رحيم
العراقي.
18/02/2006 »
تخلص كانط لأوّلِ مرةٍ من تأثير الفيلسوف «وولف» الذي كان معلّمَه في
تلك اللحظة. لقد تخلص من فلسفته وراح ينكر إمكانية معرفة العالم الغيبي أو
الماورائي عن طريق الفكر البشري. فالعقل البشري كما اكتشف كانط يستطيع أن يفهم
الظواهر المحسوسةَ عن طريق التجربة ولكنه لا يستطيع أن يعرف ما وراء الظواهر إلا
عن طريق التخمينات والظنون. وبالتالي فالمعرفة العملية، أي معرفة نيوتن وعلم
الفيزياء والرياضيات، هي وحدها اليقينية وما عداها تخرصات، وأقاويل. ولذلك فإن
كانط ركّز اهتمامه في كتابه الكبير الأول على نقد العقل النظري أو الخالص أو
الميتافيزيقي. وشرح لنا ما يمكن للمعرفة البشرية أن تتوصل إليه وما لا يمكن أن
تتوصل إليه مهما حاولت. فما وراء الغيب موصد وعالم الميتافيزيقا لا يمكن لعقل بشري
ان يتوصل اليه.
وفي عام 1788 ظهر كتابه الكبير الثاني نقد العقل العملي حيث نظّر للاخلاق والسلوك البشري الذي ينبغي ان يتبعه الانسان في المجتمع. وفي عام 1793 تعرض كانط لمسألة الدين وحاول تقديم تفسير عقلاني للمسيحية. ولذلك كان عنوان كتابه «الدين ضمن حدود العقل فقط».
وانتقد كانط العقلية الغيبية والخرافية التي كانت تسيطر على عامة الشعب الألماني آنذاك. ودعا إلى تنوير العقول عن طريق التربية والتعليم. وقال إن التنوير يعني الجرأة على استخدام العقل. ولكنّ المشكلة هي أننا عندما نحاول استخدام عقولنا نصطدم بالآراء الشائعة في المجتمع وبأقوال الأقدمين وبمواعظ الخوارنة والبطاركة الذين يحذرون الناس من العقل ويبيّنون لهم فضائل النقل والتواكل. وبالتالي فلا أحد يشجّعك على استخدام عقلك.
ولذلك فمن السهل أن نقول: استخدم عقلك أيها الانسان عندما تتصرّف في قضيّة معينة، وتتخذ موقفا معيّنا. فالواقع أن الكثيرين من عليّة القوم يحاولون منعنا من استخدام عقولنا.
كان ظهور كانط بمثابة إنقاذ لألمانيا من التيه والضلال. وقد شكّل منارة لكل الجامعات والمثقّفين بعد أن حلّ لهم المشاكل العويصة التي كانوا يتخبطون فيها ودلّهم على الطريق.
وقد ظهر بعده مباشرة مفكران هامان هما الشاعر شيلر 1759-1805 والعالم اللغوي فون همبولدت (1767-1835). وكلاهما استفاد منه على طريقته الخاصة. ولكن ظهر مفكر آخر مضادٌّ له تماماً هو هامان (1730-1788).
وكان متصوّفا يؤمن بوحدة الذات والموضوع ويكره التقسيم الثنائي الكانطي للإنسان إلى ذات وموضوع. فالإنسان كلٌّ واحد في نظره ووحدة متكاملة لا تتجزأ ولا تنفصم عراها. والإنسان لا يعيش فقط بالعقل كما يزعم كانط، وإنما بالمشاعر أيضا وبالأحاسيس والخيالات والأحلام وحتى بالأوهام. وهذا نقد للعقلانية الجافة والصارمة لكانط، كما إنه يعتبر نقداً لكل عصر التنوير.
ثم ظهر بعدئذ فيلسوف كبير هو فيخته (1762-1814). وكان كانطيا محضا في البداية ثم تطور بعدئذ كما يحصل لكل التلامذة العباقرة واستطاع اكتشاف خطّه الخاص في الفلسفة. وقد اشتهر فيخته بعدة كتب نذكر من بينها: خطاب موجه إلى الأمة الالمانية، وعقيدة العلم.
واصطدم هذا الفيلسوف بالقوى السائدة في عصره وبخاصة رجال الإكليروس المسيحي الذين ضايقوه بل واتهموه بإشاعة الإلحاد. وأدى ذلك إلى فصله من الجامعة بل وتعرضه للتهديد بالاغتيال. وعقيدة العلم بالنسبة له تعني العقيدة القائمة على العلم والمعرفة الموضوعية. وهي حتما ستصطدم بالعقائد المسيحية الغيبية السائدة. فالمعرفة العلمية غير المعرفة الدينية لأنها قائمة على المحاجّة المنطقية والبراهين العقلية، لا على هيبة الأقدمين ورجال الدين.
وأما كتابه الذي يتخذ عنوان «خطاب موجه الى الأمة الألمانية» فقد أسس للقومية الألمانية بحسب رأي بعضهم. والواقع ان فيخته بعد أن تحمس للثورة الفرنسية ونابليون كبقية فلاسفة التنوير من أمثال كانط وهيغل وشيلنغ راح يهاجم الامبريالية الفرنسية ومحاولتها السيطرة على ألمانيا. ولذلك ركز على استنهاض الشعور القومي الألماني لكي يؤدي إلى وحدة البلاد المتمزقة إلى العديد من الدول الصغيرة.
وقد تحقق هذا الحلم، حلم وحدة ألمانيا، على يد بسمارك في نهايات القرن التاسع عشر.
ثم ظهر بعد فيخته فيلسوف آخر مهم هو شيلنغ (1775-1854). وهو من تلامذة كانط وفيخته في آن معا. وتحت تأثير الفكر الديماكلينيكي لفيخته راح يشكل فلسفةً للطبيعة عن طريق تأليفِ كتابٍ حول الموضوع عام 1797. وقد نبغ بشكل مبكر جدا وسبق هيغل الى الشهرة على الرغم من أنه كان أصغر منه من حيث السن. ولكن هيغل تفوّق عليه وعلى غيره في ما بعد وأصبح أشهر فيلسوف الماني بعد كانط.
وقد تأثرت فلسفة شيلنغ بالمناخ الرومانطيقي الذي أخذ ينتشر في ألمانيا آنذاك. والرومانطيقية، كما هو معروف، كانت في جزء منها رد فعل على عقلانية كانط وعصر التنوير عموما.
وقد اهتمت هذه الحركة الجديدة بالخيال وقالت بما معناه: إن الانسان تشكّل من خيال جامح وعقل وليس فقط من العقل. وبالتالي فلماذا بتر الفلاسفة العقلانيون هذه الكلمة منه؟ أليس الخيال هو الذي يدفع الى الابداع والابتكار؟ وبما أن الرومانطيقيين يحبون الطبيعة جداً، كان شيلنغ يركز على الموضوع التالي: هناك انصهار مطلق أو وحدة كاملة بين الإنسان والطبيعة، او بين الروح والمادة ولا يمكن فصل احدهما عن الآخر.
وقد شرح شيلنغ تصوراته هذه في كتابين صدرا بشكل متتابع وراء بعضهما البعض، الأول بعنوان: نظام المثالية (1780)، والثاني بعنوان: عرض لفلسفتي وفيه يستعرض شيلنغ المحاور الرئيسية لفلسفته وكيف تتمايز عن فلسفة كانط او هيغل او حتى فيخته. وقد اعتمد شيلنغ على سبينوزا في بلورة فلسفته وكان من القائلين بوحدة الوجود: أي وحدة الطبيعة ككل بما فيها الانسان، فلا يوجد شيء خارج الطبيعة، والطبيعة هي كلية ما هو موجود.
ثم أصدر شيلنغ بعدئذ عدة كتب عن فلسفة الفن (1803)، وفلسفة الدين (1804)، والبحوث الفلسفية عن جوهر الحرية الإنسانية (1809) ... الخ.
وفي عام 1788 ظهر كتابه الكبير الثاني نقد العقل العملي حيث نظّر للاخلاق والسلوك البشري الذي ينبغي ان يتبعه الانسان في المجتمع. وفي عام 1793 تعرض كانط لمسألة الدين وحاول تقديم تفسير عقلاني للمسيحية. ولذلك كان عنوان كتابه «الدين ضمن حدود العقل فقط».
وانتقد كانط العقلية الغيبية والخرافية التي كانت تسيطر على عامة الشعب الألماني آنذاك. ودعا إلى تنوير العقول عن طريق التربية والتعليم. وقال إن التنوير يعني الجرأة على استخدام العقل. ولكنّ المشكلة هي أننا عندما نحاول استخدام عقولنا نصطدم بالآراء الشائعة في المجتمع وبأقوال الأقدمين وبمواعظ الخوارنة والبطاركة الذين يحذرون الناس من العقل ويبيّنون لهم فضائل النقل والتواكل. وبالتالي فلا أحد يشجّعك على استخدام عقلك.
ولذلك فمن السهل أن نقول: استخدم عقلك أيها الانسان عندما تتصرّف في قضيّة معينة، وتتخذ موقفا معيّنا. فالواقع أن الكثيرين من عليّة القوم يحاولون منعنا من استخدام عقولنا.
كان ظهور كانط بمثابة إنقاذ لألمانيا من التيه والضلال. وقد شكّل منارة لكل الجامعات والمثقّفين بعد أن حلّ لهم المشاكل العويصة التي كانوا يتخبطون فيها ودلّهم على الطريق.
وقد ظهر بعده مباشرة مفكران هامان هما الشاعر شيلر 1759-1805 والعالم اللغوي فون همبولدت (1767-1835). وكلاهما استفاد منه على طريقته الخاصة. ولكن ظهر مفكر آخر مضادٌّ له تماماً هو هامان (1730-1788).
وكان متصوّفا يؤمن بوحدة الذات والموضوع ويكره التقسيم الثنائي الكانطي للإنسان إلى ذات وموضوع. فالإنسان كلٌّ واحد في نظره ووحدة متكاملة لا تتجزأ ولا تنفصم عراها. والإنسان لا يعيش فقط بالعقل كما يزعم كانط، وإنما بالمشاعر أيضا وبالأحاسيس والخيالات والأحلام وحتى بالأوهام. وهذا نقد للعقلانية الجافة والصارمة لكانط، كما إنه يعتبر نقداً لكل عصر التنوير.
ثم ظهر بعدئذ فيلسوف كبير هو فيخته (1762-1814). وكان كانطيا محضا في البداية ثم تطور بعدئذ كما يحصل لكل التلامذة العباقرة واستطاع اكتشاف خطّه الخاص في الفلسفة. وقد اشتهر فيخته بعدة كتب نذكر من بينها: خطاب موجه إلى الأمة الالمانية، وعقيدة العلم.
واصطدم هذا الفيلسوف بالقوى السائدة في عصره وبخاصة رجال الإكليروس المسيحي الذين ضايقوه بل واتهموه بإشاعة الإلحاد. وأدى ذلك إلى فصله من الجامعة بل وتعرضه للتهديد بالاغتيال. وعقيدة العلم بالنسبة له تعني العقيدة القائمة على العلم والمعرفة الموضوعية. وهي حتما ستصطدم بالعقائد المسيحية الغيبية السائدة. فالمعرفة العلمية غير المعرفة الدينية لأنها قائمة على المحاجّة المنطقية والبراهين العقلية، لا على هيبة الأقدمين ورجال الدين.
وأما كتابه الذي يتخذ عنوان «خطاب موجه الى الأمة الألمانية» فقد أسس للقومية الألمانية بحسب رأي بعضهم. والواقع ان فيخته بعد أن تحمس للثورة الفرنسية ونابليون كبقية فلاسفة التنوير من أمثال كانط وهيغل وشيلنغ راح يهاجم الامبريالية الفرنسية ومحاولتها السيطرة على ألمانيا. ولذلك ركز على استنهاض الشعور القومي الألماني لكي يؤدي إلى وحدة البلاد المتمزقة إلى العديد من الدول الصغيرة.
وقد تحقق هذا الحلم، حلم وحدة ألمانيا، على يد بسمارك في نهايات القرن التاسع عشر.
ثم ظهر بعد فيخته فيلسوف آخر مهم هو شيلنغ (1775-1854). وهو من تلامذة كانط وفيخته في آن معا. وتحت تأثير الفكر الديماكلينيكي لفيخته راح يشكل فلسفةً للطبيعة عن طريق تأليفِ كتابٍ حول الموضوع عام 1797. وقد نبغ بشكل مبكر جدا وسبق هيغل الى الشهرة على الرغم من أنه كان أصغر منه من حيث السن. ولكن هيغل تفوّق عليه وعلى غيره في ما بعد وأصبح أشهر فيلسوف الماني بعد كانط.
وقد تأثرت فلسفة شيلنغ بالمناخ الرومانطيقي الذي أخذ ينتشر في ألمانيا آنذاك. والرومانطيقية، كما هو معروف، كانت في جزء منها رد فعل على عقلانية كانط وعصر التنوير عموما.
وقد اهتمت هذه الحركة الجديدة بالخيال وقالت بما معناه: إن الانسان تشكّل من خيال جامح وعقل وليس فقط من العقل. وبالتالي فلماذا بتر الفلاسفة العقلانيون هذه الكلمة منه؟ أليس الخيال هو الذي يدفع الى الابداع والابتكار؟ وبما أن الرومانطيقيين يحبون الطبيعة جداً، كان شيلنغ يركز على الموضوع التالي: هناك انصهار مطلق أو وحدة كاملة بين الإنسان والطبيعة، او بين الروح والمادة ولا يمكن فصل احدهما عن الآخر.
وقد شرح شيلنغ تصوراته هذه في كتابين صدرا بشكل متتابع وراء بعضهما البعض، الأول بعنوان: نظام المثالية (1780)، والثاني بعنوان: عرض لفلسفتي وفيه يستعرض شيلنغ المحاور الرئيسية لفلسفته وكيف تتمايز عن فلسفة كانط او هيغل او حتى فيخته. وقد اعتمد شيلنغ على سبينوزا في بلورة فلسفته وكان من القائلين بوحدة الوجود: أي وحدة الطبيعة ككل بما فيها الانسان، فلا يوجد شيء خارج الطبيعة، والطبيعة هي كلية ما هو موجود.
ثم أصدر شيلنغ بعدئذ عدة كتب عن فلسفة الفن (1803)، وفلسفة الدين (1804)، والبحوث الفلسفية عن جوهر الحرية الإنسانية (1809) ... الخ.
ثم جاء هيغل (1770-1831) الذي كان صديقا لشيلنغ وزميلا له في الجامعة
قبل أن يختلفا ويتباعدا لكي يؤلف كل منهما فلسفته الخاصة. وهيغل أهم من شيلنغ لأنه
استطاع التوصل إلى بلورة فلسفة جديدة غير فلسفة كانط، بل وتعتبر تجاوزاً لها، أو
قل إضافة إليها.
ثم يردف المؤلف قائلا: والواقع إن هيغل كان يعتبر فلسفته بمثابة ختام لكل الفلسفة السابقة منذ اليونان وحتى وقته! وبالتالي فلم يتجاوز كانط فقط وإنما تجاوز ايضا أرسطو وأفلاطون وديكارت وسبينوزا ولايبنتز وكل الفلسفة الحديثة والقديمة. لقد حقّق هيغل المصالحة بين الذات والموضوع، أو بين الفرد والكون عن طريق المنهج الجدلي الذي يستطيع التوحيد بين الاضداد في حركة مستمرة لا تنتهي إلا لكي تبدأ من جديد. واستطاع هيغل أن يلخص كل عصره عن طريق الفكر: أي عن طريق بلورة فلسفة جديدة قادرة على تشخيص كل مشاكل الحاضر واقتراح حلول ناجعة لها.
إن عبقرية هيغل تكمن في تجاوز العقلانية التجريدية على طريقة كانط، والحدس الرومانطيقي على طريقة شيلنغ والتوصل إلى تركيبة موفقة بينهما عن طريق منهج الجدل الذي يوحد بين الأضداد.
ثم تكمن عبقريته بشكل ساطع في كتابه الكبير الأول: علم تجليات الروح (أو فينومينولوجيا الروح). والمقصود بالروح هنا الفكر البشري أو العقل. وقد كان بدائيا في البداية، ثم راح يتطور من خلال التجربة ومصارعة العالم، حتى توصل إلى النضج الكامل أو المعرفة المطلقة على يد هيغل نفسه.
ولكنه في أثناء ذلك مرّ بكل المراحل المتتالية كالمرحلة اليونانية بكل فلاسفتها وكتابها التراجيديين، والمرحلة الرومانية التي تلتها، ثم المرحلة المسيحية والقرون الوسطى، ثم مرحلة عصر النهضة والانبعاث في القرن السادس عشر، ثم مرحلة التنوير في القرن الثامن عشر، ثم مرحلة الثورة الفرنسية في نهايات القرن الثامن عشر، ثم المرحلة الرومانطيقية التي تلتها، ثم أخيرا المرحلة المتمثلة بفلسفة هيغل ذاتها.
في كل مرحلة كانت تتجلى الروح بشكل ما. وعندما نقول الروح نقصد العقل أو الفكر البشري. وكلما صعدت الروح مرحلة اضافية كلما نضجت أكثر حتى وصلت إلى قمة النضج على يد هيغل نفسه، أي حتى وصلت الى مرحلة المعرفة المطلقة التي لا مرحلة بعدها.
بالطبع فإن اعتقاد هيغل بأنه ختم التاريخ أو ختم الفلسفة والفكر ووصل بهما إلى نهاياتهما ليس إلا مجرد وهم. فالتاريخ لم ينته بعد هيغل ولم يتوقف عنده أو عند فلسفته. والدليل على ذلك أنه ظهرت بعده عدة فلسفات كبرى كفلسفة نيتشه، وكيركيغارد، وهيدغر، وغيرهم.
ولكن لا ريب في أن هيغل وصل بالعقلانية الكلاسيكية إلى نضجها الأعلى، إلى ذروتها التي لا ذروة بعدها. ولذلك فان نيتشه انحرف عنه كليا لكي يستطيع أن يؤسس فلسفةً مختلفة عنه تماماً.
فالعقل الغربي بلغ ذروته وربما معصوميته، على يد مفكري الفلسفة المثالية الألمانية وبخاصة كانط وفيخته وشيلنغ وهيغل. لقد حل محل العقل اللاهوتي الغيبي المسيحي بصفته المرشد الأعلى للبشرية. ولذلك قال بعضهم بأن الفلسفة المثالية الألمانية ما هي إلا علمنة للإصلاح اللوثري: أي للدين المسيحي في نهاية المطاف وعلى هذا النحو حلت الفلسفة محل الدين في أوروبا.
ثم يردف المؤلف قائلا: والواقع إن هيغل كان يعتبر فلسفته بمثابة ختام لكل الفلسفة السابقة منذ اليونان وحتى وقته! وبالتالي فلم يتجاوز كانط فقط وإنما تجاوز ايضا أرسطو وأفلاطون وديكارت وسبينوزا ولايبنتز وكل الفلسفة الحديثة والقديمة. لقد حقّق هيغل المصالحة بين الذات والموضوع، أو بين الفرد والكون عن طريق المنهج الجدلي الذي يستطيع التوحيد بين الاضداد في حركة مستمرة لا تنتهي إلا لكي تبدأ من جديد. واستطاع هيغل أن يلخص كل عصره عن طريق الفكر: أي عن طريق بلورة فلسفة جديدة قادرة على تشخيص كل مشاكل الحاضر واقتراح حلول ناجعة لها.
إن عبقرية هيغل تكمن في تجاوز العقلانية التجريدية على طريقة كانط، والحدس الرومانطيقي على طريقة شيلنغ والتوصل إلى تركيبة موفقة بينهما عن طريق منهج الجدل الذي يوحد بين الأضداد.
ثم تكمن عبقريته بشكل ساطع في كتابه الكبير الأول: علم تجليات الروح (أو فينومينولوجيا الروح). والمقصود بالروح هنا الفكر البشري أو العقل. وقد كان بدائيا في البداية، ثم راح يتطور من خلال التجربة ومصارعة العالم، حتى توصل إلى النضج الكامل أو المعرفة المطلقة على يد هيغل نفسه.
ولكنه في أثناء ذلك مرّ بكل المراحل المتتالية كالمرحلة اليونانية بكل فلاسفتها وكتابها التراجيديين، والمرحلة الرومانية التي تلتها، ثم المرحلة المسيحية والقرون الوسطى، ثم مرحلة عصر النهضة والانبعاث في القرن السادس عشر، ثم مرحلة التنوير في القرن الثامن عشر، ثم مرحلة الثورة الفرنسية في نهايات القرن الثامن عشر، ثم المرحلة الرومانطيقية التي تلتها، ثم أخيرا المرحلة المتمثلة بفلسفة هيغل ذاتها.
في كل مرحلة كانت تتجلى الروح بشكل ما. وعندما نقول الروح نقصد العقل أو الفكر البشري. وكلما صعدت الروح مرحلة اضافية كلما نضجت أكثر حتى وصلت إلى قمة النضج على يد هيغل نفسه، أي حتى وصلت الى مرحلة المعرفة المطلقة التي لا مرحلة بعدها.
بالطبع فإن اعتقاد هيغل بأنه ختم التاريخ أو ختم الفلسفة والفكر ووصل بهما إلى نهاياتهما ليس إلا مجرد وهم. فالتاريخ لم ينته بعد هيغل ولم يتوقف عنده أو عند فلسفته. والدليل على ذلك أنه ظهرت بعده عدة فلسفات كبرى كفلسفة نيتشه، وكيركيغارد، وهيدغر، وغيرهم.
ولكن لا ريب في أن هيغل وصل بالعقلانية الكلاسيكية إلى نضجها الأعلى، إلى ذروتها التي لا ذروة بعدها. ولذلك فان نيتشه انحرف عنه كليا لكي يستطيع أن يؤسس فلسفةً مختلفة عنه تماماً.
فالعقل الغربي بلغ ذروته وربما معصوميته، على يد مفكري الفلسفة المثالية الألمانية وبخاصة كانط وفيخته وشيلنغ وهيغل. لقد حل محل العقل اللاهوتي الغيبي المسيحي بصفته المرشد الأعلى للبشرية. ولذلك قال بعضهم بأن الفلسفة المثالية الألمانية ما هي إلا علمنة للإصلاح اللوثري: أي للدين المسيحي في نهاية المطاف وعلى هذا النحو حلت الفلسفة محل الدين في أوروبا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق