تتسم بها نصوصه وشذراته بشكل عام. من هنا دواعي نقلها إلى العربية التي لم تعرف من نتاجه إلا القليل.
ولد اميل مشيل سيوران في سيبيو ـ رومانيا عام 1911 وتوفي في باريس أبريل 1995. هنا نص المقابلة التي أجراها معه جيسون وايس، في باريس منتصف أوغست 1983 في الحي اللاتيني حيث كان يعيش سيوران منذ الستينات، وظهرت في كتاب صدر بالإنكليزية بداية تسعينات القرن الماضي.


قلت أن سارتر وآخرين أساؤا إلى اللغة الفلسفية باستعمالهم أسلوبا ألمانيا في الخطاب. هل يمكن التوسع في هذه المقولة؟
حسنا ، أولاً: أعترف لك أنني عندما كنت لا أزال يافعا، كنت مأخوذا بهذه الرطانة الألمانية، اعتقدت أنه لا يجدر بالفلسفة أن تكون متاحة للجميع، وبأن الدائرة قد أغلقت، وأنه مهما كان الثمن علينا أن نستخدم هذه اللغة المصطلحية: المدرسية، المرهقة، والمعقدة. ثم شيئا فشيئا اكتشفت الجانب المختلق من اللغة الفلسفية. وعليّ القول بأن الكاتب الذي ساعدني بشكل كبير في هذا الاكتشاف هو فاليري. لأن فاليري ـ الذي لم يكن فيلسوفا ولكنه مع ذلك كان ذا تأثير على الفلسفة ـ كتب بلغة صافية: أعْرضَ عن اللغة الفلسفية، تلك الرطانة التي تقودك إلى التعالي على الجميع. والغرور الفلسفي هو أسوأ ما يمكن، انه معدٍ للغاية. على أية حال، كان التأثير الألماني في فرنسا كارثياً، إجمالا، حتى أن الفرنسيين لم يعودوا قادرين على التعبير ببساطة.
ولكن ما هي الأسباب؟
لا أدري. من الواضح أن سارتر، ومن خلال تأثيره الهائل آنذاك، ساهم بإيجاد هذا الأسلوب، ثم يأتي تأثير هيدجر، الذي كان كبيرا في فرنسا: فهو، مثلا، حين يتكلم عن الموت يستخدم لغة معقدة جدا لقول أشياء بسيطة جدا. وأنا أدرك كيف يُستدرج المرء لإغواء أسلوب كهذا، لكن خطر الأسلوب الفلسفي هو أنك تفقد الاتصال الكامل بالواقع. ثم أن اللغة الفلسفية تؤدي إلى جنون العظمة، إذ يختلق الفيلسوف عالما وهميا حيث يكون هو الإله فيه. لقد كنت، كشاب، فخورا، ومسرورا جدا بمعرفة هذه الرطانة، لكن إقامتي في فرنسا شفتني من ذلك. أنا لست فيلسوفا محترفا، أنا لست فيلسوفا على الإطلاق، لكن مساري كان عكس مسار سارتر، لهذا اتجهت إلى الكتاب الفرنسيين المعروفين كأخلاقيين ـ روشفوكو، شامفور الخ... ـ كل أولئك الذين كتبوا لسيدات المجتمع، بأساليب بسيطة ولكنهم قالوا أشياء عميقة جدا.
أكانت الفلسفة مثار اهتمامك الأول؟
درست الفلسفة حصرا بين سن السابعة عشرة والواحدة والعشرين، وفقط الأنساق الفلسفية الكبرى. تجاهلت معظم الشعر والأنواع الأدبية الأخرى. لكنني كنت سعيدا لتركي الجامعة مبكرا، فهي، في اعتقادي، عبء ثقافي، وخطر أيضا.
* هل كنت تقرأ نيتشه في تلك الفترة؟
عندما كنت أدرس الفلسفة لم أكن أقرأ نيتشه. قرأت فلاسفة (جادين). وحين توقفت عن دراسة الفلسفة، لحظة توقفي عن الإيمان بها، بدأت بقراءة نيتشه. حسنا، أدركت أنه لم يكن فيلسوفا، كان أكثر من ذلك: مزاجا. لهذا قرأته ولكن ليس بشكل منهجي. فبين آونة وأخرى كنت أقرأ له لكن حقيقة لم أعد أفعل ذلك. عمله الأكثر أصالة في اعتقادي، رسائله، لأنه صادق فيها، بينما هو في أعماله الأخرى سجين رؤيته. في رسائله نرى أنه فتى مسكين، مريض، تماما على عكس كل ما ادعى.
* تكتب في the trouble with being born بأنك توقفت عن قراءته لأنك وجدته ساذجا جدا؟
ذلك مبالغ فيه بعض الشيء، أجل. السبب هو تلك الرؤية حول إرادة القوة وما إلى ذلك. لقد ألزم نفسه بتلك الرؤية الهائلة لأنه كان عديم النفع بشكل مثير للشفقة، بيد أن كل أسسها كانت خاطئة، لا وجود لها. عمله جنون عظمة لا يوصف. عندما نقرأ الرسائل التي كتبها في نفس الفترة نرى أنه جدير بالشفقة، شيء مؤثر فعلا، إنها كما لو كانت لشخصية من شخصيات تشايكوف. كنت متعلقا به في شبابي، ولكن ليس بعد ذلك. إنه كاتب عظيم، إضافة إلى أنه ذو أسلوب رائع.
مع ذلك عادة ما يقارنك النقاد به، قائلين أنك تتبع آثاره؟
كلا، أعتقد أن ذلك خطأ. لكن من الواضح أن طريقته في الكتابة أثرت فيّ. كانت لديه أشياء لم تكن لدى الآخرين من الألمان. لأنه قرأ الكثير من الكتاب الفرنسيين. وهذا مهم جدا.
سبق وقلت أنك أيضا قرأت الكثير من الشعر في شبابك.
كان ذلك لاحقا. وإذا شئت، كانت خيبتي مع الفلسفة قد جعلتني أتجه إلى الأدب. وللحقيقة، حدث ذلك ابتداء من اللحظة التي أدركت فيها بأن دوستويفسكي أكثر أهمية من أعظم فيلسوف، وأن الشعر العظيم شيء مدهش.
كيف أثر أرقك الشديد في موقفك هذا، آنذاك؟
كان ذلك، فعلا، السبب الأساسي لانفصالي عن الفلسفة. أدركت في لحظة يأس شديد بأن الفلسفة لا تقدم العون مطلقا، وأنها قطعا لا تنطوي على أجوبة. وهكذا اتجهت إلى الشعر والأدب حيث لم أعثر على أجوبة أيضا ولكن على حالات مشابهة لحالتي. أستطيع القول أن ليالي الأرق كانت سببا في توقفي عن تقديس الفلسفة.
* متى بدأت ليالي الأرق هذه؟
بدأت في شبابي، في سن التاسعة عشرة تقريبا. ولم تكن ببساطة مشكلة صحية، كانت أعمق من ذلك. كانت مرحلة أساسية في حياتي، التجربة الأكثر جدية، وكل ما تبقى ثانوي. ليالي الأرق تلك فتحت عينيّ، فتغير كل شئ بالنسبة لي بسبب ذلك.
ألا تزال تعاني الأرق؟
أقل بكثير. لقد كان ذلك خلال فترة محددة، حوالي ستة أو سبعة أعوام، حيث تغيرت رؤيتي إلى العالم. أعتقد أنها مسألة مهمة جدا. تحدث على النحو التالي: في العادة، الشخص الذي يذهب إلى السرير وينام الليل كله تقريبا، يبدأ في اليوم التالي حياة جديدة. أنه ليس فقط يوم آخر، أنها حياة أخرى. وعليه، فهو يستطيع أن يتدبر الأشياء، أن يعبر عن نفسه، لديه حاضر، مستقبل... الخ. ولكن بالنسبة للشخص الذي لا ينام، فمنذ لحظة ذهابه إلى النوم في الليل وحتى استيقاظه في الصباح كلها استمرارية، ليس هناك انقطاع. الأمر الذي يعني أن ليس هناك ما يكبح الوعي. فيواصل دورانه على هذا النحو. إذاً، بدلا من بدء حياة جديدة، في الثامنة صباحا أنت كما كنت في الثامنة من مساء اليوم السابق. الكابوس يتواصل بلا انقطاع بشكل ما. وفي الصباح ماذا تبدأ؟ بما أنه ليس هناك اختلاف عن الليلة السابقة. إذاً لا وجود لحياة جديدة. اليوم كله محنة، استمرار للمحنة. وهكذا، بينما يسرع الجميع باتجاه المستقبل، تكون أنت على الهامش. أما حين يتواصل ذلك لشهور وأعوام، فإنه يؤدي قسريا إلى تغيير إحساسك بالأشياء وفهمك للحياة. فلست تعرف، بعد، إلى أي مستقبل تتطلع، لأنك بلا مستقبل. وأنا حقيقة أعتبر ذلك منتهى الفظاعة، منتهى الاضطراب، باختصار، أعتبره التجربة الأساسية في حياتي. وهناك أيضا حقيقة أنك وحيد مع نفسك. في منتصف الليل، الجميع نائمون وأنت الشخص الوحيد الذي ما انفك يقظا. في هذه الحال، أنا لست جزءا من المجتمع البشري، وإنما أنتمي إلى عالم آخر. وهذا يستلزم إرادة خارقة لتجنب السقوط.
السقوط في ماذا ، الجنون؟
أجل. في غواية الانتحار. في رأيي، أن كل عمليات الانتحار، تقريبا، أو لنقل تسعون في المائة، هي نتيجة للأرق. لا أستطيع إثبات ذلك، لكنني مقتنع به.
كيف أثر فيك الأرق عضويا؟
كنت متوترا جدا، في حالة حمى، وعلى حافة الانفجار. كل شيء اتخذ مدى آخر ليس مهماً ما هو. كنت أكثر عنفا، أتشاجر مع الجميع. لم أستطع احتمال شيء. كنت أجد الجميع بلهاء. ولم يفهم أحد ما عانيت. كان شعورا باللاانتماء. ثم أيضا، ذلك الإحساس بأن كل شيء مهزلة، وأن ذلك كله بلا معنى. المستقبل كان عبثاً بالنسبة لي، والحاضر كذلك. وكذلك، على المستوى الفلسفي ـ لأن الإنسان فيلسوف بطبيعته ـ كان شعورا بالسخط، تضخم حالة كوني واعيا. ليس وعي الذات، بل وعي الخارج. الحالة التي يكون فيها الوعي لعنة هائلة، وفي حالتي لعنة مزمنة. أي عكس ما هو مألوف من أن الوعي ميزتنا. لقد توصلت إلى نتيجة مغايرة: حقيقة أن تكون يقظا، غير فاقد للوعي، هي كارثة مهولة. لأنني كنت واعيا(يقظا) أربعا وعشرين ساعة. فالإنسان يستطيع أن يبقى يقظا عدة ساعات في اليوم، ولكن ليس طوال النهار والليل. الناس يقظون خلال فترات متفاوتة، ولكن تبقى هناك مسألة مدى اليقظة طوال الوقت.
هل التقيت بمؤرقين آخرين عبر هذه السنوات، عانوا مثلك؟.
ليس إلى تلك الدرجة، لا. قد يلتقي بهم المرء في مستشفى المجانين، لكنني لم أكن مجنونا البتة، ذلك هو المثير. ما أحببت عادة أن أقوم به، لأقل، المشي ليلا. أمر غريب إلى حد ما، فعلت ذلك في باريس أيضا، إلى ما قبل السنوات العشر الماضية. غالبا، عند منتصف الليل، إذا لم أستطع النوم، أنهض وأذهب للمشي في باريس، ساعتين أو ثلاث ساعات. الآن أصبح من الخطر جدا مجرد الخروج للمشي هكذا في الساعة الرابعة صباحا. أحببت التجول في المدينة. كنت أنتظر حتى يكون الناس قد بدأوا بالذهاب إلى العمل، بعد ذلك أعود إلى البيت وأنام قليلا. لقد كنت في حال أفضل آنذاك.
ساعد ذلك في تهدئتك قليلا.
أجل. سأقول لك، ما يتعلق بمرحلة الأرق الشديد تلك، فقد انتهت في فرنسا، أتعرف كيف؟ بواسطة الدراجة. أنها ظاهرة غريبة فعلا، كنت، إلى حد ما، كمن يعاني الهذيان، كان قد مضى على وجودي في باريس بضعة أشهر، وفي أحد الأيام، عرض علي شخص ما، في شارع السان ميشيل، أن يبيعني دراجة. كانت دراجة سباق، لم تكن غالية على الإطلاق. وافقت واشتريتها، الأمر الذي كان بالنسبة لي بمثابة رفق إلهي، ضربة حظ غير متوقعة. طفت فرنسا بتلك الدراجة، كنت أمضي في ذلك شهورا. لأنني كنت قد جئت إلى فرنسا بمنحة من الحكومة الفرنسية لتقديم أطروحة في الفلسفة لعدة سنوات، من عام 1937 حتى الحرب، إلى عام 1940. وهو الأمر الذي لم أقم به بكل تأكيد، لم اذهب قط إلى السوربون، لقد كذبت. لكن مع ذلك كنت أقطع كيلومترات وكيلومترات، لعدة أشهر، مضيت عبر البيرينيه. كنت أقطع مائة كيلومتر في اليوم. الأمر الذي أتاح لي النوم بسبب الإرهاق الجسدي. على ما أذكر، كانت الحياة في فرنسا غير مكلفة إلى أن حدثت الحرب. كنت أذهب إلى أي قرية، أتناول ما أشتهي، أشرب قنينة نبيذ وأنام في الحقول. كانت حياة طبيعية جدا، صحية جدا. تمارين رياضية حتى المساء. حين تقطع مائة كيلومتر في اليوم، من المستحيل ألا تنام، أنه أمر مفروغ منه. وعليه، لم يكن الفضل عائدا إلى الطب. لأنني، ولسوء الحظ، كنت قد عدت الكثير من الأطباء في رومانيا وفي فرنسا، أعطوني ـ جميعهم ـ أدوية أضرّت بمعدتي وأفسدت كل شيء، كان ذلك في غاية الخطورة، وبواسطة المنومات أيضا لم أستطع النوم إلا ساعتين أو ثلاث على الأغلب. وعندها كان الصداع يلازمني طيلة النهار، كان ذلك فظيعا. لقد سممتني الحبوب المنومة. لهذا لم أعد أتناولها. وعليه فقد أنقذتني الدراجة تلك الهبة الإلهية.
هل جرّب مؤرقون آخرون العلاج الذي توصلت إليه؟
أجل. أنت تعرف، هناك مجموعة من المؤرقين، بينهم نوع من التآخي كأشخاص يعانون نفس المرض. نفهم بعضنا مباشرة، لأننا نعرف تلك الدراما، دراما الأرق التي هي: أن الوقت لا يمضي. تتمطى في منتصف الليل لكنك لم تعد في الزمن ولست في الأبدية أيضا. الوقت يمر ببطء شديد يستحيل إلى تعذيب. فنحن الكائنات الحية كلنا يجرنا الزمن لأننا فيه. عندما تضطجع وأنت يقظ هكذا، فأنت خارج الزمن. وهذا يعني أن الزمن يتواصل بمعزل عنك، ولا تستطيع اللحاق به.
كتبت في(The Fall into Time) :  الآخرون يسقطون في الزمن أنا سقطت خارجه.أكان ذلك من الأرق؟
لا، ولكن كان للأرق بعض التأثير. أنا أعتبر أن أفضل كتاباتي هي تلك الصفحات القليلة حول الزمن في هذا الكتاب. وهو أن البشر يسقطون في الزمن ويسقطون أبعد من الزمن. أعتقد أن هذا أحد مؤشرات أصالتي، إذا شئت. أنت كذلك واع بالزمن، أما الناس فليسوا كذلك عادة. فالشخص الذي يعمل منخرطا في إنجاز ما، لا يفكر بالزمن، فذلك عبث. بيد أن وعيك للزمن يثبت أنك خارجه، أنك مطرود منه. يمكن فعلا أن ندعوها تجربة فلسفية ميتافيزيقية. سأقول لك شيئا، أتذكر أول حادثة في حياتي تجلى لي خلالها الزمن. كنت طفلا، في الخامسة من عمري، أتذكر ذلك تماما، كان ذلك بعد الظهر، خلال الحرب العالمية الأولى. أتذكر أيضا كم كانت الساعة بالضبط، كانت الثالثة. فجأة شعرت أنني أرى الزمن يمر، وأنني لست جزءا منه، كنت خارجه. أنا أعتبر ذلك الإحساس الذي انتابني والذي لم يدُم حتى لعشر دقائق، أول تجربة شعور بالضجر، أو السأم. الضجر أيضا هو حالة وعي بالزمن، لأن الزمن في تلك الحالة لا يمضي. وعليه، فقد كان مقدرا عليّ إلى حد ما وعي الزمن، أما الأرق فقد عجل في ذلك، ليس إلا.
هل كان هناك آخرون على مقربة منك في تلك اللحظة، عندما تجلى لك الزمن؟
كلا، كنت وحدي بالتأكيد. لم أكن قادرا على التعبير عن ذلك بوضوح، لكن أعرف أنه كان كذلك. لأنني لم أنسه قط. أتذكره وكأنه حدث أمس، مع أن حياة كاملة تفصلني عن ذلك الحدث. في اعتقادي أنني منذ تلك اللحظة لم أعد حيوانا. لقد تأنسنت، وشرعت في اكتساب تجربة أن أكون إنساناً. إذاً، كنت مهيّأً لفقدان النوم لأن النوم ليس سوى العودة إلى اللاوعي، إلى طور الحيوانية، العودة إلى ما قبل الحياة، إلى اللاشيء. الأرق هو أسوأ الأمراض.
ما الذي حدث لك على مستوى الأحلام خلال أشد حالات أرقك؟
بسبب الحبوب المنومة استطعت أن أنام ساعتين أو ثلاث كحد أقصى، لكنني كنت أعاني كوابيس مرعبة، بالتأكيد مرعبة. وبفزع كنت أفيق من النوم وقلبي مضطرب.
هل كانت هناك استجابات لكتاباتك عن تجربة الإحساس بأنك خارج الزمن؟
لقد التقيت بأناس تعرفوا على أنفسهم في ما كتبت، أقروا بهذه الأحاسيس، لأنني تلقيت الكثير من الرسائل. ربما لم يتمكنوا من صياغتها، لكنهم قالوا: عشنا الشيء نفسه. لديهم المعاناة الوجودية ذاتها.
* بخصوص أرقك، قرأت لك أنه كانت لك طفولة سعيدة جدا؟
طفولة رائعة. أعتقد بأنني كنت تعيسا في الحياة كعقاب لتمتعي بمثل تلك الطفولة السعيدة بشكل مذهل. أنا أتحدث عن بواكير طفولتي، حتى سن السابعة أو الثامنة، لا أكثر. ما تبع ذلك كان كارثة. لأنني ولدت في قرية جبلية، بدائية جدا، كنت دائما خارج البيت في الفضاء المفتوح. عشت كما لو كنت في البرية. لدي ذكريات رائعة عن تلك المرحلة.
وإلى أي سنة من عمرك، بقيت في تلك القرية؟
حتى سن العاشرة. كانت لنا حديقة مجاورة للمقبرة التي لعبت أيضا دورا في حياتي إذ كنت صديقا لحفار القبور. كنت كل الوقت حوالي المقبرة، كنت أرى باستمرار الهياكل العظمية والجثث الناتئة من خلال التراب. كان الموت بالنسبة لي شيئا بمنتهى الوضوح حد أنه أمسى جزءا من حياتي اليومية. لم أشرع بالتصرف مثل هاملت، لكنني، حقيقة، أضحيت بعد ذلك مهووسا بالجثث وبظاهرة الموت. وقد كان لذلك تأثير في حالة الأرق لدي. ما يعني أن من لديه هوس بالموت، قد عرف مسبقا الإحساس بزيف الحياة. من هناك يبدأ التحول. ليس الهوس بالموت ما يجعلك تكتشف بأن الحياة غير حقيقية، بل حين تكتشف بأن الحياة بلا جوهر، وبأنها لا شيء على الإطلاق، مجرد وهم، فإن الهوس بالموت يتعمق. سأروي لك حادثة لعبت دورا في حياتي. كنت تقريبا في الثانية والعشرين، وفي أحد الأيام كنت في حالة فظيعة. كنا نقطن سيبيو Sibiu مدينة في الأرياف حيث قضيت كل شبابي، وحيث كان أبي قس المدينة. في ذلك اليوم كنا أنا وأمي فقط في البيت، ـ عندما أتذكر الأشياء أتذكرها بدقة، فأنا أتذكر أيضا كم كانت الساعة، غريب فعلا! ـ كانت الساعة، على ما أعتقد، الثانية بعد الظهر، الجميع كانوا قد خرجوا من البيت. فجأة، تملكتني نوبة يأس غريبة، ارتميت على الكنبة وقلت: "لم أعد أحتمل هذه الحياة" فقالت أمي: "لو علمت ذلك لكنت أجهضتك". أثرت فيّ تلك العبارة بشكل بالغ. لم تؤذني، على الإطلاق. لكنني، فيما بعد قلت: "كان ذلك في غاية الأهمية، أنا ببساطة مجرد حادث. لماذا نأخذها بكل هذه الجدية؟" لأنها، في الحقيقة، كلها بلا معنى.
هذا مثير جدا مع الأخذ بنظر الاعتبار أن أباك كان قسا.
أجل، لكن أمي هي التي قالت ذلك. مع إن الإجهاض لم يحصل آنذاك، بيد أن هذا يثبت أن حياة الفرد حادث وهي كذلك. حسنا تستطيع القول: "الكل يعرف هذا". أجل الكل يعرف هذا ولكن فقط الآن وفيما بعد. انه لأمر مختلف حين يبقى في حسبانك طوال الوقت. لهذا هو يدفع إلى الجنون. وعليه، فحين نتكلم حول هذه المسائل، يجب قطعا أن نتكلم عن عدد المرات والمدة. أي حقيقة أن يلازمك ذلك الشعور طوال الوقت*
* سبق وقلت، أكثر من مرة، كما في (Drawn and Quartered) بأن يجب أن نغير أسماءنا بعد كل تجربة مهمة.
بعد تجارب معينة، يجب أن نغير أسماءنا في الحال، وإلا فلا فائدة منه فيما بعد. لأنك تشعر بأنك شخص آخر، وأنك في النهاية قد بلغت حالةً استثنائيةً، ولم تعد أنت نفسك. وعليه فحياة أخرى لابد أن تبدأ. غير أن هذا وهم أيضا. أنه إحساس عابر.
* انطلاقا من تجاربك تلك، إلى أي حد بدأت بقراءة كتاب فرنسيين مثل بودلير، الذي تكلم عن حالات مشابهة؟
أنا، إلى حد ما، عبدت بودلير. إنه شاعر عظيم، ولكن مالارميه أعظم، وكذلك رامبو، هما أكثر أصالة من بودلير. لكن ذلك من جهة الإحساس الداخلي. كتبت يوما بأن هناك كاتبين أفكر فيهما دائما، وهما اللذان لا أقرأهما في العادة: باسكال وبودلير. كانا رفيقي الدائمين. ليست مسألة غرور، إنه ببساطة إحساس داخلي، كما لو كنا جزءا من نفس العائلة. أنت تعرف أن باسكال كان طوال حياته مريضا وقد مات شابا تقريبا، في سن التاسعة والثلاثين. في كتاب حول شبابه، تقول مدام بيرييه، أخت باسكال أنه أخبرها في أحد الأيام بأنه لم يعرف منذ سن السابعة عشرة يوما دون آلام. كنت في مكتبة عامة في رومانيا، في بوخارست، وحين قرأت هذا أثر فيّ إلى حد أنني أوشكت على الصراخ، فوضعت كفي على فمي لكي لا أصرخ. قلت لنفسي هذا ما سيحدث لي، لقد كان ذلك استشرافا لنوع من الكارثة. ولكن بعيدا عن ذلك أيضا، باسكال وبودلير هما اللذان تحدثا بشكل أكثر عمقا حول الأهمية البالغة لتجربة الضجر. حياتي لا يكمن تصورها بلا ضجر. ولو أنني الآن أضجر على نحو أقل من السابق.
لماذا؟

بسبب التقدم في السن. مع الشيخوخة تفقد الأشياء حدتها. لهذا كل ما هو جيد وكل ما هو سيئ يزداد عمقا؟ وليس في الظاهر، إذا شئت.نس
ابا
لكن ألا تعتقد أن هناك أشياء تزداد حدةً مع الشيخوخة؟

لا. لا يصبح الإنسان أفضل على المستوى الأخلاقي، أو أكثر حكمة مع الشيخوخة. على عكس ما يعتقد الناس، الإنسان لا يربح شيئا من تقدمه في السن. ولكن عندما يكون المرء أكثر تعبا يعطي الانطباع بالحكمة.
* * كتبت في (The Trouble with Being Born) : (ما أعرفه في سن الستين، كنت أعرفه جيدا في سن العشرين. أربعون عاما من جهد البحث بكاملها زائدة) الأمر الذي أدهشني إلى حد ما، ربما لأنني لم أشأ التسليم به.
با ليس هناك تقدم في الحياة. ثمة تغيرات صغيرة، وفوق كل شيء هي مسألة حدة، كما قلت.
* خلال فترة تأرقك، أكنت قادرا على استخدام الأرق بطريقة ما، في تعميق أفكارك؟
بالتأكيد. أصح ذلك أم لا، كل ما فكرت به كان نتيجة للأرق، كان سيعوزه التوتر بدون الأرق. هذا مؤكد. من خلال الأرق اتخذت كل تلك الأشياء بعدا آخر.
هل كتبت بغزارة خلال ليالي الأرق تلك؟
أجل، لكن ليس بتلك الغزارة. أنت تعرف، أنا مقل، لم أعتبر الكتابة مهنة، قط. أنا لست كاتبا. أكتب هذه الكتيبات، وهي ليست شيئا على الإطلاق، ليست ذات قيمة. لم أنجز شيئا طوال حياتي. أنا فقط زاولت التجارة مدة عام، كنت مدرس ثانوية في رومانيا. لكن منذ ذلك الحين لم أعمل قط في التجارة. لقد عشت هكذا، إلى حد ما مثل طالب أو ما شابه. وهذا ما أعتبره أعظم نجاح في حياتي. فأنا لم أعرف الفشل في حياتي لأنني نجحت في أن لا أفعل شيئا.
وهذا أمر صعب.
صعب للغاية، لكنني أعتبره نجاحا هائلا. وأنا فخور به. لقد وجدت دائما طريقة أو أخرى، حصلت على منح، وأشياء من هذا القبيل.
لكن كتبك استقطبت الكثير من الاهتمام، أليس كذلك؟
لقد أخذوا يتحدثون عن كتبي، في الحقيقة، فقط خلال السنوات الثلاث الأخيرة. لأقل ببساطة تامة، تحدثوا عني عدة أشهر في عام 1950، تحديدا حول (A Short History of Dcay). ثم على مدى ثلاثين عاما فبالكاد. لم أكن معروفا، إلا من قبل قلة في الأوساط الأدبية, لكن منذ بضع سنوات تغير كل شيء مع الطبعات الشعبية الـ( Paperback).
كنت قد بينت كيف حقق صدور (Syllogismes de lamertume) بالطبعة الشعبية نجاحا كبيرا؟
تلك كانت المرة الوحيدة. بعد أكثر من عشرين عاما بيعت ألفا نسخة فقط. لقد كان من حسن حظي أنني كنت قادرا على قضاء ما يقرب من ثلاثين عاما شبه منسي. بالنسبة لي مأساة الكاتب تكمن في حيازته للشهرة وهو شاب، أنه أمر بالغ السوء، يعرقل كل شيء، لأن معظم الكتاب، عندما يكونون معروفين وهم شباب نسبيا يكتبون من أجل جمهورهم. في رأيي يجب أن يُكتب الكتاب بدون التفكير في الآخرين. ليس عليك أن تكتب من أجل أحد، فقط من أجل نفسك. وليس لأحد أن يكتب كتابا من أجل أن يكتب كتابا فقط، فهذا لن تكون له صلة بالواقع، وسيكون مجرد كتاب. أما أنا فكل ما كتبت كتبته للهرب، للتخلص من حالة إحساس بضيق أو اختناق. لم تكن مسألة إلهام، كما يقولون. كان نوعا من التحرر، ولكي أكون قادرا على التنفس.
* ماذا كانت علاقتك مع فعل الكتابة؟ فعل التفكير، متابعة أفكار محددة شيء، بينما الكتابة شيء آخر.
أجل، لكن تعرف، مع ذلك، ثمة لكل هذا وجه آخر في تجربتي لأنني استبدلت لغتي. كان ذلك بالنسبة لي حدثا مهما جدا. لأنني بدأت الكتابة بالفرنسية في سن السادسة والثلاثين. في العادة يمكن تغيير اللغة في سن الخامسة عشرة أو العشرين.
متى بدأت بدراسة اللغة الفرنسية؟
لم أدرسها. الجميع في رومانيا يعرفون القليل من الفرنسية، وليس ذلك نتيجة الدراسة. كان هناك أشخاص يجيدون اللغة الفرنسية إلى درجة عالية، لكنني لم أكن كذلك لأنني ولدت في سيبيو. أبواي لم يعرفا كلمة من الفرنسية، كانا يتكلمان الرومانية والهنغارية. لم تكن لنا، قطعا، ثقافة فرنسية. لكن في بوخارست كانت الفرنسية هي اللغة الثانية للأوساط الثقافية. الجميع يتكلمون الفرنسية، ويقرأونها. وكان من المخجل جدا أنني كنت بالكاد أتكلمها. نظرائي يعرفون الفرنسية بشكل جيد خصوصا الذين هم من الطبقة البرجوازية. كنت أقرأ الفرنسية، بشكل طبيعي، لكنني لم أكن أتكلمها. ولهذا جئت إلى فرنسا عام 37 وكنت في السادسة والعشرين، وبدلا من التهيؤ للكتابة بالفرنسية كتبت باللغة الرومانية حتى عام 47، لكن دون أن أنشر شيئا. لقد كتبت الكثير من الأشياء. وفي إحدى المرات كنت في قرية في النورماندي عام 47 كنت أترجم مالارميه إلى الرومانية. وفجأة تنبهت بأن لا معنى لما أقوم به. أنا في فرنسا، ثم أنني لست بشاعر في الأصل، أترجم بشكل بائس، لماذا أقوم بهذه الأشياء؟ لم أشأ العودة إلى بلدي. وبما يشبه الإلهام الخاطف قلت " يجب أن تتخلى عن لغتك الأصلية". عدت إلى باريس بفكرة الكتابة بالفرنسية وباشرت العمل بها. لكن ذلك كان أكثر صعوبة مما تصورت، بل بالغ الصعوبة. اعتقدت أنني بمجرد أن أقرر سأبدأ الكتابة. كتبت حوالي مائة أو مائة وخمسين صفحة وعرضتهم على صديق، قال: "ليست صالحة عليك أن تعيد كتابتها من جديد" أغضبني ذلك، لكنه جعلني جادا في التعامل مع الموضوع. لذلك ركزت بكل طاقتي على اللغة الفرنسية وكنت، مثل مجنون، محاطا بالقواميس وبكل شيء. قمت بعمل هائل. كتبت كتابي الأول أربع مرات، وحين كتبت كتابي التالي، بعد ذلك، لم أستطع أن أكتب المزيد. فقد أقرفتني الكلمات، لماذا أكتب؟ كتاب الـ Syllogismes de lamertume  مجتزآت وخواتيم ومقاطع. والآن هو من كتبي المقروءة بكثرة في فرنسا.
هل تغير الكتاب الأول كثيرا بفعل إعادة كتابته لأربع مرات؟
أجل، لقد تغير الأسلوب كثيرا. حقيقة، يبدو أنني أردت أن أثأر بطريقة لا شعورية من جميع أولئك الذين يعرفون الفرنسية في رومانيا، لكن بدون أن أعي ذلك. وأيضا بسبب العقدة التي كانت تلازمني كوني غير فرنسي.
هل عرفت العديد من الأشخاص خلال سنواتك المبكرة في باريس؟
كلا. وخصوصا ليس من الأوساط الأدبية. لم أعرف كتابا على الإطلاق، لم أخرج معهم. كنت خجولا، وتماما غير معروف. عرفت الكثير من اللاجئين في باريس، ولكن ليس الفرنسيين. عرفت أشخاصا لم تكن لهم علاقة بالأدب، وهو أمر أكثر إثارة. قبل سنوات كان هناك روماني جاء إلى باريس، وقال إنه يريد أن يلتقي ببعض الكتاب. قلت له: (لا يتوجب عليك أن تصاحب كتابا. أنه لأكثر أهمية بالنسبة لمن يأتي من الخارج أن يتحدث مع سائق تاكسي أو عاهرة من أن يتحدث إلى كاتب) غضب لسماع ذلك وأخذ يشتمني. لم يفهم قصدي.
في كتبك ثمة مقاطع معينة تتناول فيها قضية المتسكعين، كما لو كان لهم موقف صائب من الحياة.
جاء ذلك نتيجة لحقيقة أنه كان لي صديق متسكع ذو شخصية مثيرة. كان يعزف على آلاته الموسيقية في عدد من المقاهي، ويمرر قبعته متسولا من الزبائن. كنت أراه أربع أو خمس مرات في العام أو يأتي هو لزيارتي. وهو الذي فتح عيني على حياة المتسكعين التي كان يحياها. طعبا هو لم يكن معدما، كان يكسب قوته من خلال العزف في المقاهي. وكانت لديه بعض المعتقدات وكل ما قاله لي كان مدهشا: كان يعيش حياته بشكل متفرد. أتعرف ماذا فعل في أحد الأيام؟ لقد ذهب إلى الشانزليزيه حيث يقع ذلك المقهى الكبير ((Fouquets  عزف على الكلارنيت فلم يعطوه شيئا، فقال بما أنكم فقراء، سأساعدكم، ووضع بعض النقود على كل طاولة، عندها استدعوا الشرطة. كان يضع خفين في قدميه، فتركهما وولى هاربا إلى رصيف في الجهة الأخرى, وهناك قام بشيء خارق فعلا. إذ طلب من سيدة أنيقة محترمة كانت مارة بالقرب منه أن تأتيه بخفيه. قال لها: (الشرطة ضايقتني فتركت خفي على ذلك الرصيف, هلا ذهبت إلى هناك لجلبهما لي؟). فذهبت وأتته بخفيه. كان غالبا ما يقوم بأشياء كهذه. لقد تحدثت عنه في كتابي الأخير (Drawn and Quartered).
لهذا السبب أيضا تبدو مقارنتك بـ بيكيت، كما فعلت سوزان سونتاج، حتمية
يعجبني بيكيت كثيرا، فهو ساحر ورقيق جدا. أعرفه جيدا، رغم أننا لم نلتق مدة طويلة. لقد كتبت عنه. أعتقد، أجل، ثمة صلات معينة.
إذاً، بعد أن نشرت بعض الكتب، كان لك أن تتعرف على كتاب كثر؟
أجل. ولكن الكاتب الوحيد الذي لا أزال أراه، فعلا، هو ميشو. لقد توقفت عن مخالطة الأوساط الأدبية. ولكن في مرحلة ما سابقة كانت لي حياة اجتماعية حقيقية، ولأسباب دقيقة جدا. كنت في ذلك الوقت أحب أن أشرب الويسكي وما شابه وكنت فقيرا جدا. فكنت أتلقى دعوات من لدن سيدات غنيات كن يقمن حفلات، حيث كان بإمكاني أن أشرب وآكل، كانوا يدعوني على العشاء، وكنت أذهب ثلاث مرات في الأسبوع إلى أماكن مختلفة. عمليا قبلت كل دعوات العشاء، لأنني كنت أعتاش على ذلك. وهكذا كنت غالبا ما أكون في صالون حيث ألتقي الكثير من الناس، يرجع هذا إلى زمن بعيد، منتصف الخمسينات. لم أعد أستطيع الذهاب إلى الحفلات، بعد، أصبح هذا من المستحيل، قطعا. فضلا عن أنني لم أعد أتناول المسكرات.
قرأت لك هذا: (منذ سنوات، حتى الآن، لا قهوة، لا خمر، لا تبغ). أكان ذلك بسبب وضعك الصحي؟
أجل، وضعي الصحي. كان على أن أختار واحدا من اثنين. كنت أتناول القهوة طوال الوقت، سبعة فناجين في الصباح. لكن الإقلاع عن التدخين كان أكثر صعوبة. كنت مدخنا غير عادي. وقد تطلب مني الإقلاع عن التدخين خمس سنوات كنت أصاب باليأس عند كل محاولة، فأصرخ، وأقول: (أنا أسوأ إنسان) كانت معركة طاحنة: في منتصف الليل أرمي السجائر من النافذة، وأول شيء أقوم به في الصباح هو شراء المزيد منها. تلك كانت مهزلة استمرت خمس سنوات. وحين توقفت عن التدخين شعرت كما لو قد فقدت روحي. لقد اتخذت القرار، وكانت مسألة شرف: (حتى لو قيض لي ألا أكتب سطرا آخر، سأتوقف عن التدخين) التبغ كان بالتأكيد ذا صلة وثيقة بحياتي. لم أكن أستطيع أن أجري اتصالا هاتفيا بدون سيجارة، لم أكن أستطيع أن أكتب جوابا لرسالة أو أن أشاهد منظرا طبيعيا بدونها.
* آمل أنك تحسنت بعد ذلك.
أجل. عندما أكون كئيبا، أعزي نفسي بالقول: (لقد حققت نجاحا كبيرا بالانتصار على التبغ) لقد كانت مواجهة مصيرية، وهذا غالبا ما ذكرني بقصة لدوستويفسكي تتحدث عن معارض حكم عليه في ذلك الوقت بالسجن ثمانية عشر عاما في سيبيريا وفي أحد الأيام قطعوا عنه التبغ، فأعلن بأنه يتخلى عن أفكاره ويرمي بكل شيء تحت قدمي القيصر. حين قرأت هذه القصة في شبابي لم أفهمها. وأتذكر عندما دخنت للمرة الأخيرة قبل أربعة عشر عاما، كنت حينها بالقرب من برشلونا، كانت الساعة السابعة صباحا، وكان الطقس باردا، أواخر سبتمبر، كان هناك معتوه ألماني قفز إلى الماء وأخذ يسبح، قلت: (إذا كان هذا الألماني يستطيع أن يقوم بذلك وهو في هذا السن، سأثبت له أنني أستطيع أيضا) فأصبت بنزلة برد تلك الليلة.
عندما التقينا للمرة الأولى كنت تقول: " ثقافة الكاتب يجب أن تظل ناقصة"
أجل. ليس على الكاتب أن يتعمق في معرفة الأشياء. إذا تحدث بموضوع لا يتوجب عليه معرفة كل شيء حول ذلك الموضوع، ما عدا المسائل التي تتماشى ومزاجيته. وليس عليه أن يكون موضوعيا. طبعا يستطيع الكاتب أن يتعمق في موضوع ما، لكن باتجاه محدد ليس القصد منه الإحاطة بالموضوع. ما تقول به "الجامعة" موت بالنسبة للكاتب.نس
* هلا تكلمت حول تطور استخدامك للشذرة الفلسفية (The aphorism) من أين جاء؟

لست متأكدا تماما. أعتقد أنها كانت ظاهرة كسل، ربما. أنت تعرف، غالبا ما كانت الشذرة آخر جملة في صفحة. لأن الشذرة خلاصة، أي ما يتبقى بعد ضغط الإنشاء. إنه جنس ملتبس، مشكوك فيه، لكنه فرنسي المنشأ. الألمان، على سبيل المثال، لديهم ليشتنبرغ ونيتشه، اللذان أخذا ذلك الأسلوب عن شامفور والكتاب الأخلاقيين. بالنسبة لي كان هذا الأسلوب، على الأرجح، نتيجة لنفوري من الإسهاب. ن
ساا
* ولكن ما الذي جعلك تقرر استخدام الشذرة في كتب معينة وليس في أخرى؟ كتابك الثاني (.... Syllogisms) جاء كله بصيغة شذرات، بينما لم يكن الأول كذلك، ثم لاحقا وعلى مدى عشرين عاما بالكاد تستخدمها في كتبك، ثم يأتي كتاب (The Trouble With Being Born) كله بصيغة شذرات أيضا، كذلك القسم الغالب من كتاب (Drawn and Quartered).
حسنا، حاليا تقتصر كتابتي على هذا النوع من النصوص، لأن الشرح يضجرني بشكل فظيع. لهذا أقول عندما كتبت شذرات فذلك لأنني عدت وشعرت ثانية بالتعب، لمَ الإزعاج؟ وكذلك، الناس (الجادون) يزدرون الشذرات والأساتذة الجامعيون ينظرون إليها باستعلاء.
لأن الأساتذة لا يستطيعون شيئا مع كاتب شذرات.

بالتأكيد لا يستطيعون. عندما يقرأون كتاب شذرات يقولون : (أوه، أنظر ماذا قال هذا الشاب قبل عشر صفحات، الآن يقول العكس. أنه ليس جادا). أستطيع أن أضع مقولتين متناقضتين جنبا إلى جنب، الأقوال أيضا حقائق عابرة مرتبطة باللحظة. وليست أحكاما قضائية. ويمكن أن أقول لك تقريبا عن كل حالة: لماذا كتبت هذه أو تلك ربما، وأين كتبتها. أنها دائما ناتجة عن مواجهة، حدث، انفعال، أي لها جميعا أسبابها، وليست اعتباطية مطلقا.نس
اب
بالنسبة لكتاب مثل ((Syllogisms...هل قمت باختيار أي من الشذرات سيكون في كل قسم؟
وضعتها في فصول تقريبا. لم أكتبها بشكل منهجي. ولكن في النهاية كان لكل ذلك بالضرورة وحدة لكونها رؤية واحدة لأشياء محددة.
من الواضح أن لكل كتاب عنوان يتناسب معه.
أجل، مبرر. بالنسبة لكتاب (The Trouble With Being Born)، رغم أنني أردت أن أكتب الكتاب كله بهذه الطريقة إلا أن ذلك لم يكن ممكنا، هذا صحيح. لكن تلك كانت نقطة البداية.
هل لديك عادات خاصة في الكتابة أو شروط عندما تعمل؟
لم أكن قادرا يوما على الكتابة في ظرف عادي. حتى الأشياء البسيطة، لم يكن ممكنا قط أن أقول: ( الآن أريد أن أكتب). كان لابد دائما أن أكون إما كئيبا أو غاضبا، حانقا أو شاعرا بالقرف، ولكن ليس في حالة عادية. ومن الأفضل أن أكتب وأنا نصف كئيب. لابد أن تكون هناك أشياء ليست على ما يرام. لأنني أعتقد أنه عندما يكون الإنسان متوازنا لا حاجة لأن يكتب؟ لماذا يصرح؟ وأيضا ربما كما قالوا ثمة إلى حد ما وجه مرضي لما أكتب. وهذا صحيح، لقد لاحظت بأن من يستقبلون كتاباتي هم على أحسن وجه المختلون، أنصاف المجانين، العاطفيون.
هل تكون لديك الفكرة جاهزة قبل أن تبدأ تأليف كتاب؟
معظم كتبي كتبت هكذا، ارتجالا. الكتابان الوحيدان اللذان كانت لدي الفكرة قبل كتابتهما كانا (The Fall into Time) و(History and Utopia) لأنهما كانا من أصل واحد.
ما نوع الاستجابة التي لقيتها من القراء؟
أستطيع أن أعطيك بعض الأمثلة، ما أسميه حالات مفردة، أشخاص رأيتهم لمرة واحدة. عندما نشرت كتابي الأول أثار استجابات عاطفية، تلقيت الكثير من الرسائل. ولكن الأكثر غرابة كانت من فتاة في حوالي العشرين من العمر. كنت أقطن في فندق في شارع الـسيد الأمير فتحت تلك الرسالة فكدت أجن. كنت كليا غير معروف وفجأة تلقيت تلك الرسالة التي تقول: ( أنا التي كتبت هذا الكتاب، وليس أنت. إنه كتابنا) الخ.. لهذا قلت: ( إذا كان الأمر على هذه الشاكلة، لن أكتب بعد) لأنه على أية حال لن أرضى لنفسي أن أكون هكذا. لم الاستمرار؟ لم أعرف كيف أتصرف، لأنها كتبت: ( إذا أردت يوما أن تراني سآتي إلى باريس في عيد الفصح ) أخيرا كتبت لها بأنه يمكن أن نلتقي، وأضفت: (تأثرت جدا، برسالتك اخبريني من أنت) فقصت عليّ حكاية غريبة جدا، أستطيع أن أعيد سردها، لأنني لن أذكر اسمها فهي الآن أكبر سنا بكثير. قالت: (حسنا، حياتي ليست مثيرة كثيرا، ماعدا أنني عشت وأخي كزوج وزوجة ستة أشهر). لقد عرف أنني كنت سأقابلها ولم يتقبل ذلك، على أية حال أعتقد أن الموضوع انتهى لاحقا. ولكنني أدركت بأن رؤية فتاة كتلك، ثانية، لا تجدي، وليس لها معنى. إلا أنني صدمت فعلا بهذا القصة. حسنا، القصة الثانية: على مدى عامين كنت أتلقى رسائل من امرأة مجنونة بلا شك، بل أكثر، كانت تعاني من الجنون والذكاء. مضى على هذه الحكاية ثلاث سنوات. لقد بقيت مصرة بأنها تريد أن تلتقي بي. رفضت. ثم، في أحد الأيام قبل سنتين كنت كئيبا، في ما بعد الظهر في منتصف الصيف. كنت شديد الاكتئاب، لدي إحساس بأنني لا أساوي شيئا، قلت: (أود أن أرى شخصا له فيّ رأي جيد) شخصا معجبا بي. كنت أتلقى رسائل من هذا المرأة على مدى أكثر من عام، ولم أكن أجيب عليهم كثيرا. اتصلت بها، كانت الساعة السادسة أو السابعة مساء: ترفع سماعة التلفون. أقول : أود أن أراك. تقول: ( في الحال. أنا أقطن في الضواحي، سأستقل تاكسي، وبعد ساعة سأكون عندك). صوت جميل. أنتظر. في الساعة الثامنة كنت قد رتبت كل شيء ووضعت ربطة عنق. أفتح الباب، وعندما أفتح الباب أنفجر ضاحكا. كانت عبارة عن وحش! عجوز في الخامسة والسبعين من العمر، ثمانين تقربيا، ضئيلة الحجم ومنكمشة كليا، ولكن مرعبة! شيء لا يمكن تخيله. واصلت ضحكي، لم أستطع أن أمنع نفسي. لقد ارتديت ربطة عنق... ماذا أفعل؟ لأنني كنت قد دعوتها، في الحقيقة، للعشاء. قلت لنفسي: (لن أذهب إلى مطعم مع هذه المرأة)
ماذا فعلت إذا؟
دعوتها للدخول: "تفضلي بالجلوس" قلت لنفسي: " لا أستطيع أن أتحدث عن عشاء الآن" كان ذلك مستحيلا، لم يكن ثمة ما يؤكل في البيت. وعليه قلت لها: (لكن من أنت؟) أتمنى لو كان لدي وقتها جهاز تسجيل! جلست هناك، عمليا لم أقل شيئا. فراحت هي تحكي لي عن حياتها، حكت لي كل شيء، بتفصيل يسبب أحيانا الغثيان، أخبرتني بأنها عندما كانت شابة، ذهبت إلى الكنيسة لتعترف، فقال لها القس: (ولكن يا آنسة ليس عليك أن تأتي إلى هنا بل يجب أن تذهبي إلى سانت آنس). كان ذلك مصحا عقليا. هي من روى لي هذه الحكاية. كانت امرأة ثرية، تملك عدة بيوت في باريس. كانت قارئة إلى حد معقول. تحفظ كتبي عن ظهر قلب، كانت تردد بعض المقاطع. عند منتصف الليل قررت أن أربع ساعات من الضيافة تكفي، فرافقتها إلى الباب.
لكنك تعتبر أن هذه اللقاءات الخاصة مهمة. أهناك لقاءات أخرى؟
قبل بضع سنوات، أخبرني أحد أصدقائي بأنه كان قد التقى بمهندس في الخامسة والعشرين من العمر، أراد أن يلتقي بي. أخيرا قلت حسنا، سنتمشى حول حدائق اللوكسمبورغ. كان ذلك في الصيف، مساء. تكلمنا حول موضوع وآخر، الأدب وما شابه، وفي النهاية قال لي: (أتعرف لم أردت أن التقي بك؟ ذلك لأنني قرأت كتبتك ورأيت أنك مهتم بالانتحار. أود أن أحدثك عن حالتي.) وهكذا شرح لي بأنه كان يملك وظيفة جيدة، يكسب منها الكثير. قال (خلال السنتين أو الثلاث الأخيرة صرت مهووسا بفكرة الانتحار. أنا في مقتبل العمر وهذه الفكرة بدأت تستولي علي. ولست قادرا على التخلص منها) تنزهنا لثلاث ساعات حول حدائق اللوكسمبورغ. بينت له كم كنت ـ ولم أزل ـ مولعا بفكرة الانتحار، أنا أعتبر الانتحار الحل الوحيد، ولكنني أوضحت له بأن نظريتي هي هذه: الانتحار هو الفكرة الوحيدة التي تتيح للإنسان بأن يعيش. الانتحار أمدني بفكرة أنني أستطيع أن أغادر هذا العالم متى أشاء، وهذا الأمر يجعل الحياة محتملة. بدلا من تدميرها. وهكذا بقينا ثلاث ساعات نناقش كل وجه من أوجه هذه المسألة، بعد ذلك اقترحت بأن لا نلتقي ثانية، لأنه لن يكون ثمة جدوى من ذلك.
في واقعة كهذا، هل راودتك إلى حد ما، الرغبة بإنقاذه؟
أجل، قليلا. لقد حدث لي عدة مرات وبشكل خاص مع فتيات شابات. لقد منعتهن من الإقدام على الانتحار. حاولت دائما أن أقول لهن بما أنكن قادرات، في أي وقت، على قتل أنفسكن، يجب أن تؤجلن ذلك. ولكن لا يتوجب أن تتخلين عن الفكرة.
* لكنك تشعر بنوع من المسؤولية إزاء هؤلاء الأشخاص.
نعم، لا أنكر ذلك. لان نظريتي عن الانتحار هي أن الإنسان لا يجب أن يقتل نفسه، وإنما يجب أن يستخدم فكرة الانتحار لتحمل الحياة. إذاً هي شيء آخر، ولكنهم تهجموا علي قائلين أنني أثير الجدل حول الانتحار ولا أقدم أنا نفسي عليه. مع أنني لم أثر مثل هذا الجدل. أنا أقول بأن هذه الفكرة هي ملاذنا الوحيد في هذه الحياة، وبأن الحل الوحيد هو أننا نستطيع أن نتخلص من هذه الحياة حينما نريد. على هذا فهي فكرة إيجابية. المسيحية مسؤولة عن تعبئة الناس ضد هذه الفكرة. يجب أن يقال للناس (إذا وجد أحدكم الحياة غير محتملة، ليقل مع نفسه، لا بأس، أستطيع أن أضع لها حدا عندما أشاء). على الإنسان أن يعيش في ظل هذه الفكرة من موضوع الانتحار.
* في كتاب (Syllogismes...) عندما كتبت ( بدون فكرة الانتحار، كنت قتلت نفسي منذ البداية) . حتى في معظمالانتحار. في (Tares) مختارات من الأقوال منشورة في دورية (La Delirante) قلت بأن فكرة الانتحار كانت طبيعية وصحية بالنسبة لك، لأنك عشت معها تقريبا طوال حياتك, لكن ما لم يكن صحيا هو (الإقبال الشديد على الوجود) إنه شرخ حقيقي، شرخ بامتياز.
أجل، أنه نوع من الاعتراف، لأنني كنت دائما أحفظ قول بودلير ( النشوة والرعب من الحياة). بالنسبة لي، كل ما مررت به في حياتي، متضمن في هذه الجملة.
لكنك كنت تفكر بالانتحار عندما كنت صغيرا، ما الذي جعلك تقرر الاستمرار؟
لأنني نظرت إلى الحياة بوصفها تأجيلا للانتحار. كان لدي اعتقاد بأنني لن أعيش بعد الثلاثين. لم يكن ذلك بسبب الجبن، كنت دائما أؤجل انتحاري، لقد استثمرت هذه الفكرة، عشت كمتطفل عليها ولكن في نفس الوقت كان الإقبال على الوجود لدي قويا جدا.
أتساءل إذا كان هناك أشخاص كنت ترى فيهم انتحارهم المرجأ. أفكر في بول تسيلان، مثلا، الذي كنت تعرفه جيدا؟
كلا لم أستطع أن أرى ذلك فيه. تعرف، أنه قام بترجمة كتابي الأول إلى الألمانية. حين وصل إلى باريس، في البداية، كنت أراه باستمرار، كان يقطن على مقربة مني في شارع Des Ecoles . لكن فيما بعد صرنا نرى بعضنا أقل بكثير، كان قد أنتقل إلى مكان آخر. كانت حالته مرضّية فعلا الأمر الذي سرّع في نهايته. في الوقت الذي التقيته فيه لم أكن أتخيل بأنه سيقتل نفسه. ما عدا إنه كان أحيانا عنيفا جدا، كان يتعامل مع كل مشاكل الحياة على نحو قاصر. في ألمانيا، لم يكن يعرف الناس في ذلك الوقت ما إذا كان شاعرا عظيما أم لا، أقل تهجم كان يمرضه. عانى لأنه كان سريع التأثر، وهذا ما جعل حالته تزداد سوءا. أعتقد أنه فعلا قتل نفسه لأنه لم يكن هناك خيار آخر. لم يكن موته عرضيا على الإطلاق، بل كان حتميا. شيء واحد أثر فيّ بشكل كبير: مساء أحد الأيام، كانت الساعة الحادية عشرة وكان هناك مطر خفيف، كنت أتحدث مع شاب، في الجانب الآخر من حدائق اللوكسمبورغ، كان شهر نوفمبر وكان الشارع خاليا من المارة، لمحت شخصا قادما باتجاهنا كان ينظر إلى الأرض ويقوم بحركات متحدثا إلى نفسه. كان بول تسيلان. عندما رأيته أصبت بالدهشة والخوف. وقفت وتطلعت إليه، مع ذلك لم يرني. لم ير أحدا، كان يتحدث إلى نفسه. ذلك حطم قلبي لأنني أدركت، بأنه لم يكن على يرام. كان هو الإنسان المجروح في العمق. كان معذبا جدا من أن يلجأ إلى الشك.
* بالمقابل، كنت أنت شكاكا باستمرار.
مبدأ الشك لعب دورا هائلا في حياتي. كان علاجا مهدئا. أنا لست شكاكا بمزاجي، إذا شئت، السبب أنني عصبي بعض الشيء. ربما أنا شكاك زائف. سأروي لك حكاية لا تصدق، بعضا من البلاهة الألمانية. تلفنوا لي يوما من ميونيخ، مضى على هذا بضع سنوات: (سيد... لقد دعونا عددا من العلماء لمؤتمر حول مستقبل الإنسانية. بينهم فيزيائيون، فلاسفة الخ، ولكننا نحتاج إلى شكاك ولا نستطيع أن نجد واحدا، هل ترغب بالمشاركة) رفضت، أنا لست شكاكا في خدمة الغرب. لكنني وجدت الأمر غير مسبوق؟ عبر الهاتف؟ كما يستدعى الطبيب، الاختصاصي. يمكن أن أدون في بطاقتي (المهنة: شكاك). ثم أنني لست شكاكا على الدوام.
في أي مرحلة بدأت بقراءة جونثان سويفت؟
بعد أن جئت إلى فرنسا، أصبحت مهتما بسويفت بشكل عميق، قرأت عنه كل ما استطعت أن أحصل عليه. لقد سحرني. كان خلال مراحل معينة بالغ الأهمية بالنسبة لي. على أية حال أستطيع القول أنني قرأت كثيرا خلال حياتي، لأنني، حصرا، كنت دون شاغل، وهو ما يسميه الفرنسيون عاطلا، أي الشخص الذي لا يعمل. في الفترة التي كنت خلالها فقيرا جدا، عشت مثل ثري، بلا عمل. ولكنني في المقابل قرأت. لهذا أرى أنني، مع ذلك، أديت واجبي. لكنني أيضا قرأت لكي لا أفكر، لكي أهرب، لكي لا أكون أنا. وكذلك، حاولت دائما أن أتقصى العيوب والنواقص في الآخرين.
عبرت مراراً، في كتاباتك، عن اهتمامك بالسير الذاتية؟
قبل كل شيء، أحب أن أرى كيف ينتهي الناس. عندما تقرأ عن حياة شخص ما، أي شخص، ترى ما الأوهام التي ابتدأ بها حياته. مثير جدا أن ترى كيف تخذله تلك الأوهام.
كنت أيضا مأخوذا جدا بشكسبير في شبابك.
حصلت معي قصة جنونية فعلا حول ذلك. كما سبق وقلت، عملت في مهنة مدة عام واحد فقط في حياتي، كنت مدرس فلسفة في مدرسة ثانوية عندما كنت في الخامسة والعشرين من العمر. وهي مرحلة كنت أمر خلالها بنوع من الأزمة الدينية التي لم تنته إلى شيء. كنت منغمسا في قراءة الصوفيات، لكنني أيضا كنت أقرأ كثيرا لشكسبير. أمر غريب جدا لأنه ليس ثمة ما هو مشترك بينهما. كنت متعلقا إلى حد كبير بشكسبير، اعتقدت إن البقية كلهم أغبياء. لهذا اتخذت قرارا، قلت: ( لن أتكلم مع أي شخص عدا شكسبير). كان لذلك القرار بعض العو


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق