الجمعة، 1 يوليو 2016

اللقاء التربوي في الأونسكو، تعديل مادة الفلسفة. محمد الحجيري


اللقاء التربوي في الأونيسكو لتعزيز تعليم مادة الفلسفة
ملاحظات أولية


الساعة الحادية عشرة من صباح يوم الخميس الواقع فيه الثلاثون من شهر حزيران 2016، غصّت إحدى قاعات مركز اليونسكو في بيروت بأساتذة الفلسفة الذين توافدوا من كافة المحافظات للمشاركة في اللقاء الذي عُقد تحت عنوان "مادة الفلسفة في المناهج التربوية الجديدة" بهدف تعزيز تعليم مادة الفلسفة كما أشار المتحدثون، بدعوةٍ من رابطة أساتذة التعليم الثانوي ورعاية وزير التربية ممثّلاً بمستشاره الأستاذ خليل سيقلي.
تناوب على الكلام ستة متحدثين، تلا ذلك تلاوةٌ سريعةٌ لتوصيات بهدف التوقيع عليها من قِبَل الأساتذة مما أثار اعتراضاتٍ قوّية، مطالبةً بأن تكون التوصياتُ صادرةً عن الأساتذة أنفسِهم بعد التداول والمشاورات، لا أن تأتي بطريقةٍ معدّةٍ مسبقاً وتذييلها بتواقيعهِم.
يمكن استعراض ما تم التطرق إليه في اللقاء بشكل سريع، مع التوقف عند ما جاء في كلمة الدكتور بيار مالك، رئيس قسم الفلسفة في المركز التربوي، وفي كلمة الأستاذ جورج رزق، مقرّر لجنة الامتحانات الرسمية لمادة الفلسفة. الأول بسبب الدور المركزي الذي يتولاه في موضوع تعديل مناهج مادة الفلسفة وكتبها، والثاني بسبب تعاطيه المباشر مع موضوع الامتحانات والأسئلة ومسابقات الطلاب.
بدايةً كانت كلمةٌ مختصرة ومكثفة وواضحة للدكتور مشير عون، موضحاً فيها أهمّية الدور الذي تؤدية الفلسفة في تربية المواطن، ومشيراً الى "الرابط الوثيق بين انحطاط المجتمعات الانسانية وانعدام القدرة على التفكير وممارسة الحرية والنقد"، ورأى أن "إنسان اليوم تتنازعه تصورات شتى تأتيه من طريق الأديان والايديولوجيا والتكنولوجيا"، وبأن الدين والتشريع وضعا نفسيهما فوق المساءلة، تهرباً من النقد، وينتج عن ذلك وضع الدين والدولة "في المكان الخطأ"، بينما وحدَها الفلسفة تتواجد في المكان الصحيح. معتبراً بأن تهميش الفلسفة والتفكير العقلاني النقدي، سيجعلنا نعيش داخلَ مصحٍ عقليّ في الهواء الطلق!.
تحدثت بعد ذلك الدكتورة وفاء شعبان، أستاذة الفلسفة في كلية التربية في الجامعة اللبنانية، بكلمة مطوّلة، مما اضطرها إلى الاختصار..
تحدثت فيها عن الهجمات التي تتعرض لها الفلسفة والتُهم التي تساق ضدها، فهي تحارَب تارةً لأنها مضادة للدين، وتارةً أخرى لأنها تشكل مصدر تهديد للسلطة السياسية، بينما هي ضروريةٌ لتربية الشخص الإنساني وتحضيره للحياة.
بينما أشار الدكتور بيار مالك، رئيس قسم الفلسفة في المركز التربوي، إلى الاستهدافات التي طاولت مادة الفلسفة منذ التعديلات التي حصلت في أواخر التسعينيات من القرن الماضي، ومحاولة الاستعاضة عنها بمادة الحضارات. موجّها نقده للكتاب المدرسي، وإلى تعدد الكتب المعتمَدة في تعليم المادة، وإلى تخلف تعليم المادة في لبنان عن ركب تطور تعليمها في دول العالم، مقدماً مثالاً على ذلك بدرس الذاكرة، بالقول: ماذا يهم الطالب وماذا يفيده من خلال الحديث عن حفظ الذكريات في الدماغ أم خارج الدماغ؟ ويدعو إلى إدراج مفاهيم لها علاقة بالحياة اليومية للطلاب.
من المهم التوقف عند ما جاء في كلمة الدكتور مالك، لأنه من أول المعنيين بمتابعة أي تعديل سيطرأ على محتويات المادة أو الكتب، أو طرائق التعليم..
أولاً، نتفق مع الدكتور مالك على توصيفه للكتاب المدرسي، وبخاصة كتب الصف الثالث ثانوي، مما جعل هذا الكتاب خارج التداول، ويلجأ أساتذة المادة بدلاً منه إلى صياغة دروسهم بأنفسهم اعتماداً على مراجع متعددة، أو باعتماد دروسٍ وضعها زملاءُ آخرون، مع الإشارة بأن هذه الكتب التي ينتقدها الدكتور بيار مالك، رئيس قسم الفلسفة في المركز التربوي، والتي هي سيئة باتفاق الجميع، هي من صناعة المركز نفسه. والسؤال: ما هي المعايير التي يلجأ إليها المركز خلال تكليفه لجان التأليف؟ ولماذا تصرف الأموال الطائلة لتأليف كتب، يأتي اليوم مسؤول في المركز التربوي ليخبرَنا بأنها سيئة.. ونحن نعرف أنها كذلك.
أما الحديث عن تخلف لبنان عن ركب تطوير المناهج، أو تعديل محتويات المادة، وهو يعطي مثالاً عن درس الذاكرة وعن جدواه، فهو كلام يقبل الكثير من النقاش، وإن كنت من حيث المبدأ أؤيد إدراج الموضوعات التي تهم الطالب في حياته اليومية أكثر، وتجذبه للمشاركة والتفكير والمناقشة في إشكاليات نعيشها جميعاً، ومنها مثلاً ما يتعلق بالفلسفة السياسية، كإشكالية المواطَنة والنظام الديموقراطي: إشكالياته والبدائل المقبولة أو المرفوضة، وعن الصيغ الأمثل لمشاركة المواطن، كفرد، في القرار السياسي. وعن أشكال تفريغ هذه المشاركة من مضامينها الحقيقية.
أو أن تدرج ضمن المناهج موضوعات للمقارنة بين "الحقائق" العلمية والدينية. لماذا يقبل الجميع بالأولى، بينما هم يختلفون في الثانية؟ وما هي الأدوات التي يجب أن نستخدمها للحكم على هذه الموضوعات؟

أو عن مفهوم الأنوار الذي دشنه كانط في نهاية القرن الثامن عشر، حين يوصفه بأنه بلوغ العقل مرحلة البلوغ، واستغناؤه عن كل أشكال الوصاية. أين نحن مثلاً من الأنوار؟ وما هي أشكال الوصاية التي ما زالت عقولُنا تخضع لها؟ وهل يجب أن نسعى لتجاوز تلك الوصاية، وكيف؟ (هل من دور للفلسفة في ذلك مثلاً؟).
 هي مجرد أمثلة للقول بأن موضوعات الفلسفة يمكن أن تكون مادةً للتداول بين الأساتذة والاختصاصيين لاختيار أجداها وأكثرها إثارةً لاهتمام الطالب ولتربية التفكير النقدي العقلاني عند الأجيال الصاعدة.
لكن السؤال الذي أود التوقف عنده، هل يمكن القول بأن درساً كدرس الذاكرة يخلو تماماً من أيّ هدفٍ تربويّ؟ وهل إن درساً كدرس الإدراك الحسي أو درس الميول هما أكثر جدوىً منه؟
باختصار، يتضمن درس الذاكرة ثلاث إشكاليات أساسية: الإشكالية الأولى تتعلق بطبيعة الذكريات، أهي آثار مادية يتركها الإدراك الحسي في الدماغ، أم هي من طبيعة روحية مفارقة؟
والإشكالية الثانية هي أمانة الذكريات. فهل نحن نستعيد الوعي بأحداث الماضي كما حصلت، أم أننا نعيد في كل مرة إعادة بناء هذا الوعي من جديد، بما في ذلك من حذف، لكن أيضاً بما في ذلك من إضافة وأوهام وتخيلات نظن مع الوقت أنها قد حصلت فعلاً؟
والإشكالية الثالثة تتعلق بالعوامل المساعدة على التذكّر.
ويتعرّف الطالب من خلال نقاش هذه الإشكاليات على طريقة التفكير فيها ومعالجتها لدى بعض المدارس الفلسفيّة، مثل المدرسة المادية التجريبة، والاتجاه الروحاني من خلال برغسون، ثم الاتجاه الظاهراتي ممثلاً بـ هوسّرل وموريس ميرلوبونتي.
هل يعتقد الدكتور مالك بأن التعرف على هذه المدارس الفلسفية لا طائل منه؟
أما من الناحية التربوية، والتي تنطوي عليها كل دروس الفلسفة، فأظن بأن الحيرة التي نقع فيها عند اطلاعنا على آراء متعددة حول إشكالية واحدة هي هدفٌ بحد ذاتها. هذه الحيرة التي تعلّمنا أن هناك دائماً أكثر من وجهة نظر. وأن هناك دوماً إمكانية للتفكير بطريقة مختلفة ومبرّرة.
يتحدث برغسون عن طبيعة روحية للذكريات مفارقة للمادة، ولا يمكن أن تحفظ في الدماغ المادي، الذي ما هو إلا أداة للتحكم وتنظيم حضور تلك الذكريات الروحية. وهذه الذكريات الروحية لا تفنى وتبقى بعد فناء الجسد، لكن بفناء الدماغ نفقد الأداة التي كانت تتحكم في حضور الذكريات.. لكنها (أي الذكريات) ما زالت موجودة..
قد يبدو هذا الرأي غير معقول. إضافة إلى أنه يطرح مسألة الثنائية بين المادة والفكر، وكيف يستطيع الدماغ المادي أن يتحكم في افكار روحية لا توجد في مكان، ولا تفنى بفناء المادة.
لكن إذا كان كلام برغسون مستغرباً، ألا نجدنا نقبل بمثلها بشكل بديهي وكأنه من الحقائق؟ أليس القول ببقاء الروح المفارقة بعد فناء الجسد يشبه تماماً ما يقوله برغسون؟
ألا يمكن، بل يجب، أن تؤدي هذه المنهجية إلى خلخلة الكثير من الوثوقيات ودفعنا إلى التفكير من جديد، والانتباه بأن هناك أكثر من طريقة للاعتقاد والفهم والتفسير؟؟
ألا يمكن أن تساهم هذه المنهجية في إعادة خلقنا من جديد؟ بذهنية جديدة؟ وطرائق جديدة في مساءلة أنفسنا ومساءلة هذا الكون.
مع التذكير طبعاً بأني لست من المدافعين عن إبقاء هذا الدرس أو ذاك في المقرّر الدراسي، وبأن ذلك يجب أن يكون مادة للحوار للاتفاق على الموضوعات الأنسب من زوايا مختلفة، وعلى أن تكون هذه الموضوعات متناسبةً أيضاً مع إمكانية إنجازها خلال العام الدراسي..
أخيراً، يمكن التوقف قليلاً عند مداخلة الأستاذ جورج رزق، الآتي من تجربته في التعليم وفي وضع الأسئلة وفي تصحيح مسابقات الطلاب..
يتحدث الأستاذ رزق عن مشكلة حقيقية وموضوع يحتاج إلى نقاشٍ وإلى تعديل. إنه موضوع التقويم. فإذا كان الدور الأساسي لتعليم الفلسفة يجب أن يكون تنمية التفكير النقدي والعقلاني عند الطالب، فإن طريقة وضع الأسئلة ونيل العلامة تعتمد أساساً على ما حفظه الطالب اعتماداً على الذاكرة بشكلٍ أساس.
وهو يقترح اعتماد نظامٍ متنوّعٍ للتقويم يكون نظام التقويم الحالي جزءاً منه. ويقترح "العمل الجدي على وضع نظام تقييمي جديد يأخذ بعين الاعتبار الإمكانيات الفكرية لكل متعلم، فالتلميذ الذي يمتلك قدرة على الحفظ فلا بأس من اعطائه الفرصة للنجاح، والتلميذ القادر على التحليل والتركيب فلا يجوز إهمال إمكانياته وهو الأقرب إلى مفهوم الفلسفة وأهدافها، والتلميذ الذي يمتلك القدرة على كشف الأساسات والمسلمات التي بنيت عليها مواقف مجددة لا بد أن نترك له المجال للتعبير عن مهارته والتلميذ القادر على تبني مواقف من قضية فلسفية والدفاع عنها بالحجة والبرهان وتوضيحها بالأمثلة فلا يجوز أن لا نفسح له المجال لاستثمار قدراته".
لقد تم الإعلان عن ورشة عمل حول المنهاج المدرسي تقام في الثامن عشر والتاسع عشر والعشرين من الشهر الحالي للتداول في الموضوع. وهذا جيد، شرط ألا يكون فولكلورياً، وأن يؤخذ رأيُ الأساتذة في التعديلات المزمعة، وتكليف ورشة لإنجاز العمل يتم اختيار أعضائها بناءً على مقاييسَ موضوعيةٍ وليس بناءً على اعتبارات التنفيع والمحسوبيات.
ما غاب عن النقاش، هو دور مؤسسة أديان التي تعمل منذ أشهر بالتعاون مع المركز التربوي لصياغة تعديلات مادتيّ الفلسفة والتربية الوطنية، وإن كانت أصوات بعض الأساتذة قد ارتفعت استفساراً هو أقرب إلى الاستياء والتحفظ عن دور تلك المؤسسة.
وكانت أصواتٌ قد شككت سابقاً في دورها، متخوّفة من فلسفة هذه المؤسسة التي تدعو إلى " تعديل مواد الفلسفة والتربية وعلم الاجتماع تحديداً، وبهدف ادخال مفهوم «المواطنة الحاضنة للتنوع الديني». وهنا، يحق لنا التساؤل عن هذه المسألة وعن الالتباسات بالمفاهيم: ان ادخال مفهوم المواطنة في المناهج شيء مهم جداً. انما ادخالها من باب التنوّع الديني مثير للريبة وكأنه حق يراد به باطل. أليس منطقياً أكثر ادخالها من باب المواطنة في دولة؟" كما رأت الزميلة سامية معكرون في مقالةٍ لها في نفس اليوم.

محمد الحجيري
1/7/2016

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق