الثلاثاء، 1 نوفمبر 2016

الثورة الفلكية الكوبيرنيكية وفصل العلم عن الدين في التجربة الغربية؛ محسن المحمّدي.


الثورة الفلكيّة الكوبيرنيكية وفصل العلم عن الدين في التجربة الغربيّة.
محسن المحمدي
(مؤمنون بلا حدود؛ آب 2013)

لقد عرفت المعرفة البشرية طريقها الآمن نحو العلمية بالمعنى الحديث، بدءاً من الثورة الفلكية التي أقامها نيكولا كوبيرنيك (1473- 1543)، والذي يعد بحق فاتحة ذلك الانقلاب المدوي الذي فصل القديم عن الحديث، فهو من يرجع له الفضل في وضع اللمسة الأولى للكوسمولوجيا الجديدة القائمة على مركزية الشمس عوض مركزية الأرض؛ فالأرض الثابتة ـ مركز الكون ـ أصبحت تدور معلقة في السماء، فهي غادرت مكانها السافل إلى الأبد نحو الأعلى، وهو ما غير نظرتنا للكون، بشكل جارح ومربك، فلم يعد العالم مقسما إلى قسمين عالم سفلي؛ حيث النقص والرذيلة، وعالم علوي؛ حيث الكمال والثبات، كما تشكل مع الفلك اليوناني، بل أصبح العالم موحدا، والتراتب في مهب الريح. فتصدُّع الكوسمولوجيا التراتبية القديمة مهد الطريق إلى تكسير التراتب الاجتماعي، وإلى ثورة سياسية في عصر الأنوار، تمثلت في جعل القاعدة (عموم الشعب) تصعد إلى قمة الهرم السياسي لتصبح لها الكلمة الأولى، فصعودها إلى أعلى كصعود الأرض المتدنية إلى السماء الكاملة. هذا من جهة، ومن جهة أخرى أحدثت الكوبيرنيكية انقلابا على مستوى المنهج في رؤية العالم . فالعالم كما نراه أصبح لا يقدم الحقيقة، فهو ينتقل إلى حواسنا بشكل مزيف، حيث تخدعنا الشمس كل يوم، كما أن الأرض التي تبدو للعين ثابتة هي في حركة دائمة، باختصار نبهتنا الكوبيرنيكية إلى أن حواسنا المستخدمة كنوافذ على العالم تشهد زورا، مما يجعل الشك مطلبا ضروريا، لأن الحقيقة أصبحت مهددة، مما يعني إلزامية إعادة النظر و مسح الطاولة والبناء من جديد؛ فالعقل يجب أن يخرج من السذاجة والقبول بالحقائق دون تمحيص أو تدقيق، بعبارة أدق على العقل أن يتحرك، وهو حذر ويقظ ومسلح بالمنهج الذي يمنعه من الخداع؛ فالحقيقة ليست جاهزة، بل تصنع، ولا يمكن لها أن تخرج إلا من رحم الشك، والشك ليس هزيمة للعقل، بل محرك دائم له كي لا يتقاعس.
سنحاول في هذه المقالة أن نتحدث عن موضوع بعينه هو تأثير الكوبيرنيكية على المجال الديني، وما لعبته من دور أساسي في جعله ينحصر في الشأن الخاص عوض العام، وكيف أن المنهج العلمي جعل الدين يعرف حدودا عليه عدم تجاوزها وإلا سيزداد إحراجا جراء الكشوفات والمنجزات المقنعة والمفحمة للعلم. فكيف تم الفصل إذن بين العلم والدين في التجربة الغربية؟ وما الدور الذي لعبته الثورة الفلكية الكوبيرنيكية في عملية الفصل هذه ؟ وهل هذا الفصل كان اختيارا أم كان مفروضا بقوة الحجة العلمية؟ وهو ما سنبسطه الآن.
إن الكوبيرنيكية خاصة عندما تم تدعيمها فيزيائيا من طرف غاليليو ـ شكلت تهديدا وخطرا على الكنيسة؛ فمسألة مركزية الشمس تكذب نصوصا دينية تعلن مركزية الأرض بشكل واضح. ومن أهم النصوص نذكر النص الذي جاء في سفر يشوع الإصحاح العاشر"12 حينئذ قال يشوع للرب يوم أسلم الرب الأموريين أمام بني إسرائيل، أمام عيون إسرائيل: «يا شمس دومي على جبعون، ويا قمر على وادي أيلون». 13 فدامت الشمس ووقف القمر، حتى انتقم الشعب من أعدائه. أليس هذا مكتوبا في سفر ياشر؟ فوقفت الشمس في كبد السماء، ولم تعجل للغروب نحو يوم كامل". يحكي هذا النص قصة يشوع، تلميذ النبي موسى، الذي طلب من الرب أن يوقف الشمس كي يتمكن من الانتصار في الحرب؛ فتوقفت مما يعني أن الشمس متحركة، وهو ما يخالف نظرية كوبيرنيك. كما أن هناك نصا آخر واضحا أيضا جاء في سفر المزامير، وبالضبط في المزمور التاسع عشر يقول1 "السماوات ۥتحدث بمجد الله، والفلك ۥيخبر بعمل يديه ... جعل للشمس مسكنا فيها، وهي مثل العروس الخارج من حجلته. يبتهج، مثل الجبار للسباق في الطريق2 من أقصى السماوات خروجها ومدارها إلى أقاصيها ولا شيء يختفي من حرها. "إن الفهم السائد عند رجال الكنيسة هو أن الشمس تخرج من طرف في الكون إلى طرف آخر،1 وهو التفسير الذي يتفق ونظرية مركزية الأرض. وللذكر، فالنصان المقدمان طرحا معا لـ "غاليليو"(1564/1642) أثناء صراعه مع الكنيسة جعلته يغامر في تأويل النص الديني،2 ويدعو إلى مجازية النص المقدس وضرورة البحث عن المعنى الحقيقي الموجود في العلم، وهنا نتذكر عبارته المشهورة الداعية إلى الفصل بين العلم والدين " الكتاب المقدس لا يعلمنا كيف تسير السماء، وإنما كيف نسير نحن إلى السماء (الجنة)". 3
وإذا كنا نريد أن نفهم أكثر خطر الكوبيرنيكية على المعتقد الديني، فلنتذكر أن المسيحيين كانوا يؤمنون بأن الله خلق السماء والأرض، وجعل لكل منهما حدودا معينة في المكان؛ فالأرض ساكنة وتدور الشمس حولها في مدارات بلورية شفافة. كما أن الله يجلس في عرشه في السماء في نقطة عمودية على أورشليم. أما جهنم، فتقع تحت الأرض، وأن الملائكة تهبط باستمرار من السماء، في حين أن الشياطين تصعد من الأرض لكي تتدخل في شؤون الإنسان،1ويكفي الإشارة إلى الملحمة الخالدة التي قدمها الشاعر: "دانتي الأليجيري" (1265-1321م): الكوميديا الإلهية، والتي يصف فيها رحلته إلى جهنم القابعة في أعماق الأرض. إن هذه النظرة للكون، تعرضت لصفعة موجعة من طرف الكوبيرنيكية؛ فأن تصعد الأرض التي هي مكان الجحيم إلى السماء؛ حيث مكان الإله يعني مباشرة، أن المدنس (الأرض) اختلط بالمقدس (السماء) ولم تعد هناك حاجة للوساطة. كما أن المسألة طرحت مجموعة من الاستفهامات، مثل: من أين نزل آدم إذا كانت الأرض سماوية؟ وأين مكان الجنة والإله، مادام أننا معه في السماء؟ وهل يمكن قبول أن عالم الرذيلة يمتزج بعالم الفضيلة؟ هذا من جهة، ومن جهة أخرى كيف يتسنى لله أن يلقي بالإنسان على حصاة صغيرة تائهة تركض باستمرار في السماء؟ أليس في إزاحة الإنسان من مركز الكون حط من قيمته؟....إنها بحق لإحراجات تبعثر وتنسف بعمق التصور القديم، وهو ما يفسر دخول الكنيسة في صراع مع الكوبيرنيكية لأنها أحست بالتهديد والخطر، ويكفي التذكير " بجيوردانو برونو" الذي حاول توسيع مفهوم الإله بما يتلاءم والفلك الجديد، مؤمنا ومروجا لفكرة وحدة الوجود والكون اللانهائي؛ فكان مصيره أن أحرقته الكنيسة بروما سنة 1600م. والأمر نفسه يقال عن مؤسس الفيزياء الحديثة "غاليليو" الذي دخل في نزاع مع الكنيسة لمدة عشرين سنة، وهو المدافع العنيد عن الكوبيرنيكية، بل هو الذي زج بها بشكل علني نحو الصراع، ببحثه عن الدلائل الملموسة، وليس الرياضية فقط لإثبات مركزية الشمس، ولم يكتف بذلك، بل عمد إلى الكتابة بالإيطالية عوض اللاتينية لجعل أفكاره تصل إلى عامة الناس، وهو ما كلفه محاكمة مست بكرامته وهو شيخ عجوز، جعلته يقضي ما تبقى من حياته في إقامة جبرية، وهو ما أثر أيضا على الفيلسوف ديكارت( 1596- 1650) الذي طارده شبح غاليليو؛ حيث كان يعزم على إصدار بحثه "العالم" أو" بحث في الضوء" في سنة 1634. ولكنه بعد أن سمع ما حدث لجاليليو بسبب تأييده العلني لكوبرنيك، قرر أن يحرق كافة أوراقه، أو على الأقل الاحتفاظ بها لنفسه دون أن يدع أحدا يطلع عليها. فكتابه هذا فيه كوبرنيكية واضحة،2 حيث يذهب فيه إلى أن الأرض تدور حول الشمس. لقد كان ديكارت لا يريد البتة الدخول في نزاع مع الكنيسة، بل كان يتودد لها عله يربح رهان تعويض الفكر القديم الأرسطي بالمنظومة الكوبيرنيكية الجديدة، وهو الأمر الذي جعله يمسك عن نشر الكتاب الذي لم ير النور إلا بعد وفاته بأكثر من ربع قرن.[1]
ولندع ديكارت يعبر عن مخاوفه في رسالة متم نونبر 1633 إلى الأب مرسن:[2] يقول: "..أرسلت من يتحرى لي عما إذا كان كتاب ( نظام العالم) لجاليليو موجودا بـ :(ليد) و( أمستردام )، لما سمعت من أنه قد طبع في إيطاليا في السنة المنصرمة، جاءني الخبر بأن الكتاب طبع فعلا، ولكن جميع النسخ التي طبعت منه أحرقت في ذات الوقت ( بروما ) فيما حكم على جاليليو ببعض الغرامة. وهذا ما أدهشني كثيرا إلى حد أني عقدت العزم أو أكاد على إحراق جميع أوراقي، أو عدم اطلاع أي شخص عليها على الأقل" .
ويستمر ديكارت في حديثه: "إني لا أتصور كيف أمكن أن يحال جاليليو، وهو الإيطالي، بل والمرغوب من طرف البابا على محكمة جنائية، لا لشيء سوى أنه أراد، دون ريب أن يثبت حركة الأرض..."
ليصرح ديكارت بعد ذلك وبعبارة واضحة جدا: "وٳني لأعترف بأنه إذا كانت فكرة حركة الأرض خاطئة، فإن جميع أسس فلسفتي ستكون باطلة كذلك.". ثم يضيف أيضا: "وبما أني لا أحب أن يصدر عني بأي حال من الأحوال خطاب به أدنى كلمة مما تستنكره الكنيسة، فإني لأفضل أن ألغي كتابي هذا، على أن أصدره (مبتورا) معطوبا." وفي نهاية رسالته يطلب ديكارت من صديق طفولته في مدرسة لا فليش"مرسن" رجاء بقوله: " أرجوكم أن تخبروني أيضا عما تعرفونه عن قضية جاليليو."
وفي رسالة أخرى إلى مرسن أيضا في أبريل: 1643.[3] يقول: "إنك تعلم دون شك أن جاليليو قد أدين منذ وقت قصير من قبل محكمة التفتيش، وحكم على رأيه المتعلق بحركة الأرض بأنه بدعة..." ثم يقول أيضا: "ولكني سأقول لك إن كل الأشياء التي شرحتها بمصنفي ومن بينها أيضا هذا الرأي المتعلق بحركة الأرض، يرتبط بعضها ببعض، إلى درجة يكفي معها أن تكون واحدة خاطئة، حتى نعلم أن كل الحجج التي اعتمدتها فيه واهية، ورغم اعتقادي أن (هذه الحجج) ترتكز على براهين جد يقينية، وجد جلية، فإني مع ذلك لا أريد مهما كان الأمر، أن أؤكدها ضد سلطة الكنيسة"...
وعندما قرر ديكارت معاودة الكتابة ثانيا، قال لأصحابه إنه سيتحرك مقنعا، وهذا يظهر كم كانت الكوبيرنيكية مهددة للكنيسة إلى درجة أصبحت تهمة. هذا من جانب الكنيسة الكاثوليكية، فماذا تقول البروتستانتية؟ إن زعيمها "لوثر"(1483- 1546) صاح يا لَلفضيحة! ويا لَانتهاك الحرمات! ساخرا من كوبيرنيك بقوله: "يريد هذا الأحمق أن يضع صناعة الفلك كلها بالمقلوب1وليس ذلك أمرا غريبا، لأنه كان مصلحا يؤمن بحرفية النصوص. والنصوص تكذب مركزية الشمس كما سبق الذكر.
إن كوبيرنيك نفسه، وهو الراهب ـ كان يعلم أن تحريكه للأرض من مركزها هو مجازفة ومغامرة؛ فكتابه "في دوران الأجرام السماوية " لم يخرج للوجود إلا وهو في فراش الموت؛ حيث ظل محتفظا به لأزيد من ثلاثين سنة. ومن جهة أخرى، تم وضع مقدمة للكتاب من طرف صديقه البروتستانتي "أوسياندر" الذي عمل على تبرير العمل وإيجاد مسوغات كافية تسمح بنشره، مؤكدا أن التمعن جيدا في الكتاب، سيجعلنا نكتشف أن مؤلفه لم ينجز شيئأ يستحق التوبيخ مادام يعطينا حسابات دقيقة لحركات السماء، معلنا بعدها وبوضوح العبارة " لا يهم أن يكون الافتراض (مركزية الشمس) صحيحا أو خاطئا، شيء واحد يكفي، هو أن يعطينا حسابات ملائمة مع الملاحظة"2 ويختتم مقدمته بقوله: " لنترك هذه الفرضيات الجديدة تظهر مع الفرضيات القديمة، ليس لأنها حقيقة، بل لأنها بسيطة وسهلة، وتعطي إمكانات هائلة للملاحظة الدقيقة"،3 والأكثر من ذلك قام كوبيرنيك بإهداء الكتاب للبابا بولس الثالث؛ حيث حاول فيه تقديم دواعي وضع الشمس في مركز الكون؛ فالمسألة قد يبدو فيها حمق وخروج على ما ألفه الناس4 لكن الأرباح من هذا القلب كثيرة، منها إصلاح نموذج بطليموس المعقد وجعله أكثر بساطة وضبط التقويم... وقد بلغت درجة مخاوف كوبيرنيك (لأنه يعرف تبعات مشروعه) بأن ناشد البابا كي يحميه من عضات المهاجمين، وألا يحكم على عمله إلا الرياضيون، أو سيساء فهمه.5
إن تصدير كتاب كوبيرنيك بمقدمة صديقه وإهداء موجه للبابا، جعل الكاثوليك لا يفزعون من أطروحته. ولم ينبس مجمع الثلاثين بكلمة ضد مركزية الشمس. ولقد انخرط العديد من علماء الفلك في المشروع مروجين أنها مجرد فرضية مفيدة ومسعفة في الحسابات الفلكية.6 فالكنيسة انتظرت 73 عاما قبل أن تدين نظرية مركزية الشمس؛7 أي من لحظة صدور الكتاب سنة 1543 إلى سنة 1616م، وهي سنة المحاكمة الأولى لغاليليو . فعناد هذا الأخير في إثبات صدق النظرية فيزيائيا أيضا، وليس رياضيا فقط، هو من أجبر الكنيسة على منع تداول الكوبيرنيكية.
لقد قدمنا هذه المعطيات لإبراز المساس الكبير الذي أصاب المعتقد الديني جراء المتغير العلمي الجديد إلى درجة الإحراج، فمن ذا الذي يستطيع أن يرفض الحقيقة التي أصبحت تفقأ العين جراء وضوحها خاصة بعدما تم تدعيم الافتراض الكوبيرنيكي من طرف الجيل اللاحق:غاليليو وكبلر( 1571- 1630) ونيوتن( 1643- 1727). فإذا كان غاليليو قد وضع قوانين سقوط الأجسام في الأرض، فإن كبلر قد وضع قوانين دوران الأجسام في السماء، فبينهما تعارض وتناقض سيطرحه نيوتن كسؤال معروف: لماذا تسقط التفاحة ولا يسقط القمر؟ فكان الحل لهذه المعضلة هو اقتراح نظرية الجاذبية التي جمعت شمل قوانين السقوط بقوانين الدوران في توليفة متناغمة ومنسجمة؛ حيث زال التناقض بينهما، فالدوران سقوط والسقوط دوران، فالتفاحة يمكنها الدوران كما يمكن للقمر أن يسقط شريطة مراعاة عاملين اثنين هما: الكتلة والمسافة. بهذه النظرية العلمية تم توحيد العالم رياضيا مما لا يدع للشك مجالا. فالكوبيرنيكية أصبحت أمرا واقعا يفرض وجوده على الجميع، فلم تعد الكنيسة قادرة على الرفض، فالحجة قوية وإن تعارضت مع النص الديني، الأمر الذي جعل فصل الديني عن العلمي ضرورة ملحة، فلا بد من تعاقد مشترك بين الطرفين يرسم الحدود الكابحة بين القوتين فلا أحد ينتهك حرمة الآخر إلا بمقياس واضح المعالم يوقف حالة الطبيعة بينهما حيث "حرب الكل ضد الكل"على حد تعبير توماس هوبز( 1588- 1679)، وهي حالة لا يمكن وصفها إلا بالتطاحن والمأساوية، وتجدر الإشارة إلى أن الفصل هنا لا يعني طرد الدين، بل إيجاد المجال الخاص لاشتغاله؛ فالدين له طابع عملي، وهو يتوجه إلى الإنسان المتجسد الحي الذي يقترف الخطايا لا إلى الكائن المفكر الخالص الذي يرتكب الأخطاء . فقضية العلم مع الخطأ والصواب وليس مع الخير والشر. كما أن الأمور الدينية لا يمكن عقلنتها ووضعها في قوالب منطقية منسجمة، لأنها تتجاوز طاقة الإنسان العقلية؛ فالدين هبة من الله نؤمن به وكفى. 1
لقد غير العلم المنهج في رؤيته للعالم، فلم يعد الهدف فقط تأمله، بل السيطرة عليه وتسخيره لمصلحة الإنسان، وذلك لن يتأتى إلا إذا تخلينا عن بعض الاعتبارات الدينية ذات النزوع الغائي، التي ترى أن كل شيء مخلوق من أجل الإنسان، فهو مرتب ومنظم من طرف الله وعلى الإنسان التوقف عن التدخل. الأمر الذي اعتبره العلم حدا من فاعلية الإنسان وكبحا لقدرته في تطويع العالم. فالعلم لا يهمه مثلا، سؤال: لماذا خلق الله العالم؟ بل كيف صدر العالم من عناصره الأولى؟ فهو نقل المسألة من خلق العالم إلى تكوين العالم2 لهذا نجد العلم ذا نزعة ميكانيكية تنظر للعالم كآلة ضخمة معطلة من كل غاية (الإرادة، التفكير)، تحكمها الضرورة فحسب(سبب← نتيجة) فالوحيد الذي له الغاية هو الإنسان، لأنه يختار وله القدرة على التحكم والسيطرة، فالنظرة الغائية تجعل الإنسان مكتوف اليد ومكبل الإرادة.
إن البعد الغائي الذي يميز النظرة الإحيائية (أي تلك النظرة التي تضخ في العالم كل ما هو إنساني) عامة والدينية خاصة، تبعد الإنسان عن الأسباب القريبة، وتجعله غارقا في أسباب بعيدة لا تسمح له بالسيطرة على الظواهر الطبيعية فهما وتعليلا عقليا، وتشكيلا وتحويرا عمليا.
نخلص إلى أن الفصل بين الدين والعلم لم يكن اختيارا، بل كان مفروضا بقوة المتغير العلمي الذي طرأ على التفكير البشري بدءاً من القرن السادس عشر، فتنازل الدين عن بعض الصلاحيات للعلم، وتنازل العلم للدين عن مسألة الخلق واهتمامه بتكوين العالم، لم يتم دفعة واحدة، بل تم بعد نزال مرير ومخاض عسير تم تتويجه بتوافق أوقف التطاحن والتضارب نحو الانسجام والتناغم، فلا انتقال من مجال إلى مجال إلا بجواز مرور محدد بوضوح. إنها العملية التي كان لها أكبر التأثير في الذهنية الحداثية؛ حيث كانت بمثابة تمرين تدربت من خلاله العقول على كيفية عزل الأمور وكيفية رسم الحدود بين الأشياء وفق مصفاة منهجية تضبط مستويات الانتقال فلا عبور من ضفة إلى أخرى إلا إذا تم استيفاء الشروط، فليس هناك خلط ولا عشوائية، بل هناك دقة وصرامة، وهو ما يجعلنا نفهم تلك المسيرة نحو الفصل بين الخاص والعام، والتي كان لها أكبر الأثر على رسم التعاقدات الاجتماعية في المجتمعات الأوربية، وذلك بالتركيز على المشترك وصرف النظر عن المختلف، حيث يكون المشترك مجالا للمحاسبة، لأنه اتفاق، ويكون الاختلاف مجالا للتميز والتفرد والخصوصية، فما أحوجنا إلى استيعاب هذه التجربة وتحميلها من جديد! خاصة وشعب العالم العربي مقبل على صياغة تعاقدات جديدة بينه وبين الحاكم، وبينه وبين أفراده المختلفة انتماءاتهم الدينية والعرقية واللغوية ...التي تهددنا بتطاحنات قاتلة.
* محسن المحمدي أستاذ الفلسفة – بني ملال المغرب

1د.عبد الله العمر" ظاهرة العلم الحديث" ص61 سلسلة عالم المعرفة 1983 الكويت.
2- نفس المرجع ص57 .
1– وليام كلي رايت. تاريخ الفلسفة الحديثة ترجمة محمود سيد أحمد. تقديم ومراجعة عبد الفتاح إمام ص 48-49. المشروع القومي للترجمة 2001.
2 ـ انظر كتاب العالم خاصة الفصل العاشر" في السيارات عموما و خاصة في الأرض و القمرص:104 ترجمة إميل خوري، ص: 50 دار المنتخب العربي ط1 1999 .
[1] ـانظر المقدمة التي وضعها : د عثمان أمين لكتاب " مقال في المنهج" ترجمة الخضيري ص:16و17 مكتبة الاسرة 2000 ضمن سلسلة مهرجان القراءة للجميع..
[2] ـالرسالة من ترجمة الحسين سحبان ص:54و55 مجلة الجدل خريف 1985 ، مؤسسة بنشرة الدار البيضاء.
[3] ـ جاء ذكرها في الشرح الذي قدمه عمر الشارني في ترجمته لكتاب : "حديث الطريقة" ص:249و250.الفصل السادس،دار المعرفة والنشر 1987.
1 ـ جورج كانغيلام ص83 " دراسات في تاريخ العلوم وفلسفتها ترجمة محمد بن ساسي مركز دراسات الوحدة العربية ط1 2007
2 ـnicolas copernic .des revolutions des orbes celestes. Trad .par Alexandre koyere. Paris felix alcand 1934.p 28
3ـ page 30ibid
p 36 4 ibid
5ـ p 46-47 ibid
6ـ جورج كاانغيلام ص مرجع سابق 83
7ـ نفس المرجع ص86
1 ـعبد المجيد باعكريم ، مرجع سابق ص 107/108
2 نفس المرجع ص 114/115


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق