آر سي سبرول كانط، الجزء الأول، حلقة 27
29/10/2014
حين ينظر
المؤرّخون والمحللون الثقافيون إلى حضارتنا المعاصرة، فإنهم كثيراً ما يستخدمون
كلمات تصف الوضع تتضمن كلمة "بعد". نحن نسمع أن هذا الجيل يدعى العصر
"ما بعد الحديث"، أو "العصر ما بعد المسحي"، أو ربما غالباً
ما تتم تسميته "العصر ما بعد الكنطي".
سبب هذا
الوصف هو أن كل فكر نظري منذ إيمانويل كنط يجب فهمه على ضوء العمل التحضيري الذي
حقّقه في القرن الثامن عشر.
أظن أنه
يوجد راب بين العصر ما بعد الكنطي وما نسميه العصر ما بعد المسيحي، لأن كنط وأكثر
من أيّ شخص آخر قدّم النقد الأكثر تدميراً للإيمان الكلاسيكي بالله الواحد الذي
تمّ طرحه يوماً، ما ولّد أزمة في علم الدفاع عن المسيحية وفي الدفاع العقلاني عن
المسيحية التاريخية وما شابه...
أشرت في
الماضي رجوعاً إلى بداية سلسلتنا إلى الميل إلى وجود دورات متكرّرة في تاريخ الفكر
النظري، حيث تقع مشادّة بين مدرستيّ فكر رئيسيتين، تليها مباشرة فترة من
الشكوكيّة. وفترة الشكوكيّة تلك تميل إلى أن تسود إلى أن يأتي أحدهم ويقدّم
توليفةً جديدة من شأنها أن تعيد بناء أساس الفكر النظري.
رأينا ذلك
في المشادّة التي نشأت بين فكر بارمنيدس وهيراقليطس والتي حلّها أفرطون في وقتٍ
لاحق. ثم رأينا مشادّة أخرى بين أفلاطون وأرسطو، والتي لم يتمّ حلّها إلا بتوليفة
أوغسطينس المسيحية.
والآن، في
القرنين السابع عشر والثامن عشر، رأينا هذه المشادّة الهائلة بين المدرستين
العقلانية والتجريبية تنتهي في شكوكيّة ديفيد هيوم المتطرّفة، وما تبع ذلك في
القرن الثامن عشر. حركتان مختلفتان تماماً، رغم أنهما مرتبطتان ارتباطاً وثيقاً:
الأولى هي ما يعرف بحركة التنوير الفلسفيّة التي سنتكلّم عنها في وقت آخر، لكننا
مهتمون أساساً اليوم بتأثير كنط.
بغية تبسيط
الأمور، يمكننا القول بأن تاريخ الفلسفة برمّته قبل كنط يمكن تقسيمه بين مدرستيّ
فكر رئيسيّتين: العقلانيّة من ناحية، والتجريبيّة من ناحية أخرى.
إذاً،
مجدداً أنا أتكلم بشكل عام هنا وأعالج الأمر بشكلٍ سطحيّ في هذا الصدد. لكن إن كان
علينا مراجعة الأحداث التاريخية والتطرّق إلى أنماط الفكر هذه، فتحت فئة العقلانية
يمكن أن ندرج بارمنيدس وأفلاطون وأوغسطين .. وصولاً إلى ديكارت وليبنز واسبينوزا
وباسكال.
وفي الجانب
التجريبي يمكننا أن ندرِج أشخاصاً مثل هيراقليطس ومن ثم أرسطو والأكويني وبيكون
ولوك وغيرهم..
إذاً،
بإمكاننا / كما قلت / إن كنا نتكلم بحرّية كافية وضع كل مفكّر رئسي .. يمكن وضع
أنسيلم في الجانب العقلاني في واحد أو آخر من الفريقين.
ربما أهم
توليفة فلسفيّة تمّ وضعها يوماً هي تلك التي وضعها كنط حين أخذ كلاً من المدرستين
واقتبس من كل واحدة منهما وانتقد بعض الجوانب في كل ناحية، واقتبس الأمور
الإيجابيّة من كل جانب، وأنشأ منهجاً جديداً للمعرفة.
سنتكلم عن
الأمر بعد قليل، لكن بعد أن أنهى كانط توليفته.. قد تظن أن تلك كانت نهاية الفلسفة
الغربية. لكن ما حدث في الواقع هو أنه من عمل كنط الذي شكل حداً فاصلاً، انبثثقت
إما بشكلٍ مباشر أو غير مباشر كافة مدارس الفلسفة الحديثة التي تتنافس في ما بينها
على نيل القبول منذ أيام كنط.
منذ أيام
كنط، يمكننا تتبّع جذور المثاليّة والماركسيّة والفلسفة الوضعيّة المنطقيّة
والفلسفة التحليلية أو الوجوديّة أو علم الظاهرات أو البراغماتيّة أو المذهب
النسبي أو التعدّدية .. ما يعني عمليّاً أن جميع حركات القرنين التاسع عشر
والعشرين التي برزت منذ أيام كنط تعود جذورها إلى بعض جوانب من أبعاد العمل الذي
أنشأه.
والآن
لنكرّس بعض الوقت للكلام عن مبادئ توليفته..
إن كنتم
تذكرون، رأينا أن أوجه الاختلاف بين العقلانيين والتجريبيين تكمن في أن العقلانيين
يؤمنون بأولويّة البديهيّة؛ أي المثل [المبادئ] الفطريّة والمفاهيم العقلانية. في
حين أن التجريبيين يصرّون على أن كل معرفة هي استدلاليّة، أي بعد الاختبار، وعلى
أنه لا توجد مُثُل [أفكار] فطريّة.. وبالتالي ذلك الخلاف المتضارب بين العقلانيين
والتجريبيين كان أحد الأمور التي عالجها كنط.
لكن
فلنتأمل في مقاربته. كانت مقاربة كنط لهذه المشكلة تدعى "الأسلوب
التجاوزي".
يشوب بعض
الغموض طريقة استعمال المصطلح "تجاوزي" هنا. لكن دعوني أبسّط لكم الأمر:
لاحظ كنط المشاكل التي واجهها التجريبيون والعقلانيون، ونظر إلى مقبرة التجريبيّة
وشكوكيّة هيوم.. تلك الشكوكية التي حثّت كنط على محاولة إعادة بناء الفلسفة.
عاش كنط في
كونغسبرغ في بروسيا، وكان إستاذاً غير معروف في الجامعة هناك. ولم يبتعد أبداً
أكثر من مائة ميل عن مكان ولادته، ولم يفترض أحدُ أبداً أنه سيكون له أيّ تأثير
منتشر في العالم الفكري. لكنه قال أنه استيقظ من نعاسه الدوغمائي من خلال عمل
ديفيد هيوم، وفعل ما يلزم بدافع من الرغبة في إنقاذ العِلم وإنقاذ المعرفة بحد
ذاتها. إذاً عمله الأكثر أهمّية وشهرةً "نقد المنطق النقي" [نقد العقل
المحض] صدر في العام 1781، في الوقت نفسه تقريباً الذي كانت فيه بنود حكومة
الجمهوريّة الجديدة للولايات المتحدة قيد الإنشاء، وقيل لنا في بلادنا إن أهم ثورة
قامت خلال السنوات الثلاثمائة الأخيرة كانت الثورة الأميركية.
لكن مؤرّخي
الثقافة يحاولون أن يثبتوا أن أهم ثورة في السنوات الثلاثمائة الأخيرة هي الثورة
الكنطية، لأنه كان لدى فلسفة كنط الجديدة نتائج بعيدة المدى، نتائج لا تزال تؤثّر
في المجتمع الذي نعيش فيه اليوم، لأنكم إذا نظرتم إلى السنوات المائتين والخمسين
الأخيرة ورأيتم ما جرى للكنيسة، ورأيتم ما حل بالتوليفة الكلاسيكيّة، حيث أنه في
العصور الوسطى كانت العلوم اللاهوتيّة ملكة العلوم وتم اعتبار الفلسفة وصيفتَها.
كان هناك بعض المصداقيّة الفكريّة في ادعاءات صحة المسيحية. لكن منذ بروز نقد كنط
للبراهين التقليديّة على وجود الله مثلاً، تحررت الفلسفة من اللاهوت وتدهور وقع
اللاهوت والكنيسة بشكلٍ دراماتيكي خلال السنوات المائتين الأخيرة. لكن فلنرجع
مجدداً إلى ما قصده كنط بأسلوبه التجاوزي.
لقد تطرّق
إلى مشكلة الحقيقة وكيفيّة بلوغنا إياها، وطرح هذا السؤال البسيط، هو لم يسأل
"هل هناك وجود لما يدعى المعرفة؟". لكنه قال ما يلي: "إن كانت
المعرفة ممكنة، فما الذي يجب أن يحدث لجعلها ممكنة؟". بهذا المعنى، أنه
يتجاوز المشكلة. بهذا المعنى، لقد حل المشكلة المعقّدة بطريقة بسيطة. وهو قال
حسناً، لا أعرف ما إذا كان يمكننا اكتساب المعرفة أو عدم اكتساب المعرفة، لكن إذا
كانت المعرفة ممكنة، فما الذي يجدر بنا فعله؟ ما هي الأمور الضروريّة لاكتسابها؟".
قال: لقد
كان لوك محقاً، وكان التجريبيون محقين عبر اعتبار أن معرفتنا بالعالم الخارجي تبدأ
بالاختبار.
إذاً، إن
كان العلم سيكون ممكناً، فإننا نعتمد في جميع الأحول على الاختبار الحسي كنقطة
انطلاق لمعرفتنا".
إذاً،
بداية المعرفة هي الأحاسيس. لقد اختلف في الرأي مع ديكارت وتاريخ العقلانيين الذين
كانوا يعتقدون أننا ولدنا ولدينا بعض المثل الفطرية، مثلما حاول أفلاطون أن يثبت
وهو أن لدينا تلك المثل التي ولدنا بها، وكل ما علينا فعله هو تنشيط الذاكرة
لنتذكّر أو نسترجع تلك المثل الأبديّة.
وفق كنط،
لا توجد مثل فطريّة لكن ثمة عناصر يمكن تسميتها بديهيّة.
تذكّروا من
الناحية التقنيّة، مصطلح بديهيّة [قبليّة] لا يعني "قبل الولادة". إنه يعني
"قبل الاختبار".
إذاً يقول
كنط إنه على الرغم من أننا لا يملك أي معرفة عند الولادة، إلا أنه لدينا فئات
بديهيّة [مقولات]، وهي فئات الذهن Categories،
فئات تتيح لنا أن نعرف الأشياء قبل أن نختبرها. فمثلاً، إن مبادئ مثل قانون
السببيّة، ومبادئ مثل قانون عدم التناقض لا يتم تعليمها من خلال الاختبار، لكننا
لا نولد بها من حيث مضمون المفاهيم، وإنما هي فئات عقلانيّة، قدرات عقلانيّة تنشأ
تدريجياً في الذهن.
إذاً،
أحياناً يحاول الناس تقديم رسمٍ بياني عن مقاربة كنط للمعرفة، ويتكلمون عن طاحونة
النقانق المتعلقة بنظرية المعرفة لديه، وهي تتضمّن قمعاً في رأسها، حيث توضع
النقانق.. إنها الأحاسيس..
أنت تكوِّن
تلك الانطباعات والاختبارات الأساسيّة فتدخلـ[ـها] في قمع طاحونة النقانق.
لكن قبل أن
يخرج أي شيئ من الطاحونة، على هذه الأحاسيس أن تعمل من خلال فئات الذهن Categories، وبالتالي.. أن الذهن
يعالج تلك الأحاسيس الخام.
ليس هذا
فحسب، فلكي نتمكّن من اكتساب أيّ إدراك مجدٍ للعالم الخارجي، فإننا ندرك دائماً
العالم الخارجي من حيث الأمورُ أو الأشياء الموجودة في الزمان والمكان.
لكن هل
ينتابنا يوماً إحساسٌ أو إدراك مباشر للمكان أو إدراك مباشر للزمان؟
اليوم
الماضي، كنت أتحدث مع شاب كان يسألني عن الساعة، فقلت: لا أعلم. يمكننا تحديده من
حيث نو نوع من حركة لحظات متتالية أو لحظات مترابطة منطقياً، أو لحظات متعاقبة،
لكنني قلت إنه لا يمكنني إدراك الوقت إلا من خلال علاقة الحركة بشيء مادّي.
كيف يمكننا
أن نعرف الوقت؟
لدينا
ساعات، شيء مادّي، ولدينا أرقام على وجه الساعة. ثم لدينا تلك العقارب التي تتحرّك، مثل العقرب الثاني [
الدقائق]. غالباً ما أجعل الناس يقفون أمام الساعة وأقول لهم إنها الثانية عشرة
ظهراً الآن. يمكنكم أن ترَوْا العقرب الثاني عند الرقم اثني عشر. ثم أقول: والآن
انظروا إلى الرقم ستة في الأسفل.. العقرب الثاني يتحرّك نحوه.
إليكم
الرقم 12 وإليكم الرقم 6، وإليكم العقرب الثاني. إنه يتتحرك بهذا الاتجاه. وأقول
انظروا إلى الرقم 6. أنتم تنظرون إلى المستقبل، لكنه لم يأتِ بعد.
يشبه الأمر
ما يحدث أثناء القيام بالعد التنازلي في "تايمز سكوير" عشية رأس السنة
الجديدة، حيث يقوم الناس بتعداد الثواني العشر الأخيرة عدّاً تنازلياً.
الرقم 6
هنا يبقى في المستقبل، وينزل العقرب على طول الساعة، وينتابك شعور بالتوقّع بينما
تقترب أكثر فأكثر من تلك اللحظة المستقبليّة أي الرقم 6. ثم حين ينزل إلى هذا
الرقم ويتجاوزه أقول: لقد مرّ الوقت.
فما كان
حدثاً مستقبلياً منذ قليل أصبح الآن من الماضي.
نحن نتكلّم
عن العيش في الحاضر. لكن الحاضر يبدو معلّقاً بين الماضي والمستقبل، لأنه لا يمكن
تجميده. فهو لن يجمد في مكانه، إنه يتحرك باستمرار.
إذاً، ما
هي الطرق الأخرى التي نقيس بها الوقت؟
لدينا
ساعات مائيّة وساعات رمليّة وساعات شمسيّة.. حيث تتم غربلة الرمل عبر الساعة
الرمليّة.
كل طريقة نتبعها
لنعرف الوقت في اختبارنا العادي تقضي بمراقبة حركة بين شيئين على الأقل.
إذاً، لكي
ندرك الوقت، يجب أن تكون لدينا مادة، ويجب أن يكون لدينا حركة. ما يثير دائماً هذا
السؤال الفلسفي "ماذا كانت الساعة في اليوم السابق للخلق؟".
تذكروا أن
أوغسطين سُئل: "ما الذي كان يفعله الله قبل أن يخلق الكون؟" فجاء ردّه:
"كان يخلق الجحيم للنفوس الفضوليّة".
يحب الناس
التفكير في خلود الله والخلود قبل الوقت، هل كان هناك وقت قبل العالم والحركة؟
هذا سؤال
مثير للاهتمام مجدداً نحن لا ندركه، كما أننا لا ندرك المكان بشكل بحت. فتكوين إدراك
عن الزمان البحت يعني إدراك اللاشيء، واللاشيء غير مدرك بالحواس.
كان هذا
جزءاً من السؤال الذي كان هيوم يتصارع به إن كنتم تذكرون.
كان يطرح
السؤال: "كيف يمكنني أن أكوّن انطباعاً واضحاً عن إحساسٍ واضح؟"
لماذا حين
أقف أمام جمهور من الناس ألا أختبر صوت انفجار الأحاسيس الناقص وغير المتمايز وهو
يعصف بعينيّ وأذنيّ؟
كيف يمكنني
أن أميّز الفرق بين الموسيقى والضجيج؟
لا بد من
وجود نوعٍ من التمييز من القدرة على فهم الأمور وإدراك تلك الأحاسيس بطريقة
منظّمة. هل يعود الأمر إلى وجود نظام وإلى إدراكي كوناً منظّماً؟ أم إن الفوضى
والتنافر سائدتان؟
لكن بينما
أختبر هذه الفوضى وهذا الضجيج، فإن ضجيج الأحاسيس يدخل إلى فئات ذهني؟ [الإشارة
إلى الطاحونة].
هل أنا
أخلق نظاماً انطلاقاً من الاضطراب كإنسان؟
كيف يمكن
أن ينتابني إحساس سرّي بشيء ما في المكان والزمان، في حين أني أفتقر إلى الإحساس
المباشر بالزمان والمكان؟
قال كنط
إنه لا بد من توافر المكان والزمان لكي يكون لك إدراك.
إذاً، [هو]
تكلم عن المكان والزمان على أنهما ما أسماه "حدس نقيّ".
والآن
لدينا الفئات العقلانية والأحاسيس والتجريبيّة والحدس تعمل في نظريّة المعرفة هذه.
وحين يمر
الكلّ في مفرمة اللحمة هذه، فما يخرج منها هو المعرفة.
إذاً، هل
نعلم إن كانت هذه المعرفة تتطابق تماماً مع الواقع؟
لا.. لسنا
نعلم.
يقول كنط
إنه بدلاً من تعريف الحقيقة على أنها ما يتطابق مع الواقع، فإن الحقيقة هي حكم.
وميّز بين مختلف أشكال الأحكام.. ومختلف أنواع الحكم.
ثمّة أحكام
بديهيّة، أي سابقة للاختبار. وأحكام استدلالية، أي التي تأتي مع الاختبار أو من
خلاله. ثم ميّز بين نوعين آخرين من الحكم: بين ما أسماه الأحكام التحليليّة،
والأحكام التأليفيّة.
تذكرون
أننا استعملنا هذه اللغة من قبل.
التصريح
التحليلي هو تصريح صحيح بعد التحليل. إنه صحيح بحكم تعريفه.
التصريح
التحليلي يكون مثل: "الأعزب هو رجل غير متزوّج". ما من أمر في الخبر ليس
موجوداً أساساً في المبتدأ. إذاً، أنت
تعرف الخبر من دون أن يكون عليك اختباره. إنه صحيح بحكم تعريفه.
إذاً، في
تلك الحالة يمكن للحكم التحليلي أن يكون بديهياً، أي بدون أن تختبر رجلاً معيّناً
لترى إن كان متزوّجاً أو العكس. إن قلت أن الرجل أعزب فأنت تعلم أساساً أنه ليس
متزوّجاً، لأن مصطلح "أعزب" يعني "غير متزوّج".
أما
التصريحات [التأليفيّة] فهي تلك التصريحات التي نكتسب من خلالها معلوماتٍ جديدة:
الأعزب غنيّ. الغنى لا يتزامن بالضرورة مع العزوبية، وبالتالي يمكن أن تجد أعزباً
فقيراً، أو يمكنك أن تجد واحداً غنياً. لكن لا يمكنك أن تعلم ما إذا كان الأعزب
غنيّاً أم فقيراً من دون أن تختبر ذلك الأعزب.
كل شيء
واضح حتى الآن. لكنه قال إن كانت توجد تصريحات تأليفيّة استدلالية، لكن توجد أيضاً
تصريحات تأليفيّة بديهيّة، ما ولّد عاصفة جدل بين الفلاسفة في ما بعد، لأنهم كانوا
يحاولون أن يثبتوا أن أي معلومات ملموسة يجب أن تعتمد على الاختبار.
لكن كنط
قال مثلاً أن المعرفة أن المسافة الأقصر بين نقطتين هي خطٌ مستقيم.. وأننا نعرف
الأمر قبل أن نختبره. ومع ذلك، فإن مفهوم الخط المستقيم لا يتضمّن فكرة قصر
المسافة. إنه مجرد نوعيّة اتجاه.
إذاً،
الجدال مستمرّ. بأي حال، هذه الأمور كلها تعمل معاً لإعادة بناء الفلسفة لاقتباس
العناصر الضروريّة من التجريبيّة، والعناصر الضروريّة من العقلانيّة، وجمعها في
توليفة تساعدنا على المضيّ قدماً.
لكن مواصلة
المعرفة محصورة بهذا المجال فحسب، الذي نصل إليه من خلال الأحاسيس. وهنا تبرز
الأزمة في الميتافيزيقا واللاهوت التي سنتطرّق إليها في محاضرتنا التالية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق