الثلاثاء، 28 يونيو 2016

بول فراي: الهرمنيوطيقا عند غادامر وهيرش


الهرمنيوطيقا عند غادامر وهيرش

محاضرة لـ بول فراي


حسناً، لنأمل أن نفرّغ أذهاننا من هذه الأمور ونركّز على شيء أساسي ومتين، ألا وهو سؤال ـ قبل أن ندرس غادامر: ما هي الهرمينوطيقا؟

يمكن شرحها بسهولة بغض النظر عن الكلمة الشائكة. إنها فنّ أو مبادئ التأويل. لكن الهرمنيوطيقا لها تاريخ، أي لم توجد من فراغ، إنها ليست شيئاً دائما ما فكر فيه الناس بطريقة منهجية على وجه التدقيق، ما قلته للتو غير صحيح. قد يعلم العديد منكم ومنكن أن لأرسطو كتاباً بعنوان "حول التأويل".

العصور الوسيطة مليئة بكتابات حول التأويل.

ما أفترض أنني أقوله هو: إن كلمة هرمينوطيقا لم تكن موجودة. وفكرة أنه يجب أن يوجد نوع من الدراسة المنهجية عن كيفية تأويلنا للأشياء لم تكن حاضرة وشائعة، وبالطبع لنفس الأسباب، برز مفهوم الهرمنيوطيقا أساساً في الدين أولاً، وتحديداً في التراث المسيحي، لكن لا يعني هذا القولَ أنه قبل اللحظة التي كانت فيها الهرمنيوطيقا مهمة في المسيحية، أنه لم توجد قرون من الدراسة المعرفية (تفسير) التلمود، والذي هو أيضاً هرمنيوطيقا في جوهره، أي ما يتعلق بفنّ وأسس التأويل.

 لكن ما أعطى هذا البزوغ في العالم الغربي لما يسمى هرمنيوطيقا كان في الحقيقة هو الإصلاح البروتستانتي، ولهذا الأمر أهمية كبيرة سأحاول شرح سببها.

أن لا تزعج رأسك بأسئلة التأويل: كيفية التأويل؟ وجاهة التأويل؟ إلخ.. إلا إذا: أـ أصبح المعنى ذا أهمية بالغة بالنسبة إليك.

 ب ـ التيقن من أن المعنى صعب، وتقول لنفسك: أليست هذه الحالة موجودة دوماً؟ إن المعنى مهم وإن المعنى يصعب تفسيره؟

حسناً، ليس بالضرورة. لو كنتَ شخصاً يُفصَل حكمُ المعنى في كتابه المقدّس من قبل البابا واجتماعات كبار الكنيسة التي تحدث بين الحين والآخر، أنت نفسك لا تحتاج لأن تقلق كثيراً بخصوص ما يعنيه كتابك المقدس، يُقال لك ماذا يعني. لذا ما يعنيه بديهي وواضح، لكن في صحوة الإصلاح البروتستانتي عندما أصبح سؤال علاقة الفرد بالكتاب المقدس سؤالاً شخصياً ذاتياً، وفُهم أن على كل شخص ليكون منخرطاً في فهم .. ماهو في النهاية صعب للغاية، من يعرف حقاً معنى أمثال يسوع، إلخ..

والإنجيل بأكمله يقدّم صعوبات تأويلية، عندها بالطبع سيساورك القلق حول كيفية التأويل، ومن نافلة القول، بما أنه كتاب مقدس، أن لمعناه أهمية بالنسبة لك. تريد أن تعرف ما الذي يعنيه، لا يمكن أن يعني أي شيء، من الضرورة بالنسبة لك أن تعرف ما يعنيه بالضبط ولماذا يعنيه مهم للغاية.

 إذاً، حالما بدأت النزعة البروتستانتية بالانتشار، بدأ فن وعلم الهرمنيوطيقا بالانتشار، وبدأ الناس بكتابة كتابات حول التأويل. لكنه كان دائماً حول تأويل الإنجيل. وبعبارة أخرى، في هذا التقليد (التراث) الدين أتى أولاً.

 بعد هذا، بدأ بروز المؤسسات الديموقراطية، وعندما نصل لهذا، ستسهم أكثر.. باعتبارك مواطناً، أو شخصاً يعاني، أو شخصاً ـ له الحقوق التي تقدمها الأمة أو الدولة، وتبدأ بالاهتمام بطبيعة القوانين التي تعيش تحت سلطتها. لهذا السبب تحركت الهرمنيوطيقا شيئاً فشيئاً، لا أقول تخلت عن الدين، بل يجب عليّ أن أقول: توسعت لدراسة القانون والعلوم.

 والفنون التي طُوِّرت أثناء التفكير في تأويل الكتاب المقدس سوف يتم تطبيقها على معنى شيء يكاد يكون له نفس الأهمية، أي كان ما يعنيه القضاء مهماً، وكيف يتم تأويله، وتعلمه. بالطبع إن هذا الأمر ضروري للغاية حتى اليوم، ما هي أسس فهم معنى الدستور على سبيل المثال؟ هناك العديد من الجدالات حول هذا السؤال، ومقصد العديد من المقررات التي ستدرسونها في كلية القانون هو التعمق في هذه القضايا الشائكة.

حسناً، ترَوْن مرةً أخرى أن الهرمنيوطيقا تدخل مجالاً جديداً عندما يكون معنى شيءٍ ما أكثر أهمية، وعندما يُلاحظ أن ذلك المعنى يصعب فهمه.

 كما تعلمون، لم نقل أي شيء حتى الآن عن الأدب، وفي الحقيقة لم يوجد فنّ هرمنيوطيقي مخصص للأدب خلال بداية العصر الحديث وأغلب القرن الثامن عشر. فكِّروا بالكتّاب الذين درستم عنهم في القرن الثامن عشر. من المثير للاهتمام جداً أن جميعهم أخذوا المعنى كشيء بديهي.

 لو فكرتم في ألكسندر بوب مثلاً، أو حتى صاموئيل جانسون، في تفكيرهم بالأدب، وما سبب أهميته، وما هي طبيع الأدب، لا يلقون بالاً للتأويل.

يهتمون بالمعيار، وبتأسيس ما هو على المحك في كتابة قصيدة أو كتابة الأدب أو بأي شكلٍ آخر، وإثارة أسئلة هي غالباً أسئلةٌ أخلاقية أو استطيقية (جمالية)، لم يهتموا بالتأويل؛ لأنه بالنسبة إليهم الكتابة الجيدة هي تحديداً الكتابة الواضحة. كتابة لا  لأن تؤوّل، بل كتابةٌ تتمتّع بالشفافية والوضوح كميزة لها، وفي الواقع طوال هذه الفترة كان كتّاب المسرح يكتبون مقدمات لمسرحياتهم يطعنون فيها ببعضهم البعض بالغموض، بمعنى، أنهم كانوا يقدحون بعضهم البعض في الحاجة إلى التأويل.

لا أعلم ماذا تقصد باستعاراتك " "، لا تعلم ما هي الاستعارة: " ".

كل ما تكتبه هو خطأ لفظي تلو الآخر، لا أحد يمكنه فهمُك.

 هذه طبيعة المقدمات النثرية والشعرية للكتابات المسرحية في القرن الثامن عشر، ومن هذا يمكنكم رؤية أن التأويل ليس لم يُدرَس فحسب، بل يُعتبر غريباً تماماً عما له قيمة في الأدب؛ لو كان عليك تأويله، فهو ليس بالجيد.

ثم بانقضاء القرن الثامن عشر ستجد مع بروز الرومانسية نوعاً من "العبادة" (ـ كما هو معروف ومبالغ فيه عادة ـ)، ستجد فكرة أن كل شيء يبرز من ألمعية الذهن غير العادية أو التبصرات الروحية للمؤلف، وما يحتاج أن يُفهم عن الأدب هو عبقرية كتابته.

 حسناً، لكن في نفس الوقت، إذا كانت هذه هي الحالة، كان هذا بالتأكيد غير العادي على أهمية تعبير العبقرية. يمكنكم رؤية ما الذي بدأ يحدث. الخالق الأدبي بدأ يظهر وكأنه الخالق الإلهي، ويمكن أن يُفهَم بمعنى أخص على أنه حل محل الخالق الإلهي. تذكروا أن العلمنة تتزايد في الثقافة الغربية خلال عصر التنوير، أي خلال القرن الثامن عشر. ومن ناحية معيّنة، يمكن فهم الرومانسية وما هو مهم فيها من خلال ما سماه نورثب فراي: كتاب مقدس علماني، وبعبارة أخرى، معنى الأدب أصبح أصعب، لأنه ذاتي للغاية ولم يعد مرتبطاً بالقيم المشتركة. وأهمية الأدب، أي فهمنا لماذا فهمه مهم جداً تغير أيضاً، لأنه بالنسبة لعديد من الناس أخذ ـ جزئياً على الأقل ـ دور الدين، فمع بروز "الكتاب المقدس العلماني"، أي الأدب كشيء متصور له أهمية شديدة ويصعب فهمها، كذلك علوم وفن الهرمنيوطيقا بدأت بدخول ذلك المجال، وتحديداً اللاهوتي العظيم في العصر الرومانسي: فريدريك شلايرماخر [الذي] نذر حياته العلمية لمبادئ الهرمنيوطيقا، قصد تطبيقها على الأدب بمثل تطبيقها على الكتاب المقدس، وأسس تقليداً (مدرسة) كان من المعلوم فيها أن الأدب ذو مكانة مركزية للهرمنيوطيقا، ومن بعدها يوجد الكثير [ليقال] عن تاريخ الهرمنيوطيقا: أعمال دلتاي في نهاية القرن [التاسع عشر]، وعن كتاب هايدغر الكينونة والزمان في 1927، وعن غادمر الذي يمكن أن يفهم من نواحٍ عديدة باعتباره تلميذاً لهايدغر، وعن تقليد مستمر إلى اليوم، منبعث من الانشغال الاستهلالي لشلايرماخر بالأدب خلال الفترة الرومانسية.

حسناً، ما هي الإشكالية الرئيسية للهرمنيوطيقا في هذا التقليد؟

إنه شيء ربما سمعنا عنه، شيء سأحاول وصفه باختصار، شيء ما يسمى بالدائرة التأويلية. إذاً  ما هي الدائرة التأويلية؟

إنها علاقة بين قارئ ونص... أو كما في حالة بعض الأنواع المحددة عند باحثي الهرمنيوطيقا، (لكن أظن ليس لدى غادامر) هي علاقة بين قارئ ومؤلف.

 بعبارة أخرى، علاقة تهدف إلى فهم نيّة مؤلف ما، (مؤلف الاقتباس الرابع في ورقتكم اليوم)، أي. دي. هيرش ينتمي إلى ذلك التقليد، الذي فهم الدائرة التأويلية على أنها علاقة بين قارئ ومؤلف، حيث يكون النص شيئاً مثل وثيقة وسيطة يحتوي مقصد (معنى)المؤلِّف. لكن بالنسبة لغادامر وتقليده (مدرسته) الأمر مختلف قليلاً، يمكن فهمها على أنها علاقة بين قارئ ونص، ويمكن صياغتها بعدة طرق، عادة ما تصاغ بلغة "الجزء والكل".

 أقرأ نصاً، وبالتأكيد أول ما أقرأه هو عبارة أو جملة، لكن ما يزال هناك الكثير من النص، فهذا جزء، لكنني أبدأ مباشرة بتكوين رأي حول هذا الجزء بالنسبة إلى كلّ متخيّل أو مفترَض، ثم أستخدم هذا المعنى الذي أمتلكه عن شكل الكل لمتابعة قراءة أجزاء متتالية، أجزاء متتالية [سواء كانت] سطوراً أو جملاً أو أيا ما كان، وأظل أرجع هذه الأجزاء المتتالية إلى  معنى الكل الذي يتغير كنتيجة لمعرفة أجزاء أكثر وأكثر. إذاً دائرية هذا الانشغال التأويلي لها علاقة بالمراوحة جيئة وذهاباً بين تصورات معيّنة عن الكل الذي كونته من دراسة جزء، والانتقال بعدها من الجزء إلى الكل مجدداً، والعودة إلى الجزء.. العودة إلى الكل وهكذا.. بنمط دائري.

 هذا يمكن أن يفهم أيضاً باعتباره علاقة بين الماضي والحاضر، بمعنى أفقي التاريخي الخاص وآفاق تاريخية أخرى أحاول مقاربتها، فأراوح بين ما أعرفه عن العالم قبل قراءتي للنص وما يبدو أن النص يقوله نسبة إلى ما أعرفه، وكيف قد يغير معناي لما أعرفه من خلال الرجوع إلى ما أعرفه بشكل مستمر للوصول إلى فهم ما يقوله النص الماضي، وفي النهاية بالطبع ـ لأن الهرمنيوطيقا ليست شيئاً يحدث عبر مساحة تاريخية، هي أيضاً من الممكن أن تحدث عبر مساحة (فراغ) اجتماعية وثقافية أو حتى في اللامساحة، عندما نجري محادثة مع بعضنا البعض نحن نؤوّل: أحاول فهم ما تقوله، وعليّ أن أرجع إلى ما عليّ أن أقوله، والتواصل الدائري بيننا لا بد أن يبقى مفتوحاً كنتيجة لهذا الفهم المتنامي والمتبادل عما نتحدث عنه، وهو الشيء نفسه بالطبع في الحوار مع الثقافات، لذا افهموا أن الهرمنيوطيقا ليست بالضرورة حول ـ كما سيصوغها غادامر ـ دمج آفاق تاريخية، إنها أيضاً حول دمج آفاق اجتماعية وثقافية وشخصية، وينطبق على كل هذه المجالات.

حسناً، إذاً الدائرة التأويلية تتضمّن إحالة الذهاب والعودة هذه بين الجهات التي حاولت وصفها.

لنستمع إلى غادامر وكيف تشتغل دائرية هذا التفكير، (صفحة 727، عند نهاية العامود الأيسر). القارئ (يذكره غادامر بصيغة المذكر: هو)..

 يعرض القارئ أمامه معنى النص ككلّ لحظة انبثاق معنى ما من النص، بعبارة أخرى، عندما يبدو عليه الجزء يعرض أو يصوّر ما يجب أن يكون النص ـ الذي يحتوي هذا الجزء ـ عليه مجدداً، هذا الأخير ـ أي الاحساس بالمعنى الأولي ـ ينبثق فقط لأنه يقرأ النص مع توقعات معيّنة بخصوص معنىً محدد، الاشتغال على هذا المشروع التبصّري ـ أي الاحساس الذي نمتلكه عن معنى ما سنقرأه ـ الذي تعاد صياغته باستمرار باعتبار ما ينبثق خلال انكشاف المعنى يُفهم باعتباره ما هو هناك، بعبارة أخرى، "ما هو هناك" ـ وهو أسلوب في التعبير ورثه غادامر عن هايدغر ـ يتعلق بمعنى ما تحدث عنه غادامر أيضاً عن "دي زاخا"، أي مطلب الموضوع، بعبارة أخرى، جهد القارئ في فهم معنى نص ما هو جهد الاجابة على مطلب الموضوع، ما هو هناك و ـ وأعتقد بأنه من الممكن القول كنوع من إعادة الصياغة ـ عن ماذا يتحدث النص حقيقة؟ هذا ما يعنيه غادامر عندما يقول: ما هو هناك، على كل حال، يمكنكم أن تروا في هذه القطعة في الصفحة 722 أن غادامر يصف دائرية قراءتنا، وهو يصفها بطريقة قد تبرز عدة أمور تهمنا: "ماذا تعني ببنية تبصرية أو مشروع تبصري أو امتلاك تبصري؟" ألا يمكننا رؤية هذا الشيء ـ كما يمكننا أن نقول ـ : "موضوعياً"؟

بعبارة أخرى، ألا أكون متحيزاً بشكل ميؤوس منه حول ما أقرأ إذا كان لي نوعٌ من المفهوم الأولي عن [معنى] النص كله؟ لماذا لا أضع مفاهيمي الأولية جانباً حتى يمكنني فهم بالضبط ما هو هناك؟ كيف يمكنني فهم ما هو هناك إذا قاربته بشيء مثل فكرة أولية؟ التي لا يمكنني التخلي عنها أبداً في الحقيقة، لأن كل مراجعة لما أعتقد أنه هناك كنتيجة لقراءات أكثر [تلك القراءات] التي هي نفسها تصبح مع ذلك مشروعاً تبصرياً أو مفهوماً أولياً؟ بعبارة أخرى، هذه الطريقة في التفكير يبدو أنها تشير، أو هي تشير بالفعل، إلى أنه لا يمكنك الهرب من مفاهيمك الأولية عن الأشياء. بالتأكيد هذا أمر مزعج، خصوصاً عندما ترى هايدغر وغادامر يصران على أنه حتى مع وجود هذه المفاهيم الأولية دائماً التي يسميها غادامر بجراءة: "تحيزات / أحكام مسبقة" ـ وسنعود لهذا لاحقاً ـ حتى مع وجود هذه المفاهيم الأولية دائماً، هم مع ذلك ـ كما يقول هايدغر ـ تأخذ وتعطي مع الدائرة، بعبارة أخرى، الدائرة ليست بالضرورة دائرة مفرغة، هذا ما نُجر للخلوص إليه: لا يمكنني الهرب من التصورات المسبقة، أنا أراوح مكاني بلا فائدة؛ لأنني لن أحصل على أي نتيجة، لكن غادامر وهايدغر يقولان: هذا غير صحيح.

هذا غير صحيح، الدائرة ليست بالضرورة دائرة مفرغة، الطريق نحو الدائرة قد يكون بنّاءً، بمعنى، يمكنك أن تصل لنتيجة، إذاً يحق لك أن تقول: حسناً، قد يكون بنّاءً، لكن كيف؟( ألقوا نظرة على القطعة الثانية لهايدغر في ورقتكم. ليس كل القطعة، بل الجملة الأولى منها فقط، حيث) يقول هايدغر: "في التأويل، الطريقة التي نؤوّل بها الشيء، يمكن أن تستخرج من الشيء نفسِه، أو أن التأويل يجبر الشيء على مفاهيم تكون على الضد من نمط وجوده"، سنقول: تمهل لحظة! إذا كنت لا أتعامل إلا مع التصورات المسبقة هنا؛ فكيف يمكنني أخذ أي شيء من الشيء نفسه؟

يبدو أن هذا سيكون على المحك ما لم أستطع تجاوز تصوراتي المسبقة. حسناً، دعوني أضرب لكم مثالاً ـ كنت سأقدمه في وقت لاحق من المحاضرة، لكن أشعر بأنني أود تقديمه الآن ـ  في القرن الثامن عشر، شاعر يدعى مارك إيكنسايد، كتب قصيدة طويلة عنوانها: مباهج الخيال، وتوجد في هذه القصيدة هذه العبارة: الخالق العظيم رفع يده "البلاستيكية".

 الآن، لنقل بأننا مهتمون بالبوليميرات [المركب الكيميائي الذي يصنع منه البلاستيك]، ونعرف ما هو البلاستيك، لا نتردد في قول ما هو البلاستيك، فنقول أوه، يا إلهي! أظن الخالق العظيم لديه شيئ شبيه بالذراع الصناعية ورفعها، لا بد أن هذا هو ما تعنيه العبارة. لكن لو أننا عرفنا الأفق الذي كتب إيكنسايد قصيدته فيه لعلمنا أن كلمة "بلاستيك" في القرن الثامن عشر تعني: ملتوٍ قويّ، مرن.

 في تلك الحال، يمكننا مباشرةً ملاحظة ما الذي قصده أيكنسايد، لأن هذا سيكون معقولاً، رفع الخالق ذراعه الملتوية القوية المرنة، نعرف الآن أين موضعنا. الآن لاحظوا هذا: بعبارة أخرى، هذا مثال مناسب للتحيّز الجيد والتحيّز السيّء أليس كذلك؟

التحيز الجيد هو: وعينا المسبق بأن كلمة بلاستيك تعني شيئاً مختلفاً في القرن الثامن عشر عما تعنيه الآن، ونأتي بتحيّزنا (حكمنا المسبق) في تأويلنا لبيت القصيدة، وهذا طريق بنّاء نحو الدائرة طبقاً لهايدغر وغادمر.

 التحيّز السيّئ هو: عندما نقفز إلى النتيجة من غير التفكير لحظة أن قد يوجد أفق تاريخي آخر نعرف فيه معنى كلمة بلاستيك، والسبب الذي يجعلنا نميّز الفرق بالمناسبة هو إذا استدعينا معنى كلمة بلاستيك في القرن الثامن عشر سنرى مباشرة أن البيت في القصيدة معقول جداً، معقول وليس حتى شيئاً يستحق الذكر.

 لكن لو أحضرنا المعنى الخاص بنا ـ أي معنى البلاستيك عندنا ـ سيكون معنى البيت مجنوناً، أعني: ما هذا الجنون؟! لماذا يقول هذا عن الخالق العظيم.

 (أعتقد بأننا سنعود لهذا المثال الأسبوع القادم عندما نتظرّق لمقالة بعنوان "المغالطة المقصودة" لـ و. ك. ويسمات، وسنعيد النظر في احتمالية أن توجد قيمة في افتراض إيكنسايد قصد أن الخالق رفع ذراعه الصناعية، ولكن سأدع هذا للأسبوع القادم.)

أعتقد في الوقت الحالي، يجب أن يكون واضحاً لديكم أن هذا مثال جيد، أو طريقة جيدة لفهم الفرق بين تصوّر مسبق مفيد وتصوّر مسبق عقيم. في حال إحضارهم في فعل تأويلي وكيف قد تتعلق به. حسناً، في ضرب هذا المثال يبدو أنني سبقت الأحداث قليلاً، لذا دعوني أراجع ..

كما يمكنكم التنبؤ من خلال قراءة غادامر، ومن عنوان الكتاب العظيم الذي أخذت منه هذه القطعة: الحقيقة والمنهج، ومن الاشارة الضمنية أن هناك فرقاً بين الحقيقة والمنهج.

 اعتراض غادامر الأهم على طرق أشخاص آخرين في الاشتغال بالهرمنيوطيقا هو أنهم يعتقدون بوجود منهجية للتأويل، والمنهجية الرئيسية التي يهاجمها غادامر هي ما يسميه: التاريخانية.

هذه كلمة مشكلة بالنسبة إلينا؛ لأننا سنتحدث لاحقاً في هذا الفصل الدراسي عن التاريخانية الجديدة. والتاريخانية الجديدة لا علاقة لها بما يعترض عليه غادامر في هذه الصيغة للتاريخانية. سنعود للتاريخانية الجديدة في ذلك السياق، لكن الآن، ما يقصده غادامر بالتاريخانية هو: الاعتقاد بأنه يمكنك تنحية التصور المسبق، بعبارة أخرى، يمكنك إزالة ذاتيتك، منظورك، حالتك التاريخية المشروطة تماماً، وجهة نظرك، يمكنك إزالة هاته الأمور تماماً لكي تدخل إلى عقلية زمان أو مكان آخر، أي بإمكانك الدخول في عقل الآخر (فهمه) تماماً، هذا هو هدف وموضوع الأرخنة، وكما سنرى في نهاية المحاضرة، هناك أصالة معيّنة فيها توضع بجانب أصالة الهرمنيوطيقا الغادامرية، لكن [ما يهمنا] في الوقت الحالي هو أن غادامر يعترض على هذا لأنه يقول: ببساطة، لا يمكنك فعل هذا، لا يمكنك إزالة هذه التصورات المسبقة.

يقول: كل ما يمكنك فعله هو إدراك أنك موجود وتعيش وتفكر بشكل واعٍ ضمن أفق معيّن، إدراك أنك تقابل أفقاً آخر وجهاً لوجه وتحاول تجسير الهوّة بين أفقك والأفق الآخر، بعبارة أخرى، ولصياغتها بشكلٍ أوضح: العثور على أرضية مشتركة والعثور على طريقة ما لدمج حاضر مع ماضٍ، وهنا مع هناك، بحيث تنتج ما أسماه غادامر: دمج الآفاق. دمج الآفاق هذا فيه نتيجةٌ يسميها غادامر: تاريخ مؤثر، وما يعنيه بتاريخ مؤثر هو التاريخ المفيد، أي تاريخٌ يمكنه حقاً أن يكون ذا نفع لنا وليس مجرد مراكمة محفوظات أو إبعاد أنفسنا عن الماضي. سأقول مجدداً، مستبقاً الوقت الذي يجب عليّ قول هذا فيه، يعتقد غادامر أن هناك شيئاً لا أخلاقي في التاريخانية. لماذا؟ لأنها تترفع عن الماضي، إنها تفترض أن الماضي ليس إلا مستودعاً للمعلومات لا يخطر على بالها لحظة بأنه لو دمجنا أنفسنا بلحظة الماضي، أن الماضي قد يخبرنا بشيء نود معرفته. بمعنى أنه ربما في إمكانه تعليمنا شيئاً ما. يعتقد غادامر أن التاريخانية نسيت احتمالية أن تُعلَّم شيئاً من الآخرية أو الماضي، الآن، أعتقد أنه لجعل وجهة النظر هذه معقولة، ربما علينا دراستها فلسفياً بشكل أعمق قليلاً. أي أنت تقول لنفسك: طيب، بالتأكيد، يمكنني ـ وأنا أفاخر بهذا ـ إزالة جميع أنماط الذاتية، ويمكنني أن أكون موضوعياً حقاً، بمقدوري فهم الماضي تماماً من حيث هو بدون أي تصورات مسبقة.

 يقول هايدغر: "في تعاملنا مع أي شيء، إن مجرد الابصار بأقرب الأشياء لنا يحمل في ذاته بنية التأويل (التفسير) على نحو أصلي بلغ حداً بحيث إن أي إمساك بشيءٍ ما... إنما يحتاج إلى تغيير معيّن للوضع.

ما الذي يقوله هايدغر؟ ما يقوله هو: أقف هنا، ولا أفعل شيئاً إلا النظر (الإبصار)، أنظر إلى القسم الخلفي ولا أرى إلا تلك اللوحة التي تقول: "مخرج". أنا لا أؤوّلها. ليس لديّ أي تصورات مسبقة عنها. أنا أنظر لا أكثر.

 يقول هايدغر: هذا وهم. كيف أعرف أنها لوحة؟ كيف أعرف بأنها تقول "مخرج"؟ لقد جلبت ملايين التصورات المسبقة في ما أعتبره فعل نظر بسيط. ثم يقول هايدغر: ليس غير مثير للاهتمام تخيّل إمكانية النظر إلى شيء بدون النظر إليه كـ "شيء"، سيكون أمراً مبهجاً، أليس كذلك؟ أن يكون الشيء قائماً أمامنا لا أكثر. لكنه يقول: أتعلمون؟ هذا من سابع المستحيلات. في الواقع هو أمر صعبٌ للغاية، وفعل اشتقاقي للتفكير محاولة نسيان أنني أنظر إلى لوحة تقول (مكتوب عليها) مخرج، والنظر إلى ما هو هناك لا أكثر من غير أن أعرف.

 بعبارة أخرى، أنا لست لا أعرف من النظرة الأولى أن تلك اللوحة تقول مخرج. أول شيء أعلمه هو أنها لوحة تقول مخرج. لا وجود لفعل واعٍ قبلي، إنه أول شيء أعمله. محاولة ألا تفكر بأن اللوحة تقول "مخرج لهي تجربة فكرية مثيرة للاهتمام، وكما يذكر هايدغر في هذه القطعة، هذه تجربة فكرية ـ لو كانت ممكنة أصلاً ـ تأتي من هذه المعرفة القبلية. دائماً ما أعرف الشيء أولاً باعتباره شيئاً لو أمكنني النظر إليه قائماً أمامي لا أكثر هو فعل صعب للغاية، ولا يمكن فهمه بوصفه أصلياً أو ابتدائياً. أنا لا أمتلك تأويلاً مسبقاً لأي شيء / موضوع أنظر إليه. وهذا لا يعني القول أن تأويلي صحيح. ما يعنيه فقط هو: لا يمكنني الهرب من حقيقة أن حركتي الأولى ـ وليس حركتي الأخيرة ـ مؤوّلة.

 دائماً ما نرى الشيء باعتباره شيئاً، وهذا بالتحديد هو فعل التأويل. لا يمكننا أن نرى الشيء قائماً أمامنا، أو كما أقول، لو أمكننا ذلك. إنه فعلٌ صعبٌ جداً جداً.

أكمل قراءة القطعة: "هذا الامساك (الفهم) الخالي من "حيث هو" حرمان من مجرد الابصار الفاهم"

 ويمكنكم رؤية ما مدى أهمية هايدغر بالنسبة لنا، لأنه في خطابه ـ هو حرمان من مجرد الابصار الفاهم الذي يكون فيه الشخص فاهماً فحسب"، بعبارة أخرى، سيكون شيئاً مذهلاً ألا تفهم كما يقول هايدغر، لا يمكننا "جلب" الفهم. نحن نفهم تلقائياً. هذا لا علاقة له ـ كما قلنا  ـ بـ هل نحن على صواب أو على خطأ، نحن نفهم تلقائياً، إنه أشبه ما يكون بفهم محبوس، وعندما يقول هايدغر: ألن يكون من الرائع أن نفهم فحسب؟ ما يعنيه هو: ألن يكون من الرائع أن يوجد الشيء أمامنا فحسب؟ لكنه يؤكد بشدة أيضاً أنها لحظة تفكير صعبة للغاية إن لم تكن مستحيلة. لهذا السبب، وربما هذه هي القطعة المحورية، ولا أريد الوقوف ـ هنا، يمكنكم رؤية القطعة رقم 3 في ورقتكم التي تقول ـ تقريباً ـ ما يقوله هايدغر في القطعة الأولى "لهذا السبب، علينا دائماً الاشتغال كمؤوّلين مع المفاهيم المسبقة والفهوم المقدّمة".

 الآن، ماذا عن هذه الكلمة: تحيّز (حكم مسبق)؟ إنها كلمة إشكالية إلى حدٍّ ما. يدافع غادامر عن هذه الكلمة، ويبحث عن أصول الكلمة المناسبة الفرنسية والألمانية، كلها تعني: حكم مسبق، أو حكم قبلي، ويمكن في الحقيقة استعمالها في المحكمة باعتبارها مرحلة للوصول إلى حكم. لا حاجة للتفكير فيها بوصفها تحيزات مبتذلة: كما يقول غادامر هذه صفة مميزة لعصر الأنوار "إنه حكم مسبق ضد حكم مسبق"، بمعنى يمكننا أن نكون موضوعيين.

 حسناً، لكن الحكم المسبق أمر سيء. نعلم بأن الحكم المسبق أمر سيّء. نعلم ما فعله الحكم المسبق تاريخياً واجتماعياً، فكيف يمكننا تبريره والدفاع عنه بهذه الطريقة؟ إنه أمر إشكالي بحق. ما فعله غادامر في مقالته هو في الحقيقة فعل محافظ فكرياً. يجب الاعتراف بهذا. كل الجزئية في المقالة التي تحدث فيها عن النزعة الكلاسيكية، وقد تقول لنفسك عندما تقرأها: أوه يا إلهي، أليس هذا استطراداً ـ خارجاً عن الموضوع؟ لأي سبب يهتم بالنزعة الكلاسيكية كثيراً؟

هذه الجزئية برمتها التي يتحدث فيها عن النزعة الكلاسيكية، والتي سيسميها لاحقاً: التراث.. المغزى منها هو الاشارة إلى أنه في الحقيقة ليس بوسعنا دمج الآفاق بفعالية ما لم نمتلك أرضية مشتركة في غاية الاتساع والانبساط مع ما نقرأه، وأعظم ما في النزعة الكلاسيكية بالنسبة لغادامر، أو ما يسميه "تراثاً" هو أنه شيء يمكننا مشاركته.

الكلاسيكي ـ يقول غادامر ـ هو ذاك الذي لا يخاطب لحظته التاريخية فحسب، بل يخاطب كل الأزمنة. يخاطبنا كلنا بطرائق مختلفة، لكن [في النهاية هو] يخاطبنا؛ بمعنى، يعرض دعواه لقول الحقيقة، الكلاسيكي يمكنه فعل ذلك.

نقول لغادامر: حسناً. عظيم. بالتأكيد أنت تُصَنَّف [في هذه الحالة] ضمن مبدأ التفكير المحافظ. ربما مبادئ أخرى للهرمنيوطيقا ستركز أكثر على الابداع أو الجدة أو الاختلاف، لكنك لست واثقاً من أن في إمكان الناس الفهم ما لم يتشاركوا أرضية مشتركة واسعة". حسناً، لكن أتعلم؟ هنا [بالضبط] يتسلل الجانب السيّء من الحكم المسبق.

الرق كان يعتبر ملائماً وطبيعياً بالنسبة لكثير من الشخصيات المبجلة الذين يشتغلون داخل [هذا] التراث الذي يسميه غادامر بحق: كلاسيكي. العتاقة الكلاسيكية. الكثير من الشخصيات في العصر الحديث لم يتوقفوا عند مسألة الرق. الرق كان جانباً من جوانب الثقافة الكلاسيكية التي لها مسوّغاتها.

لم يتحدث غادامر عن هذا الموضوع كما هو واضح، لكنه جانب من هذا الحكم المسبق الذي قد يشاركه شخص ما مع التراث، إن لم يكن ـ بطريقة ما ـ أكثر نقداً؛ فرمزية المشاركة هذه قد تذكر. ما أريده هو لفت انتباهكم إلى المجازفة المتضمنة في انخراطنا في مشروع هرمنيوطيقي مثل مشروع غادامر. لا أقول بأن غادامر يدعو إلى الرق أو أي شيء من هذا القبيل، لكن أن أقول: أن الحكم المسبق ـ بينما يمكننا فهمه ببساطة على أنه يعني مفاهيم مسبقة لا مفر منها، وفهم هذا فلسفياً ـ مع ذلك، يمكن أن يكون أمراً سيئاً، وعلينا أن نفهم أنه شيئ ـ لو قبلنا وجهة النظر هذه ـ علينا تقبله والعيش معه.

 إنه أمر مزعج، وهو مزعج بطرق أخرى لن أناقشها الآن. أعتقد بأن ما أود فعله في ما تبقى من الوقت هو لفت انتباهكم إلى قطعتين، الأولى في نص غادامر الذي سأقرأه قريباً، والثانية هي القطعة الرابعة في ورقتكم لشخصٍ يدعى إ. د. هيرش الذي قد تعرفونه بوصفه مؤلف قاموس يجب أن يكون معروفاً لكل طفل في المدرسة، وكشخصية أشبه ما تكون ببطل للحق الفكري طوال الفترة التي ازدهرت فيها النظرية الأدبية، لكن أيضاً كشخصٍ له كتابات جادة في الهرمنيوطيقا، وخاض معركة طوال حياته مع غادامر حول مبادئ التأويل.

القطعتان اللتان سوف أقرأهما تربطان بين الآراء التي أحاول استثارتها في توصيف موقف غادامر. أهمية وأصالة غادامر تكمن في اهتمامه بشيء حقيقي، بمعنى، في أمله بوجود علاقة وطيدة بين المعنى، الوصول للمعنى، والوصول لشيء يخاطبنا بوصفه حقيقة.

في المقابل، يستثير هيرش نمطاً مختلفاً تماماً للأهمية. ما اريد منكم ملاحظته خلال ربطنا لهاتين القطعتين هو استحالة التوفيق بينهما وتقدمان خياراً للمهتمين بالتأويل، وعليهم في النهاية الاختيار، وتقدمان أنماطاً مختلفة للالتزام.

يقول غادامر ـ مهاجماً التاريخانية مجدداً ـ : "النص الذي يُفهم تاريخياً يجبر على التخلي عن ادعائه بأنه ينطق بشيء حقيقي، نظن بأننا نفهم عندما نرى الماضي من منظور تاريخي، بمعنى، نموضع أنفسنا في الحدث التاريخي ونسعى لإعادة بناء الأفق التاريخي."

 حاولت تلخيص هذا الموقف؛ لذا أظن بأن ما أقرأ واضح وسهل لكم الآن ـ في الواقع، لقد تخلينا عن ادعاء العثور على أي حقيقة صحيحة ومعقولة بالنسبة لنا في الماضي.

(وبالمناسبة، ينطبق هذا أيضاً على الحوار الثقافي. مثلما، لو كنت فخوراً بمعرفتي أنه في ثقافة أخرى إذا تجشأت فإن هذا يعتبر إطراءً للطباخ)

مثلاً، لو كنت فخوراً بمعرفتي أنه في ثقافة أخرى إذا تجشأت فإن هذا يُعتبر إطراءً للطباخ، لو كنت فخوراً بمعرفة هذا من دون استخلاص أية نتائج منه، هذا تقريباً مشابه للتاريخانية. إنها بالنسبة لي مجرد حقيقة ظاهرية. بعبارة أخرى، هي ليست لتقبّل وفهم أي شيء، هي ليست سعياً للانخراط في حوار. إنها مجرد أرخنة للآخر بطريقة ترضي سعيي نحو المعلومات. إذاً إنها ليست مجرد سؤال عن الماضي، كما قلت آنفاً. إنها سؤال حول الحوار الثقافي أيضاً. بالتالي، هذا الاقرار بآخرية الآخر الذي يجعله موضوعاً للمعرفة الموضوعية يتضمن تعليقاً ضرورياً لدعواه عن الحقيقة".

[يبدو أن المقصود بالتاريخانية، تلك المعرفة المعرفة المتعلقة بأحداث الماضي، والتي تنزع عنها أي صفقة معقولية في الحاضر. ملاحظة منّي]

 

هذه حجة مفحمة. وأعتقد بأنها حجة ذكية. أعتقد أنها تعين على تذكيرنا بما نخاطر به عندما نبرز مفهوم الموضوعية.

طبقاً لغادامر، في مفهوم الموضوعية ضمنياً تخلٍ عن إمكانية تعلم شيء ما من الموضوع، من التعلم من الآخرية، يصبح مجرد سؤال عن معرفة الموضوع، معرفته لذات معرفة الموضوع لا أكثر. معرفته بمصطلحاته، وليس بالضرورة تعلم شيء منه، أو أن تكون مخاطباً منه.

حسناً، الآن استمعوا لهيرش. هذا بالفعل خيار صعب..( الدقيقة 42 من المحاضرة)

يقول هيرش معتمداً على كانط، يرى كانط بأن أساس الفعل الأخلاقي هو أن "يعتبر البشر غاية في أنفسهم وليس كأداة لبشر آخرين.

بعبارة أخرى، أنت غايةٌ ولستَ وسيلةً لي، إلا لو كنت أستغلك واتخذك كأداة، أليس كذلك؟ هذا موقف كانط، وهذا ما يحاول هيرش الدفاع عنه.

فكرة أنه لا يمكنني تقبل وفهم شيء ما بوصفه ذلك الشيء هو جعل الشيء أداةً. بعبارة أخرى مقاربته لمصلحتي. هذا يقلب فكرة أن الآخر يتحدث بحقيقة رأساً على عقب. هذا يقلبها على رأسها ويقول: لا لا، أنت تكيّف الآخر من أجل مصلحتك. أليس كذلك؟ أن تجعل الآخر أداة، أنت لا تتخذ الآخر بذاته جِدّياً. هذا رد هيرش. ويتابع: "هذا الأمر الالزامي ممكن التحويل إلى كلمات البشر، لأن الخطاب هو امتداد وتعبير عن البشر في المجال الاجتماعي، أيضاً لأننا عندما نفشل في ربط نيّة الانسان بكلماته، نخسر روح الخطاب، الذي ينقل المعنى وفهم ما الذي قُصد نقله".

لاحظوا أصالة ونبل هذا الطرح بجانب أصالة ونبل غادامر، وهذا واضح ومؤلم، ويبدو أنه يجلبنا إلى مفترق طرق، حيث نودّ أن نذهب إلى الاتجاهين معاً. وحتى مع هذه الحالة، تنبهوا إلى هذا الشيء. لم يقل هيرش أي شيء حول الحقيقة. يتحدث عن المعنى. هذا جيد. ويذكر مفهوم الوصول للمعنى الصحيح بأكثر ما يمكنه من تشريف للمعنى، لكن عدم حديثه عن الحقيقة أمر له دلالته. غادامر هو من تحدث عن الحقيقة. بالنسبة لهيرش، الشيء المهم هو المعنى. بالنسبة لغادامر، أن يكون المعنى حقيقياً، وهنا يكمن الفرق الأساسي بينهما. غادامر يستعد للتضحية، بسبب اعتقاده بعدم امكانية التنصّل من المفاهيم المسبقة. هو مستعد للتضحية بمضبوطية الثقافية أو التاريخية للمعنى. هو مستعد دائماً للاعتراف بأن هناك شيئاً مني في تأويلي، لكنه شيء جيد، لأنني في النهاية على وعي بأفق الآخرية، فأنا لا أقول ببساطة أن "بلاستيك" تعني بوليمر. مع ذلك، هناك شيء مني في التأويل.

هيرش يقول: إن لا شيء مني في التأويل، وبالتالي يمكنني أن أصل لمعنى الآخر بموضوعية ودقة. وأنا أكرّم الآخر من خلال الوصول بمثل هذه الدقة للمعنى. لكن لاحظوا بأن "الحقيقة" غير حاضرة. لا يبدو بأنه سؤال مطروح بالنسبة لهيرش إذا ما كان الآخر يتحدث بحقيقة. هذا بالمناسبة وصف غير دقيق لهيرش؛ لآن سؤال الحقيقة حاضر عنده، فكل ما عليك فعله هو قراءة كتاباته لترى بأن الأمر يهمه إذا ما كان الآخر يتحدث بحقيقة، لكنه [سؤال الحقيقة] غير متضمن في الموقف الفلسفي الذي يتخذه هنا. إنه شيء يضحي به الموقف الفلسفي [في هذه الجزئية]. حسناً، هذا هو الفارق الأساس. وكما أرى الأمر، هما موقفان فلسفيان لا يمكن التوفيق بينهما. إنه أمر يتركنا بين خيارين يجب أن نختار بينهما، وهو خيار يظهر على امتداد مقرر في النظرية الأدبية، وفهم تراث النظرية الأدبية. البعض سيأخذ جانباً، والبعض الآخر سيأخذ جانباً آخر، وسنجد أنفسنا نصطف معهم، أو قد لا نصطف معهم، يعود هذا جزئياً على الأقل لأسباب تبرز بن التمييز بين الموقفين الذي وضحته اليوم.

قد تكون لنا محاضرة عن إيزر، لكن في المحاضرة القادمة سندرس تنوع المدرسة الشكلانية، وقبل هذا سندرس النقد الأمريكي الجديد. وشكراً.

 

تم نقلها عن https://www.youtube.com/watch?v=d4huM_XYOp4

بتاريخ 29 كانون الثاني 2016

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق