الأربعاء، 19 يوليو 2017

المحايثة: حياة أو المحايثة المطلقة؛ ترجمة وتقديم لآخر نص لجيل دولوز (الدكتور جمال نعيم)



المحايثة: حياة أو المحايثة المطلقة


في ما يلي، ترجمة حديثة وغير منشورة لنص دولوز الأخير الذي نشره قبيل وفاته. وهذا النص هو نص قصير، لكنه هام وأساسي جداً، فيه يتحدث دولوز عن المحايثة المحضة أو المطلقة. وبهذا التعبير يؤكد انتسابه إلى سبينوزا ويمكن القول، إن هذا النص القصير، يختصر مذهب دولوز الفلسفي برمته. وقد ورد هذا النص في المجلد الثاني الذي جمع نصوص ومقالات دولوز ما بين عامي (1975 - 1995)، لكن غير المنشورة في كتبه، والذي جاء تحت عنوان: Deux régimes de fous ونشرته دار مينوي في باريس عام 2003.

د. جمال نعيم


المحايثة: حياة أو المحايثة المطلقة

       عُرف دولوز بأمبيريته العليا أو الجذرية أو المجاوزة. والأمبيرية العليا هي تعبير أخذه دولوز من شيلنغ وطبقه على هنري برغسون. أما الميدان المجاوز أو الحقل المجاوز فيعود إلى كنط، وإن كان دولوز يغير كثيراً في مفهوم هذا الحقل المجاوز.
       ويمكن القول إن تعبير الأمبيرية المجاوزة هو بمثابة مسخ ولَّده دولوز من جمع شيخ الأمبيريين هيوم مع فيلسوف النقدية كنط الذي ميَّز المجاوز من المفارق بعدما كانا، في فلسفة القرون الوسطى، يُستعملان بمعنى واحد تقريباً.
 تبحث الأمبيرية المجاوزة، بما هي كنطية جديدة، أو بما هي تطوير لأمبيرية هيوم التي لا تعترف بأي شيء مجاوز أو فطري في الذهن والتي تنظر إلى الذات بوصفها ذاتاً متكوِّنة لا بوصفها ذاتاً أصيلة كما سيذهب إلى ذلك كنط، أقول تبحث عن شروط إمكان التجربة الواقعية، لا عن شروط امكان كل تجربة ممكنة كما هو الحال مع كنط. وهذا ما فعله فوكو في حفرياته عندما تكلم على ما هو قبلي تاريخي في كل تشكل تاريخي، أي تكلم على الشروط الواقعية لكل تشكُّل تاريخي، وان كانت هذه الشروط تتغير من تشكل تاريخي إلى آخر.
       يقول دولوز عن فوكو: "فالشرط هو نفسه تاريخي، القبلي هو تاريخي: الهمس الكبير، يتغير في كل تشكل تاريخي" (فوكو ص67).
ولا يمكن الحديث عن الأمبيرية المجاوزة من دون الإلتفات قليلاً إلى الفلسفة المجاوزة عند كنط. فقد ابتدع كنط حقلاً جديداً في الفلسفة هو حقل شروط الإمكان، وابتدع مشكلة فلسفية جديدة تتلخص بالسؤال التالي: كيف يمكن للأحكام التأليفية القبلية أن تكون؟ أي كيف لي أن أقول مثلاً: "المعادن تتمدد بالحرارة" ؟
       وتطلَّب حل هذه المشكلة ابتداع حقل جديد في الفلسفة هو الحقل المجاوز، وثورة منهجية هي الثورة الكوبرنيقية التي تجعل الموضوع يدور حول الذات وليس العكس. هذه الذات هي ذات مجاوزة، لكنها ليست بذات مفارقة. إنها مجاوزة بما تتضمَّنه من حدسي الزمان والمكان في مَلَكة الحساسية، ومن المقولات الإثنتي عشرة أو الأفاهيم الفاهمية المحضة في ملكة الفاهمة، ومن أماثيل العقل (الله والنفس والعالم). وهي ذات أصيلة وليست ذاتاً مشتقة كما سيذهب إلى ذلك البنيويون فيما بعد. إنها ذات أصيلة تصاحب الحقل المجاوز الذي يُنسب إليها. والأفاهيم الفاهمية المحضة هي بمثابة قوالب تقولب الموضوعات. لذا لا إمكان لمعرفة الأشياء فيَّاها (في ذاتها)، بل كما تبدو لنا كظاهرات. ويمكن القول إن هذه القوالب هي قوالب نشطة وفاعلة أكثر مّما هي قوالب جامدة وفارغة. من هنا، نقول ان الذات عند كنط ليست جوهراً، بل هي نشاط. وبهذا لا ينتسب كنط إلى الميتافيزيقا الكلاسيكية، أي الميتافيزيقا التي تعالج مشكلات الله والنفس والعالم. هذه المشكلات التي لم تعد مشكلات فلسفية، بل مشكلات زائفة في سياق القول الكنطي الجديد.
       لكن الحقل المجاوز عند دولوز، بما هو حقل متمِّيز من التجربة، هو حقل لا يحيل إلى ذات ولا إلى موضوع: إنّه حقل متحرر تماماً من الإحالة إلى الذات والموضوع اللذين لا ينظر إليهما دولوز، إلا كمفارقيْن يقعان خارج الحقل. من هنا ينتسب دولوز إلى ذلك التيار الفلسفي العريق الذي يمثله ويتوِّجه سبينوزا، أعني به تيار المحايثة المطلقة أو المحضة التي لا تسمح بأي مفارقة. من هنا معارضتها لآلهة السماء كما لآلهة الأرض. والمحايثة المطلقة تعتبر أن لا خلاص للإنسان إلا بالمحايثة وأنّ المفارقة عدو الفلسفة الأول. لذا، نعت دولوز سبينوزا بأمير الفلاسفة أو مسيح الفلاسفة لأنّه نادى بالمحايثة المطلقة وطارد كل مفارقة. ولأن الفلاسفة الآخرين هم بمثابة رُسُل لهذا الفيلسوف العظيم.
       ولا بد من الإشارة هنا إلى أن دولوز ابتدع أفهوماً جديداً في الفلسفة هو أفهوم مسطح المحايثة الذي به ينتسب إلى سبينوزا. وهو لم يستعمل هذا الأفهوم منذ بداية مسيرته الفلسفية. فقد استعمل في كتاب الفرق والتكرار أفهوم الفرق فيَّاه (في ذاته)، وفي كتاب منطق المعنى أفهوم الحقل المجاوز، وفي كتاب الآنتي ـ أوديب أفهوم الجسد بلا أعضاء، قبل أن يستقر أخيراً في كتاباته الأخيرة، لاسيّما في كتاب ما الفلسفة؟، على أفهوم مسطح التماسك أو مسطح المحايثة الذي خصص له فصلاً كاملاً في هذا الكتاب.
       الفرق فيّاه أو الفرق في ذاته هو وراء كل شيء، لكن لا شيء وراء الفرق. إنه التعبير العصري عن الطبيعة الطابعة عند سبينوزا. فكما ميَّز سبينوزا بين الطبيعة الطابعة أو الطبيعة الخالقة أو الله وبين الطبيعة المطبوعة أو الطبيعة المخلوقة أو الكائنات، كذلك ميّز دولوز بين عالمين: عالم التصور، أي عالم الكائنات الممتدة والتي تتمتع بخاصَّيات والعالم تحت ـ التصوري، أي عالم الكثرات المشتدة، أي عالم الفرق فيَّاه، أي عالم الحقل المجاوز الفعلي. فلا يمكن أن نبحث عن أساس الكائنات في كائنات أخرى، بل في ما يجعل هذه الكائنات ممكنة، أي في ما يفعل في هذه الكائنات. وهذا الذي يفعل في الكائنات هو الكون أو الوجود الذي يجب تمييزه من الكائنات والموجودات.
       يريد دولوز أن يفكر الفرق فيَّاه وأن يتجاوز الأشكال والخاصيَّات ليصل إلى ما يهدر تحتها، أي ليصل إلى الحقل المجاوز الفعلي الذي لا يكون ملحقاً بذات ولا بموضوع. فالفرق، في نظره، هو شيء وله درجات أو مستويات أو شدات. وهو أعمق من التعارض والتناقض اللذين قال بهما هيغل. لذا يقع وراء كل شيء ولا شيء وراءه.
       يقوِّض دولوز عالم الهويات، أي هويات الله والانسان والعالم (الكائنات)، ليكتشف ما يهدر تحتها، ويهدم عالم التصور ليصل إلى مستوى تحت ـ تصوري. لذا، لا يبني دولوز الحقل المجاوز على صورة الأمبيري. ولا يجد أساس الفردي في الفردي المتكوِّن، بل في حقل التفرد الذي يسمح بتكوين الأفراد كما بتفكيكهم. وهذا الحقل هو حقل مكوَّن من تفردات لا شخصية ومن فرادات قبل – فردية. إنه ما يقع تحت الخاصيات والأشكال أو ما يسند هذه الأشكال والخاصيَّات.
       ومن المعروف أن الكون أو الوجود قد فكِّر، في تاريخ الفلسفة، عبر ثلاث نظريات: إما عبر نظرية تواطؤ الكون أي اشتراك معنى الكون، وإما عبر نظرية التباس الكون أي اشتراك لفظ الكون، وإما أخيراً عبر نظرية تمثيل الكون. وعلينا التمييز بين الكون والكائنات. فليس المقصود من الكون الكائنات الموجودة بل ما يقع وراءها، أي ما يشكل كينونتها بالذات.
       ودولوز، في الفلسفة، هو من أنصار نظرية تواطؤ الكون، أي نظرية اشتراك معنى الكون، أي نظرية أن الكون هو مشترك معنوي. ويمكن لنا أن نشرح نظرية تواطؤ الكون عنده بايجاز، كما يلي : يُقال الكون بمعنى واحد والمعنى نفسه عن كل ما هو موجود، عن كل ما هو كائن، عن كل ما هو مختلف. وإذا أردنا تبسيط الأمور نقول إن الكون يُقال بمعنى واحد والمعنى نفسه عن الله والإنسان والحيوان والنبات والشيء. أمّا، في نظرية التباس الكون، فلا يُقال الكون أو الوجود بمعنى واحد والمعنى نفسه عن الله والإنسان وبقية الكائنات، لأنه لا يجوز أن نقول إن الكون يُقال بالمعنى نفسه عن الله وعن الكرسي على سبيل المثال. وأخيراً، في نظرية تمثيل الكون، فإن ما يُقال عن الله يُقال عن غيره من الكائنات، لكن على سبيل التمثيل أو المماثلة.
       ومن خلال نظرية تواطؤ الكون التي تؤدي إلى المحايثة المطلقة، بإمكاننا القول إن دولوز هو من أنصار نظرية وحدة الوجود. فهو مع المحايثة الشاملة، وضد أي مفارقة من أي نوع كانت، سواءً كانت مفارقة فيضيّة أم مفارقة خلْقية. لذا، أحب دولوز أفهوم مسطح المحايثة واستحسنه في نهاية حياته.
       ولمسطح المحايثة وجهان: واحد يتعلق بصورة الفكر، وآخر يتعلق بمادة الكون. وصورة الفكر هي الإجابة عن سؤال ما التفكير؟ إنها، في رأينا، متابعة لنقد العقل المحض بطريقة مختلفة. فكما سعى كنط، قبل الخوض في موضوعات المعرفة، إلى نقد العقل المحض وتبيان حدوده وامكاناته، كذلك بيّن دولوز وجود صورة معينة للفكر تتحكم في التفكير، وعلينا تبيان توجهاتها واتجاهاتها قبل الشروع في إبداع الأفاهيم، ومن ثم علينا تقويضها لإنشاء صورة جديدة مكانها أو الوصول إلى فكر متحرر من كل صورة.
       إذاً، تبنت الفلسفة، عبر تاريخها، صورةً معينة للفكر، حتى قبل أن تملأ هذه الصورة بأي مادة. لقد تبنى الفكر لنفسه صورة، لكن من دون أساس، من دون إثبات. فالفكر هنا هو دغمائي لأنه لم يقم بتفحص هذه الصورة، وأرثوذكسي لأنه طمح إلى اليقين من خلال هذه الصورة وأخلاقي لأنه استند إلى مبدأ الخير في تبريرها. هذه الصورة الكلاسيكية أو الدغمائية أو الأرثوذكسية أو الأخلاقية لا بد من تقويضها و إحلال صورة حديثة مكانها، كانت قد بدأت تباشيرها مع نيتشه. يقول دولوز في كتاب نيتشه والفلسفة(ص 118) ما يلي: "تظهر صورة الفكر الدغمائية في ثلاث أطروحات رئيسية: 1- يُقال لنا إن المفكر بما هو مفكر يريد الحق ويحبُّه (صدق المفكر)، إن الفكر كفكر يمتلك أو يحتوي صورياً الحق (فطرية الفكر، قبلية الأفاهيم)، إن التفكير هو الممارسة الطبيعية لملكة، وإنه يكفي إذاً أن نفكر "حقاً" لكي نفكر بصواب (الطبيعة المستقيمة للفكر، الحس السليم المقسَّم بشكل كلي)؛ 2ـ يُقال لنا أيضاً إننا انحرفنا عن الحق، لكن بفعل قوى غريبة عن الفكر (الجسم والأهواء والمصالح المحسوسة). ونحن نسقط في الخطأ، ونتخذ الخطأ بمثابة صواب لأننا  لسنا فقط كائنات مفكِّرة. فالخطأ: قد يكون، في الفكر بما هو كذلك، الأثر الوحيد للقوى الخارجية، التي تتعارض مع الفكر، 3ـ يُقال لنا أخيراً إنه يكفي [اجتراح] منهج ما لكي نفكر جيداً، ونفكر حقاً. [...] نتجنب الخطأ عبر المنهج". ويشير دولوز في الصفحة (119) إلى صورة الفكر الجديدة قائلاً : "تعني صورة الفكر الجديدة أولاً ما يلي: " ليس الحقُّ [الصواب] عنصر الفكر. فعنصر الفكر هو المعنى والقيمة. وليست مقولاتُ الفكر الصوابَ والخطأَ، بل النبيل والخسيس، العالي والسافل، وفقاً لطبيعة القوى التي تستحوذ على الفكر ذاته [...] وليست الحالة السلبية للفكر هي الخطأ". وهو يضيف: "الحماقة هي بنية الفكر بما هو كذلك: فهي ليست كيفية للإنخداع، إنما تعبِّر في المبدأ عن اللا ـ معنى في الفكر".
       ومادة الكون تجيب عن السؤال التالي: ما المقصود من كون الكائنات؟ مع أن دولوز، على غرار بارمنيدس، يعتبر أن التفكير والكون هما الشيء الواحد نفسه.
       في الواقع يجمع دولوز ما هو فكري محض إلى ما هو كينوني. فالفلسفة هي تفكير الكون والفكر الذي يفكر هذا الكون. وربما نفهم هذه الفكرة من خلال نظرية تواطؤ الكون. فالكون يُقال بمعنى واحد ووحيد والمعنى نفسه عن كل ما هو مختلف، عن كل أنماطه وجهاته الجوانية. وعلى الفكر الذي يفكر هذا الكون أن يعكس حقيقة الكون. فإذا كانت الكثرة لا الوحدة،، على سبيل المثال، هي الأساس في الكون، فإن على الفكر أن يتبع منطق الكثرة. والعكس صحيح، أي إذا كان منطق الفكر هو الكثرة، فعلينا أن ننظر إلى حقيقة الكون ككثرة.
       ولكن كيف ينظر دولوز إلى مادة الكون؟
       بالإضافة إلى الفرق فيّاه، أي إلى التفاوت والتباين اللذين يتحكمان في أساس الكون القائم أساساً على أفهوم الشدة والدرجات في الشدة، فإن دولوز ينظر إلى مادة الكون أيضاً بوصفها نوراً بالكامل. وهو يستند في ذلك إلى برغسون.
       يقول دولوز في الصفحة (88) من كتابه سينما ـ1، ما يلي: "السبب الإيجابي هو أن مسطح المحايثة هو نور بالكامل. إن مجموع الحركات والأفعال وردات الأفعال هي نور منتشر، يمتد "من دون مقاومة ومن دون ضياع". إن سبب تماهي الصورة والحركة هو تماهي المادة والنور. فالصورة هي حركة كما المادة هي نور".
       مسطح المحايثة بلغة دولوز. مسطح المادة بلغة برغسون. هذا ما يبحث عنه دولوز لدى الفلاسفة، فإذا به يجده في السينما عبر برغسون. إذاً،  يُشكل برغسون، في نظر دولوز، قطيعة مع كل التراث الفلسفي الذي كان يضع النور في جانب الروح وليس في جانب المادة. " يوجد هنا قطيعة مع كل التراث الفلسفي، الذي كان يضع بالأحرى النور في جانب الروح، وكان يصنع من الوعي حزمة نورية تسحب الأشياء من عتمتها الطبيعية. تنتسب الفيمياء كلياً إلى هذا التراث القديم، [...] بالنسبة إلى برغسون، إنه بالعكس تماماً. إنها الأشياء التي هي نورية بذاتها، من دون شيء ينيرها، كل وعي هو شيء ما، إنه يختلط مع الشيء، أي مع صورة النور. لكن المقصود  هو وعي مبدئي، منتشر في كل مكان ولا ينكشف" صص(89-90). إذاً، دولوز هو فيلسوف المحايثة المطلقة، هو فيلسوف العلة المحايثة.
       والآن يتكشف مسطح المحايثة، ويمكن القول العلة المحايثة، كنور منتشر في كل مكان مع أنه لا ينكشف. الأشياء بحد ذاتها نور وأنوار.
       ويرى دولوز أن مسألة أو مشكلة النور قد طرحت بطريقتين مختلفتين. فهو يقول: "طرح البعض مسألة النور، بالنسبة إلى الظلمة. وبالتأكيد، لقد فعلوا ذلك بطريقة متغيِّرة، تحت شكل نصفين وثُليْميْن وتدرُّج النور [...] لاحظوا أن هذا الطراز من الصورة نور ـ ظلمات يحيل إلى أفهوم فلسفي، إلى صورة فكر: صورة الصراع أو النزاع بين الخير والشر.
       ومن المسلَّم به أن المسألة تتغير كلياً إذا ما نظرتم إلى النور وفكرتم فيه في صلاته مع البياض، لا مع الظلمات. من وجهة النظر هذه، فإن الظلمة لن تعود الا نتيجة، وهذا سيكون عالماً آخر تماماً. وفي ظروف معينة لن يكون له صلابة وقساوة أقل، لكن كل شيء سيكون نوراً، ببساطة، هناك نوران، نور الشمس ونور القمر. وأفهومياً، هذه هي ثيمة التعاقب والتناوب التي ستحل محل ثيمة الصراع أو النزاع".
       في كتابنا عن دولوز، وصفنا دولوز بأنه فيلسوف متصوف، لكنه ملحد، حيث قلنا في الصفحة (355)، ما يلي: " يتكلم دولوز على الأفهوم في ما الفلسفة؟ لكنّه في الواقع يكتب "رسالة" جديدة في الأنطولوجيا. فالأشياء وحالاتها لا يُعتد بها، لأن علينا أن نصل إلى ما يجعلها ممكنة. هذه هي الأمبيرية المجاوزة. إنها تتجاوز الأمبيري لتصل إلى ما هو مجاوز في الأمبيري ذاته وليس في أي مكان آخر. إنها أنطولوجيا تواطؤ الكون السبينوزية، أنطولوجيا المحايثة المطلقة التي لا تسمح بأي شيء مفارق. هذا هو مسطح المحايثة. العلة محايثة وليست مفارقة. هذا هو التصوف الالحادي. فدولوز متصوف كبير، لكنه ملحد كبير إذا فهمنا الالحاد بوصفه لا يؤمن بعلة مفارقة. وهو يتابع برغسون في مذهبه الإحيائي. إنه يفتش عن الحياة في الحي. فالحياة هي ما يجعل الحي ممكناً. وأكثر من ذلك، هو يبحث عن الحياة غير العضوية. هذه هي الحياة. إنها المحايثة المحضة"
       وأخيراً نقول إن دولوز يميز المحايثة عن كل من المفارقة والفيض. إذْ لا مجال للمفارقة ولا للتعالي في فلسفة دولوز. فهو، على أثر سبينوزا، فيلسوف المحايثة المطلقة التي لا تترك مجالاً لأي مفارقة وأي نقص. ويمكن القول إن دولوز ملحد كبير إذا اعتبرنا أن الملحد شخص لا يؤمن بأي إله مفارق، لكنه في المقابل مؤمن كبير وحتى متصوف كبير لأنّه يؤمن بعلة محايثة. فالعلة المفارقة، في نظر دولوز، شيء يصعب تصوره. لذا، نراه يتحدث عن الفرق فيَّاه، عن مسطح المحايثة، عن الحياة بتمييزه لها عن الأحياء.
       وفي النهاية نقول، مع دولوز،: "الحقل المجاوز يُعرَّف بمسطح محايثة ومسطح المحايثة يُعرَّف بحياة. ما المحايثة؟ إنها حياة...".
       في ما يلي، ترجمة حديثة وغير منشورة لنص دولوز الأخير الذي نشره قبيل وفاته. وهذا النص هو نص قصير، لكنه هام وأساسي جداً، فيه يتحدث دولوز عن المحايثة المحضة أو المطلقة. وبهذا التعبير يؤكد انتسابه إلى سبينوزا ويمكن القول، إن هذا النص القصير، يختصر مذهب دولوز الفلسفي برمته. وقد ورد هذا النص في المجلد الثاني الذي جمع نصوص ومقالات دولوز ما بين عامي (1975 - 1995)، لكن غير المنشورة في كتبه، والذي جاء تحت عنوان: Deux régimes de fous ونشرته دار مينوي في باريس عام 2003.
د. جمال نعيم






المحايثة : حياة ....*



ما الحقل المجاوز؟ إنه يتميز من التجربة ، بما هو لا يحيل إلى موضوع  ولا ينتمي إلى ذات ( التصور الأمبيري ) . وهو يحضر أيضاً بوصفه تياراً محضاً لوعي لا – ذاتي ، لوعي قبل – تفكري لا شخصي، لديمومة كيفية للوعي من دون أنا. قد يبدو مدهشاً أن يُعرَّف المجاوز بتلك المعطيات المباشرة : ولسوف نتكلم على الأمبيرية المجاوزة ، بالتعارض مع كل ما يصنع عالم  الذات والموضوع . فهناك شيء ما برِّي وقادر في تلك الأمبيرية المجاوزة. إنه ليس بالتأكيد عنصر الإحساس ( الأمبيرية الساذجة )، لأن الإحساس ليس سوى مقطع في تيار الوعي المطلق. هو بالأحرى الإنتقال من احساس إلى آخر، أياً كان قربهما، بوصفه صيرورة، بوصفه زيادة القدرة أو نقصانها (كم افتراضي). هل يجب إذ ذاك، تعريف الحقل المجاوز بالوعي المباشر من دون موضوع ومن دون أنا ، بما هو حركة لا تبدأ ولا تنتهي ؟ (حتى الفهم السبينوزي للانتقال أو لكمية القدرة  يستدعي الوعي) .
 لكن صلة الحقل المجاوز، بالوعي هي فقط صلة مبدئية. فلا يصير الوعي  واقعة إلا إذا ما أُنتجت ذات وموضوعها في الوقت نفسه، كلاهما خارج الحقل وظاهران كـ "مفارقيْن". وعلى العكس، ما دام الوعي يجتاز الحقل المجاوز بسرعة لا متناهية منتشرة أينما كان، فلا شيء يستطيع الإيحاء به[1]. وهو لا يعبّر عن نفسه في الواقع إلا منعكساً  في ذات تحيله إلى موضوعات. لأجل ذلك وبسبب من ذلك فإنه  ليس بإمكان الحقل المجاوز أن يُعرَّف بوعيه المنتشر فيه، إنما العصي على أي إيحاء.
         المفارق ليس هو المجاوز. فإن خلا الوعي، سيُعرَّف الحقل المجاوز بوصفه حقل محايثة محضاً، لأنه يفلت من كل مفارقة للذات كما للموضوع [2].  المحايثة المطلقة هي فيّاها [في ذاتها] : إنّها ليست  في شيء ما، ولا بالنسبة إلى شيء ما، وهي لا تتعلق بموضوع ولا تنتمي إلى ذات . عند سبينوزا لا تكون المحايثة  بالنسبة إلى الجوهر ، لكن الجوهر والأنماط هي في المحايثة . عندما ُتتناول الذات  والموضوع ، اللذان يقعان خارج حقل المحايثة ، بوصفهما ذاتاً كلية أو موضوعاً أياً كان، إليهما ُتنسب المحايثة نفسُها، فهذا يشكل تشويهاً كاملاً للمجاوز الذي لم يعد يفعل سوى مضاعفة الأمبيري (هكذا هو الحال مع كنط)، ومسخاً للمحايثة التي تجد نفسها حينئذ متضمَّنة في المفارق. فالمحايثة لا ترتبط بـ شيء ما بوصفه وحدة عليا لكل شيء ، ولا بـ ذات بوصفها أفعولاً يُجري تأليف الأشياء: ذلك أنه عندما لا  تعود المحايثة [ محايِـثَة ] لشيء آخر سوى ذاتها فإنه بإمكاننا أن نتكلم على حقل محايثة. فالحقل المجاوز لا يُعرَّف بالوعي، أكثر ممّا يُعرَّف مسطحُ المحايثة بـ ذات أو موضوع  قادريْن على احتوائه .

        ولسوف نقول عن المحايثة المحضة إنّها حياة ، ولا شيء سوى ذلك . فهي ليست محايَـَثة للحياة ، لكن المحايثة التي ليست في شيء هي نفسُها حياة . حياةٌ هي  محايَثَةُ  المحايـَثَة ، هي المحايثة  المطلقة: إنها قدرة وغبطة كاملتيْن . ذلك أن  فيشته، في فلسفته الأخيرة ، بقدر ما يتجاوز إحراجات الذات والموضوع، يُقدِّم، الحقلَ المجاوزَ بوصفه حياةً، لا ترتبط بكائن ولا تخضع لـ أفعول : وعي مباشر مطلق لا يحيل نشاطُه نفسُه إلى كائن ، لكن لا يفتأ  يطرح نفسه في حياة[3]. عندئذ يصير الحقل المجاوزُ حقلَ محايثة حقيقياً يعيد إدخال السبينوزية إلى ما هو  أعمق في العملية الفلسفية . ألم تطرأ مغامرة مشابهة على مين دوبيران، في " فلسفته الأخيرة " ( تلك التي كان متعباً جداً إلى حد لم يحسن صياغتها) عندما اكتشف تحت مفارَقة الجهد حياة ًمحايـِثَة مطلقة ؟ فالحقل المجاوز ُيعرف  بمسطح محايثة ومسطح المحايثة ُيعرف بحياة .
   ما المحايثة؟ حياة ... لا أحد روى، أفضل من ديكنز ما تكونه حياة ، آخذاً في الحسبان  صيغة التنكير، كمؤشر للمجاوز . نذل ، شخص  رديء  محتَقَر من الجميع ُيبعث محتَضَرَاً ، وها هم  هؤلاء الذين يعتنون به  يظهرون نوعاً من الهمة والاحترام والمحبة، لأقل إشارة حياة من المحتَضَر. ينشغل الجميع بإنقاذه ، إلى درجة  أن الرجل القبيح ، يحس ، في أعماق غيبوبته ، بشيء ما لطيف  يخترقه . لكن بقدر ما يعود إلى الحياة ، فإن منقذيه يصبحون أكثر برودة ،  ويجد من جديد كل  بذاءته وخبثه . بين حياته وموته ، هناك أوان لم  يعد سوى أوان حياة تلهو مع الموت[4].  فحياة الفرد أخلت المكان لحياة لا شخصية، وهي مع ذلك فريدة، تطلق حدثاً محضاً محرّراً  من عوارض الحياة الداخلية والخارجية ، أي من ذاتية ما يحصل وموضوعيَّته. "إنسان وحسب" يتعاطف معه الجميع ويصل إلى نوع من الغبطة. إنه  هذيـّة، لم تعد إضفاء للفردية بل للفرادة: حياة محايَثَة محضة، محايدة، في ما وراء الخير والشر ، لأنه وحده الشخص الذي يجسدها  في وسط الأشياء، يجعلها جيدة أو سيئة. فحياة تلك الفردية تمَّحي لصالح الحياة الفريدة المحايـِـثة لرجل لم يعد له اسم، مع أنه لا يُخلط مع أي شخص آخر. ماهية فريدة، حياة ما...
      قد ينبغي أن لا نضمِّن حياة في مجرَّد الأوان الذي فيه تواجه الحياة الفرديةُ الموتَ الكلي. إنّ الـ حياة ما هي في كل مكان ، في كل الآونة التي تجتازها هذه الذات الحيَّة أو تلك والتي تقيسها تلك الأشياء المعيشة : حياةٌ محايِثَةٌ ناقلةٌ الأحداث أو الفرادات  التي لا تفعل سوى أن  تترهَّن [تصبح راهنة] في الذوات والموضوعات . ليس لهذه الحياة الفلانية نفسها آونة، مهما كانت جد قريبة بعضاً من بعض، بل  ما لديها  فقط هو ما بين – أزمنة، ما بين – آونة. ولا تبرز فجأة ولا تتعاقب ، لكنها  تقدم عِظَم الزمان  الفارغ  حيث نرى الحدث الآتي  أيضاً والذي سبق حدوثه ، في مطلق وعي مباشر . إن الأثر  الروائي لـ لرنيت – هولينيا يضع الحـدث في ما بين – أزمنة، "ما بينٌ" بإمكانه أن يبتلع جموعاً بكاملها. فالفرادات أو الأحداث المكونة لحياة ما تتواجد مع عوارض الحياة المناسبة، لكنها لا تتجمع ولا تنقسم بالطريقة ذاتها. إنها تتواصل  فيما بينها بطريقة مختلفة  تماماً عن طريقة تواصل الأفراد. حتى أنه يبدو أن بإمكان حياة فريدة أن  تستغني عن كل فردية ، أو عن كل ملازِم آخر يفرْدنها. مثالاً يتشابه الأطفال حديثو الولادة جميعاً وليس لهم فردية، لكن لهم فرادات، إنتاجية، حركة، تكشيرة، أحداث ليست بمثابة طباع ذاتية. الأطفال حديثو الولادة يتم اختراقهم بحياة محايـِـثة هي قدرة محضة، وحتى غبطة عبر الآلام وضروب الضعف. تفقد نكرات حياة ما كل لاتعيّن بقدر ما تملأ مسطح محايثة أو،  ما يعود بالضبط إلى  الشيء نفسه، تؤلف عناصر حقل مجاوز. (الحياة الفردية تبقى على العكس غير منفصلة عن تعينات أمبيرية). فالنكرة بما هي كذلك لا تدمغ لا تعيناً أمبيرياً، بل تعيّنَ  محايَثَة أو قابليةَ  تعيُّن  مجاوزة. والتنكير ليس لاتعيّن  الشخص من دون أن يكون تعيّناً للفريد. الـ واحدٌ ما ليس المفارق الذي بإمكانه أن يتضمَّن حتى المحايثة، لكنّه المحايث المتضمَّن في حقل مجاوز. واحد ما هو دائماً مؤشر كثرة : حدث ما، فرادة ما، حياة ما... بإمكاننا دائماً أن نتمسك بمفارق يقع خارج مسطح المحايثة، أو حتى ينسبُهُ إليه، يبقى أن كل مفارقة تنشأ وحسب في تيار وعي محـايث خـاص لهذا المسطحْ[5]. المفارقة هي دائماً ُمنتَجُ محايـَثَة .
        لا تتضمّن حياة ما سوى [ أشياء] افتراضية . فهي مشكـّلة من افتراضيات، أحـداث وفـرادات. ما ندعوه افتراضياً ليس شيئاً ما ينقصه الواقع، بل ما ينخرط في سيرورة ترهُّن متبعاً المسطح الذي يعطيه واقعه الخاص. يترهن الحدثُ المحايثُ في مطلوب وفي معيش يؤلفان ما يحصل. ويترهن مسطح المحايثة نفسه في موضوع وذات  ُينسب إليهما . لكن ، مهما كانت منفصلة قليلاً عن ترهُّـنها، فإن حقل المحايثة هو نفسه افتراضي ، مثلما الأحداث التي تملأه هي افتراضيات . تعطي الأحداث أو الفرادات للمسطح كل افتراضيتها ، كما أن مسطح المحايثة يعطي الأحداث الافتراضيـة واقعاً ممتلئاً . الحدث الُمعْتَبَـر بوصفـه لا- مترهِّناً (نكرة) لا ينقصه شيء.  يكفي أن نضعه في صلة بـ ملازِماته: حقل مجاوز، مسطح محايثة، حياة، فرادات. يتجسد جرح أو يترهن في مطلوب أو في معيش، لكنه  هو نفسه افتراضـي محض على مسطح المحايثة الذي يدخلنا في حياة. كان جرحي يوجد قبلي[6]... ليس مفارَقَة الجرح بوصفه راهنية عليا، بل محايـَثـَته بوصفه افتراضية  هي دائماً في وسط (حقل أو مسطح ) . هناك فرق كبير بين [الأشياء] الافتراضية التي تحدد محايـَثـَة الحقل المجاوز ، والأشكال الممكنة التي ترهنها والتي تحوله إلى شيء ما مفارق .
جيل دولوز




* فلسفة ، عدد 47 ، أيلول 1995 ، ص 3-7 .
المقصود هو  النص الأخير الذي نشره دولوز قبل  أن ينتحر في 4 تشرين الثاني من عام 1995. وظهرت تتمة هذا النص كملحق في  إعادة طبعة الجيب للحوارات ( مع كليربارنه ) ، باريس ، فلا مّاريون ، تشكيلة " حقول " 1996. كانت هذه النصوص تنتمي إلى مشروع حول " مجموعات وكثرات "  التي لا يوجد منها سوى هذين النصين . وكان دولوز يريد أن يعمق فيهما أفهوم الافتراضي حيث قدَّر أنه لم يشرح نفسه من خلاله إلا قليلاً.
[1] -  برغسون ، المادة والذاكرة : " كما لو كنا نتفكر في مساحات النور الذي ينبثق منها ، النور الذي، بانتشاره دائماً لم ُيكشف قط " المؤلفات ،PUF، ص 186 .
[2] - أنظر سارتر ، مفارقة الإيغو ، vrin :  يطرح سارتر حقلاً مجاوزاً من دون ذات ، يحيل إلى وعي لا شخصي ، مطلق ومحايث : بالنسبة إلى  هذا الوعي ، تكون الذات والموضوع " مفارقيْن" ( ص :74-87 ) – حول جيمس ، أنظر تحليل دافيد لابوجاد ، "  الدفق المشتد للوعي لدى ويليم جيمس " ، فلسفة ، عدد 46 ، حزيران 1995 .
[3] -  سابقاً  في المقدمة الثانية لمذهب العلم : "  حدس النشاط المحض الذي لا يكون شيئاً ثابتاً ، بل  تقدم ، ليس كائناً، بل حياة " ( ص 274)  المؤلفات المختارة للفلسفة الأولى ، vrin - حول الحياة وفقاً لفيشته ، أنظر تدريب على الحياة المغتبطة Aubier (  وشرح  غيرو، ص 90 )
[4] - ديكنز ، الصديق المشترك ، III  ، الفصل الثالث pléiade
[5] - حتى هوسيرل يعترف به:" إن كون العالم هو بالضرورة  مفارق بالنسبة إلى  الوعي ، حتى في البداهة البدئية ، ويبقى فيه بالضرورة مفارقاً. لكـن هذا لا يغير شيئاً بالنسبة إلى واقعـة أن كل  مفارقة   تنشـأ في حياة الوعي وحسـب ، بوصفهـا مرتبطة بهذه الحياة ..." ( تأملات ديكارتية، طبعة vrin ، ص 52 ) وهذا سيكون نقطة الإنطلاق لنص سارتر.
[6] - أنظر  جو بوسكير ، رؤوس الأموال ، دائرة الكتاب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق