يوليو 2016بقلم سمير جواق
http://www.mominoun.com/articles/دلتاي-وصياغة-التأويلية-كأساس-منهجي-للعلوم-الإنسانية-4083
دلتاي وصياغة التأويليّة كأساس منهجي للعلوم الإنسانيّة
الملخص:
يهدف هذا المقال إلى مُحاولة الكشف عن مُساهمة «فلهيلم دلتاي » في صياغة التأويلية كأساس منهاجي
تقوم عليه العلوم الإنسانية، هذا بعد أن أجمع النُّظار في العلوم الإنسانية، إبّان القرن التَّاسع عشر، على
أنّ العلوم الإنسانية هي علوم فهم، وإذ كانت التَّأويلات في عرفهم- صناعة تضبط للفهم قواعده، وتُرسي
للتأويل دعائمه، فإنَّها تشكل أساساً منهجياً لكلّ العلوم الإنسانية. لقد رسَخ هذا الاعتقاد عند منظِّري العلوم
الإنسانية لما استبدّ بهم من استغواء واستهواء للنموذج الطَّبيعي، فإذا كان التَّفسير طريق الطَّبيعيات إلى
المعرفة، فإنّ الفهم سبيل الإنسانيات، ولن يَحْسُنَ أمر الفهم هنا إلا بما حَسُنَ به أمر التَّفسير هناك، أي بإقامة
منهجية صارمة تضبط قواعد الفهم وتُضفي على العلوم الإنسانية صفة العلمية.
*فلهلم دلتاي- ( 1911-1833) كان فيلسوف وطبيب نفساني ألماني, يعتبر الممثل الرئيسي للفلسفة بوست-هيغلية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وأوائل القرن 20.
يعتبر من الفلاسفة الأكثر نفوذا في فلسفة الحياة. وقد ارتبط ارتباطا وثيقا بالحركة التاريخية أو بفلسفة التاريخ، التي اعتبرها فلسفة للفهم.التي هي أداة للكشف عن الحياة في الحياة. تفكير دلتاي يرتكز أساسيا على ما يلي: - قبوله للنظرية القائلة بأن الفلسفة تنشأ من مشكلة الحياة اليومية.- قبوله بأن الفلسفة يجب أن ترتبط ارتباطا وثيقا بمعرفة الحياة. (عن ويكيبيديا)
على سبيل المفتتح:
تُعَدُ مُشكلة المنهج في العلوم الإنسانية من المشكلات العويصة التي واجهت الكثير من الفلاسفة
والمتخصصين في مناهج العلوم، وقد ظهرت هذه المشكلة، مع بدايات القرن التاسع عشر، حينما بدأت العلوم
الإنسانية )علم النفس، علم الاجتماع...( في الانفصال عن الفلسفة علماً بَعدَ عِلْم، وازداد سعيرها لهيباً، حينما
حاول باحثوها إخضاعها لمناهج العلوم الطبيعية، تزامناً مع ما حققته هذه الأخيرة في تقديمها لنموذج باهر
للعلميّة، سواء من حيث دقةُ مناهجها أو نجاعة نتائجها، كما أنّ العلوم الطبيعية في ذلك الوقت كانت بمثابة
كيان فكري مُتكامل له وعيه الخاصّ وثقته بالذَّات، وعلى النَّقيض كانت العلوم الإنسانية، وما تزال، أقلّ من
المستوى الذي كانت عليه العلوم الطبيعية، ممّا دَفع بعض العلماء إلى محاولة إخراج هذه العلوم )الإنسانية(
من دائرة تخلُّفها، ولن يكون ذلك مُمكناً إلا بتطبيق مناهج العلوم الطبيعية على الظواهر الإنسانية.
ارتبط طموح الوصول إلى العلمية في العلوم الإنسانية بسعي الاتجاه الوضعي ) «أوغست كونت ،»
«جون ستيوارت مل »(، إلى مَوْضعة [وضعنة] الظَّاهرة الإنسانية، وتطبيق مناهج العلوم الطبيعية عليها، فقد تَمَّ
استلهام منهج التَّفسير من العلوم الطبيعية، واعتماده نموذجاً للتطبيق في مجال الظَّاهرة الإنسانية، سعياً
لتفسيرها تفسيراً موضوعياً، من خلال استبعاد العوامل الذاتية والتركيز فقط على العوامل الموضوعية،
غير أنّه، ونظراً لخصوصية الظاهرة الإنسانية وتَعقّدها، فقد واجه منهج التفسير عدّة عوائق في محاولته
لدراستها والإحاطة بها، وحينما اتضح ذلك، كان لا بُدَّ من وجود منهج جديد، منهج يلائم طبيعة الظَّاهرة
الإنسانية، وكانت من بين تلك المحاولات، التي أرادت تقديم منهج ملائِّم للعلوم الإنسانية، تلك البادرة الدقيقة
من الفيلسوف الألماني «فلهيلم دلتاي »، المتمثلة في صياغة التأويلية كأساس منهجي للظاهرة الإنسانية
)الحياة(، في مقابل المعرفة التجريبية التي تُميّز العلوم الطبيعية، فالفكر يتَّخذ في كلٍّ من هاتين الطائفتين
من العلوم موقفاً مختلفاً ومنهجاً مغايراً، فالعلوم الطبيعية تعالج وقائع مادّية محسوسة، بينما تعالج العلوم
الإنسانية معانيَ باطنية لا يمكن ملاحظتها إلا بالمعايشة الدَّاخلية. إلا أنّ اختلاف موضوع العلوم الطبيعية
عن موضوع العلوم الإنسانية طرح العديد من الإشكاليات المحورية في مجال العلوم الإنسانية، منها ما تعلَّق
بإشكال مَوْضَعَتِها، وإشكال المنهج المعتمد في دراستها من جهة، وكذلك لم يكن هناك منهج مُوحَّد يحكم
ظواهر العلوم الإنسانية من جهة أخرى، وإذ قُدِّر للفيلسوف أن يقوم بدراسة هذه العلوم، فعليه أن يُوضِّح أوّلاً
ماهيتها وهل مناهج ومبادئ العلوم الإنسانية تعكس مبادئ العلوم الطبيعية نفسها، أم أنّها مختلفة عنها؟ وهل
هذه المناهج متشابهة في شتَّى فروع العلوم الإنسانية؟ وهل يتعلَّق الأمر فعلاً بقضية منهج؟
ونظراً لذلك، تَبْتَغي هذه الدراسة محاولة الإجابة عن نص الأسئلة التالية: ما السَّبيل في دراسة الظَّاهرة
الإنسانية؟ هل يتمثل هذا السبيل في تفسيرها أم في فهمها؟ هل هو منهج التفسير أم منهج الفهم؟ وهل يُمكن
اتخاذ منهج التفسير السائد في العلوم الطبيعية نموذجاً للاستلهام والتطبيق في مجال العلوم الإنسانية؟ أم يجب
ابتكار مناهج تُلائم طبيعة الظواهر الإنسانية؟ هل يمكن فعلاً عزل الموضوع عن الذات في مجال العلوم
الإنسانية توخياً لموضوعية زائفة؟ هل في مكنة الذات استبعاد الأحكام المسبقة والتراث بخصوص موضوع
الإنسان، وهو الكائن التاريخي؟ هل يُمكن تحقيق العلمية في إقامة هوّة فاصلة بيننا وبين التراث؟
يُعدُّ فلهلم دلتاي Dilthey Whelheilm1 صاحب محاولة توسيع مجال التَّأويلية إلى أبعاد الأورغانون
لعلوم الروح، إذ كان يعتقد أنّه لا بدّ للعلوم الإنسانية أو علوم الروح من بناء صرح منهجي يقوم على
الموضوعية أو العلمية، فقد كان شغله الشاغل إعادة الاعتبار للعلوم الإنسانية، وذلك من خلال ردّها إلى
أساسها الهيرمينوطيقي، وبذلك أضحت الهيرمينوطيقا منهجاً للعلوم الإنسانية 2.
إنّ محاولة “دلتاي” لتوفير أساس منهجي للعلوم الإنسانية تسعى إلى استخلاص النتائج المعرفية
ممّا قرره “رانكه Ranke ” و”درويزن Droysen “، ومن ثمّ محاولة تجاوز ضعف المدرسة التاريخية
l’école historique الذي يتمثل في افتقار فكرها إلى التَّماسك المنطقي، وهكذا ألقى على عاتقه مهمة بناء
أساس معرفي جديد وأكثر حيوية يجمع بين التجربة التاريخية والإرث المثالي للمدرسة التاريخية، وهذا هو
فحوى قصده من وراء استكمال كتاب “كانط” “نقد العقل المحض” ب “نقد العقل التاريخي” critique«
3»la raison historique ، ذلك أنّ مفكري المدرسة التاريخية وأمام الزحف الهائل والمُظفر للعلوم
الطبيعية، قد انهمّوا كثيراً بمسألة التَّدليل على علمية المعرفة التاريخية، ولم يكن هذا في متناولهم إلا
برفع عقبتين؛ الأولى: هي الأبنية الميتافيزيقية التي أقامها “هيغل”، والثانية: تكمن في النزعة العلموية
Scientisme ، التي رامت تنقيل طرائق العلوم الطبيعية والإفادة منها في مجال الاستقصاء التاريخي،
وأهمّ ثمرة أينعها ذلك الاكتراث بإثبات الخصوصية والفرادة la spécifité هو الميز المنهاجي الذي أقامه
“درويزن”، بين “التفسير” المعتمد منهجياً داخل العلوم الطبيعية، وبين “الفهم” وهو لفظ راسخ في
1 دلتاي ) 1833 - 1911 ( فيلسوف ألماني معاصر، يمثل ما يُسمّى تيار فلسفة الحياة، ففي مؤلفه "مقدمة لدراسة علوم الروح" Introduction à
l’étude de science d’esprit يبحث دلتاي عن الاستقلالية المنهجية للعلوم الإنسانية Autonomise les sciences humaines وهذا ما دفعه
إلى إجراء مقارنة بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية. ولكي نفهم علوم الروح يجب الغوص بداخلها، وهنا تأخذ التجربة النفسية كلّ مصداقيتها، بل
يصير علم النفس العلم القاعدي الأول لأي معرفة تتعلق بالإنسان.
- Albin Michel: Dictionnaire des philosophes, encyclopaedia universalis, Paris, 1998, PP 471 472.
-2 عبد الغاني بارة: الهيرمينوطيقا والفلسفة - نحو مشروع عقلي تأويلي، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، الطبعة الأولى 2008 ، ص 186
-3 غادامير: الحقيقة والمنهج، ترجمة حسن ناظم وعلي حاكم صالح، دار أويا، طرابلس، الطبعة الأولى، 2007 ، ص 3
الموروث الألماني - المتوسل طريقه في التاريخيات 4*، وترتيباً على ذلك فإنّ التَّأويلية سوف تدخل موالج
الميتودولوجيا وتعرّج على مسالكها 5.
وعلى ذلك، فإنّ الشرف الأول في إقامة الحلف بين التَّأويلية والتاريخ يعود إلى “دلتاي”، الذي جعل
نفسه كما جهر بذلك في مُصنفه “مدخل للعلوم الإنسانية” Introduction à l’étude de science
d’esprit - المُنظِّر المنهاجي للمدرسة التاريخية، ذلك أنّ فيلسوفنا قد فطن إلى أنه، إذ حق القول أنّ بروز
“الوعي التاريخي” »la conscience historique« قد خَلَّص الإنسان من قيود الميتافيزيقا وفكَّ من
إسارها، إلا أنّه يحق القول، من الجهة ذاتها، إنّ المعرفة التاريخية قد استحالت بفعل ذلك التَّحرير محرومة
من كل أساس فلسفي تنهض عليه وتستند إليه 6، ومن ثمّ أثيرت المسألة التالية: كيف السبيل إلى النهوض
بتدليل إبستيمولوجي على موضوعية المعرفة التي تسوقها الدراسات الإنسانية في شأن الإنسان والتاريخ
والمجتمع؟
لقد جرى تمحيص هذه المسألة والبحث فيها تحت صيغة قولية نُسِجَتْ على المنوال الذي اشتهر به
“كانط” وبادر إليه، وهي “نقد العقل التاريخي”، ففي نظر “دلتاي” أنّ المعرفة التاريخية بقيت المعرفة
المُغيبَّة )الغائبة( في نسق الفلسفة الكانطية التي لم يمنحها - فيما يرى “دلتاي” - صاحب “نقد العقل المحض”
المكانة التي تستحقها، لذلك أتى “نقد العقل التاريخي” ليسُدَّ هذه الفجوة واجداً تبريره في الوعي بالغياب
الفادح للبعد التاريخي في العقل النظري والعملي ل”كانط” 7*، فكما أنّ فيلسوف النقد قد جعل الوكد من حياته
تحديد مقتضيات الموضوعية في العلوم الحقَّة، كذلك بذل “دلتاي” وسعه في مجال العالم التاريخي لتحديد
مجال علوم الإنسان، لذلك يتساءل - في نحو من التقَّابل المقصود مع تساؤل “كانط” - كيف تكون المعرفة
التاريخية ممكنة؟ وبعموم أكبر، كيف تكون العلوم الإنسانية ممكنة؟
4*- إنّ التعارض بين الطبيعانية والتاريخانية L’opposition entre Le Naturalisme et L’historicisme ، ذو أصل كانطي، هذا التعارض
عوّض تدريجياً في الفلسفة العامة )الشعبية Vulgaire (، خلال القرن التاسع عشر، تعارضات كلاسيكية أخرى تحدثت عن الروح والجسد، الفيزيقا
والأخلاق، أو الروح والمادة، بالرغم من أنّ هذه التعارضات المختلفة كانت بعيدة كل البعد عن الالتقاء، بدون شك أنّ مؤلف «دلتاي »، شارك بدرجة
كبيرة في تشييع التعارض بين الطبيعة والتاريخ، وهذا على الأقل في الأوساط الجامعية، فعلى سبيل المثال في مقدمة كتابه Introduction à
l’étude de science d’esprit ، قام بإدراج نظير التعارض بين الضرورة والحرية، وبالتأكيد إنّ «دلتاي » ورث هذه الإشكالية عن سابقيه،
وقد كان سابقاً في زمنه في مساعدة الأذهان على إدراك )فهم( هذه الثنائية، ومن الواضح أنّه في وقته وخلال السنوات اللاحقة صارت إشكالية أحد
المواضيع السائدة في الفلسفة غالباً تحت شكل تعارض مدارس أو مناهج بين الطبيعية والتاريخية.
- Julien Freund: Les théories des sciences humaines, presses universitaires de France, 1erédition, 1973, p 94.
-5 جون غروندن: أصول التأويلات وفصولها، ترجمة محمد المفيد، مجلة دراسات فلسفية، مجلة الجمعية الفلسفية المغربية، العدد 07 ، 2002 ، ص
86
-6 المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
7*- حاول «دلتاي » بعد قراءته ل «كانط » نقد المقولات الكانطية وإعطاء قائمة جديدة من المقولات أطلق عليها «مقولات الحياة ». إنّ مقولات «كانط »
في نظر «دلتاي » صالحة للعلوم الطبيعية ولكنها غير صالحة للعلوم الروحية، ولذلك نجده يقترح مقولات جديدة تتناسب و »العقل التاريخي »، وهذه
المقولات هي: مقولة الحياة، م العبارة، م التجربة، م القيمة، م الغاية، م النمو...
- خديجة زيتلي: عقم الاتجاه الوضعي في التاريخ عند كولجوود، مجلة دراسات فلسفية، مجلة سداسية يصدرها معهد الفلسفة بجامعة الجزائر، العدد 3،
السداسي 1، 1997 ، ص ص 61 -
إنّ الإجابة عن هذه المساءلة الكانطية، في هيكلها تستدعي بناء “نقد للعقل التاريخي”، إنّ الانشغال
الأكبر بالنسبة إلى “دلتاي” هو إقامة مشروع لتأسيس علوم الروح تأسيساً فلسفياً ومعرفياً، وقد كان هذا
المشروع على قدر من المجازفة والجسارة بأن تمخَّض عنه كشف جليل هو التاريخانيّة * Historicité ، بل
وأكثر من ذلك، إنّ القراءة الطقوسية التي تداول عليها الشُّراح في عرضهم لإشكالية “دلتاي” على نحو
يردُّها إلى النقيضة الحادَّة بين “الفهم” و”التفسير”، فهذا كلُّه من أجل توفير قاعدة منهجية صارمة للعلوم
الإنسانية.
إنّ المشكلة التي تصدى لها “دلتاي”، فيما يرى “صلاح قنصوة”، هي إصرار الوضعيين على تطبيق
المنهج التجريبي بصرامته في دراسة الإنسان، ف”أصحاب منحى الوقائع والمعطيات الحسِّية ينكرون
الفروق بين العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية، وعلى الباحث أن يلتزم بمزاولة المنهج، المنهج المتفق عليه
في العلوم الطبيعية، لأنّ فيه الحَلّ الحاسم لمشكلة الموضوعية -قاعدة العلم ومحوره- التي سرعان ما يختفي
شبحها كمشكلة أمام هذا المنهج وتذوب الأوهام الميتافيزيقية التي تكتنفها” 8.
ومن هنا ف”دلتاي” يثور ضدَّ الوضعيين خاصة “أوغست كونت” 1798-( Auguste Compte
1857 ( و”جون ستيوارت مل” 1806-1873( J.S. Mill (، حين أكد الاثنان على أنّ الحل الوحيد للعلوم
الإنسانية، من أجل الخروج من دائرة تخلفها، هو تطبيقها لمنهج العلوم الطبيعية نفسه، وهذا ما نلمسه من
قول “مل”: “إذا كان علينا أن نهرب من الفشل المُحتم للعلوم الاجتماعية بمقارنتها بالتَّقدم المستمر للعلوم
الطبيعية، فإنّ أملنا الوحيد يتمثَّل في تعميم المناهج التي أثبتت نجاحها في العلوم الطبيعية، بأن نجعلها مناسبة
للاستخدام في العلوم الاجتماعية” 9.
وعلى الرغم من أنّ “دلتاي” كان قد وقع تحت تأثير المناهج الطبيعية وبشكل دقيق تحت تأثير النزعة
التجريبية، خصوصاً “مل”، إلا أننا نجده يتعالى عن النزعة التجريبية ويفضل عليها “المدرسة التاريخية
الألمانية”، يقول في مصنفه “مدخل لدراسة علوم الروح”: إنّ ألمانيا وحدها بإمكانها أن تأخذ مكانة التجربة
الدوغمائية ل”جون ستيوارت مل”، لأنّ “مل” الدوغمائي تنقصه المعرفة التاريخية” 10 .
وقد كانت ثورة “دلتاي” على الوضعيين بتأكيده أنّ مادة العلوم الطبيعية مشتقة من الطبيعة، أمَّا مادة
العلوم الإنسانية فهي العلوم البشرية، ولهذا فإنّه من المحال الاتفاق في منهج الدراسة، ومن هنا نكتشف محاولة
“دلتاي” في تأسيس ايبستيمولوجيا للعلوم الإنسانية، وتأكيده على “الفهم” كمقولة تخصُّ هذه العلوم 11 .
-8 صلاح قنصوة: في فلسفة العلوم الاجتماعية، مكتبة الأنجلو مصرية، القاهرة )د ط(، 1987 ، ص 188
-9 نقلاً عن نصر حامد أبي زيد: إشكاليات القراءة وآليات التأويل، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة السابعة، ، 2005 ص 24
10- Dilthey Whelheilm: Critique la raison historique, introduction à l’étude aux science de l’esprit, tradu -
tion, Sylvie mesure, édition du çerf, Paris, 1992, P 09.
-11 نبيهة قارة: الفلسفة والتأويل، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 1998 ، ص
إنّ العلوم الإنسانية هي الفكر الكامن في نفسية الفرد، بينما موضوع العلوم الطبيعية هو العالم الفيزيائي
الذي يتركب من الأشياء، ومن ثم فإنّ الحقيقة التي يطمح إليها الباحث في العلوم الإنسانية ليست خارجة
كعنصر أجنبي وغريب إنما بداخله ومحايثة لنشاطه المعرفي، تصبح العلوم الإنسانية من هذا المنظور “مرآة”
يرى بواسطتها الباحث إمكانياته المعرفية وحدوده، فالمعرفة في العلوم الإنسانية، كما يقول “غادامير”،
لها دوماً “علاقة بمعرفة الذات، العلوم الإنسانية تربط الباحث بذاته عبر عنصر التراث كفهم جذري للذات
وتناهيها، حقيقة التراث المدروس)الحدث التاريخي، الأثر الفني أو الأدبي...( هي في الواقع حقيقة بالنسبة
إلى هذا الباحث الدارس، حقيقته كما يتمثلها وينتجها” 12 .
إنّ أهمية “دلتاي” هي التي دفعت ب “بول ريكور” لينظر إلى التَّمييز الذي أقامه “دلتاي” بين العلوم
الطبيعية والعلوم الإنسانية، على أنه أحد أهم لحظات تحول الهيرمينوطيقا، فهو يعتبر أنّ “دلتاي” يقع في
المنعطف النقدي للهيرمينوطيقا، حيث أصبحنا بعد ذلك، وعوضاً عن أن نطرح السؤال: كيف نفهم نصاً
معيناً انتمى للماضي؟ صار السؤال: كيف نتصور تسلسلاً تاريخياً؟ قبل انسجام النص يأتي انسجام التاريخ
المنظور إليه كوثيقة الإنسان الكبيرة كأهم تعبير عن الحياة” 13 .
إنّ الأساس الذي استند عليه “دلتاي”، في محاولته الرَّامية للتَّمييز بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية،
إذن، هو تمييز في الحقيقة بين “التفسير” ومجاله العلوم الطبيعية، و”الفهم” وميدانه الإنسان، وهذا الأمر
تؤكده المقولة المشهورة له: Nous expliquons la nature mais nous comprenons la vie«
»de l’âme ، “نحن نفسر الطبيعة، أما الإنسان فعلينا فهمه” 14 .
ليس بإمكاننا إذن تفسير الظاهرة الإنسانية وإنّما نحن نفسر الطبيعة ونفهم الإنسان، لذا يَكمُن الإسهام
الأساسي ل “دلتاي” في جهوده المبذولة للتأكيد على الاختلاف من حيث التعامل مع ظواهر الطبيعة في
مقابل التعاطي مع الظواهر الإنسانية، لذلك على العلوم الإنسانية أن تتبنَّى طرائق ومناهج خاصَّة بها،
وبالتالي ف “التَّأويلية” هنا تُعدّ بمثابة حجر الأساس لمنهجية العلوم الإنسانية.
إنّ التساؤل الذي سيفرض نفسه هنا سيتمحور أساساً حول إذا كانت المعرفة العلمية للأفراد مُمكنة؟ في
سبيل الإجابة عن هذا التساؤل نجد “دلتاي” يجيب بالإيجاب، فهناك إمكانية لقيام العلوم الإنسانية على أساس
علمي موضوعي، ذلك أنّ الباطن يُفصح عن ذاته في العلامات الخارجية، التي يمكن إدراكها وفهمها من
حيث هي علامات لحياة نفسية غريبة، لذلك يرى “يورغن هابرماس” أنّ “دلتاي” قد ربط “الموضوعية
-12 غادامير: فلسفة التأويل، الأصول، الأهداف، المبادئ، ترجمة محمد شوقي الزين، الدار العربية للعلوم ناشرون، الطبعة الثانية، 2006 ، ص
17
-13 بول ريكور: من النص إلى الفعل، ترجمة محمد برادة وحسين بورقية، عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، الطبعة الأولى، 2001 ،
ص 63
14- Dilthey Whelheilm: Critique la raison historique, introduction à l’étude aux sciences de l’esprit, op, cit,
p 37.
الممكنة للمعرفة الخاصة بعلوم الإنسان بشرط تزامن محتمل للمفسر مع موضوعه مقابل ما )هو بعيد مكانياً
وما هو غريب لغوياً(، يجب على هذه الموضوعية أن تنقل نفسها إلى )موقع المؤلِّف بعيداً عن زمن ومحيط
المؤوِّل(، يُحقِّق التزامن في علوم الإنسان الوظيفة ذاتها كما تحقق علوم الطبيعة قابلية إعادة التجربة، هنا
يتحقق ضمان قابلية تبادل ذات المعرفة” 15 .
من جهة أخرى يُؤكِّد “دلتاي”، في مجال العلوم الإنسانية، على تاريخية الوجود الإنساني، أي أنّ
وجوده يتألَّف من ماضٍ وحاضر ومستقبل، من هنا سارع “دلتاي” إلى إقامة فلسفة الإنسان ككائن تاريخي،
فقد أشار إلى أننا نفهم فهماً تاريخياً لأنّنا كائنات تاريخية”. 16 هكذا، فمن خلال التاريخ فقط يمكننا أن نفهم
أنفسنا، ومشكلة فهم الإنسان تتمثَّل في استرجاع الوعي بتاريخية وجوده الخاص، الذي افتقده نتيجة لسيطرة
المقولات السُّكونية واللازمانية للعلم، إنّ فهم الحياة الإنسانية لا يقوم على مقولات خارجية عن الحياة بل
على مقولات مستقاة من صميم الحياة ذاتها، نحن نختبر الحياة في لحظات فريدة وخاصَّة من المعنى، أي
من خلال خبرة مُباشرة بالحياة ككل وفهم أجزائها. 17 من ناحية أخرى، نجد “دلتاي” يقوم بإجراء الرَّبط
بين علوم الروح والتاريخ والفهم، ذلك أنّ علوم الروح تهدف إلى فهم التجربة الحياتية، وتجربة الحياة هذه
ما هي إلا خبرة زمانية تاريخية، فكما يرى “ريمون آرون” »Raymonde Aron« أنّ التجربة المعيشية
والفهم يردَّان كلّ منهما إلى الآخر، فنحن نفهم فقط ما كنا عشناه بأنفسنا وما كان يمكن أن نعيشه، ومن
جهة أخرى فإنّ الإنسان لا يعرف نفسه إلا بالفهم، بصورة غير مباشرة )بتأويل أعماله( لا بالاستبطان.
وبالرجوع إلى الوراء أو استعادة الماضي لا بالتطابق مع الحياة، وأخيراً فإنّ الإنسان يكتشف نفسه أيضاً
باكتشافه لماضي الآخرين، وذلك لأنّنا كائنات تاريخية ونحن نحمل التاريخ في داخلنا، فالفكر الموضوعي
والآخرون والحياة المشتركة بين الناس هي المحطات التي تقوم بين الفرد وبين التاريخ العالمي. 18 ولغرض
تحقيق مثل هذا الطَّرح وضع “دلتاي” مشكلة الإنسان محور النقاش من خلال الإجابة عن السؤال القائل:
كيف يتمكَّن المؤرخ من أن يُكوِّن صورة عن الماضي؟ فالإنسان كواقعة أوليّة في التاريخ والمجتمع هو
توهُّم للشرح التكويني، الإنسان الذي تأخذه العلوم التحليلية كموضوع هو الفرد كجزء مندمج في المجتمع،
والمشكل العويص الذي عالجه “علم النفس” هو المعرفة التحليلية للطبائع العامة لهذا الإنسان، بهذه الكيفية
أصبح علم النفس قاعدة لكلّ معرفة للحياة التاريخية، إنّ المؤرخ بهذه الكيفية يحيي المادة ويبعث فيها الحياة،
ولهذا فإنّ أساس المعرفة هو قاعدة سيكولوجية، “المؤرخ الذي يُحيي الماضي في ذهنه إذا أراد أن يكون
مؤرخاً حقاً- يجب أن يفهم هذا الماضي الذي يُحاول إحياءه”، لأنّ عملية الإحياء تُثير في المؤرخ ضرورة
دمج تجاربه الخاصَّة بتجارب الماضي، ومن ثمّ إعادة تشكيل الفكر الماضي في ذهن المؤرخ، وهو بذلك
-15 يورغن هابرماس: المعرفة والمصلحة، ترجمة حسين الأصقر، منشورات الجمل، كولونيا، الطبعة الأولى، 2001 ، ص ص 218 - 217
-16 غادامير: الحقيقة والمنهج، مصدر سابق، ص 326
-17 هشام معافة: التَّأويلية والفن عند هانس جورج غادامير، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، الطبعة الأولى، 2010 ، ص 59
-18 ريمون آرون: فلسفة التاريخ النقدية، بحث في النظرية الألمانية للتاريخ، ترجمة حافظ الجمالي، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، )د، ط(،
1999 ، ص ص 79 - 78
يُعتبر نوعاً من الاتصال بين التاريخ وعلم النفس” 19 . لذلك فقد كان “نقد العقل التاريخي” هو الموضوع
القريب من قلب “دلتاي” وعقله، حيث يركز فيه على نقطتين جوهريتين تُلخِّص كلّ ما سبق ذكره: كلّ ما
هو إنساني هو جزء من العملية التاريخية وينبغي فهمه فهماً تاريخياً، كما أنّ المؤرخ لا يمكنه فهم أيّ عصر
إلا بتصوُّر وجهات نظر الناس الذين عاشوا فيه.
إنّ تأكيد “دلتاي” على ضرورة فهم الحوادث التاريخية فهماً وجودياً ينطلق من الذات الواعية، جعل
“مارتن هيدغر” يعترف بدينه تجاه “دلتاي”، من حيث إنّ الأحوال التاريخية والإنسانية هي أحوال معيشة،
وبقدر ما يمكن التعبير عنها بعبارات حيَّة بقدر ما نفهم هذه “التعبيرات”. وهكذا فقد أعاد “دلتاي” لمفهوم
المعيش le vécu حيويته، وطرحه كمفهوم مركزي لقاعدة ربط العلوم، كما أنّه كان أوَّل من استعمل هذا
المفهوم ووظّفه، وهذه من الأسس التي شدّت انتباه “هوسرل” لفلسفة “دلتاي”، خاصَّة وأنّ الفينومينولوجيا
تعتمد على المعيش كأساس لفلسفتها 20 .
وزبدة القول، ممّا سبق ذكره، أنّ “التاريخ” أصبح مع “دلتاي” الحقل المعرفي المفضل لممارسة
الهيرمينوطيقا، فالتَّأويلية كما قرّر هي الوسيلة المثلى لتحقيق “الوعي التاريخي”، فبواسطتها نستطيع قراءة
التاريخ واستيعابه، إنّ التَّأويلية تُمكِّننا من الدُّخول إلى أعماق التجارب التاريخية، لتجعل فهمنا فهماً مُتجدِّداً
في كلّ عصر من خلال “التعبيرات” الباقية لنا، لكن كيف يمكن للحياة وهي تُعبِّر عن ذاتها أن تجعل من
نفسها موضوعية؟.
-2 الفهم والتعبير
كانت جهود “دلتاي” مُتَّجهة منذ البداية إلى التَّمييز بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية، لذلك كانت
مكانة “الفهم” »compréhension« و”التعبير” »Expression« مركزية دائماً بالنسبة إليه، إنّ “الفهم”،
عند “دلتاي”، هو أوَّل ما يُميِّز العلوم الإنسانية في تعارضها مع العلوم الطبيعية، وهو الفهم- ما يسمح
بفك شفرة الإشارات والتعبيرات، ف “الفهم هو الاسم الذي يُطلَقُ على العملية التي تُصبح بها الحياة العقلية
معروفة من ثنايا تعبيراتها المُعطاة للحواس” 21 .
-19 بن مزيان بن شرقي: مكانة التاريخ في الفلسفة المعاصرة، من أعمال ملتقى الأنظمة المعرفية للتاريخ في الفلسفة المعاصرة، مخبر الفلسفة جامعة
وهران، أيام 21 ، 22 ماي 2002 ، دار الغرب للنشر والتوزيع، ص 139
-20 فريدة غيوة: الرؤية الوجودية للتاريخ )مارتن هيدغر نموذجاً(، من أعمال ملتقى الأنظمة المعرفية للتاريخ في الفلسفة المعاصرة، مخبر الفلسفة
جامعة وهران، أيام 21 ، 22 ماي 2002 ، دار الغرب للنشر والتوزيع، ص ص 17 - 18
-21 صلاح قنصوة: الموضوعية في العلوم الإنسانية، عرض نقدي لمناهج البحث، دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، )د ط(، 2007 ، ص
177
إنّ “التعبير” يحتل مكانة هامّة عند “دلتاي”، فهو في نظره الأساس الذي تبنى عليه معرفتنا لذاتنا،
ذلك أنّ ما يُميِّز العلوم الإنسانية هو المسيرة الثنائية من الحسي إلى النفسي، فنحن نعيد الحياة إلى موضع
تتلقاه حواسنا لنؤول دلالته، ومن ناحية أخرى، إنّ “التعبير” هو الواسطة التي عن طريقها نعرف العقول
الأخرى، ولا يمكن ذلك إلا من خلال التعبيرات التي يمكن فهمها وإدراكها، “إنّنا نعي بصورة أساسية الحياة
الداخلية للآخرين عن طريق تأثير إشاراتهم وأصواتهم وأفعالهم على حواسنا”، ف “ما هو معطى باستمرار
تعبيرات الحياة، ولأنّها تظهر في عالم الحواس فإنّها تكون باستمرار تعبيرات عن عقل تُساعدنا على
فهمه”، ولفهم هذه التعبيرات يرى “دلتاي” أنّ ذلك يعتمد على حقيقة وجود مجال يُسمِّيه “الروح )العقل(
الموضوعي 22»L’esprit objectif« .
وأغلب الظَّن أنّ مصطلح “الرُّوح الموضوعي” قد استمده “دلتاي” من “هيغل”، إلا أنّ “دلتاي”
كان حريصاً على إلباسه ثوباً تجريبياً، يتميَّز من خلاله عن استخدام “هيغل” له، ولا أدلّ على ذلك من
رفض “دلتاي” للبناء المجرد لهذا المفهوم، ف “الرُّوح الموضوعي لم يعد لحظة من لحظات تنامي الروح
الموضوعي والروح المطلق، ولم يعد مظهراً للمجموع النفسي، لأنّ موضوع التطور هنا هو الحياة نفسها،
وهكذا فإنّه مع “دلتاي”، تمّ توسيع مفهوم “الروح الموضوعي” ليضُمَّ اللغة والأعراف وأسلوب الحياة،
وكذلك الأسرة والمجتمع البرجوازي والقانون، وحتى الفن والدين والفلسفة...، فكلها حقائق ملموسة أودعت
فيها الحياة شيئاً من الروح” 23 .
ومع أنّ “دلتاي” قد استقى مصطلح “الروح الموضوعي” من “هيغل”، فإنّنا نجد دلتاي يُعارض البناء
المُجرَّد لهذا المفهوم، لتسفر هذه المعارضة عن استبدال الميتافيزيقا بالوعي التاريخي، إنّه علينا اليوم البدء
من واقع الحياة وما ينسجم مع الوعي التاريخي، لقد جعل “هيغل” الروح الموضوعي تعبيراً عن روح
العالم، لذلك كانت الروح متآلفة مع ذاتها تماماً كما لو كانت في بيتها، وطبقاً ل “هيغل” فهذه الألفة تحدث
في المفهوم الفلسفي، وهذا ما يرفضه “دلتاي” تماماً، فبالنسبة إليه المفهوم الفلسفي له أهمية لا بوصفه
معرفة بل بوصفه تعبيراً، وهكذا فإنّ الفن والدين ليسا حقيقة مباشرة، وإنّما أشكال من خلالها تُعبِّر الحياة
عن نفسها” 24 .
لقد قلنا سابقاً إنّ “دلتاي” جاء بتصور جديد “للروح الموضوعي” يختلف عمّا هو موجود عند “هيغل”،
إضافة إلى ذلك، إنّ ما ينسجم مع الروح الموضوعي هو الوعي التاريخي وليس الفلسفة التأملية، فهذا الوعي
يرى أنّ جميع ظواهر العالم الإنساني والتاريخي مجرد موضوعات بموجبها تعرف الروح ذاتها معرفة
تامة، وهو حين يفهم هذه الظواهر كتموضعات للروح، فإنّه ينقلها للوراء حيث الحياة العقلية التي صدرت
-22 محمد سيد أحمد: دلتاي وفلسفة الحياة، دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الثانية، 2005 ، ص ص 31 - 32
-23 ريمون آرون: فلسفة التاريخ النقدية، مرجع سابق، ص 69
-24 غادامير، الحقيقة والمنهج، مصدر سابق، ص 3
عنها، وهكذا فإنّ الأشكال التي يتَّخذها الروح الموضوعي هي بالنسبة إلى الوعي التاريخي موضوعات
للمعرفة الذاتية للروح، ومن هنا يبلغ الوعي التاريخي الشمولية، لأنّه يرى جميع معطيات التاريخ كتجليات
للروح التي تصدر منها هذه التجليات 25 . [هل فعلاً يختلف دلتاي عن هيغل في هذا؟]
من هنا يصبح التراث ككل بالنسبة إلى الوعي التاريخي الموجِّهَ الذاتي للعقل الإنساني، ففي الوعي
التاريخي وليس في الفلسفة التأملية تتحقق معرفة الروح بنفسها، وحتى الفلسفة فإنها تتخلَّى عن ادعائها
المعرفة من خلال المفاهيم بقدر ما تعي هذه الحقيقة، كمجرد تعبير عن الحياة، وتؤسس لنفسها كفلسفة
للفلسفة، أي تفسر فلسفياً لسبب وجود الفلسفة جنباً إلى جنب العلم في الحياة، وقد خصّ “دلتاي” في كتاباته
المتأخرة هذا النوع من فلسفة الفلسفة، أي نَسَبَ أنماط رؤى العالم المتنوعة إلى تنوع الحياة التي تؤول
نفسها 26 .
وكمحصلة لما سبق ذكره، كان على مدار “الفهم” الترقي من التعبير الخارجي إلى التجربة الحية
الداخلية، من هنا نرى أنّ “دلتاي” ألحق بالفهم تصوُّراً سيكولوجياً من خلال معانقة التجربة الحيَّة، بفضل
ما اعتمده من طريقة نفسية في تأويل المعرفة التاريخية، وتأكيده على أهمية النزعة السيكولوجية لفهم
موضوعي للتعبيرات المنحدرة إلينا من التراث، من خلال تحويل “الأنا” في “الأنت” وإعادة إحياء ما
يقبع في جوانيتها، وسنحاول الآن البحث في الكيفية التي اتخذ منها “دلتاي”، علم النفس كأساس كلي راسخ
تنهض عليه العلوم الإنسانية.
-3 من علم النفس التفسيري إلى علم النفس الوصفي
رأينا سابقاً أنّ رغبة “دلتاي”، وانشغاله الأكبر هو إقامة مشروع لتأسيس علوم الرُّوح على أساس
راسخ ومتين، ولم يكن هذا الأساس إلا التجربة الداخلية أو لنقل الوعي الإنساني، من ثمّ أضفى على العلوم
الإنسانية طابعاً سيكولوجياً، ومضمونه التَّحري عن شروط موضوعية لقضايا المباحث الإنسانية، غير أنّ
ما تجدر الإشارة إليه في هذا المساق، أنّ السيكولوجية التي شاءها “دلتاي” أساساً ونموذجاً للإنسانيات لم
تكن تفسيرية بل وصفية، فكيف تمّ ذلك؟
إنّ مقتضى السيكولوجية التفسيرية هو الإدراك السَّببي المُتمحِّض للظواهر النفسية، وقوامه إرجاع
الحياة النفسية وأحوالها إلى عدد من العناصر، وعلى أيّ حال، فعلم النفس التفسيري يحاول تفسير العالم
العقلي وفقاً لمكوناته وقواه وقوانينه بالطريقة نفسها التي يُفسِّر بها الفيزيائي والكيمائي الظواهر المادية، وهنا
نُنوِّه إلى أنّ “دلتاي”، عندما تحدث عن “علم نفس تفسيري”، فإنّه يشير بصفة خاصة إلى المذهب الحسِّي
-25 المصدر نفسه، ص 325
-26 المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
ومذهب التَّداعي، ذلك المذهب الذي أدخله “دافيد هيوم” و”ج س مل” إلى علم النفس، فكما أنّ الموضوع
في الفيزياء ينقسم إلى وحدات كثيرة مُستقلة، فكذلك العقل ينقسم إلى وحدات كثيرة صغيرة مثل الإحساسات
والأفكار والمشاعر، ومن هنا يرى “دلتاي” أنّ ما نُطلق عليه بالتَّسمية “علم النفس التفسيري” لا يقدم لنا
تفسيراً صحيحاً ومُقنعاً للحياة العقلية، ومن ثمّ إذا أردنا الوصول لهذه الغاية، علينا الاستعانة ب “علم النفس
الوصفي” 27 .
إنّ مدار هذه السيكولوجية التوصفية Psychologie descriptive ، تكشيف البنى الحيوية المقومة
للمعطى النفسي والمكنى ب”التجربة الحية )المعاشة(” »l’expérience vécu« ، فالسيكولوجية الوصفية،
على خلاف السيكولوجية التفسيرية، تصادر على أنّ الحياة النفسية كُلّ متماسك ومجموع مُتجانس، تتداعى
فيه الجوانب الشّعورية والإرادية والفكرية، وغرض هذه السيكولوجية هو وصف أحوال النفس بما هي كلّ
مُتسق، فعلم النفس الوصفي يستخدمه “دلتاي” في مقابل علم النفس التفسيري، وعلى خلافه يدرس الوقائع
العقلية مستخدماً في ذلك مفهوم “البنية” لتفسير الاستمرارية النفسية. و”دلتاي” بتدشينه لهذا المفهوم في
النقاش الفلسفي، يُعدّ في نظر “غادامير” مساهمة لافتة للنظر، فهو يُؤشِّر إلى مقاومة العلوم الإنسانية للغزو
المنهاجي للعلوم الطبيعية 28 .
وعلى الرَّغم من أنّ “دلتاي” يستعير مصطلح “البنية” structure من العلوم الطبيعية، إلا أنّه لا
يستخدمه بالشكل الذي كان عليه في تلك العلوم، ولهذا فإنّ “البنية” في هذا السياق لا تعني البحث في
الأسباب، إنّما تدل على ترابط مُعيَّن بين أجزاء شيء ما إلى حد لا تكون هنا أسبقية مُعينَّة لجزء على آخر،
إنّ “البنية” لا تعني أنّ هناك سبباً تعقبه نتيجة، إنّما هي علاقة بتفاعل النتائج 29 ، وقد سمّى “دلتاي” هذا
الوصف فهماً، وقوام الفهم هو اعتماد التجربة الحيّة لاستبصار الحياة النفسية للغير، فالإنسان لا يعرف ما
يحيط به إلا بالتجربة النفسية فقط، يعرف ذلك فقط عن طريق التاريخ، إنّه الكائن التاريخي، وما يجعل في
نظر “دلتاي” إمكانية قيام المعرفة التاريخية هو في تجانس الذات والموضوع، بحكم أنّ “الشخص الذي
يدرس التاريخ هو الشخص الذي يصنعه” 30 .
إلا أنّ السؤال الذي سيفرض نفسه هنا: كيف يمكن لتجربة الفرد ومعرفة هذه التجربة أن تكون تجربة
تاريخية؟
-27 محمد سيد أحمد، دلتاي وفلسفة الحياة، مرجع سابق، ص 48
-28 غادامير، بداية الفلسفة، ترجمة على حاكم صالح وحسن ناظم، دار الكتاب الجديد المتحدة، الطبعة الأولى، 2002 ، ص 26
-29 المصدر نفسه، ص 27
-30 غادام، ر: الحقيقة والمنهج، مصدر سابق، ص 3
يجد “دلتاي” سبيله في الإجابة عن هذا السؤال عبر تفصيل الطريقة التي تكتسب فيها الحياة الداخلية
لفرد ما استمراريتها، ولأجل ذلك يأمل “دلتاي”، في الحصول على المفاهيم التكوينية التي سوف تُؤسِّس
كلاً من الاستمرارية التاريخية ومعرفة هذه الاستمرارية، إنّ هذه المفاهيم، بخلاف مقولات معرفة الطبيعة،
مُستمدَّة من الحياة، فاستخدم مفهوم “البنية” لتوصيف استمرارية التجربة النفسية عن الاستمرارية السَّببية
للعمليات الطبيعية، ف “البنية تتميَّز بإحالتها على كليّة العلاقات التي لا تعتمد على التعاقب الزمني السببي،
إنّما تعتمد على الارتباطات الداخلية” 31 .
لقد وجد “دلتاي” في مفهوم البنية نقطة انطلاق مشروعه، وتغلب بذلك على مواطن ضعف تأملات
“رانكه” و”درويزن” المنهجية، غير أنّه أقرّ بأنّ المدرسة التاريخية كانت مُصيبة في نقطة واحدة، على أنه
ليس هناك ذات كليّة إنّما أفراد تاريخيون فقط، من حيث لا ترجع الطبيعة المثالية للمعنى إلى ذات متعالية،
إنّما تبزغ من الواقع التاريخي للحياة، فالحياة كما يرى “دلتاي” - هي التي تظهر وتشكل نفسها في وحدات
واضحة، والفرد هو من يفهم هذه الوحدات 32 .
يتَّضح لنا أنّنا نستعيد المبدأ التأويلي القديم المطبق في فهم النص من خلال علاقة الجزء والكل،
وضرورة فهم كلّ منهما في ضوء الآخر في حركة دائرية لا تنتهي، غير أنّه يتسع هنا ليشمل، أي مفهوم
الجزء والكل، تجربة الحياة نفسها، إنّ تجربة ما جزئية في حياتنا تكتسب معناها من خلال تجربتنا الكليّة،
وليست تجربتنا الكليّة في حقيقتها إلا حصاد تجارب جزئية متراكمة 33 ، فانسجام الحياة البنيوي شأنه شأن
انسجام نص ما، يُعرَفُ كعلاقة بين الجزء والكل، وهذا هو المبدأ التأويلي المستخدم في النصوص، وهو مبدأ
ينطبق على انسجام الحياة بقدر ما تفترض الحياة وحدة المعنى الذي يبِّر عنه جميع أجزائها، إنّ الخطوة
الحاسمة في تأسيس “دلتاي” العلوم الإنسانية تأسيساً معرفياً هو الانتقال من بنية الانسجام في تجربة الفرد
إلى الانسجام التاريخي 34 .
إنّ الإنسان من خلال التاريخ يفهم نفسه باعتباره عملية مستمرة من الفهم، من خلال التاريخ وحده وليس
من خلال الاستبطان يفهم الإنسان ذاته، فمشكلة فهم الإنسان هي مشكلة استعادة ذلك الوعي بتاريخية وجوده
الخاص، الذي ضاع نتيجة سيطرة المقولات السكونية للعلم. 35
وزبدة القول، إنّ المهمة التي أرادت تأويلية “دلتاي” إنجازها تمثَّلت في توفير منهجية فهم على مستوى
العلوم الإنسانية يكون لها القدرة على الوصول بنا إلى الفهم الصَّائب موضوعياً لتعبيرات الحياة، وفي
-31 غادامير، الحقيقة والمنهج، مصدر سابق، ص 317
-32 المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
-33 نصر حامد أبو زيد، إشكاليات القراءة وآليات التأويل، مرجع سابق، ص 29
-34 غادامير، الحقيقة والمنهج، مصدر سابق، ص 117
-35 عادل مصطفى، مدخل إلى الهيرمينوطيقا، دار النهضة العربية، بيروت، الطبعة الأولى، ص 1
سبيل بلوغ هذه الغاية كان لا بدّ من صياغة نموذج تأويلي يكون بمثابة حجر الأساس الذي تقوم عليه العلوم
الإنسانية، وهكذا يُعدّ “دلتاي” المنجز الحقيقي لرؤية العالم التاريخية، بحكم أنّه سعى إلى تسويغ ارتقاء
الوعي إلى الوعي التاريخي، وهو بذلك، من خلال تركيزه على تجربة الحياة وتأكيده على تاريخية الوجود
الإنساني، يكون قد وضع بذوراً لمن جاؤوا بعده، ونقصد بذلك “مارتن هيدغر” و”غادامير”.
-4 “دلتاي” في أفق “غادامير” النقدي، أو التأويلية من المنهج إلى الحقيقة
بعد هذا العرض الموجز لمشروع “دلتاي” في تأسيس العلوم الإنسانية على أساس منهاجي مستقل عن
العلوم الطبيعية، نأتي الآن لعرض موقف “غادامير” من هذه النقلة الجديدة.
ما ينبغي الإشارة إليه أنّ الدَّعوى التي ملكت على “غادامير” زمام تفكيره هي أنّ تحصيل الحقيقة ليس
مبناه على مُجرَّد اصطناع منهج مُحكم، أو ترسيم مسلك علمي صارم، فقد انْهَمّ “غادامير” بنقد كلّ نزعة
منهاجية في العلوم الإنسانية تحاول تقعيد الفهم وإحكام مقاداته بضوابط صارمة تُمكِّن من الظَّفر بحقائق
موضوعية.
وممّا يحسن ذكره هنا، أنّ تاريخ ميلاد فيلسوفنا ) 11 فبراير 1900 م(، هو تاريخ وفاة “ديكارت” قبل
250 سنة، ) 11 فبراير 1650 م(، وموضوع الطرافة أنّ صاحب “مقال في المنهج”، هو إمام الفكر المنهجي
الذي تَسَيَّدَ خلال الأزمنة الحديثة، وأمّا صاحب “الحقيقة والمنهج”، فقد كان هَمُّهُ الأوَّل والثاني فكّ الارتباط
بين الحقيقة والمنهج، فالمنهج لا يستغرق الحقيقة بكاملها ولا يحيط بتمامها.
هكذا إذن، ورغم تأثير “دلتاي” على “غادامير”، نجد هذا الأخير يعارضه معارضة كبيرة، من
خلال تلك المعارضة يشيّد “غادامير” فلسفته، ويمكننا القول إنّ منطقه النقدي في مصنفه العمدة “الحقيقة
والمنهج” هو “دلتاي”. [؟]
يرى “غادامير” أنّ “دلتاي” في مشروعه الذي قام به، من خلال البحث عن منهج موضوعي
مستقل للإنسانيات في مقابل منهج العلوم الطبيعية، قد باء بالفشل، لأنّ مهمة الهيرمينوطيقا -كما يرى ذلك
“غادامير”- ليست البحث عن منهج للإنسانيات، بل هي محاولة فهم العلوم الإنسانية على حقيقتها، بغض
النظر عن المنهج، لذلك نجد “غادامير” يؤكد أنّه وعلى الرغم من العمل الشاق الذي خصصه “دلتاي” طيلة
عقود من الزمن لوضع أسس العلوم الإنسانية، ترك “دلتاي” نفسه تحت وطأة التأثير العميق لنموذج العلوم
الطبيعية، حتى عندما يسوغ بدقة الاستقلالية الإبيستيمولوجية للعلوم الإنسانية، فإنّ ما يُسمّى “منهجاً” في
تصور العلم الحديث بقي “هو هو” 36 .
-36 غادامير، الحقيقة والمنهج، مصدر سابق، ص ص 54 -
إنّ تأويلية “دلتاي”، وعلى الرغم من إسهاماتها القيمة في التوفيق بين منهجية العلوم الطبيعية وشكل
المعرفة في العلوم الإنسانية، كانت كما يرى “غادامير” على حساب ما تتميز به هذه الأخيرة من تاريخية
جوهرية، وهذا ما نلمسه من خلال تصور “دلتاي” للموضوعية، وهي موضوعية مماثلة للموضوعية التي
تتمتع بها العلوم الطبيعية، فقد عمل “دلتاي” جاهداً على جعل العلوم الإنسانية مساوية للعلوم الطبيعية،
مستعيناً في تحقيق ذلك بنموذج التَّأويلية الرومانسية التي لا تولي أيّ اهتمام للطبيعة التاريخية للتجربة،
وتنظر إلى موضوع الفهم على أنّه نص ينبغي فكّ شفرته 37 .
فبمعونة التَّأويلية الرومانسية أفلح “دلتاي” في إخفاء الاختلاف بين طبيعة التجربة التاريخية وشكل
المعرفة العلمية، فمن خلال تصوره للعالم التاريخي على أنّه نصٌّ يجب فك رموزه وفهم معناه، كان يضفي
الشرعية على العلوم الإنسانية 38 ، من جهة أخرى، كما يرى “غادامير” أنّ “دلتاي” لم يفلح في مهمته الشاقة،
والمتمثلة في سعيه إلى عقد التوفيق بين الوعي التاريخي وطموح العلم الدائب إلى ملامسة تخوم الحقيقة 39 .
ويمكننا القول مع “غادامير” إنّ “دلتاي” كان حبيس معضلاته وعصره، فكلّ الجهد الذي بذله من أجل
فهم حقيقة العلوم الإنسانية كان انطلاقاً من الحياة، إلا أنّ تصوره للموضوعية يبقى مرتبطاً بأصل مختلف
تماماً عن الخبرة المعيشة، لهذا السبب أخفق في حلّ المشكلة التي اختارها لنفسه، وهي تبرير العلوم الإنسانية
بغرض جعلها مساوية للعلوم الطبيعية 40 .
وبالجملة، فإنّ “غادامير” ينتقد مفهوم “الوعي التاريخي” القائم على إرث المدرسة التاريخية الذي
تأسّس على المبدأ الداعي للتخلص من النوازع والأهواء الذاتية لتجربتنا الحاضرة التي تُلوِّن حكمنا على
الماضي، ولا تجعلنا قادرين على رؤية الماضي رؤية موضوعية، وعلى العكس، يرى “غادامير”، أنّ
الأهواء والنوازع هي التي تؤسس موقفنا الوجودي الراهن الذي ننطلق منه لفهم الماضي والحاضر معاً،
إنّ المنهج العلمي حين يطالب المؤرخ بالتخلص من كلّ ما يشكل أفق تجربته الراهنة من أهواء ونوازع،
لا يفعل أكثر من أن يترك هذه الأهواء تمارس عملها في الخفاء، إنّ هذا المنهج يجعلنا في حالة غربة عن
الظاهرة التاريخية التي ندرسها 41 .
وعلى ذلك فإنّ النقد الغاداميري وجّه سهامه إلى كلّ التيارات التَّأويلية التي تبني قراءتها للتاريخ على
أساس موضوعي، وخاصة مفهوم تاريخية التأويل عند “دلتاي”، وهي حسب “غادامير”، “كانت تضللها
-37 هشام معافة، التَّأويلية والفن عند هانز جورج غادامير، مرجع سابق، ص 64
-38 غادامير، الحقيقة والمنهج، مصدر سابق، ص ص 337 - 338
-39 غادامير، فلسفة التأويل، مصدر سابق، ص 74
-40 هشام معافة، التَّأويلية والفن عند هانز جورج غادامير، مرجع سابق، ص 65
-41 مجدي عز الدين حسن، تأويل التاريخ وتاريخ التأويل، تأويل التاريخ وتاريخية التأويل، مجلة دراسات فلسفية، العدد 01 ، جانفي 2014 ، ص148
نقطة بدايتها التَّأويلية في قراءة التاريخ بوصفه كتاباً واحداً، علاوة على ذلك، هو كتاب واضح إلى آخر
حرف فيه، وعلى الرغم من احتجاجه ضدّ فلسفة التاريخ التي تكون فيها ضرورة الفكرة نواة لكلّ الحوادث،
لم تستطع الهيرمينوطيقا التاريخية عند “دلتاي” أن تتجنب ترك التاريخ يبلغ ذروته في تاريخ المفاهيم، وذلك
كان هو نقدي” 42 .
ونافلة القول، قصد “دلتاي” من خلال مشروعه التأويلي التماس أساس منهجي يُظهِر اختلاف واستقلال
العلوم الإنسانية عن العلوم الطبيعية، وإقامة الأولى على أُسس جديدة، تقوم على فهم الحياة الداخلية للإنسان
أو التجربة الحيّة المعيشة وتأويل تعبيراتها، وكُلُّه من أجل تحديد الشروط الواجب توافرها ليكون الفهم
موضوعياً، ولتحظى العلوم الإنسانية بشرف الموضوعية، هذا ما رفضه “غادامير” ويعيبه على “دلتاي”،
ذلك أنّه، وعلى الرغم من وقوف “دلتاي” في وجه تدخل مناهج العلوم الطبيعية في العلوم الإنسانية، ما يزال
تحت تأثير هذه العلوم التي تتفاخر دوماً بأنّ معرفتها وقوانينها موضوعية.
المصادر بالفرنسية
- Whelheilm, Dilthey: Critique la raison historique, introduction à l’étude aux sciences de l’esprit,
traduction, Sylvie mesure, édition du çerf, Paris, 1992.
ثانياً: المراجع والمقالات والمعاجم
أبو زيد، نصر حامد، إشكاليات القراءة وآليات التأويل، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة السابعة، 2005
أحمد، محمد سيد، دلتاي وفلسفة الحياة، دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الثانية، 2005
آرون، ريمون، فلسفة التاريخ النقدية، بحث في النظرية الألمانية للتاريخ، ترجمة حافظ الجمالي، منشورات وزارة الثقافة،
دمشق، )د ط(، 1999
بارة، عبد الغني، الهيرمينوطيقا والفلسفة، نحو مشروع عقلي تأويلي، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، الطبعة
الأولى، 2008
ريكور، بول، نظرية التأويل، الخطاب وفائض المعنى، ترجمة سعيد الغانمي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء،
الطبعة 2، 2006
- من النص إلى الفعل، ترجمة محمد برادة وحسين بورقية، عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، الطبعة الأولى،
2001
غادامير، هانز جورجن بداية الفلسفة، ترجمة على حاكم صالح وحسن ناظم، دار الكتاب الجديد المتحدة، الطبعة الأولى،
2002
الحقيقة والمنهج، ترجمة حسن ناظم وعلي حاكم صالح، دار أويا، طرابلس، الطبعة الأولى، 2007
فلسفة التأويل، الأصول، الأهداف، المبادئ، ت محمد شوقي الزين، الدار العربية للعلوم ناشرون، الطبعة الثانية، 2006
قارة، نبيهة، الفلسفة والتأويل، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 1998
قنصوة، صلاح، في فلسفة العلوم الاجتماعية، مكتبة الأنجلو مصرية، القاهرة)د ط(، 1987
الموضوعية في العلوم الإنسانية، عرض نقدي لمناهج البحث، دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، )د ط(، 2007
معافة، هشام، التأويلية والفن عند هانس جورج غادامير، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، الطبعة الأولى، 2010
هابرماس، يورغن، المعرفة والمصلحة، ترجمة حسين الأصقر، منشورات الجمل، كولونيا، الطبعة الأولى، 2001
بن شرقي، بن مزيان، مكانة التاريخ في الفلسفة المعاصرة، من أعمال ملتقى الأنظمة المعرفية للتاريخ في الفلسفة
المعاصرة، مخبر الفلسفة جامعة وهران، أيام 21 ، 22 ماي 2002
حسن، مجدي عز الدين: تأويل التاريخ وتاريخية التأويل، مجلة دراسات فلسفية، العدد 01 ، جانفي 2014
زيتلي، خديجة، عقم الاتجاه الوضعي في التاريخ عند كولجوود، مجلة دراسات فلسفية، مجلة سداسية يصدرها معهد الفلسفة
بجامعة الجزائر، العدد 3، السداسي 1، 1997
فريدة غيوة، الرؤية الوجودية للتاريخ )مارتن هيدغر نموذجاً(، من أعمال ملتقى الأنظمة المعرفية للتاريخ في الفلسفة
المعاصرة، مخبر الفلسفة جامعة وهران، أيام 21 ، 22 ماي 200
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق