الثلاثاء، 18 يوليو 2017

مقدمة موسى وهبه لترجمته كتاب "مباحث منطقية" لـ هوسّرل.








مقدمة موسى وهبه لترجمته كتاب "مباحث منطقية" لـ هوسّرل
مع الشكر للدكتور جمال نعيم على تزويدي بنص المقدمة.

مباحث منـطقية
مقدمة المترجم

التمرّن على قول هوسٰرل
   أتابع إذن التمرّن على قول الفلسفة بالعربي اليوم، وهذه المرّة على نصّ مفصلي يطرح برنامج عمل فلسفي طويل الأمد، ويشكّل، في الوقت نفسه، عتبة دخول إلى القرن الفلسفي المنصرم؛ عنيتُ نصّ المباحث المنطقية لأدموند هوسٰرل.
  فهو برنامج عمل فلسفي لا يفتأ يتعدّل ويتضح طوال أربعين سنة وصولا إلى غايته المنشودة: إقامة فيمياء مجاوزة أو تحقيق مقصد الفلسفة المضمر أصلا.
   وهو عتبة دخول إلى العصر الفلسفي بالنظر إلى أثره البالغ في ما لحقه من نصوص فلسفية مقتدية به أو معدّلة فيه أو مناهضة له: سواء في الفلسفة القارّيّة (هيدغر وميرلوبُنْتي وليفيناس وسائر أقطاب المسرح الفلسفي الفرنسي) أم في الفلسفة الأنغلوسكسونية (مركوزه وكرناب فالمدرسة التحليلية). ويمكن تبيّن هذا الأثر لا في انتشار المنهج الجديد وحسب، بل أيضا في التنبّه إلى ميادين مستجدة وفي المصطلحات الفلسفية الناشئة.
   مما سيعني أن قارئ الفلسفة المعاصرة ومحبّها لا بد له من اجتياز هذه العتبة. وما سيعني، من ثمّ، عظم المهمّة الملقاة على مترجم هوسٰرل إلى العربية التي لمّا تتمرّس بعد بما يكفي وبما يُرضي وبما يمكّن من قول فلسفة العصر، ومن قول العصر باختصار، باللسان العربي المرهق اليوم بتراكم الملحون والغريب  والثقيل.
 كان عليّ إذًا أن أكون دائم التنبّه وحاضر الحيلة من أجل التمكّن من أداء لغة هوسٰرل المعروفة بغناها الأفهومي وتشعّبها الثيْميّ إنما غير المشتهرة برشاقتها؛ ومن أجل التمكّن من أدائها من دون إلحاق ضرر بالغ بالمعنى ومن دون كبير إساءة إلى السياق العربي.

 تلك هي إذًا المباحث (Untersuchungen) المنطقية، وليس مجرّد الأبحاث (Forschungen) بل ما يتضمن هذه الأبحاث وما يذهب تحتها و"يستنطِقها" على غرار ما يفعل المحقّق. وهي مباحث في المنطق المحض بوصفه عِلْمِياء (Wissenschaftslehre) (أو علم العلم بالقياس على ما فعلت العرب حين قالت فيزياء وكيمِياء على وزن فِعْلِياء). ومباحث  بمنهج جديد هو الفيمِياء (Phänomenologie) (أو علم الفيْنمانات جمع فَيْنُمان، وعلى القياس نفسه بعد إدغام  النون في الميم إدغامًا مباحا بالعربية، وبعد تمييز الفَيْنُمان الظاهر في الوعي من مجرّد الظاهرة في الخارج؛ وبذلك استبعدت لفظيّْ الظاهراتية والظواهرية تجنبا للخطأ ولفظ الفينومينولوجيا تجنا للثقل).
   والفيمِياء التي تدشنها هذه المباحث اسم قديم لمنهج  في البحث الفلسفي جديد سرعان ما يصير هو الفلسفة "بوصفها علما صارما" كما سيقول هوسٰرل. ومنهج يلخصه هيدغر بشعار هو: نحو المطالب إيّاها. ويجدر التوقف لإيضاح  هذا الفيض من الألفاظ المستجدّة قبل الإيغال قدما في هذا النمط الجديد من التفلسف:
فالمطالب جمع مَطْلَب (زاخه Sache)، وهي أغراض التفكير أو "أشياؤه" إذا ما فهم "الشيء" بوصفه مشتقّا من : شاء، يشاء شيئًا. لكنه يستعمل في الألمانية أيضا للإشارة إلى موضوعات القول من غير العاقل في مقابل الأشخاص. لذا ترد النسبة منه (زخلِش sachlich) غالبا بلفظ مطلبي وحينا بلفظ شيئي. في حين أقول مطلوب (زخفرهلت Sachverhalt) ووضع أو مجرّد أمر ما (بإزاء زخلاغه  Sachlage).
 وأقول إيّاها (بإزاء  selbst) بدلا من القول: ذاتها ونفسها وما إلى ذلك. والحق، إني استثمرت اللفظ العربي "إيان" أو "إيّا" بصيغة المضاف في مثل قولك: إياه، لأحلَّ إشكالا كبيرا في نقل صيغ بدت مستعصية: فقلت فيّاه اختصارا لـ فيه إياه (بإزاء أنزش  an sich) وليّاه اختصارا لـ له إياه (بإزاء فُرزش  für sich)، وولّدت من ذلك نسبة مصدرية فقلت فيّانيّة أي كون الشيء فيّاه (بإزاء Ansich-sein) وليائيّة أي كون الشيء ليّاه (بإزاء  Fürsich-sein) وليّاييّة (Fürrmich-sein) أي كونه لي إياي. وتوسّعت بهذه النسبة المصدريّة في كل مرة صادفت فيها ملحقا ألمانيا من صورة: زيْن أو هيْت أو كيْت (sein, heit, keit) فقلت وعييّة ولونيّة وبائيّة أي الكون وعيا ولونا وباء إلخ..

    وعليه يمكن فهم الشعار: نحو المطالب إياها، كدعوة إلى الاهتمام حصرا بأغراض التفكير كما تمثل في تيّار المعيش الوعيي، بصرف النظر عن علاقتها بخارج ما، أي مع "تعليق" الحكم على وجود العالم أو ما يسمى الآبوخٰه، أو ما سيدعى لاحقا بالإرجاع أو الإحالة (بإزاء Reduktion) أي إرجاع الكائن إلى الفيْنُمان.
     والتعليق أو الإرجاع الفيميائي ليس اختزالا أو تضييقا لمجال البحث الفيميائي، بل هو على العكس تحرير له من الاقتصار على العالم الواقعي لينفتح على تيار المعيش ((Erlebnis الوعيي: أي ما يعيشه الوعي من مدرَك حيّ وطارئ ومتجدد في تيار (Fluss) أو في مدّ لا ينقطع. ذاك أن الوعي هو وعي بشيء ما أي هو أفعول (Akt) وعي وليس مجرد حالة وعي أو حصيلة، وكونه وعي بشيء ما، هو ما يسمى قصديّته، أي توتره باتجاه موضوعه.
 وأفهوم القصديّة يتيح بل يوجب الكلام على أن الوعي يرى-إلى موضوعه (ولا يراه وحسب) وموضوع الرأي-إلى (Meinen) لا يعود مجرّد موضوع معرفة (Objekt) في مقابل الذات العارف، بل موضَّع مستقدم (Gegenstand) انطلاقا من معيش الوعي المحايث (immanent) وليس من الخارج المعلّق المفارق للوعي (transzendent)، فهو مرتّب ومقوّم (konstituiert) قصديّا من دون أن يقوم "في" الوعي. ومن الموضوع تشتق الموضوعية (Objektivität) والمُمَوْضِع (objektivirend) أي مُضفي الموضوعية، ومن الموضَّع تشتق الموضَّعية (Gegenständlichkeit) والموضَّعيّ (gegenstandlich)
   وبإرجاع مدار المعرفة إلى تيار المعيش الوعيي إثر وضع وجود العالم الخارجي بين هلالين، يمكن التمييز، بناء على القصدية، بين الجانب الذاتي المتعقِّل والجانب الموضوعي المتعقَّل أو بين القاصد والمقصود أو قل، إن كان لا بدّ من التعبير باليونانية، بين النواة والنوِّي (noetich، noesis) والمنتوى والمنوي (noematich، noema) بالاشتقاق عربيّا من نوى نواة ونيّة.
ومع التأمّل في معنى القصدي المستفاد من برنتانو سرعان ما يتبيّن أنه، بالأحرى، المُجاوِز (transzendental) الذي كان أدخله كنط، وأن الفيمياء نفسها ليست مجرد فيمياء وصفية (بالاستفادة من برنتانو نفسه) بل هي بالأحرى فيمياء مُجاوِزة، ومثاليّة مجاوِزة أخيرا، بالإذن من كنط وبالتميّز منه:
   فالمجاوز عند كنط يطلق على علاقة المعرفة بموضوع المعرفة قبليّا، أي قبل وبمعزل عن حضوره في التجربة. فالذهن العارف مُجاوِز، أو قل إنه يجاوز بنا إلى موضوع المعرفة أي يطلبه ويشكّله تبعا لبنية الذهن الذاتية؛ ويمكن إيضاح ذلك بمثال من النحو العربي: حين أقول ضرب زيد.. ينتظر السامع تتمة العبارة لأن فعل ضرب يتجاوز الفاعل ويجاوز بنا إلى طلب مفعول به، فهو فعل مجاوز أو فعل متعدٍّ كما تقول النحاة، وهذا التعدّي قائم في معنى الفعل نفسه أي قبليا، قبل أن نعرف على من أو على ماذا سيقع الفعل. وهكذا يمكن أن نفهم كيف يكون الوعي مجاوزا أو وعيًا بشيء ما، بمطلب ما. وكيف أن ما كان يسمّى قصدية الوعي سيكون الآن مجاوزة الوعي، وكيف ستتحوّل الفيمياء الوصفية إلى فيمياء مجاوزة تحرّكها مسألة التقويم، أو تقوّم موضّع المعرفة مع الاستمرار في التعليق. وكان كنط قد حصر التقويم أو الإنشاء Konstitution  بقدرة الفاهمة تاركا للعاقلة مجرد تنظيم المعرفة، لكن الفاهمة عند كنط تعمل على معطيات الحدس الحسي المتلقي من الخارج بما يشبه عمل الصانع الأفلاطوني على الهيولى، أو عمل الصورة الأرسطية على المادة. أما التقويم عند هوسٰرل فيتم بصرف النظر عن أي عالم خارجي أو مفارق للوعي، بل يعني، إضافة إلى الإنشاء، وهبا للمعنى أساسا).
  وإذا كان هوسٰرل  يتبنى اصطلاح المجاوزة بمعنى بلوغ القصدية شأوها، وبمعنى تطابق الاسم والرسم،  فإنه يرفض أن يبقى "الشيء فيّاه" خارج الفيْنُمان المستغرق في عالم المعيش حيث لا يعود المجاوز يعني طوْل الواقع الخارجي، ويحسب أن كنط توقّف دون الغوص إلى أعماق المسألة التي أثارها ديكارت من دون التمكن من صوغها، اي كيف يمكن أن نفهم مجاوزة الوعي للمعيش النفسي والواقعي، وبعبارة أكثر جذرية: كيف يمكن للذاتي أن يقوّم الموضوعي؟

   هذا، ويقتضي المنهج الفيميائي تمييزات أساسية بين المصطلحات القريبة في العادة، والتي كانت تحسب في المنهج المسمّى ساذجا بمثابة مترادفات. فهوسٰرل يميّز ـ وأضطّر أن أتابعه في ذلك بما تيسّر من فروق في اللغة العربية أو بتوليد الألفاظ من دون كبير إساءة إلى السياق والجرس العربيين حيث لا تتوافر تلك الفروق ـ بين:
 ـ مجرّد البداهة (Evidenz) والبداهة الوجوبية أو الرِئْيان (Einsicht)، وما يتبع ذلك من تمييز بين مجرّد الرؤية والنظر والتخمين من جهة، والرأي-إلى ( Meinen) من جهة أخرى؛
ـ بين  الفينمان (Phänomen بحسب الأصل اليوناني) أي ما يظهر في تيار الوعي، والظاهرة (Erscheinung ترجمته الألمانية)  أي ما يظهر في الحس الخارجي؛
ـ بين مجرّد الفكرة (Gedanke) أو الأَيديا بالإنكليزي، والمِثال (Idee) بالمعنى الأفلاطوني، أو بالأحرى بالمعنى الكنطي أي بمعنى الأمثل المُرشِد إلى تماميّة المعرفة؛
ـ بين مجرّد الوجود (Exsistenz) في الخارج، والهٰذيّة أو الوجود بالنسبة إلى الوعي (دازيْن Dasein)، والعِنْديّة أي الوجود الضمني عند الوعي (Inexistenz). وبين هذه كلّها والكوْن (Sein). وذاك تمييز أساسي بالنسبة إلى الفيمياء استغلّه هيدغر  وثمّره حتى اشتهر به بالأحرى؛
ـ بين التمثّل أو التمثيل (Repräsentation) الذي يتمثّل أو يمثِّل شيء الإدراك بل قل يقوم مقامه، وتصوّره أو استقدامه شخصيّا ووضعه قدّام الوعي (Vorstellung)، وبفضل التعليق الفيميائي يكون المُوَضَّع حاضرا إزاءنا أي متصوّرا وليس متمثلا.
ـ بين المحتوى (Gehalt) أي ما احتواه الحدس متدخّلا فيه، والمضمون (Inhalt) أي المتضمّن في الموضّع فيّاه بصرف النظر عن صلته بالمُدرِك؛ وأضفت تمييزا آخر بالعربي، تخلّصا من ازدواج المعنى القائم في اللفظ الألماني: إنْهَلْت، والذي يشكو منه هوسٰرل نفسه، فقلت مضمون للـ إنْهَلْت بعامة وللـ إنْهَلْت الحسي بخاصّة، وقلت مفهوم للـ إنْهَلْت الذي يفيد المعنى أو الدلالة، وذلك في مقابل "الما صدق" أو المصداق على ما فضلتُ أن أقول (بإزاء  (Umpfang (راجع بخاصة مبحث VI  فقرة 22 و23)؛
ـ بين الخامة (Stoff) التي تعني المادة والهيولى في التفلسف السابق، والمادّة (Materie) بمعنى المادة القصدية أو المادة كمعنى دركي، بل المادة بمعنى الدلالة على ما يكتب هوسٰرل.
ـ بين المفارق (transzendent) بمعنى القائم أو المفترض قيامه خارج الوعي، والمحايث (immanent) بمعنى القائم في تيار المعيش. أي إن هوسيرل يحتفظ بمفهوم المعنيين المعيّن في اللغة الفلسفية العادية، لكنه يغير مصداقهما تبعا للتعليق.
ـ وبالإضافة إلى تمييزات أكثر لطفا ودقة، يدرك القارئ أحيانا فائدتها ( مثال التفريق بين العلامة والإشارة وبين الماهية والإنيّة) إنما يحسبها غالبا من لزوم ما لا يلزم (مثال التمييز بين الإيضاح والإضاءة ، وبين التعالق والتماسك، وبين التلاؤم  والتوافق أو بين اللاتلاؤم والتضارب، وبين التضمين والتتبيع، بل بين التأشير والإيماء وبين المخيلة والواهمة الخ. راجع هوامش المترجم)، أقول بالإضافة إلى ذلك، يميز هوسٰرل بين الفعل وحصيلة الفعل مستثمرا خاصية الألمانية التي تستسيغ تحويل الفعل إلى مصدر من دون تغيير في لفظه وبمجرد فرق متمثل بكتابة المصدر بحرف التاج، مثال التمييز بين اليُدْْرِك (Wahrnehmen)والإدراك (Wahrnehmung) أو بين الظهور (Erscheinen) والظاهرة(Erscheinung) .  

ويمعن المؤلف في هذا التمييز اللطيف إلى حدّ تصعب معه متابعته بالعربي من دون اللجوء إلى التوليد بعد استنفاد المخزون اللغوي غير الدارج الاستعمال. الأمر الذي يستوجب وقفة وإن قصيرة عنده
  هكذا كان علي أن أقيس على وزن فِعْلان وأُفْعول وأن أولّد على وزن فَعْلنَ فعلنةَ حيث اقتضت الحاجة. فقلت: عِرْفان (بإزاء Erkennen) لتمييزه من المعرفة (Erkentnis) في حين خصّصت التعرّف بـ Erkenung.
   وقلت: عِلْمان (بإزاء Wissen) لتمييزه من العِلم (Wissenschaft) الذي صار يطلق على العلوم بالمعنى الحديث، في حين أن العِلمان أُطلقه على مجرّد أخذ العلم بالأمر بما يقابل الجهل به، وما يرادف "الدِرْيان" من درى يدري، لكن الدريان كان ليُستغرب وليخرج بنا من الجذر: عَلِم.  
   وقلت: حِدْسان (بإزاء Anschauen) لتمييزه من حاصله الحدس (Anschauung)، وولّدت الحَدْسنة (Veranschaulichung) أي إضفاء السمة الحدسية. وفي السياق نفسه قلت: أَسْمنة (بإزاء Nominelisierung) أي التحويل إلى اسم، وصَوْرنة أي إضفاء الصورة.
     وقلت وِعْيان للدلالة على وعي الوعي أو ما يسمّى الوعي الذاتي بإزاء Selbstbewusstsein
      واستعدت أُفهوم (بإزاء Begriff) الذي كنت ولّدته في ترجمتي لكنط بمعنى فعل التفكير وليس مجرد حاصل التفكير، واستعمله هوسٰرل بالمعنى نفسه بعد توسيعه ليتوافق مع المعنى العام وينطبق على اسم الجنس، حيث يكون لكل أفهوم (مثال: إنسان) مفهوم ( حيوان عاقل) ومصداق (زيد وعمرو وسقراط الخ..). وقست عليه: مِثال، ورأيت ذلك مصاقبا تماما لتأدية ما يفهمه هوسٰرل بلفظ Idee حين يفرقه من idea هيوم. وتابعت القياس فقلت: أُفعول بإزاء Akt ورأيت ذلك مناسبا تماما لإظهار الفرق بينه وبين الفعل بمعنى Handlung والتأثير بمعنى Action الوارد عند هوسٰرل بأصله اللاتيني، وأخيرا بينه وبين الفعل في مقابل الاسم. وكنت استعرت لفظ الأفعول من كتب النحو حيث يرد بصيغة الجمع: أفاعيل، ويشير إلى المستثنى والتمييز والحال، ورأيت أن ذلك لا يبتعد كثيرا عن فهم هوسٰرل للأفعول حيث يكتب: في ما يخص الأفعول "فكرة النشاط يجب أن تبقى مستبعدة إطلاقا " ويضيف: " ونعرّف "الأفاعيل" لا بوصفها أنشطة نفسية بل بوصفها معيشات قصدية" )مبحث V فقرة 11 و28).
 وقلت أخيرا خيلة بإزاء Bild، وجمعتها تجوّزا على أخيلة، والمصدر منها الخَيْل. وبدلا من القول إسكيمة تعريبا من اليونانية، قلت شَيْمة بإزاء Schema  باستثمار العربي: شام  شيما، من "شام مخايل الشيء" أي تطلّع نحوه ببصره منتظرا له أو أيضا: خمّنه وقدّره، وهو المعنى المقصود من شيْم الحدس. وبدلا من القول موضوعة وهو لفظ ملتبس لاتصاله بالموضوع والوضع، ولّدت: ثامَ ثَيْمة تعريبا لـِ  Thema بمعنى الفكرة العامة مدار المقالة أو المسرحية مثالا، الخ..
وقلت هُوِيّة بإزاء Identität وأحيانا هوِّي بإزاء  identisch، لكني لم أتابع الاشتقاق من هوِّيَّة نظرا لثقله واتبعت الدارج من الاستعمال فقلت غالبا مماهٍ أو متماهٍ بدلا من هوِّي، ومماهاة وتماهٍ بإزاء Identifizirung مع أن ذلك يذكّر بالأحرى بماهية بإزاء Wesen ومنها ماهوي wesentlisch بمعنى أساسي وجوهري. كان لا بدّ إذًا من دفع تلك الضريبة استبعادا لغريب متهوٍّ وتهوٍّ ومهاهاة.        
  ولعله صار بالإمكان الآن الكلام على هوسٰرل من دون تنبيهات إضافية.


مسار هوسٰرل الفلسفي

   لم ينشئ هوسٰرل سِسْتاما فلسفيا ناجزا استنادا إلى حدس أولي، على نحو ما حصل مع هيغل مثالا، بل انخرط في مسار راح يتعدل ويكتمل خلال أكثر من أربعين عاما في أكثر من أربعين ألف صفحة لم ينشر منها في حياته إلا القليل، ولم تطبع بكاملها بعد. واتبع دروبا تبدو للوهلة الأولى كثيرة التشعب والتنوع، إلا أنها تعود لتندرج في منحيين إثنين، يتقدم الأول منهما أي "المنحى الديكارتي" مباشرة وقفزا نحو الغاية التي بدأت تتضح تباعا لتصير إقامة فيمياء مجاوزة، أي فلسفة تتصدّى أخيرا لمهمة فهم كيف يتأتى أن تُستَقدم الموضوعيّة فيّاها إلى المعرفة أي كيف يتأتى أن تصير ذاتية. أو كيف يمكن حل المسألة التي أثارها التفكير الفلسفي منذ ديكارت ولم يجد لها حلا مرضيا أي علميا من دون فروض ميتافيزيقية إضافية. وينشغل المنحى الثاني بالمنطق بخاصة، لكن أيضا بالاستٰطيقا والآطيقا والمجتمع والتاريخ، بوصفها دروبا ممكنة وحقول تطبيق للفيمِياء المجاوزة.
   ويمثِّل المباحث المنطقية، المنقول هنا، الفصل الأساسي من هذا المسار بين الطبعة الأولى للكتاب الأول 1900 وللكتاب الثاني 1901 والطبعة الثانية للكتاب الأول: مقدمات في المنطق المحض، وللجزء الأول من الكتاب الثاني: مباحث في الفيمياء ونظرية المعرفة، 1913 وللجزء الثاني من الكتاب الثاني عناصر إيضاح فيميائي للمعرفة، 1921. ويتضمن المنحيين معا إنما باقتصار المنحى الثاني على المنطق المحض وحسب، كما تفيد العناوين المذكورة هنا.
  فهوسٰرل يمهد فيه للمنطق المحض بنقد التعليم السيكولجي الذي يحسب المنطق فنّا من فنون السيكولجيا حين يرى أن ما يجب أن يكون التفكيرعليه (أي المنطق) ليس سوى حالة خاصة مما هو التفكير عليه. فقواعد التفكير الصحيح، على ما تظن السيكولجيّة، مماهية لقوانين الفكر الفيزيائية، والمنطق إما أن يكون فيزياء للتفكير أو لا يكون شيئا بالمرة.
 ونقد هوسٰرل واضح وحاسم: تخلط السيكولجيّة بين نسقين متميِّزين من القوانين هما نسق القوانين السببية التي تعيّن اشتغال الذهن من حيث هو ذو طبيعة خاصة، ونسق القوانين الأمثلية التي بها نقيس صحة التفكير. تهمل السيكولجيا إذن التفريق بين الأمثلي والواقعي، وبين القانون وأفعول الحكم. والحال إن عمل الآلة، مثالا، لا يخصّ قوانين علم الحساب بل قوانين الميكانيكا، والحكم كأفعول ذاتي هو غير مضمونه الموضوعي المتصف بالحقيقة، إذ لايمكن الكلام على الحقيقة بوصفها حقيقة هذا الكائن أو ذاك بل على الحقيقة فيّاها بصرف النظر عن سيكولجية مُصدر الحكم؛ ومن دون هذا التمييز سنقع، ولابدّ، فريسة الريبية وسنهدم العلم نفسه.
   ويميز هوسٰرل المنطق التطبيقي من المنطق المحض، الأمر الذي تهمله السيكولجيّة حين تحسب المنطق مجرد علم تطبيقي يتأسس في السيكولجيا. ويمعن هوسٰرل في تمييز المنطق من سائر العلوم، من حيث يذهب إلى ما لا يمكن للعلوم أن تذهب إليه. فالرياضة الحديثة، مثالا، تعلِّم نظرية المجموعات، لكن تعليم التنوعية Mannigfaltigkeitslehre يبقى من مهمة المنطق؛ ويُطلب من هذا التعليم أن يضفي صورة معيّنة على الطرز الماهوية للنظريّات الممكنة ويدرس تعالقاتها المتوافقة مع قانون، بحيث تصير جميع النظريّات المتحققة تخصيصات أو قل تفريدات لصور نظرية متناسبة معها، وتصير جميع ميادين المعرفة، القابلة لصوغ نظريّ، تنويعات جزئية. فإذا ما تمت إقامته سيكون قد تمّ إنجاز كل العمل النظري الاستنباطي اللازم لتحقيق فكرة لٰيْبنِتس عن الرياضة الكلية، أي لتحقيق سِسْتام السساتيم الممكن نظريّا على الأقل من حيث يفكَّر في عمومية صورية خالية من أي مضمون وقابلة بالتالي للامتلاء بمعطيات الميادين الخاصة.
  وبإثبات مِثال المنطق المحض يكون الكتاب الأول، المقدّمات، قد أدى مهمته وصار المطلوب التصدي لمهمة بناء هذا المنطق بالبحث عن مصادر أفاهيمه الأساسية وقوانينه الأمثليّة في معيش التفكير والمعرفة. ويسمّى هذا البحث فيمِياء. وذاك هو غرض الكتاب الثاني  الموسوم: مباحث في الفيمياء ونظريّة المعرفة.
  ويضم الكتاب الثاني ستة مباحث، خمسة منها تشغل الجزء الأول منه، وينفرد المبحث السادس بالجزء الثاني. وينشغل منذ المدخل بمسألة العلاقة بين ذاتية العرفان وموضوعية مضمون المعرفة بحيث يصير السؤال المحرّك: " كيف يمكن أن نفهم أن "فِيّاهيّة" الموضوعية تبلغ "التصوّر" بل "الدَرْك" في المعرفة وتنتهي إذن بأن تعود لتصير ذاتية؛ وماذا يعني بالنسبة إلى الموضّع أن يكون "فِيّاه" و"معطى" في المعرفة ... وماذا يعني... تطابق الشيء مع الذهن معرفيّا"؟
  ويباشر هوسٰرل الإجابة بإيضاح الأفاهيم المنطقية الأساسية بدءا بأفهومي التعبير والدلالة ليبين أن الدلالة المعبّر عنها لاتعود إلى المعيشات النفسية بل إلى أفاعيل القصود الدلالية من حيث إن الموضّع وحدة أمثلية متماهية بصرف النظر عن أي حالة نفسية، ومن حيث إن الدلالة وحدة موضوعية (منطقية أمثلية) أي "موضّع عام" لا يوجد لا في العالم (بحسب الواقعية الساذجة) ولا في عالم المثل (بحسب الواقعية الأفلاطونية) ولا في الفكر (بحسب لوك) إلا أنه قائم أمثليا (على عكس ما تظن الإسمية المغالية مع بٰركلي وهيوم). ـ ولعلّ هذا الإثبات الذي يناهض في الظاهر رفض كنط فكرة الموضّع العام، هو أقرب ما يكون إلى مفهوم كنط للأفهوم حين يحسبه أفعول تفكير، لكن هوسٰرل المناهض لكل شكل من أشكال السيكولجيّة لا يسعه أن يقر بذلك ـ.
  ويثني بإيضاح أفاهيم التجريد والكل والجزء ليميّز من ثم بين القوانين التأليفية المادية والقوانبن التحلبلبة الصورية تمهيدا للشروع بإقامة أنطولجيا صورية، وبين الموَضعّات المستقلة وتلك اللامستقلة تمهيدا لتأسيس تنوّعية قوانين دلالية أو علم نحو فلسفي أو قل علم صرف دلالي محض.
    وينشغل المبحث الخامس بإيضاح أفهوم القصدية وتمييزه من مفهومه عند برنتانو بخاصّة. بدءا بإيضاح أفهوم المعيش النفسي حيث إن الفصدية لا تسم كل معيش نفسي بل المعيش القصدي أو المعيش الوعيي الذي يتخطى تيار المعيش نفسه وصولا إلى الموضّع المقصود المتماهي أي القائم خارج المعيش المتبدل باستمرار. والمعيش القصدي هذا هو إما أفعول إسمي يطلق اسما على مضمون معطى يبقى هو هو أو على "مادة قصدية"، وإما أفعول مُوضِّع فيه يتقوم شيء ما كموضوع حكم أو كموضّع لنا. فالقصديّة تستلزم هذه الثلاثية: مضمون-أفعول-موضّع، وحيث لا موضع لا قصدية بل مجرد معيش نفسي.
   وبذلك تكون الأرض قد مهّدت لإيضاح فيميائي للمعرفة، الأمر الذي ينشغل به المبحث السادس الذي أفرده المؤلف في جزء خاص من الكتاب لللإشارة إلى أنه الغاية من كامل المباحث المنطقية. وفيه يتم إيضاح المنطق المحض بالعودة إلى أفاعيل الوعي التي فيها تتقوم الدلالات المنطقية وبالتمييز بين أفعول دالّ وأفعول حدسي مالئ للدلالة.. ويتطلب ذلك نظرية جديدة في المعيش والوعي، اي يتطلب تحليلا وصفيا (لا سيكولجيًّا) لمعيشات التفكير والوعي مع التنبه إلى أن المعيش هنا ليس المعيش الواقعي الذي تنصرف إليه السيكولجيا بل المعيش المحض أو القصدي أو قل هو الماهيات الأمثلية. فما يهمّ الفيميائي في نصوص المنطق ليس ما تستند إليه هذه النصوص من ركائز واقعية في المعيش، بل الدلالة المتماهية في هذا المعيش، وليس الألفاظ بل المطالب إياها, والمطالب ليست أشياء الطبيعة الواقعية بل المعيشات التي بها نتصل بالكائنات المنطقية. لكن ذلك يستلزم تعليقا للموقف الطبيعي المسلّم بوجود العالم الخارجي. (والتعليق منهجي وموقّت لأن ثمة دربا ممكنة انطلاقا من الموقف الطبيعي هذا إلى الغاية نفسها).
   فالموقف الفيميائي، على عكس الموقف الطبيعي، موقف تفكري في المعيشات القصدية.   والموضّع لا يقيم في الوعي بل هو مفارق له، ولا يهم إن كان موجودا أم متوهما وحسب. والكلام في المعرفة يدور على الموضّع المستقل عن أي واقعة نفسية أو وجودية. لذا تصير المهمة إيضاح التضايف القائم بين الذات العارف وموضوع المعرفة، أو إيضاح ما صار يجب التعبير عنه بالقول: تقوّم الموضّع  الأمثلي في الذات.
 وتقوّم الموضّع الأمثلي أو تقويمه هو ما سيشكل مادة بحوث متتابعة، حيث سيتم البحث عن أصل كل تقويم ويدور على تيار الوعي في تقوّمه الذاتي الذي يجعل كل تقويم للموضّع ممكنا. وحيث سيتبيّن أن هذا التقويم يجري زمنيا إنما لا بمعنى الزمان الموضوعي المعلّق فيميائيا بل بعنى الزمان المحايث للوعي. ويظهر الزمان هذا بوصفه مكوِّنا للموضّع نفسه الذي لا يعطى دفعة واحدة على غرار الموضوع في المكان، بل يتفوّم تباعا في تيّار المعيش، مثال القطعة الموسيقية التي تجد وحدتها في فترة زمنيّة معيّنة. فالوعي يتجاوز بفضل قصديته النقطة الزمنية الحاضرة ليجمع الماضي القريب إلى المستقبل المتوقع وبذلك يتقوّم هو نفسه ويقوِّم موضعاته. (هذا التمييز بين فهمين للزمان سوف يستثمره هيدغر في الكون والزمان ويشتهر به حيث يفرّق بين الزمنية  العادية Zeitlischkeit وتزمّن الهٰذيّة Temporalität).
  وأحيل القارئ هنا إلى تصدير الطبعة الثانية من المباحث وإلى تصدير المبحث السادس وإلى مداخل الأجزاء حيث يشير هوسٰرل إلى التعديلات التي طرأت على مباحثه تبعا للتقدم الذي أحرزه خلال عشرين ونيّف، وحيث يبيّن تحول الفيمياء من سيكولجيا وصفية إلى قيمياء مجاوزة تقطع نهائيا مع ما كان يبدو لبعضهم بمثابة واقعية فلسفيّة، من دون أن تصير كنطية جديدة وبخاصة مع إتباتها للموضّع العام وللحدس المقولي مما يعارض الكنطية صراحة حيث لا موضّع إلا جزئيًّا ولا حدس إلا حسيّا.

  يبقى أن أشير إلى أن مسار هوسٰرل الفلسفي اللاحق لا يقطع مع ما تقدم بل يذهب به قدما إلى أمام، أو قل إنه يسير في دروب أخرى وصولا إلى "الطاحون" نفسه: الفيمياء المجاوزة المنشغلة بسؤال مركزي هو: كيف يمكن للذاتي أن يطاول الموضوعي، او للمحايث أن يطاول المفارق؟
  وإذا كانت الدرب الديكارتية قد أدت إلى إثبات الذاتية المجاوزة بهدف تأسيس العلم فإن المطلوب الآن رد تهمة التوحّد بالتعمق في القصدية المجاوزة وصولا إلى تجاوز الآغو (ego = الأنا) أو الذاتية المجاوزة نحو الآغو الآخر أو البَيْذوية (Intersubjektivität) أي مجتمع الذوات المجاوز. وتلك هي الدرب السيكولجية التي تنطلق من  الأنا نفسه الذي يعثر في معيشه الخاصيّ على دوافع تجاوزه نحو تجربة الآخر من حيث يمكنه أن ينظر إلى العالم المعطى للذات في التجربة كعالم موضوعي صالح لجميع الذوات، إذ ليس ثمة من موضوع حقيقي إن لم يوجد أكثر من أنا واحد، إن لم يكن ثمة نقطة التقاء لقصديات وعيية مختلفة. تؤسِّس البيذويّة إذن الموضوعية في نهاية المطاف. ويتبدى الإرجاع الفيميائي في النهاية بوصفه التعليق الكلي أو الإرجاع البَيْذوي، وتلك هي المثالية المجاوزة.
  ليست الفيمياء إذًا عائقا أمام إقامة مجتمع ذوات أو عالم مشترك في ما بينها، أي أمام العودة إليه بعد أن كان وضع منهجيا بين هلالين (بعد التعليق). هذا العالم المشترك ليس سوى عالم الحياة (Lebenswelt).
  فعالم الحياة يحيط بالفيمياء المجاوزة من الجانبين. وتمثل العودة إليه ما يمكن أن يسمّى دربا تأريخية (بمعنى تاريخ الذاتية المجاوزة) إلى الغاية إياها، أي إلى المقصد السرّي للتفلسف الحديث برمته. ففيه يتم العثور على الدافع الأصلي للبحث العلمي عن الحقيقة الموضوعية بحثا يعاني اليوم أزمة آخذة في التفاقم جرّاء اتخاذ الرداء بمثابة الشخص، أي اتخاذ المنهج بمثابة الكائن الحق.
 والحق، إن الأزمة هي أزمة معنى أساس العلوم، ومعنى كل وجود بشري، أو أزمة غياب هذا المعنى. فالعلوم الوضعية في أوج ازدهارها لا يمكنها أن تجيب عن أسئلة الإنسانية كنتيجة طبيعية لوضعيتها أي لطرحها جانبا كل سؤال عن المعنى وكل ميتافيزيقا.
 والنظر في حقيقة الأزمة يطرح مهمة الفلسفة اليوم: إعادة الصلة بالغاية البدئية للعلم الناشئة في الفلسفة اليونانية، ومحاولة تحقيق هذه الغاية. ومن أجل ذلك لا بدّ من إصلاح الإنسانية (الأوربية أي العامة) كي تصير واعية بمصيرها وقادرة من ثم على متابعة مسار العقل باتجاه الحقيقة بلا كلل. وتلك هي الغاية من الفلسفة المسمّاة مثالية مجاوزة.

بيروت، يونيو (جزيران)، 2009
موسـى وهـبه


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق