الاثنين، 1 أغسطس 2016

ما العقلانية، أيّ عقلانيّة (6)؟ من "العقل السليم" إلى العقلانية./ طارق عزيزة




 


ما العقلانية، أي عقلانية؟ (6)

من العقل السليم إلى العقلانيّة

 

الأربعاء 2 شباط (فبراير) 2011




 

إنّ نقد الفكر الديني وإن كان ضرورةً في مجتمعات ما زال الدين يحتلّ جانباً هامّاً من وعيها، فإنّه من الأجدى أن يقترن بتقديم البدائل الفلسفيّة والأخلاقيّة عوضاً عن اجترار نصوصٍ مهترئة بدعوى نقدها وإعادة قراءتها.
في هذا السياق لا بدّ من الإشارة إلى العلاقة الجدلية بين العقلانيّة والعلمانية. ذلك أنّ التناقض بين العلمانيّة والرؤية الدّينيّة للإنسان والعالم ما هو في حقيقته إلاّ تجسيد للعقلانيّة التي ترفض المسلّمات والمسبقات.
خوض غمار الحديث عن (العقلانيّة) مهمّة لا تخلو من مشقّة، نظراً لما ينطوي عليه المصطلح من إشكالات نظريّة على مختلف مستويات البحث التي تناولته فكريّا وفلسفيّا وسياسيّا، سواء في الكتابات المترجمة لكبار الفلاسفة الأوروبيين قديمهم وحديثهم، أو في الكتابات العربيّة، التراثيّة منها التي بحثت في (العقل) أو تلك الحديثة والمعاصرة التي نهلت من إرث التنوير الأوروبي وتأثّرت به وأخذت تتدارس المفاهيم العقلانيّة. وصولاً إلى مختلف المشغولين بنشر ثقافة التنوير في سماء الفكر العربي في وقتنا الراهن، كلٌّ حسب طريقته وكيفيّة فهمه لثقافة التنوير والعقلانيّة.

لعلّ في التقديم الملفت الذي كتبته الدكتورة رجاء بن سلامة في دعوتها إلى "التّفكير في شعار العقلانيّة" سؤالا هامّا يؤكّد الإشكاليّة التي تكتنف الموضوع ويلخّصها : أي عقلانيّة نريد؟
ولأنّ (العقل) هو الجذر اللغوي الذي تُشتقّ منه لغويّاً وتبنى عليه فلسفيّاً ومعرفيّاً (العقلانيّة)، كان لا بدّ في مستهلّ المقال من الوقوف عند مسألة نجدها غاية في الأهمّية، أشار لها عدد من الدارسين والباحثين في الغرب وفي عالمنا العربي، ونعني بها ما شاعت تسميتها بـ (أزمة العقل). لكنّ وقوفنا عند هذه النقطة مبعثه توضيح ما نرى أنّه اختلاف جوهريّ بين معطيات وموضوع (أزمة العقل) في بلدان الغرب المتقدّمة في أوروبّا والولايات المتّحدة، وبين تجلّيات تلك الأزمة وما تعنيه في المجتمعات المتخلّفة التي تحتلّ معظم مجتمعاتنا العربية والإسلامية مراكز الصدارة فيها.

ذلك أنّها الأزمة كما يتمّ بحثها في الغرب "أزمة ما بعد العقل"، بعد كل ما أنجزه العقل هناك، خصوصاً مع عصر الفضاء والإنسان الآلي وسيطرة الأتمتة والتكنولوجيّة الحديثة في مختلف الميادين حيث غدت "الآلات المعقّدة في كلّ مكان وقد حلّت محلّ البشر"، وتجاوز العلماء معظم ما كان يعتقد حتى أمسٍ قريب أنها حدود المعرفة البشريّة والعقل البشريّ، من خلال ابتكار العقول الإلكترونيّة التي تفوق مئات المرّات إمكانات البشر في الاختزان والاستعادة والبحث، عدا عن التقدم الهائل في مجال البحوث العلميّة والتطبيقات العملية في الطب بكافة تخصّصاته وصولاً إلى الاستنساخ وعلم الجينات.

في المقابل، ما زلنا في مجتمعات التخلّف والنصوص المقدّسة نراوح في "أزمة ما قبل العقل"، حيث يحاول أنصار (العقل) ويعملون بدأب لتحقيق الاعتراف بدوره وأولويته وأهمّيته في فهم الواقع والتصدّي لبحث مشكلاته وإيجاد الحلول الواقعية لها، في مواجهة ركام القداسات النصّية والغيبيّة دون أن نستثني "الأيديولوجيّات الحديثة" المختلفة/المتخلّفة، التي تريد من خلال أوهام بديهيّاتها و"حقائقها الثابتة" أن (تخرج الزير من البير) كما يقول المثل.

وقد سجّلت الكتب والمراجع التاريخيّة والتراثيّة المعارك الفكريّة التي دارت طويلاً وانشغلت بها الفلسفة العربيّة والإسلامية لفترات طويلة من تاريخها، تجلّت بسجالات ونقاشات في مسائل العقل والحرّية والإرادة الإنسانية، وكان من أبرز روّادها تيار المعتزلة، الذين حملوا لواء العقل كأول منهج إسلامي متماسك يقوم على التفكير استناداً إلى سلطة العقل والخروج عن سلطة النصّ، مقابل "أتباع النقل" وسلطة النصّ المقدّس، المدعومة من الطغاة والداعمة لهم ـ ذلك أنّ "أبويّة النصوص هي أبويّة السلطات التي تدّعيها، وحضن النصوص هو حضن السلطات التي تتستّر وراءها" حسب تعبير الراحل نصر حامد أبو زيد ـ ثمّ لتنتهي تلك المعارك "الفلسفيّة"، والتي لم تخلُ من تكفير ومطاردة وقتل وإحراق كتب، إلى هزيمة الفكر الاعتزالي المبني على العقل بما عنى (هزيمة العقل) في التاريخ العربي الإسلامي، والتي تستمرّ إلى يومنا هذا. هزيمة العقل التي تعني بلا شكّ هزيمة الحرّية والذاتيّة، وانتصار سطوة الجماعة على الفرد، والجبر على الإرادة الحرّة.

بالعودة إلى (العقل) من المعروف أنّه كان محوراً أساسيّاً شغل الفلسفة منذ بدايتها، وتنازعته تعريفات لغويّة وفلسفيّة عدّة. وبتعدّد تلك التعريفات بات من المتعذّر وضع تعريف شامل للعقلانيّة.
والعقل لغةً : "ما يقابل الغريزة التي لا اختيار لها" وهو "ما يكون به التفكير والاستدلال وتركيب التصوّرات والتصديقات، وما به يتميّز الحسن من القبيح والخير من الشر، والحقّ من الباطل" (المعجم الوسيط).
والعقل هو "الحِجر والنّهى" (مختار الصحاح).

والعقل: "العلم بصفات الأشياء من حسنها وقبحها وكمالها ونقصانها، أو العلم بخير الخيرين وشرّ الشرّين أو التمييز بين القبح والحسن" (القاموس المحيط).
ولمّا كان معنى (العقل) الإدراك والفهم والتمييز بين الخطأ والصواب، بين الوهم والحقيقة وجميعها نسبيّة، يمكن القول إنّ (العقلانيّة) هي منهج العقل وطريقته في فهم الواقع والمحاكمة والتفكير واتخاذ الأحكام حيال ما يعترضه نظريّاً وعمليّاً. ولأنّ معطيات الواقع في تغيّر مستمرّ، فإنّ كل تصوّر للعقل وبالتالي للعقلانيّة من خلال فكرة السكون والثبات خطأ وسوء تقدير، أو بعبارة أخرى : "لا عقل".
وقد ميّز هيغل بين العقل و"العقل السليم". فالأخير عبارة عن "مجموعة الأحكام المسبقة لعصر من العصور". هو ما خرج عنه كوبرنيكوس وعارضه غاليليو وهزمه أينشتاين. ومثاله ما تقول به الأديان من أنّ "العقل السليم" يفضي إلى الإيمان بالله الخالق للكون وما يبنى على تلك الفكرة من معتقدات دينيّة، أمّا عدا ذلك فهو عندهم (لا عقل) أو مجرّد دماغ!

"العقل السليم" ينطلق من مسلّمات وبديهيّات، بينما ينطلق (العقل) من الشكّ بالبديهيات والمسلّمات ونقدها، وعليه (العقلانيّة) هي الكيفية التي يمارس فيها العقل الشك والنقد في الواقع العياني الملموس بغية الوصول إلى الحقيقة.
يهتمّ "العقل السليم" بالتبرير والدفاع عن الأوضاع القائمة، وينشغل (العقل) بالشكّ والتساؤل والهدم وإعادة البناء، ثمّ الفحص النقديّ للنتائج العمليّة، وهكذا في بحث مستمرّ عن الحقيقة بصورها المتغيّرة.

استند ديكارت الذي يعدّ مؤسس الفلسفة الحديثة، في فلسفته العقلانيّة إلى مبدأ الشكّ المنهجي، نذكر العبارة الشهيرة "أنا أشكّ إذن أنا موجود"، وليس المقصود منها الشك المطلق الذي يرفض وجود حقائق، والذي يعبّر عنه بالريبيّة واللاأدرية، وإنّما الشكّ العقليّ الهادف إلى الوصول للحقيقة عن طريق الشكّ بمختلف المسلّمات والمطلقات من خلال نقدها وتفكيرها باعتبار النقد مفتاح تقدّم المعرفة ونموّها.
 لا بدّ إذاً للمرء ليكون عقلانيّاً أن يحرّر عقله من الأفكار والأحكام المسبقة، ومن مختلف الأيديولوجيات المرجعية، وبشكل أساسيّ أن يتحرّر من "العقل السليم" الذي يعمل ضمن معطيات تلقّنَها على أنّها بديهيّات، وهي مخطّطة لتفضي إلى نتائج محدّدة مسبقاً يسهر عليها حرّاس ذلك "العقل السليم" ودعاته.
وعليه يمكن القول إنّ (العقلانية)، وبشكل أساسيّ عن طريق النقد، تنتقل بالعقل من المعرفة الأيديولوجيّة والمتعالية إلى المعرفة العلمية والعيانيّة.

لا معنى للعقلانيّة ما لم ترتبط بالواقع العملي. تجدر الإشارة في هذا السياق إلى كارل بوبر (1902 ـ 1994)، أحد أهمّ فلاسفة العلم في القرن العشرين، والذي عرض لفلسفته السياسيّة في كتابه (المجتمع المفتوح وأعداؤه). حيث يدعو إلى ما يسمّيه (اليقظة النقديّة).
 يرى بوبر أنّ "السلطات عندما تعارض المناقشة النقديّة المسبقة لبرامجها تحكم على نفسها بارتكاب الأخطاء بشكل مستمر وعندما تحظر الفحص النقديّ للنتائج العمليّة تحكم على نفسها بتفاقم الأخطاء إلى أن تعلن تلك الأخطاء عن نفسها بنفسها وأي مقاربة اجتماعيّة من هذا النوع هي مقاربات استبداديّة وغير عقلانيّة" (فؤاد خيربك، من الإبستمولوجية إلى المجتمع، منشورات وزارة الثقافة، دمشق 2002، ص233). فالاستبداد إذاً، وهو أمر غير أخلاقي، مرتبط باللاعقلانيّة، في حين ترتبط الديمقراطيّة وهي أمر أخلاقيّ بالعقلانيّة. وعند بوبر "العقلانيّة والمنطق والمنهج العلمي تشير جميعاً إلى مجتمع مفتوح وتعدّديّ. مجتمع الفرد فيه حرّ أن يوجّه النقد لحلول يقترحها الآخرون بما فيها التي تتبنّاها الحكومات" (المصدر السابق، ص336). فالخطاب العقلانيّ إذاً يقتضي دائماً إفساح المجال وبفاعليّة للآخر المختلف في ذاته.

ولا يبتعد آلان تورين عن هذا الرأي حيث يؤكّد ربط الديمقراطية باستخدام العقل. "إنّي أطلق صفة الديمقراطي على مجتمع يشرك أكبر تنوع ثقافي ممكن مع أوسع استخدام ممكن للعقل"(آلان تورين، ما الديمقراطية، ترجمة عبّود كاسوحة، منشورات وزارة الثقافة، دمشق 2000، ص235).
في الكتابات العربيّة المعاصرة يمكن رصد شكلين سائدين للنقد، أو لنقل للمنهج النقديّ، الأول سلبيّ يكتفي دوماً بالنقد دون اقتراح البدائل. أمّا الآخر فهو يتّسم بالإيجابيّة إذ لا يكتفي بالنقد وإنّما يؤسّس لمبادئ عامّة كبرى ومنهج في التفكّير، وهو يعبّر عن العقلانيّة كما نريدها.
للشكل الأوّل أمثلة عدّة، لعلّ أبرزها توهّم موجود لدى البعض باقتصار المنهج العقلانيّ على نقد الفكر الدينيّ، أو بصيغة مخفّفة لدى بعضٍ آخر ما يسمّى "الإصلاح الديني".

ساهمت في ذلك إلى حدّ كبير دراسات المستشرقين، التي فرضت طابعها على بعض المحاولات العقلانيّة في الفكر العربي الحديث والمعاصر، من خلال فهمها لتاريخ الشرق وتراثه وتحليل مشكلاته في ضوء ذلك الفهم. وهي وإن كانت بجانب منها تنطوي على تشخيص واقعيّ إلا أنّها فارقت الصواب في جوانب عدّة، لأنّ معظم المستشرقين انطلقوا من بديهيات مسبقة ترتكز على / وتنطلق من المصالح العليا للإمبراطوريّات الاستعمارية التي انتموا إليها. وهو ما أكّده دائماً المفكّر الراحل إدوارد سعيد، صاحب كتاب (الاستشراق) الدراسة النقديّة الأهمّ في هذا المجال.

إنّ نقد الفكر الديني وإن كان ضرورةً في مجتمعات لا زال الدين يحتلّ جانباً هامّاً من وعيها، إلاّ أنّ الأجدى أن يقترن بتقديم البدائل الفلسفيّة والأخلاقيّة عوضاً عن اجترار نصوصٍ مهترئة بدعوى نقدها وإعادة قراءتها.
في هذا السياق لا بد من الإشارة إلى العلاقة الجدلية بين العقلانيّة والعلمانية. ذلك أنّ التناقض بين العلمانيّة والرؤية الدّينيّة للإنسان والعالم ما هو في حقيقته إلاّ تجسيد للعقلانيّة التي ترفض المسلّمات والمسبقات. والمنهج النقديّ العقلانيّ يشكّل الضمانةً الفعليّة للحيلولة دون تحوّل العلمانيّة إلى أيديولوجيا جامدة، فيمنع بالتالي إفراغها من محتواها وتحويلها إلى دين بديل.

إنّ الأعضاء التي لا يستخدمها الإنسان تضمر مع الزمن، أو على الأقل تفقد الكثير من قدراتها. مجازاً نستطيع القول إنّ تعطيل العقل حين يمتدّ ردحاً من الزمن يقود الناس تدريجيّاً إلى إلغاء عقولهم، حيث تفقد العقول المتوقّفة عن التفكير قدرتها على العمل والتحرّر.
لذا فإنّ وجود نخبة من العقلانيّين ليس كافياً طالما بقيت الذهنيّة الغيبية الأسطوريّة مسيطرة على الأكثريّة الساحقة من الناس. لا نقول أن يكون جميع أفراد المجتمع عقلانيّين فهذا أمر صعب إن لم يكن مستحيلاً، وإنما نتحدّث عن إحلال العقليّة العلميّة محلّ العقليّة الغيبيّة كخطوة أولى على طريق العقلانيّة، دون أن ننسى أنّ هناك فارقا بين العلم وبين العقليّة العلميّة. فكم من المشايخ والدعاة مثلاً يستخدمون حقائق العلم للدلالة على عظمة الخالق؟!!
على رأي ماركس وجملته الشهيرة : لقد وجد العقل لدى الإنسان على الدوام ولكن، ليس دائماً بصيغة عقلانيّة.

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق