الثلاثاء، 28 يونيو 2016

الزواوي بغورة: الحداثة وما بعد الحداثة



الحداثة وما بعد الحداثة

الزواوي بغورة

 

محاضرة قمت بتفريغها عن يوتيوب

إن موضوع الحداثة وما بعد الحداثة، هو كما تعلمون موضوع واسع وقد شغل وما زال يشغل الباحثين والكتّاب والنقّاد والفلاسفة، وإن أي مراجعة للمنشورات يبيّن قيمة وأهمية هذا الموضوع، ولكن بالنظر إلى أن هذا الموضوع واسع فقد اقترحت أن نكتفي بالنظر في قضية واحدة أو بإشكالية واحدة، لأنه، كما تعلمون، لأن لكل إشكالي لها أهميتها المنهجية، وبالفعل فإن الحداثة وما بعد الحداثة طرحت الكثيرمن الإشكاليات منها هذه الإشكالية التي أريد أن أحدثكم عنها اليوم وهي الهوية والعالمية.

وتعلمون أنه في ثقافتنا العربية الحديثة منذ القرن التاسع عشر أو منذ عصر النهضة فإن مشكلة الهوية هي واحدة من المشكلات الدائمة والمستمرة والتي تُطرَح بأشكال مختلفة لكنها تبقى إشكالية شبه مركزية في الفكر العربي الحديث، ولذلك رأيت أنه من المناسب في هذه الأمسية أن ننظر إليها إن كان بالإمكان أن تمدّنا الحداثة أو ما بعد الحداثة ببعض التصوّرات التي  اعتمدنا أنها تسعفنا في الخروج من الكثير من المآزق التي تواجهنا أو التي تواجهها ثقافتنا العربية. بطبيعة الحال أحاول في هذه المداخلة أن أكون علميّاً بقدر الإمكان، ولكن لا يتسنى لي ذلك إلا بإجراء بعض التحديدات، ولذلك فلتغفروا لي ربما ميلي نحو الدقّة ونحو التحديد، وخاصةً إذا ظهر كلامي مجرداً بعض الشيء، لكن الموضوع بحد ذاته يحتاج قدراً من هذا التدقيق وقدراً من هذا التحديد. أقول لكم ذلك لأنه تعلمون أن كل تحديد، أياً كان هذا التحديد هو نسبي؛ نسبي معرفياً بحكم ما نملكه من معرفة، ونسبي تارخياً، فنحن في النهاية كائنات تاريخية. ثم إنه مثلما قال باروخ اسبينوزا فإن كل تحديد هو نفي، فأنا عندما أحدد شيئاً فإنني أنفي عليه، وبذلك فإن  في كل تحديد نوع من الانتقائية، وهذه الانتقائية مفروضة في البحث العلمي، وبالتالي فإن الهدف من هذا التحديد، وأتمنى أن نحققه في هذه المحاضرة، هو بلوغ قدر من الوضوح، فوضوح العبارة ووضوح الفكر فضيلة، وما يهمنا في هذه المداخلة هو أن نصل إلى قدر من الوضوح الذي يمكننا من إقرار بعض الحقائق. لذلك فإنني سأحاول معكم أن أبيّن في البداية ماذا نقصد عندما نتكلم عن الحداثة، وماذا نقصد عندما نتكلم عن ما بعد الحداثة، وأهم من كل ذلك ما علاقتنا نحن بكل ذلك، وإنني سأتكلم عن هذا الموضوع انطلاقاً من ثقافتي الغربية التي عرفت هذه المصطلحات بنظرياتها المختلفة، وبالتالي فإن السؤال الذي يطرح نفسه: ما علاقتنا نحن بهذه المصطلحات التي في بعض الأحيان تعج بها ساحتنا الثقافية.

أريد في البداية أن أتوقف عند الحداثة، لأقول لكم بأن صفة الحديث قديمة في الثقافة الأوروبية. المؤرخون وفقهاء اللغة يقولون بأن كلمة حديث في اللغة اللاتينية تعود إلى القرن الخامس الميلادي، واستُعمِلت هذه الصفة في سياق الصراع الذي يعرف في كل الأشكال الثقافية، الصراع بين القدماء وبين المحدَثين. استُعمل في التاريخ الغربي ضمن سياق الصراع بين القدماء والمحدَثين، القدماء كانوا يتمثلون بالتراث الروماني الوثني، والمحدَثون كانت المسيحية. فإذاً، صفة الحديث قديمة، لكن لفظ الحداثة يعود فقط إلى القرن التاسع عشر، وإلى استعمال جمالي قبل أن يكون استعمالاً فلسفياً أو استعمالاً سياسياً واجتماعياً. الدراسات تشير إلى أن الشاعر الفرنسي بودلير هو الذي استعمل كلمة الحداثة في دراسة له بعنوان رسام الحياة الحديثة، وكانت تخص فناناً ورساماً هو ... فهذا الشاعر هوالذي صاغ هذه الكلمة. هذا من الناحية فقط التاريخية. لكن إذا سألنا ماذا كان يقصد بودلير بهذه الكلمة؟ كان في الواقع يتحدث عن الجانب الجمالي ليقول بأن الحداثة تشير إلى كل ما هو عابر، إلى كل ما هو متغيّر. ولكن هذا العابر والمتغيّر يجد قيمته في ذاته، فهو يتأسس على نفسه ولا يتأسس على غيره، وطبعاً هنا إشارة إلى الماضي. إذاً فالحداثة تملك القدرة على أن تتأسس (جمالياً) على نفسها، أي تجد أعمدتها وأسسها في نفسها ولا تحتاج إلى أن تستدعي قيماً خارج زمنها. هذا الاستعمال أو هذا المعنى هو في الواقع نجده كذلك عند فيلسوف معاصر ولكن سابق لبودلير (1821ـ 1867) ببعض السنين وهو الفيلسوف الألماني هيغل (1770ـ 1831)، فهيغل في كتابه فينومينولوجيا الروح لم يتكلم عن الحداثة ولكنه استعمل "الأزمنة الحديثة".

 ولكن في تعريفه للأزمنة الحديثة اتفق تقريباً مع بودلير عندما قال بأن الأزمنة الحديثة تجد معيارها في ذاتها، أي أنها لا تحتاج لمعايير من خارجها. ولذلك، في النقد الأدبي، وأنا يشرفني حضور زملائي في قسم اللغة العربية.. في الواقع، الحداثة ترتبط مباشرةً في النقد الأدبي بالإبداع. لذلك عندما يقول هيغل وبودلير بأن الحداثة تجد معيارها في ذاتها، فهي في الواقع تقدم المعيار الأساسي. وتتابعون في مناقشاتنا في ما يتعلق بفكرنا العربي هو أننا نقول الثقافة العربية (8د 37ثا)... ونشعر دائماً بأننا لسنا حداثيين لأننا لسنا مبدعين، والسبب في ذلك، إذا اعتمدنا تعريف بودلير وتعريف هيغل هو أن حداثتنا هي اليوم، إذا جاز الحديث عن ذلك، لا تجد معيارها في ذاتها. فهي إما أنها تستند على ما يأتي من الغرب وإما أنها تستند على ما يأتي من الماضي.  وبالتالي فإن المعنى الجمالي والمعنى الفلسفي تعتمد على هذا الشيء الذي أسمّيه أنا بالهوّية الواعدة. ولكن للدقة العلمية فإن الحداثة ليست ..بالمرّة مسألة فنّية جمالية أو مسألة فلسفية نظريّة، بل هي، وهذا بالنسبة لي مهم للغاية، يجب أن ننظر إلى الحداثة، الأوروبية بطبيعة الحال، على أنها عملية تاريخية شديدة التعقيد. لا يمكن في حقيقة الأمر أن نختصرها في تعريف أو في تعريفين. لذلك أريد أن أقول لكم وأن أحدثكم عن بعض السمات العامة. الحداثة في أوروبا لا يمكن أن نفصلها أبداً عما يُعرف بالنهضة وعما يُعرَف بالتنوير. وعملياً، فإن الأزمنة الحديثة التي كان يتكلم عنها هيغل قبل قليل، هذه الأزمنة كانت تعني أنها تختلف عن العصور الوسطى، هذا أولاً. ثانياً، أن هذا الاختلاف رافقته أحداث كبيرة، ومن هذه الأحداث ما هو مادي بحت، بحيث تم كما تعلمون في نهاية القرن الخامس عشر اكتشاف قارة كاملة وهي القارة .. إن هذا الاكتشاف أعطى منظوراً جديداً لمفهوم العالم الذي سنتحدث عنه بعد قليل، لكن كذلك رافقته أحداث علمية كبرى تتمثل في الاكتشافات في مجال الفلك وفي مجال الفيزياء.. وتعرفون الأسماء المعروفة: كوبرنك، غاليله، نيوتن، لابلاس وغيرهم.. ولكن النهضة أيضاً عرفت شيئاً أساسياً وهو ما نسميه بالنزعة الإنسانية التي مثلها كتاب وأدباء مثل إيراسم. هذه النزعة الإنسانية في الواقع أكدت تقريباً ما ذهب إليه هيغل عندما دعت إلى الفرد وإلى حرية الفرد في الابداع وفي الاستكشاف. تاريخ الاستكشافات الجغرافية تعود إلى أن النهضة أعطت للإنسان الأوروبي حرية الحركة وأن يستكشف، وتمت الاستكشافات الجغرافية التي تعرفونها. ولكن في عصر النهضة كذلك حدث شيء يعزز هذا المعنى الخاص بالذات وهو مدى الإصلاح الديني، إذ أننا نعرف أن البروتستانتية كانت تقول، وهو ما يردده لوثر: على المؤمن أن يعود مباشرة إلى الكتاب دونما واسطة، أي أن تقرأ بنفسك.. إذاً الحداثة ليست عملية قاموسية القصد منها هو تعريفها.لا. إنها عملية تاريخية شديدة التعقيد وأخذت بعض سماتها الأساسية التي يمكن أن أعدد بعضها.. السمة الأولى لهذه الحداثة، التاريخية وليس الحداثة الفكرية أو الحداثة الجمالية، السمة الأولى هي الوعي بعالم جديد وإعطاء نظرة مخالفة لما كان في العصور الوسطى الأوروبية، وهي نظرة جديدة للعالم وللكون.

ثانياً، لا يمكن أن نتحدث عن الحداثة بدون مفهوم جديد للذات، وهذه الذات هي التي أدت إلى ظهور الفرد الحديث وظهور الهوّية الحديثة، ولقد عزز ذلك كما تعلمون من الناحية السياسية والاقتصادية النظامين الليبرالي والرأسمالي.

ثالثاً، سيطرة ليس العقل وإنما العقلانية، أي إيجاد التشيكلات العلمية للعالم، وذلك بغرض أن يسود الإنسان في العالم كما يقول ديكارت. بهذا لا يختلف ديكارت صاحب المنزع العقلي مع باكون صاحب المنزع التجريبي لأن هدفهما كان واحداً وهو أن المعرفة العلمية يجب أن تسمح لنا بالسيطرة على العالم وبالسيطرة على الطبيعة. مع كل هذا فإن المؤرخين يقولون بأن الحداثة لم تكن في عصر النهضة، يعني القرن السادس عشر، ولا في عصر التنوير، يعني القرن الثامن عشر أسلوب حياة، كان فقط ملامح. مثل ما نشاهده اليوم في ثقافتنا العربية. لم تتحول الحداثة إلى أسلوب [حياة] إلا في القرن التاسع عشر، وذلك بسبب حاجة اجتماع شديد تعرفونه وهو الثورة الفرنسية. الثورة الفرنسية أدت إلى ظهور الدولة الحديثة، ولذلك فمن المعالم الأساسية للحداثة هو الدولة الحديثة بمؤسساتها وقوانينها، وبخاصة بفصلها المجال العام عن المجال الخاص والمجال الديني عن المجال السياسي. وأخيراً، هذه الحداثة لها ميزة تفصلها عن بقية المصطلحات والحالات والظواهر، وهي أنها، كما قال هيغل، لها وعي بالزمن. وهو ما يجعلها تاريخية. لذلك فإن الحداثة وما يتحقق بالحداثة ليس شيئاً أسطورياً، ولا شيئاً طوباوياً. الحداثة تحقق نفسها في التاريخ، ولذلك فهي تتجدد، تريد أن تكون دائماً معاصرة، وتريد أن تكون دائماً عالمية، وهذا ما نلاحظه على أي منتوج صناعي وعلى أي منتوج زراعي أو منتوج فكري يصدر من أوروبا، وبالتالي فالحداثة تعي أنها تاريخية، وبالتالي محكومة بأن تكون دائماً وإلا تتلاشى. وهذا ما يبنيه هيغل بلغته بالوعي الشقي.

بناءً على هذه السمات العامّة الخمس العامة، نريد أن نتوقف عند مسألة الهوّية والعالمية التي تعنيها. لا نستطيع أن نجد فيلسوفاً توقف عند هذا أكثر من هيغل، فهو في كتاب فينومينولوجيا الروح يحدد الحداثة في وعيها لهوّيتها، ولكن السمة الأساسية لهذه الهوّية هي حريتها. إذاً ليس فقط أن الحداثة دعت إلى هذا، لكن هي ربطتها ربطاً عضوياً بالحرية. يقول هيغل (فقط تأكيداً لما ذكرته): إن ما يصنع عظمة عصرنا يقوم على الاعتراف بالحرّية بوصفها خاصية الروح.

وطبعاً هيغل كما تعلمون يلجأ إلى التاريخ، وبشكل خاص إلى فلسفة التارسخ للاستدلال على هذا الموضوع، وعلى أن الوعي يظهر عندما يرتبط بالحرية، ولقد بيّن ضمن نظرية يمكن أن تكون موضوع مناقشة، أن هذا الوعي بالحرية ظهر في ثلاث حقب تاريخية: الحقبة الشرقية حيث يكون الحاكم هو الحر، والحرية في المرحلة اليونانية حيث يكون المواطنون فقط هم الأحرار، ثم تصبح هذه الحرية سمة للنوع الإنساني وذلك عندما تبلغ الدرجة الجرمانية، وهو كان يتكلم عن الثقافة البروسية.

إذا مسألة الهوّية كانت مرتبطة أشد الارتباط بالحداثة، ولكن الهوية المقرونة بالحرية، ومقرونة بشيء آخر أنها هوية عالمية، ولقد جسد ذلك الثورة الفرنسية وبيانها الخاص بحقوق الإنسان والمواطن، وتعرفون بأن هيغل من الذين رحبوا بالثورة الفرنسية، بل أكثر من ذلك رحبوا بـ "غزو نابليون لألمانيا"، وكان يقول بأنني أرى الحرية على جواد نابليون. لماذا؟ لأنه بالنسبة له لا يمكن أن نتحدث عن هوية حديثة بدون الحرية، وبطبيعة الحال هو كان له تعريف للحرية يتميز بهذه الكلية وبهذه العالمية عندما قال بأن كل ما هو عقلي واقعي وكل ما هو واقعي عقلي، وكان بذلك يجسد بطريقة من الطرق أحد أحكام أو أحد مبادئ سلفه في الفلسفة وهو أمانويل كانط، عندما قال كانط بأن العالمي هو المبدأ الصالح لكل إنسان وفي كل الظروف، وطبعاً هذا يدخل إلى منظومته الأخلاقية أو مذهبه الأخلاقي.

باختصار ما أريد أن أقوله هو أن الحداثة تؤمن بالهوية الإنسانية القائمة على مبدأ الحرية، والهوية الإنسانية هي بالتعريف هوية عالمية. عندما نتكلم في ما يتعلق بحقوق الإنسان عن طبيعة الإنسان الواحدة وليس عن التنوع أو عن الاختلاف. هذا الفهم لمسألة الهوية ولمسألة العالمية كما نشرتها الحداثة (19د 30ثا) (نعود مرة أخرى إلى دائرة السمة الأخيرة، أنها ترتبط بالزمن) الحداثة اختبرت هذه القيم، أقصد بذلك إيمانها بالحرية وإيمانها بالفرد وإيمانها بالعلم وإيمانها بالعقل. هذه القيم تم اختبارها في القرن التاسع عشر والقرن العشرين. لكن كما تعلمون فقد حان للقرن العشرين الكثير من السلبيات، من سلبيات الحداثة، وهو ما أدى إلى ظهور ما نسميه ما بعد الحداثة. ليس ما بعد الحداثة في الحقيقة إلا محاولة لنقد الحداثة. أياً كان تعريفنا وأياً ما كان  تقديرنا لما بعد الحداثة فهي حركة نقدية. طبيعة هذا النقد، مستواه، هذا يمكن مناقشته. لكن عملياً رأت ما بعد الحداثة في ما يسميه عالم الاجتماع الفرنسي آلان توران الحداثة المظفَّرة أو الحداثة المنتصرة التي اكتسحت العالم باسم الحركة الاستعمارية، ولكن كذلك التي طبقت كل مبادئها وظهرت في حربين عالميتين. إذاً ما بعد الحداثة تريد أن تعترض على هذه الحداثة التي نسميها المظفّرة أو المنتصرة. لماذا؟ لأنه هناك في الواقع ملاحظات ليست فقط ثانوية وإنما جوهرية في كل ما يتعلق بقيم الحداثة. لكن قبل أن أقول لكم موقف مابعد الحداثة من الحداثة، يجب أن أجري نفس العملية، يعني ماذا نقصد بما بعد الحداثة. ما بعد الحداثة وأنصار ما بعد الحداثة لا يؤمنون أولاً بالتعريف ... فهم يؤمنون بالسيولة والمرونة وبقصر الحدود وبقصر الهويات لأنهم يقولون بالتعدد. أحدهم يقول بأن زمن ما بعد الحداثة هو زمن استحالة الحدود، ولكن نحن مضطرون أن نفعل ذلك رغم استحالة التحديد، هذا واقع لأننا إذا نظرنا إلى الثقافة الفرنسية في الثمانينيات أو في نهاية السبعينيات والثمانينيات إلى غاية التسعينيات، كانت الثقافة الفرنسية تنظر إلى ما بعد الحداثة نظرةً إيجابية. وفي المقابل، وفي نفس المرحلة فإن الثقافة الألمانية كانت تنظر إلى ما بعد الحداثة نظرةً سلبية، لأن ما بعد الحداثة تحيي ميراث نيتشه وميراث هايدغر وتنظر إليه بعين الريبة، لأنه يذكرها بالنازيّة. فإذاً، هذا المثال، أي موقف الثقافة الفرنسية وموقف الثقافة الألمانية يؤكد على أنه يصعب أن نحدد مضمون ما بعد الحداثة، ولكن مع ذلك أريد أن أعطي لكم بعض المعلومات الأولية التي قد تسعفنا في فهم ما بعد الحداثة. إن ما بعد الحداثة، وكما أرخنا للحداثة في القرن التاسع عشر، نستطيع أن نؤرّخ للفظة ما بعد الحداثة في القرن العشرين، وذلك عندما نستند إلى ما قاله الفيلسوف الفرنسي فرنسوا ليوتار الذي نشر كتاباً بهذا المعنى عن وضع ما بعد الحداثة  سنة تسعة وتسعين. لكن كما تعلمون فإن المفاهيم والمصطلحات لا تنشأ من فراغ، فهناك محاولات سابقة نجدها حتى عند مؤرّخ مثل توينبي، لكن مضمون الكلمة هو الذي يجعلنا نؤرّخ لها هذا التأريخ التقريبي، والقاموس الفرنس "لاروس" سنة واحد وثمانين اعتمد لفظة ما بعد الحداثة.. لكن الشيء الذي يعنينا في هذا المجال وفي هذا السياق هو ماذا تعني ما بعد الحداثة؟ إن ما بعد الحداثة كما قلت لكم قبل قليل، أياً كان رأينا في مؤسسيها وفي القيم التي تقول بها فإنها تُعتبر حركة ثقافية، لماذا؟ لأنها ظهرت في مجال العمارة وفي مجال الفن وفي مجال الأدب وفي مجال العلوم الاجتماعية وفي المجال السياسي .. إذاً هي حركة ثقافية كانت تستهدف قيم الحداثة، وتعبّر عن الوعي بالأزمة التي كانت تمر بها الحداثة الأوروبية. أنصار ما بعد الحداثة يعطون عناوين لهذه الأزمة، يقولون مثلاً، كل المشاريع الغربية الكبرى انهارت وماتت: دولة الرفاهية في الغرب، وما تعرفه من مظاهر سلبية كبيرة، أكبرها البطالة. المشروع الاشتراكي الذي لا يحتاج إلى تعليق، التنمية في بلدان العالم الثالث. فهذه المشاريع الثلاثة السياسية تبيّن في الواقع إخفاق ما كان يُعتبر الحداثة المنتصرة. ثانياً، في المجال العلمي، إن نتائج التكنولوجيا على البيئة كارثيّة ومدمرة، وفي الواقع فإن كل أنصار البيئة هم من أنصار ما بعد الحداثة لأن الإسراف في استغلال القدرات التقنية كان سلبياً ويهدد الآن مصير البيئة، وكذلك على الإنسان، إذ نعرف جميعاً مدى الضرر الذي تلحقه الأسلحة الكيماوية. ثم إن ما بعد الحداثة ترفع ضد الحداثة شيئاً آخر، مجموعة من الوقائع، أهم هذه الوقائع مختلف المجازر التي ارتُكبت في التاريخ وبخاصة في المرحلة الاستعمارية، وما عُرف في الحرب العالمية الثانية بـ الهولوكوست. فما كان يمكن أن تتحقق في الواقع هذه الجريمة دون التقدم التقني، ليس بالمعنى الحربي وإنما بالمعنى الواسع السياسي وهو ما رفعته النازية في الحل النهائي. فإذاً، فإن ما بعد الحداثة تقول بأن كل المشاريع التي ادعت أن الحداثة ستحققها كان مآلها هو الفشل، وكان مآلها هو الأزمة، لذلك أردتم أن أقول لكم كيف يعرف ليوتار ما بعد الحداثة، باعتباره هو صاحب الكتاب، ولكن هناك كتّاب وفلاسفة آخرون ربما نتحدث عنهم في المناقشة، يعرّف ما بعد الحداثة في كتابه بقوله إنها الشك في السرديات الكبرى. طبعاً السرد والسرديات المقصود بها النظريات الكبرى، كنظرية الكليات، كنظرية هيغل ونظرية ماركس وفكرة العالمية وفكرة الهوية الإنسانية، فكل هذه كان يسمّيها ليوتار سرديات ماورائية وسرديات كبرى، ولكن هو لا يقصد الجانب الفني رغم اهتمامه بهذا الجانب، ولكن هو يقصد النظريات الكبرى المتمثلة بهيغل وبماركس. إذاً يقول بأن ما بعد الحداثة هي الشك في هذه السرديات وفي هذه النظريات، وهذا الشك لحق المعرفة العلمية، إذ إن المعرفة العلمية بنظره نسبية ولا تستطيع أن تعطي المعايير العامة لجميع المعارف المختلفة، وبخاصة المعارف الإنسانية والمعارف الفنية، (ويستعني 28د 22ثا) على كل حال بالنسبة للمهتمين بالفلسفة نظرية مشهورة كثيراً في مجال فلسفة اللغة هي نظرية الألعاب التي قال بها فتغنشتاين، ثانياً يقول بأن دعوى الحداثة كانت الحرية لكن ما وصلنا إليه هو ضبط والتحكم في الفرد نتيجة ما توفره التقنيات وما يوفره العلم أي لم تعد السيادة والسيطرة على الطبيعة، وإنما تحولت السيدة والسيطرة على الفرد والتحكّم فيه، وهذا يمثل في الواقع إخفاقاً آخر، ثانياً، قالت الحداثة دائماً بأنها هي الوعي بالزمن وبأن هذا الزمن تقدمي، خطي، ليس تراجعي ولا يعرف التقهقر، إنه التقدم. وفي الواقع فإن الحداثة ترتبط ارتباطاً شديداً بنظرية التقدم. ليوتار يقول بأننا لا نستطيع الوقل بأن  الحداثة تعطينا التقدم، بدليل المجازر التي وقعت وبخاصة الهولوكوست، وهي تعلن في الواقع ميلاد ما بعد الحداثة، لأنها (الهولوكوست) ليست دليلاً على التقدم بالمرّة.

فإذاً كما تروْن فإن ما بعد الحداثة كما صاغه ليوتار، لكن أستطيع أن أقول لكم بأن ما صاغه ليوتار يتفق فيه مع الكثير من أنصار ما بعد الحداثة.. لكن في المقابل يدعو إلى ضرورة (الحفاظ على) الخصوصية والاختلاف. وهناك مسألة (مهمة) وهو أنه يناقض فكرة وجود هوية إنسانية عامة وفكرة وجود العالمية. فإذاً، في ما يخص موضوعنا فإن ما بعد الحداثة تعترض على فكرة وجود هوّية إنسانية مثلما تدعي ذلك الحداثة، وتعترض كذلك على وجود فكرة تسمى العالمية أو الكونية أو الكلّية. وفي المقابل تقول ما هو موجود في حقيقة الأمر وفي الواقع هو المتعدد والمختلف في لغته، في عرقه وفي جنسه وفي دينه .. وبالتالي لا يمكن أن نتحدث عن هوية شاملة مثلما صاغها هيغل في تلك الصياغة المرعبة: كل ما هو عقلي هو واقعي، وكل ما هو واقعي عقلي. وهذه الدعوة إلى الخصوصية وإلى التنوع والاختلاف يكون لها أسماء كثيرة. طبعاً أنا ليس غرضي أن أعدد لكم تلك الأسماء التي قال بها ليوتار، لكن أريد أن أذكر لكم بعض هذه الأسماء المتداولة كثيراً في ثقافتنا العربية، على سبيل المثال هو يقول من بين أسماء الحداثة هي الماركسية. يقول إن الماركسية تقوم على عبارة أن كل ما هو بروليتاري هو شيوعي، وكل ما هو شيوعي هو بروليتاري. بمعنى أن الاشتراكية ومن ثم لاحقاً الشيوعية هي التي تحقق مطالب العمال. يقول إن هذه العبارة تكذبها الوقائع التالية (وهو يأخذ وقائع حصلت في المجموعة الاشتراكية)، مثلاً: أحداث برلين، سنة 1953 عندما اجتاحها الروس، أحداث بودابست، أحداث تشيكوسلوفاكيا وأحداث كولومبيا. فكل هذه الأحداث في الواقع تبيّن بأن هناك سلطة شمولية خرقت هذه العبارة، وبالتالي أبطلتها. وهو هنا يستعمل شيئاً أقرب إلى مبدأ التحقق التجريبي. يعني لكي تتحقق العبارة يجب أن تجد سندها في الواقع. وبما أن بعض الوقائع تكذبها، إذاً العبارة فاسدة. وكذلك في ما يتعلق بالرأسمالية، الرأسمالية تقول في صيغتها السياسية، أي الليبرالية، تقول كل ما هو ديموقراطي مصدره الشعب (33د 7ثا)

ولكنه يقول كذلك بأن هذه العبارة يكذبها الكثير من الوقائع، وأكبر هذه الوقائع الأحداث التي عرفتها أوروبا وأمريكا في أحداث 1968 أو الأحداث الطلابية، إذا إن الحكومات الأوروبية لم تستجب إلى هذه المقولة، مقولة "كل ما هو ديموقراطي يأتي من الشعب".

ومن الناحي الاقتصادية نعرف بأن الاقتصاد الرأسمالي يقوم على العبارة التالية: إن حرية العرض والطلب يؤدي إلى الثروة، أي ما يسميه آدم سميث "اليد الخافية"، أي إذا أطلقنا هذه اليد واستعملت بشكل موضوعي فإن هذا يؤدي إلى نمو الثروة، طبعاً كلكم تعلمون بأن آدم سميث يتحدث عن الثروة، أصل الثروة، من أين جاءت الثروة؟ من العدل ومن حرية الشغل. يقول ليوتار: هذه العبارة: حرية العرض والطلب تؤدي إلى الثروة تكذبها الكثير من الوقائع وليس هناك أكبر من واقعة 1929 التي أدت إلى الحرب العالمية الثانية، لذا فإن ليوتار يقول بأن (لينين؟ 34د 30ثا) قال لنا بأن نحتكم إلى شيء أساسي وهو ما نحن عليه من اختلاف ومن تعدد. إذاً، البديل الذي يمكن أن نقول، إذا صح البديل، لأن أنصار ما بعد الحداثة لا يؤمنون بالبدائل، لأن البدائل تتبع نظرية الحداثة. لكننا مع ذلك فإننا عندما نقرأ فلاسفة [ما بعد] الحداثة فإننا نجد أنهم يصرون على مجموعة من الألفاظ، منها: الاختلاف والتنوع والتعدد والفرد والحرية. ولكن الحرية يُقصد منها الحرية الفردية وليس الحرية السياسية. بطبيعة الحال مثلما قلت لكم في بداية هذا الحديث، سواء تعلق الأمر بمجموعة القيم التي تشكل الحداثة، أو مجموعة القيم التي تشكل ما بعد الحداثة، وبخاصة في ما يتعلق بالأولى التي أكدت على الهوية الإنسانية وعلى العالمية، والثانية رفضت الهوية الإنسانية ودعت إلى الهوية الخاصة، ورفضت كلياً فكرتها. ما موقعنا نحن في الثقافة العربية؟ أو ما صلتنا نحن بهذا الأمر؟

يجب أن أقول لكم بشكل [لا] يفي بالمرة لمناقشة هذا الموضوع على أهميته بجميع جوانبه، وإنما أريد أن أكتفي بالإشارة إلى ما يمكن تسميته تجاوزاً بالتيارات الكبرى في الفكر العربي الحديث. وهذه التيارات الكبرى تعلمون أن تصنيفها يطرح مشكلات، ولكن أنا أفترض أنه يمكن الحديث عن ثلاثة تيارات كبرى في الفكر العربي الحديث والثقافة العربية الحديثة، وهذه التيارات تستجيب لموضوع الهوية والعالمية استجابات مختلفة. هذه التيارات هي التيار الليبرالي، والتيار الليبرالي في الواقع اتخذ موقفاً إيجابياً من الحداثة وتبنى الكثير من أطروحاتها، ولذلك لا نجد مشكلة الهوية مطروحة عنده. عندما نأخذ على سبيل المثال أحد أعلام الليبراليين العرب فإن موضوع الهوية ليس هو المشكلة الكبرى وإنما مشكلة التحديث والحداثة والدخول في العصر هو الذي يعنيه، وكتاب "الثقافة المصرية" لعميد الأدب العربي طه حسين يبيّن ذلك. فما يعنينا أكثر هو كيف ننتسب أكثر للحداثة ولقيمها. ونستطيع القول بأن الليبراليين العرب، سواء في بداية القرن إلى اليوم، ما زالوا يعتقدون بأن قيم الحداثة هي القيم الصالحة وبالتالي ينتسبون إلى الهوية الإنسانية.

لكن في المقابل لدينا اتجاهان أساسيان في الفكر العربي هما الاتجاه القومي والاتجاه الديني. هذان الاتجاهان يتخذان من الهوية، ولكن الهوية هنا يجب أن أحددها بشكلٍ دقيق. الهوية ليست بمعناها الإنساني أو العام، إنما الهوية بمعناها الخاص، وبمعناها اللغوي كما هو عند القوميين كزكي الأرسوزي على سبيل المثال، أو بمعناها الديني (كطه عبد الرحمن) وله كتاب عنوانه "الحق العربي في الاختلاف الفلسفي"، وعندما تقرأ هذا الكتاب وهو يحاجج .. باسم الهوية الدينية. إذاً لقد رفع هذان السياقان القومي والديني (الإسلامي) مبدأ وحجة الهوية لمقارعة والاعتراض على الحداثة وعلى قيمة الهوية الإنسانية والعالمية. إننا نجد أنفسنا إلى اليوم أمام هذه الإشكالية، هل علينا أن نأخذ بالمنظور الحداثي؟ أم علينا أن نأخذ بالمنظور ما بعد الحداثي؟ هل نحن محكومون بهذا الطرح النظري، والذي نستطيع أن نفصّل القول فيه، أم أنه يمكن أن نجد إمكانية للدخول في الحوار والمناقشة بحيث تسمح لنا بأن نجد صيغةً توازنية بين مطلب الهوية ومطلب العالمية؟

كي لا أطيل، سأقدم لكم بعض ما أسميه "معالم" أو أفكار أوّلية. وهذه الأفكار يمكن أن تكون موضوع مناقشتنا. أولاً، لكي نخرج من هذا الصراع، وأولاً هذا الصراع بين الهوية والعالمية، يجب الإقرار بمجموعة من الحقائق، وأولى هذه الحقائق التي أريد أن أؤكد عليها هي أن المجتمعات الحديثة، سواءٌ العربية أم الشرقية، العربية أو الأوروبية، هي مجتمعات متعددة. ليس هناك مجتمع أحادي إلا في الإيديولوجيا. فكل المجتمعات تعرف التنوع، وتعرف التعدد. ولذلك فإن النظرية السياسية والاجتماعية المعاصرة تقول إن المخرج الوحيد لهذا التعدد الذي يؤدي إلى النزاع، ويؤدي إلى الصراع، وقد يؤدي إلى الحروب، هو ضرورة إقرار مبدأ الاعتراف المتبادل، سواءٌ على المستوى الوطني أو على المستوى الدولي. فالعالم تغيّر بحيث أعطانا مجموعة من الحقائق التي لا لَبس فيها. ثانياً، أي حديث عن الهوية، لا بد أن يأخذ بعين الاعتبار أمرين، الأمر الأول هو أن الهوية هي نوع من المعرفة والادراك الذاتي الواعي. لكن هذه الهوية بما هي معرفة وإدراك لنفسي ولمجتمعي لخبرتي ولثقافتي.. ولإنسانيتي. هذه المعرفة تتم من خلال الآخر. لا يمكن للانسان أن يحقق هويته من الطفولة إلى أن يموت دون أن يمر عن طريق الآخر. وعن طريق الاعتراف الذي يقدمه، أو في الواقع يفعله الآخر. إذاً، تتكون الهوية، شئنا أم أبينا، وهذا الكلام يجب أن نوجهه بشكل خاص إلى التيار القومي وإلى التيار الديني، لا يمكن في عصرنا أن نشكل هوية بمعزل عن هذين العنصرين: الادراك الواعي والحر بالذات، والاعتراف الذي يتم مع الآخر.

ثالثاً، القيمة الثالثة، أن هذه العلاقة بين الهوية وبين الآخر، لا يمكن أن تتم إلا عبر الحوار وعبر التواصل. لأن الغاية من المعرفة، والغاية من العلم، والغاية من الثقافة، هو أن تنقل الإنسان من حالة الطبيعة ومن حالة الحرب إلى حالة الاجتماع. وحالة الاجتماع هذه تفرض التواصل أو الحوار، ولكن هنا يجب أن نعيّن هذا المعنى أو هذا اللفظ، لفظ التواصل، أو لفظ الحوار.

لايتم الحوار إلا مع المختلف. المتماثل والمطابق والمشابه لا حوار معه. الحوار يجب أن يكون مع الذي تختلف معه. ثانياً، أن هذا الحوار لكي يتم، يجب أن نعترف بحق الآخريّة في الاختلاف. لأن أسباب الحوار ليست بسيطة وسهلة، وتحتاج دائماً إلى الأخذ والرد. وبالتالي فإن حق الاختلاف يجب أن يكون مضموناً. وثالث المعاني التي نتحدث عنها في التواصل أو الحوار، هو أن الهدف الأساسي هو أن نصل إلى معرفة الآخر، وإلى الاتفاق مع الآخر، وأكثر من هذا، إلى تحقيق الإجماع. وهذا لا يتم إلا عبر ما يسمّونه، والذي لا أستعمله كثيراً في هذه المداخلة: الديموقراطية.

بطبيعة الحال، فإن هذا الحوار سيحقق لنا في موضوعنا الذي نتحدث عنه، وهو الهوّية والعالمية، أن الحوار هو الذي يسمح بتحقيق الفرد الحر، وليس الفرد المستعبَد. فقط عندما نتحاور نستطيع أن نحقق مواطنين أحراراً. وهؤلاء المواطنون الأحرار هم الذين يجب أن يحققوا شيئاً من الاستقلال الذاتي، لأن الاستقلال الذاتي ليس شيئاً يأتي من الخارج، إنما يجب أن ينبع من الداخل، أي كما قال كانط، من أن التنوير هو خروج الإنسان من حالة القصور التي هو مسؤول عنها. لأنه يمكن أن تتوافر شروط موضوعية لكي يتحرر الإنسان، ولكن مع ذلك يبقى قاصراً. إذاً، الحوار والتواصل يسمح بظهور هذه..

بالنسبة للعالمية يجب أن نقول بأن فكرة العالمية كما رفعتها الحداثة لحق بها الكثيرمن المشكلات، بل أكثر من ذلك، لحق بها أذىً ومواجع بالنسبة لغيرالأوروبيين، والسبب في ذلك أن هذه العالمية، أو الكونية تشكلت ضمن ثقافة واحدة هي الثقافة الاوروبية، وإذا كان لما بعد الحداثة من دور ومن إسهام هو أنها قد بيّنت لنا نسبيّة هذه العالمية، لكن مشكلة ما بعد الحداثة هو أنها  بدلاً من أن تقوم بتعيين حدود هذه النسبية، رفضت كل شيء، أي أنها بدلاً من أن تكتفي بالنقد بما هو تعيين للحدود، ذهبت إلى رفض الكونية. ونحن يجب أن نقول بأن الكونية يجب أن تحتكم إلى قيمتين، وهاتين القيمتين دافع عنهما الكثير من الفلاسفة ومن العلماء، وبخاصة علماء الاجتماع، وذلك عندما يقولون بأنه يجب أن نميّز عندما نتكلم في المبادئ، وخاصةً المبادئ الأخلاقية بين ما نسميه المبادئ العليا، والمبادئ الدنيا. المبادئ العليا يعني الحد الأقصى، هذا يخص كل ثقافة [على حدة]، الثقافة العربية [مثلاً] فيها مجموعةٌ كبيرة من القيم، وهذه لا تخص الشرقي أو الغربي [بل فقط تخص العرب]، مثلما أن الثقافة العربية لا يعنيها كامل القيم الغربية أو كامل القيم الشرقية.

 لكن في مقابل هذا المبدأ الذي هو الحد الأقصى، هنالك مبدأُ حدٍ أدنى وهو المبادئ العامة، وهي القيم الإنسانية. وهذه القيم الانسانية يجب في تقديري الحفاظ عليها من أجل الحفاظ على قدرٍ أو حدٍ أدنى من الاجماع، ومن أجل الحفاظ على حد أدنى من النزاع الذي لا يؤدي إلى الحروب. وشكراً.

 

النقاش:  

 
العرب والحداثة

يرى الدكتور الزواوي بغورة في تقصيه عن مصطلح الحداثة، بأنه كل ما يجد قيمته في ذاته لا في غيره.. من الفكر إلى الفن إلى العلم.. وهي بذلك نوع من الابداع والابتعاد عن التقليد.
هي نوع من القطع مع الماضي، لذلك فإن هيغل يقصد بـ "الأزمنة الحديثة"، تلك الفترة التي قطعت مع العصور الوسطى وارتبطت باكتشافات كبيرة (اكتشاف أميركا، كوبرنك، البروتستانتية، الإنسانوية..)
وبذلك فإن الحداثة ترتبط بالتحرر من هيمنة الماضي وبالإبداع والحرّية.
أما في الثقافة العربية المعاصرة فلا وجود لما يسمّى الحداثة لأنها لا تعتمد على ذاتها: فهي إما تعتمد على الغرب، أو هي تعتمد على التراث الماضي (السلفيّة).
بينما دخل الغرب مرحلة ما بعد الحداثة، لأنه اكتشف المآزق التي أوصلت إليها بعض المفاهيم الكبيرة العامة للحداثة: مثل الطبيعة الإنسانية الواحدة والحرية والاشتراكية وغيرها، ومن مظاهر هذه الأزمات: من الحروب وتدمير البيئة والبطالة وفشل العدالة الاشتراكية، إلى تفريغ الحريّة من مضمونها الحقيقي ومصادرتها بطرائق الاحتيال ... ويعبّر جان فرنسوا ليوتار عن شكه في "سرديات الحداثة الكبرى"..
وتدعو أفكار ما بعد الحداثة إلى العودة للاهتمام بالتنوع والخصوصيّة والاختلاف والحريات.
أما ما يدعو إليه الزواوي العرب (موجهاً كلامه للقوميين والإسلاميين بالدرجة الأولى) فهو:
ـ التعامل مع حقيقة التعدد في المجتمعات كافّة.
ـ ضرورة التعامل مع هذا التنوّع من خلال الاعتراف المتبادل.
ـ أن يتم التعامل مع الهوّية (كنوع من الادراك الذاتي)، من خلال الآخر: الحوار والتواصل مع المختلف، والاعتراف به، وبحقه في الاختلاف.
+ السعي إلى تحقيق نوع من الاجماع من خلال الديموقراطيّة التي تعتمد أساساً على الأفراد الأحرار.
(آراء للدكتور الزواوي وردت في محاضرة له مسجلة على يوتيوب)

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق