الفلسفة باعتبارها
علاجاً
تفروت لحسن
الحوار المتمدن
كانون الثاني 2012
ـ رابط مقالة ثانية للكاتب تفروت لحسن،
بعنوان: نيتشه: الفيلسوف طبيب المجتمع. وهي
بحث غير قابلة للنسخ:
يروم هذا المقال التدليل على فرضية ندّعي من خلالها أنّ
للفلسفة وظيفة علاجية، حيث أنها، وعلى خلاف فكرة الخلاص الكهنوتي، ظلت تسعى إلى
تحرير الإنسان من أمراضه وتوعكاته. سواء تعلق الأمر بالوهن الجسدي أو الاضطراب
النفسي أو الانحطاط الثقافي.
أما إسناد مهمة العلاج إلى الفلسفة، فيفيد في دلالته الأولى
إنزال الفلسفة من طابعها النظري المجرد لتتوجّه نحو القضايا الحميمة التي تهم
الإنسان في مختلف مظاهر حياته. فاعتماد العلاج كمفهوم فلسفي يستلزم إعادة التفكير
الفلسفي إلى سكّته الطبيعية. تلك السكّة التي تجعل من الفلسفة فنّاً لتدبير الحياة
اليومية، أي الفلسفة في خدمة الحياة النامية.
"الفلسفة باعتبارها علاجا"،هي إذن، الفلسفة كما
نحياها، بمعنى الفلسفة التي تهتم بالأشياء القريبة، إنها فلسفة للقرب تهتم
بالأشياء الجوهرية في الحياة. فعوضا عن الفلسفة النظرية العقيمة التي استبدت
بالتعليم الفلسفي، تحضر الفلسفة العلاجية لتمنح للأشياء الهامشية قيمة. فتعيد بذلك
الاعتبار لعالم الحسّ، لعالم الظاهر، للأشياء البسيطة ضداً على المثاليات الفلسفية
التي ترفع من شان المطلق والمتعالي.
لا ينبغي أن نخلط بين "الفلسفة باعتبارها علاجاً"
وبين فلسفة العلاج. فهذه الأخيرة تحيل إلى التحليل الابستمولوجي للمفاهيم
والمناهج التي تخص الممارسة الطبية. ففلسفة العلاج تصنف ضمن مباحث فلسفة البيولوجيا
أو تاريخ العلوم. أما الفلسفة التي نقصدها فهي التي تعوض الفيلسوف النظري كما هو
معروف في التصوّر التقليدي بالفيلسوف الطبيب الذي تتحدد مهامه في منح الصحة الكبرى
للفرد، وللشعب وللمجتمع.
كما لا ينبغي أن نخلط بين "الفلسفة باعتبارها
علاجا" وبين ما يتداوله بعض المعاصرين من المهتمين بالاشتغال من صيغ تعبيرية
كـ "العلاج بالفلسفة" أو "التداوي بالفلسفة".
ودفعاً لكل اعتراض مفترض على دعوانا، نشير إلى أن اعتماد
الصيغة اللغوية المتضمنة في عنوان هذه المحاولة، لا تعني الدمج التعسفي لمفهومين
متباعدين اعتاد الجمهور نسبتهما إلى مجالين متباينين أحدهما عملي وهو الطبّ والآخر
نظريّ هو الفلسفة. وبالعكس فمفهوم العلاج حاضر بمنطوق اللفظ في الكثير من الفلسفات
على اختلاف العصور.
ونظرا لكون مفهوم العلاج لم يستأثر بالاهتمام دارسي
الفلسفة، وبحكم أن المفهوم منعدم في التداول الفلسفي العربي أو المعرّب، فإننا
نسعى من خلال هذه المحاولة إلى ملامسة المفهوم انطلاقا من التساؤلات التالية : بأي
المعاني تعتبر الفلسفة علاجا؟ وما هو الدور الذي يمكن أن يلعبه الفيلسوف الطبيب في
هذا العلاج؟
إن مقاربة هذه التساؤلات تفتح أمامنا متاهة المعنى. حيث أن
دلالة العلاج تستلزم في حدّها الفلسفي تباينا في المواقف واختلافا في التصورات.
لكن هذه الاختلافات تضمر الاعتراف بالمهمة العلاجية للفلسفة. فكيف يمكن للفلسفة أن
تقوم بهذه المهمة؟
يقتضي منا هذا التساؤل التمييز في مجال الفلسفة بين عدة
مفاهيم للعلاج منها:
العلاج المتعلق بالنفس :
وهو ما يعرف "âme’la
thérapie de l"، ويقصد
به أن مهمة الفلسفة تتحدد في إخراج المرض من النفس وإعادة الطمأنينة لها ataraxie. وهذا التصور تجسّد في الممارسة الابيقورية التي تعتمد ما تسميه
بالفلسفة الأصيلة ضد التظاهر بالفلسفة، فالفلسفة الأصيلة أشبه بالصحة
الأصيلة. هذا ما يظهر في القول: "لا ينبغي أن نتظاهر بالتفلسف، لكن علينا أن
نتفلسف حقيقة. فنحن لسنا مضطرين للظهور في صحة جيدة ولكن أن نكون في صحة
جيدة". هذه الفلسفة الأصيلة التي هي ملك للشاب كما هي للشيخ. وبالتالي فلا
مبرر لهجران فعل التفلسف. فكل تأجيل لها هو تأجيل لتحصيل السعادة أو فوات وقتها.
الابيقورية في ادعائها أن الفلسفة علاج للنفس ترفض
كل فلسفة لا تقوم بهذه الوظيفة. فالفلسفة التي لا تعالج هي فلسفة باطلة، هي
مجرد كلام فارغ على الشاكلة التي يكون فيها الطب غير ذي جدوى إذا لم يستطع إخراج
المرض من الجسد. "فارغ هو خطاب الفيلسوف الذي لا يخرج المرض من النفس، كما هو
الشان بالنسبة للطب، فلا جدوى من هذا الأخير إذا لم يخرج المرض من الجسد".
يتضح إذن أن الابيقورية التي تعتمد هذه المقاربة تحدد مهمة
الفيلسوف في القيام بعلاج النفوس المريضة "لأن الناس كما كانوا مصابين
بالطاعون، يتناقلون الأمراض كالكباش من فرد لآخر ومن جيل إلى جيل. لذا لزم على
الفيلسوف خدمة للمولودين الجدد وحفاظا على صحة جيل المستقبل انقاذ هؤلاء المرضى
وعلاجهم. فكيف يمكن للفيلسوف المعالج ان يقوم بهذه الوظيفة؟
لما كان علاج المرض يقتضي مسبقا تشخيصه، فإن الابيقورية بعد
تشخيصها للإنسان توصلت إلى أن سبب أمراضه راجع إلى الكلام الفارغ أو الرأي الفارغ، أي كل قول أو حكم يفتقر إلى مفاهيم
أولية، كل حكم غير مؤسس على إحالات تتعلق بالوجود الذهني أو العيني. أي المفتقرة
إلى مرجع. ومن أمثلة الرأي الفارغ يمكن تصنيف الكلام في الماورائيات من طرف
العامة، الحديث عن الألوهية أو الموت…وهكذا تقوم مهمة الفيلسوف الطبيب في
معالجة الأفراد من هذه الآراء الباطلة بواسطة ما يعرف بـ pharmakon أو الترياق الذي يجمع بين العلاج والسمّ. وهنا نجد أيضا وصفة
العلاج الرباعي الذي يقترحها ابيقورle quadruple remède
وهي :
ــ لا خوف من الآلهة
ــ لا خوف من الموت
ــ السعادة ممكن تحصيلها
2- العزاء كعلاج :
منذ 10سنوات صدر بإنجلترا كتاب يحمل عنوان "عزاءات
الفلسفة"، وقد ادعى صاحبه ــ وهو مؤرخ للفلسفة من غير المتخصصين ــ أن
الفلسفة اليوم يمكن أن تشكل ملاذاً للذين يعانون من ضغط المجتمع ومن صدمة الحداثة
والعدمية. ولتبرير هذه الأطروحة ساق المؤلف نماذج من تاريخ الفلسفة من قبيل سقراط
ونتشه. وإذا عرف هذا الكتاب انتشارا واسعا خاصة بعد ترجمته إلى الفرنسية سنة 2008،
فإننا نؤكد أن صاحبه لم يعمل سوى على إحياء تصور تقليدي في التناول الفلسفي.
هذا التصور الذي تم نسيانه هو العزاء كعلاج فلسفي. إنه العلاج الفعال في
اللحظات التي تنسد فيها جميع منافذ الحياة. إنه العلاج في لحظات القنوط واليأس
والحزن بالمعنى الوجودي.
يجسد هذه المقاربة في تاريخ الفلسفة بتيوس في القرن
السادس الميلادي. فمؤلفه "عزاء الفلسفة " الذي تم إهمال تداوله كان
الكتاب الأكثر مقروئية في العصر الوسيط وعصر النهضة لمدة ألف سنة، انه احتل الرتبة
الثانية بعد الكتاب المقدس. فكيف تم تصور العزاء في هذه التجربة؟
خلافا للعزاء الكهنوتي الذي يكون له طابع ديني. نشير إلى أن
العزاء الذي يقصده بتيوس يختلف. فالعزاء الفلسفي يمثل علاجا حتى في اصعب لحظات
العمر، في لحظة الموت. ولفهم هذا الموقف نشير إلى أن كتاب "عزاء الفلسفة
"يمكن أن يمثل ما يعرف بأدب السجون. فهو عبارة عن تأملات وخواطر كتبت داخل
الزنزانة في لحظة كان ينتظر منها تنفيذ حكم الإعدام في حقه. وهذا المعطى هو ما
يضفي على المؤلف طابع الصدق والقلق الوجودي. فكلماته تخرج من العمق بكل حرية.
في هذه اللحظة حضرت الفلسفة في هيأة امرأة جليلة المظهر
لتبدأ مهمتها كطبيبة معالجة، كطبيبة تحمل الى المريض علاجاً فعالاً وليس سمّا.
ولتتمكّن من القيام بهذه المهمة كان لزاما عليها أن تطرد ربّات الشعر اللواتي كنّ
بجانب المريض قائلة : "من سمح لهؤلاء العاهرات بالاقتراب من سرير هذا
المريض؟". الفلسفة إذن في هذا الحضور تقلب صورة الفيلسوف النظري. إنها
تحضر لتصاحب المشكلات اليومية الخطيرة والدائمة. إنها لا تهاب الموت ولا يتملكها
الخطر. وبحلولها فإنها تحمل في ذاتها الترياق والعزاء والسلوى.
بعد ان طردت الفلسفة الطبيبة السم (الشعر) من سرير المريض
بدأت في مباشرة مهمتها العلاجية منطلقة أولا من التشخيص لأنها تعتقد أن
"العلاج الصحيح يبدأ من التشخيص الصحيح". هنا تبدأ الفلسفة مهمتها
العلاجية بالتدريج. من العلاج البسيط المتمثل في استرجاع الذاكرة للمريض، ثم
محاربة النسيان، ومن هذه الشرارات الأولى ينطلق العلاج الأقوى. من هنا تبدا الفلسفة في صدمة
المريض وتصحيح تصوراته لمنحه المزيد من القوة لمواجهة مصيره بكل شجاعة.
يظهر إذن أن الفلسفة التي تعتمد العزاء بمعناه العلاجي
تخالف ما تفعله العامة، فإذا كان السوقة يواجهون الكوارث بالبكاء والحزن فإنّ
الفلسفة هنا تمنح الإنسان القدرة وإرادة التجاوز. إنها تعلمه أن يفهم الأحداث.
فالعلاج معناه أن نفهم ما يقع لنفهمه بعد ذلك.
ورغم أن الفلسفة العزائية أو العلاجية عند بتيوس لا تغير
الأحداث ولا تقلب الحظ، فإنها تقدم فهما للتغيير، فهما للحياة. وبهذا الفهم تغدو
الحياة مقبولة رغم قسوتها.
ليس العزاء كعلاج فلسفي مقصورا على بتيوس وليس هو مبتدعه.
فالموضوع حاضر في الفلسفة القديمة خاصة مع الفلسفة الرواقية. فالرسائل العزائية لسينيكا لها
غاية علاجية إذ تهدف إلى مواساة الشخص المنكوب والتقليل من معاناته ومن وطأة
الفاجعة. هذه المهمة تتم بتحويل مسببات الألم إلى محفزات لتجاوزه. أي تحويل لحظات
الحزن إلى فرح. يتطلب الأمر الانغماس والغطس في عمق وقعر الحزن عوض الهروب والتخفي
في تلك اللحظات.
هذا ما يظهر في إحدى رسائل سينيكا للأم الثكلى المفجوعة
بفقدان ولدها. حيث ينصحها بضرورة اتصافها بالتسامح مع الحدث الأليم وتشجيع الحوار
حول موضوع الوفاة. ولا ينبغي اعتبار ذلك امتحانا او عقوبة. إنه نوع من معالجة
الألم بالألم والسم بالسم وهو الترياق.
ان العزاء الفلسفي العلاجي عند سينيكا يميز بين موقفين في
مواجهة الألم والشقاء، الأول موقف متصلب، والثاني موقف مرن. أما موقف التصلب أمام
الألم وضد كل مكروه فينتج عنه الانحطاط والانكسار. لذا وجب التعامل مع اللحظات
المحزنة بنوع من المرونة. أي ان ننظر الى الشقاء مباشرة ,أي مواجهته.
نفهم من رسائل سينيكا أن العزاء قد يكون في مرحلة أولى
عدوانيا وصادما، لكن يجب الاستعانة بهذا الطابع العنيف للعزاء من اجل تحدي الصدمات
الاكثرعمقا كالبكاء والشكوى. وهذه الوظيفة هي ما يقوم بها الكلام أو الصمت اللذان
يعتبران علاجا حسب نصائح سينيكا.
بهذا المعنى تكون للأدب أن يقوم بمهمة العزاء، وهذا ما
يظهر مع المنفلوطي في مقدمة كتاب العبرات حيث يقول : "الأشقياء في الدنيا
كثير، وليس باستطاعة بائس مثلي أن يمحو شيئا من بؤسهم وشقائهم، فلا اقل من أن أسكب
بين أيديهم هذه العبرات علهم يجدون في بكائي تعزية وسلوى". بل ويمكن
أن يكون للاشتغال الأدبي مهمة علاجية آو ما يعرف بالاستخدامات الأدبية كعلاج،
علاج ليس فقط لصحة النفس بل أيضا لصحة الجسد. وتمثل حكايات آلف ليلة وليلة هذا
التصور، فبالإضافة إلى كون شهرزاد استطاعت بتنوع حكاياتها أن تعالج شهريار المريض
نفسيا والذي تتصف شخصيته بالحقد والانتقام والقتل، فإننا نجد من الحكايات تلك
التي تعالج المرض والصحة بالمعنى الفيزيولوجي. فمقولة علاج السمّ بالسمّ حاضرة
في الحكي. من ذلك مثلا مرض شاه زمان الذي اعتل جسده وتغير لونه وسقم واصفر ولم يعد
يستطيع أن يأكل أو يشرب بعد أن شاهد بأم عينيه زوجته تخونه مع عبده في فراشه. لكن
مرضه سيزول وسيرد له لونه وسيعافى بمجرد ما يشاهد سريا في ساحة القصر زوجة أخيه
شهريار تمارس الجنس مع عبدها رفقة عشرين عبدا وعشرين جارية يمارسون الجنس
علانية رفقة زوجة شهريار. هذا الأخير الذي سيصبح انتقامه من زوجته مرضا موسوما
بالقتل والسادية، وسيدوم طويلا ليشفى على يد شهرزاد.
يظهر العزاء كشكل من الكتابة الفلسفية، يفيد أن الفلسفة لم
تكن قط تلك المرأة المتخيلة التي تبكي لحظة النكبة، ولكنها الطبيبة التي تحضر في
الشدة لتعوّض اللاهوت وأبواق جهنم في لحظات العسر والشقاء. تحضر لتجعل من الشدة
لحظات سعيدة. إنها علاج الألم بالألم والسم بالسم والقلق بالقلق، انه الترياق
المحكوم بمنطق كون نفي النفي يستلزم الإثبات.
وخلافا لهذا الصنف، نصادف في الفلسفة نوعا اخرمن العلاج
نشير له فيما يلي :
3- علاج الانفعالات :
إذا كانت الفلسفة المدرسية تقرن وتزاوج بطريقة مبتذلة بين
ديكارت والفكر، فقد لزم عن ذلك إغفالٌ لجانب مهم في فلسفته. أي إهمال الجانب
المتعلق بالعمل. وديكارت نفسه في الجزء السادس من "مقال في المنهج "
يدعو إلى اعتماد الفلسفة العملية عوضا من الفلسفة النظرية التي تهيمن على التعليم
في المدارس. هذه الفلسفة العملية هي التي سيتضمنها كتابه " في انفعالات
النفس ". ووعيا منه بالدور العلاجي للفلسفة يتناول بالدرس مفهوم
العلاج وعلاقته بالانفعالات. كيف ذلك ؟
كعالم نفس بمعناه الميتافزيقي، خصص ديكارت مؤلفه الذي يعود
لاخر حياته للبحث عن العلاجات التي تخص انفعالات النفس. وهكذا نجد توارد مفهوم
العلاج في عدة مواقع داخل هذا المؤلف. فهو يميز بين العلاج البسيط والعلاج العام
وافضل علاج.
وهكذا تكون الفضيلة – عنده – هي اعظم علاج ضد الانفعالات،
ذلك انه لما كانت " نفسنا تمتلك ما يكفيها ويرضيها، ذلك أن من عاش دون أي
توبيخ على الإطلاق من ضميره … فانه يتلقى بالمقابل رضا على درجة من القوة تجعله
سعيدا ". لكن كيف يمكن للنبل ان يستخدم كعلاج ضد كل اختلالات الانفعالات؟
تتميز الوصفة العلاجية التي يقدمها ديكارت بالتنوع، ومن ذلك
:
ــ عمل الأشياء العظيمة.
ــ احتقار المصلحة الشخصية.
ــ احترام وتقدير عمل الآخرين.
ــ التحطم في الفعال الكراهية نحو البشر
ــ السيادة على الغضب الشخصي.
وهكذا، فان النبل يمكن أن يستخدم كعلاج ضد كل إفراط في
الغضب، ف " النبل هو افضل علاج يمكننا أن نجده ضد كل تطرف في الغضب ".
إضافة لهذا العلاج المخصوص، نجد عند ديكارت علاجا عاما ضد
الانفعالات، يقول : " أما الآن وقد عرفنا الانفعالات كلها، فقد بات موضوع
خوفنا منها اقل بكثير مما كان في السابق، لأننا نرى بأنها كلها جيدة بطبيعتها،
وإننا ليس أمامنا ما نتجنبه منها سوى استعمالاتها السيئة أو الإفراط فيها.
والعلاجات التي شرحتها يمكن أن تكفي ضد هذه المساوئ لو اهتم كل واحد الاهتمام
الكافي لممارستها ". ومن بين أنواع هذا العلاج العام يذكر ديكارت :
ــ التروي والتبصر،
ــ المهارة في تصحيح عيوب الحالة الطبيعية للفرد،
ــ تجنب التهور واعتماد الحيطة والحذر لحظة الغضب، لحظة
انفعال الدم.
وهنا تتجلى أهمية ودور الفلسفة، ف " الحكمة تنفع بشكل
رئيسي في هذه النقطة بالذات، فهي تعلم المرء بان يصبح سيد انفعالاته، وبان يتحكم
فيها بمهارة فائقة تجعل المساوئ والشرور التي تتسبب فيها محتملة جدا، بل أن المرء
سيخلق من هذه الشرور كلها الفرح ".
إن علاج الانفعالات استأثر بالاهتمام أيضا سبينوزا، حيث خصص
القضايا العشرين من القسم الخامس من مؤلفه "الأخلاق" لموضوع العلاج.
سيتطور مفهوم العلاج لاحقا مع كانط بإدخاله مفهوم الحمية في
علاج الجسد بالروح، هذه الروح التي ستستاثرهي الأخرى هيجل في مقاربته العلاجية
لتاريخ الفلسفة. وحتى هوسرل في تصوره الفينومينولوجي سيتناول الفلسفة كعلاج
لازمة العلوم الأوروبية.
وإذا كانت كل هذه الشواهد تدلل على كون مفهوم العلاج ليس
غريبا عن الفلسفة، حيث هذه الأخيرة تعاملت معه بطرق شتى، فان المعاني التي
وقفنا عندها في تداول مفهوم العلاج تبقى محكومة بالطابع النظري، فهي، بمصادرتها
على أن الفلسفة فن طبي، تنطلق من العقل كمفهوم مركزي في اقتراح كل أنواع العلاج.
بل أن هذا العلاج يبقى حكرا على النفس أو على انفعالاتها. هذا في الوقت الذي
يبقى فيه الجسد في مرضه وصحته مرهونا للممارسة الطبية البيولوجية. فهل يعني هذا أن
الفلسفة لم تستطع تأسيس علاج لهذه الأمراض؟
نجيب عن هذا السؤال بالنفي، فالفلسفة تناولت العلاج
المتعلق بما هو فيزيولوجي، بالجسد، بل تم توسيع هذه المقاربة الفيزيولوجية لشمل
الحضارة في مختلف مكوناتها. هذه المقاربة هي التي تجسدها تجربة نتشه مع المرض وضد
المرض. فما ما هو التحول الذي سيحدثه نيتشه في الوظيفة العلاجية للفلسفة ؟ هذا
ما سنقاربه في هذه الفقرة.
4- العلاج
الديونزوسي :
يلاحظ من خلال قراءة متأنية للمتن النتشوي، تكرار مفهوم
"علاج " في عدة مواقع من مؤلفات نتشه. وإذا ما كانت كثرة توارد هذه
المواقع تشهد على أهمية المفهوم بالنسبة لفلسفته، فإن الدراسات التي تهتم
بهذه الفلسفة لم تعر المفهوم حقه من التحليل والدراسة، رغم أن قلة منها اهتمت
بلوازم العلاج كالصحة والمرض.
يمكن أن يكون مفهوم " العلاج " خيطا ناظما لفهم
فلسفة نتشه. ولا عجب في ذلك إذا علمنا أن الفيلسوف يؤكد على لسان زرا دشت أن
لفلسفته دور علاجي : " صوتي علاج حتى بالنسبة للذين ولدوا عميانا. « Meine
stimme ist ein heilmittel noch fur blindgeborne »
ونتشه يؤكد أن " كل فلسفة … يمكن أن تكون علاجا
لصاحبها ". وبما أنه يعتبر نفسه طبيب الحضارة، فإنه يسند للفيلسوف مهمة
جديدة، مهمة العلاج. فعوض الفيلسوف التقليدي، يصبح عندنا الفيلسوف - الطبيب الذي
تتحدد مهمته في البحث عن الصحة الكبرى للفرد، الشعب والمجتمع. هذا ما
يصرح به في مقدمة "العلم المرح" بقوله : " مازلت بانتظار مجيء
فيلسوف طبيب، بالمعنى الاستثنائي لهذه العبارة، حيث ستنهض مهمته على دراسة مشكلة
الصحة الاجتماعية لشعب ما، لحقبة ما، لجنس ما، للإنسانية، وسيجرؤ يوما ـ
بطريقته ـ على إيصال أفكاري الشكية إلى أقصي حد ".ذلك أن فيلسوفا مر
بحالات صحية عديدة ولا يكف عن المرور بها ومر بقدر هائل من الفلسفات، لن يستطيع أن
يفعل أكثر من تغيير كل حالة من حالاته للشكل وللأفق الأكثر روحية. فن التحويل تلك
هي الفلسفة. ووحده الألم العظيم، هذا الألم المديد والبطيء الذي لا يكون في عجلة
من آمره حيث نؤكل مثل الحطب الغض، يكرهنا نحن الفلاسفة على النزول إلى عمقنا
الأقصى ". أما مهمة الفيلسوف الطبيب فتقتضي منه أولاً محاربة أنواع العلاجات
الفاسدة والساذجة التي اعتمدها القساوسة والكهنة كوسائل لتدجين الإنسان ثم محاربة
كل أشكال القوة الطبيعية التي تميز حيوانيته.
يعتبر نتشه أن تلك العلاجات هي التي أنتجت امرضا جديدة
وخطيرة، حيث أن الكهنة لم يعملوا سوى على جعل الإنسان اكثر مرضا واكثر حقدا تجاه
ذاته واتجاه العالم. لهذا يجب أن تتحدد مهمة الطبيب الفيلسوف في تشخيص أمراض
الإنسان، والبحت جينيالوجيا عن اصل المرض. كل ذلك بقصد محاربة السموم التي أطلقها
لعاب الكاهن في جسم الحياة بدعوى خلق القيم : الخير والشر، الحسن والقبيح. .
وإذا كان نتشه يعتبر" الإنسان حيوانا مريضا "،
وكان يجعل من مهمته الجينالوجيا كشف الوجوه المسمومة لعلاج القساوسة، فانه يعول
على الطبيب الفيلسوف في تحقيق ذلك. وحتى نقده للفلاسفة يدور في عمقه على نقد الدور
الذي يقوم به هؤلاء في إثبات أو نفي الصحة الكبرى، في علاج أو تسميم المجتمع. في
إثبات أو نكران الحياة. فنقد سقراط وأفلاطون وكانط وشوبنهاور هو نقد لهم باعتبارهم
أطباء. ولكنهم أطباء مرضى، يتسببون في نقل العدوى بين الناس. فما هي خاصية العلاج
البديل عند نتشه؟
إن نتشه يزاوج في تقويمه لكل مكونات الحضارة بين السلب
والإيجاب، فله الخبرة والدربة في "النظر إلى المفاهيم والقيم الصحية من زاوية
المريض، ثم عكس العملية بالإطلال من منطق الوعي الذاتي للحياة الثرية على هاوية
العمل السري لغرائز الانحطاط "، بل انه يتحدث عن العلاج انطلاقا من الواقع،
من تجاربه الشخصية مع المرض، يقول : " بقطع النظر عن كوني متدهورا، أنا
أيضا نقيض المنحط. لقد اثبت ذلك بكوني أتوصل غريزيا إلى اختيار العلاج المناسب
دوما في مواجهة حالاتي الصحية السيئة، بينما لا يلجأ المنحط دوما إلا إلى الوسائل
المهلكة ".
العلاج عنده هو الوفرة في القوة، الفرح، الجمال، ضدا على
التشاؤمية والمعقولية والمثالية. لكن وخلافا للفهم الشائع حول الديونوزسية،
لا يرى نتشه في هذه الأخيرة مجرد إطلاق جنوني للغرائز، مجرد انتشاء
مدمر، ولكن يعتبرها علاجا ملائما للعصر. هذا العصر الذي تهاوت فيه كل أشكال
المتعالي. وإذا كانت الذيونوزسية الخالصة هي الانتشاء، الهيجان، إطلاق العنان لكل
الغرائز الأساسية، لكل الغرائز الباطنية، لكل ما يأتي من الأعماق ومن اللاوعي فان
نتشه يعطي للمفهوم بعدا آخر يمكن أن نسميه بالديونوزسية المندمجة.
وإذا كانت الابولونية ترمز إلى الوضوح، إلى النظام والى
الشكل المكتمل، فان الديونوزسية، بانتسابها إلى كل ما هو مظلم، إلى كل ما هو
باطني، تتصف باللاشكل، بالفوضى وبالإفراط.
في هذا السياق تتدخل الفلسفة العلاجية ــ عند نتشه ــ، حيث
تسعى إلى التحكم في التخمة، في الإفراط. وإذا قبلنا أن هذه الفلسفة العلاجية هي فن
للحياة وليست مجرد معرفة نظرية، فان العلاج سيكون هو نوع من التحرير لهذه
للغرائز. فالدينوزسية كعلاج تعني انه بإمكان الإنسان اليوم، الذي يعاني من مرض
وضعف الإرادة ، الذي ابتليت به حضارتنا، الوصول إلى نوع من التوازنات داخل الإفراط
والتخمة. فالطريقة الديونزسية ليست طريقا تأملية، كما الشأن للفلسفات المجردة، ولا
طريقا وسطية، كما الأمر للاعتدال البوذي، ولكنه علاج عملي عنيف، يقتضي الانخراط
الكلي في لعبة الحياة وليس الانسحاب منها. الديونزسية المندمجة كعلاج تسعى إلى خلق
نوع من الاتحاد الأخوي بين ديونيزوس وابولون، لان الفكرة الأساسية لنتشه ليست هي
العودة للفوضى. للهيجان و لإطلاق العنان لكل الغرائز الأساسية، لكل الغرائز
الباطنية، وإنما هو خلق صيغة تركيبية بين الشكل وضد الشكل.
وهكذا، فان السمة الأساسية لهذه الصيغة هي رفض قمع الغرائز.
إنها نوع من إرادة الحفاظ على هذا التنوع الداخلي. فلا يصح أن نرفض هذا التنوع أو
نقمعه أو نكبته، لكن أن نعطي له قاعدة وشكلا.
الهدف من هذا العلاج هو إدماج كل ما هو متناقض ومتباين، أي
دمج الكل دون تفجير وحدته، فالوحدة الأصيلة هي خلق إمكانية بقاء التنوع خلافا لصيغة
اللاشكل التي تحل هذه الوحدة.
التحكم في الذات داخل الإفراط هي الصيغة التركيبية لهذا
التنوع. وهذه الصيغة التوليفة هي مضمون" الفلسفة باعتبارها علاجا ".
والتي يعارض بها نتشه كل صيغة قسرية كما هي معتمدة في الابولونية المفرطة. فان
يرغم المرء على مقاومة غرائزه، تلك هي صيغة الانحطاط.
فنتشه يؤكد على ضرورة التحكم في الدوافع الغريزية في إطار
حفظ توازن داخلي بين الغرائز. فلكي يكون الإنسان حرا، يجب أحيانا أن يصارع ذاته،
وبمعنى أدق أن يصارع فوضى الغرائز داخله. فالجسد المريض هو الذي تطبعه فوضى
الغرائز.. وليست الصحة سوى ذلك التوازن داخل الجسد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق