الجمعة، 4 فبراير 2022

ديفيد هيوم؛ زكي نجيب محمود؛ قصة الفلسفة الحديثة.

 



ديفيد هيوم Hume (1711ـ 1776)

زكي نجيب محمود؛ قصة الفلسفة الحديثة

 

جاء «هيوم» فانتزع من فلسفة «بركلي» نتيجتَها اللازمة وهي: الشك

، فالشكُّ هو الخاتمة التي انتهى إليها المذهب التجريبي الذي قام في إنجلترا. ولقد أراد «بركلي» أن يتجنَّب الشكَّ ما وسِعَه ذلك، لم يُرِد بمذهبه المثالي إلَّا أن يُخلِّص حقيقتَي الذات والله من مِعْوَل المادية الهدَّام، ولكنه لم يتنبِه إلى ما تؤدي إليه مُقدماته من نتيجة، كان هو بغَير شكٍّ أول من يرفُضها ولا يرضاها، فلقد كان بإنكاره لوجود المادة إنما يُمهِّد الطريق لإنكار العالم الرُّوحي أيضًا؛ وذلك لأنَّنا إذا كنَّا نعجز عن معرفة شيءٍ إلا ما تُدركه الحواس، فليس من المُمكن أن نعرف وجود العقل، هذه هي النتيجة المنطقية التي يتضمَّنها المذهب التجريبي، وقد انتزعَها «هيوم» وجعلها أساسًا لفلسفته كلها.

لقد قال «بركلي» إنَّ حقائق الأشياء الخارجية ليست إلَّا صفاتها التي نُدركها بالحواس، وأنه ليس وراء تلك الصفات جواهِر كما يزعُمون، وما دامت الصِّفات من خلق عقولنا، فالأشياء المادية الخارجية حديث وَهْم وخُرافة، فسلَّم «هيوم» بهذا القول، ثم زاد عليه أن العقل أيضًا وهْم لا وجود له، فلا مادَّة هناك ولا عقل، إن التجربة — وهي المصدر الوحيد لعِلمنا — لا تُقدم إلينا فيما تقدِّم جوهرًا من الجواهر المادية أو العقلية، وكل ما نُدركه من تجارب حياتنا مجموعة من إحساسات، سواء أكانت آتية عن طريق الحواس، أم من الداخل بإصغائنا إلى بَواطِن أنفسنا «وما دام العقل لا يعلم قطُّ إلا طائفةً من الإدراكات الحسِّية، وما دامت كل أفكارنا إنما يؤلِّفها من الأحاسيس، كان من المُستحيل أن نكوِّن بعقولنا فكرةً عن شيءٍ ما تكون مُخالفة من نوعها للآثار الحسِّية.»

وُلِد «ديفد هيوم» في إدنبره سنة ١٧١١م، ولا نعلم من طفولته وشبابه شيئًا، إلا أنه درَس في إحدى جامعات فرنسا، وأنه في سنِّ الرابعة والعشرين أصدر أوَّل كتُبه، وهو أشهرها «رسالة في الطبيعة البشرية»، ولكن هذا الكتاب لم يأبَه له أحد لخمول ذِكر صاحبه، فاضطرَّ «هيوم» أن يُعيد كتابته من جديد، بحيث يلائم القرَّاء، وأعطاه عنوانًا جديدًا هو «بحث في العقل البشري»، ونشرَه زاعمًا أنه الجزء الثاني من سلسلة مقالات يعتزِم إصدارها. ولقد توقَّع هذه المرة أنَّ ما أوردَه في كتابه من الآراء سيُحدِث في دوائر المُفكرين ضجَّة داوية، ولكن الكتاب ظلَّ كذلك خاملًا، وقد قال «هيوم» نفسه عنه: «إنَّ كتابي قد وَلَدتْه المطبعة مَيتًا.» أما كتُبه الأخرى فهي: «مقالات سياسية» على اعتبار أنها الجزء الثالث من مقالاته، «ومحاورات في الدين الطبيعي» و«تاريخ إنجلترا». ولقد أنعم الله على «هيوم» بصحَّةٍ قوية، ووفرة مادية، مَكَّنَتاه من مواصلة دراسته وكتابته. هذا وقد عُيِّن أمينًا لمكتبة المُحامين في إنجلترا، ثم عُيِّن بعدئذٍ كاتمًا للسر في المُفوضية الإنجليزية في فرنسا، فاتَّصل أثناء إقامته في باريس بالدوائر الأدبية العالية، وأخيرًا عاد إلى بلدِه إدنبره حيث قضى آخر أعوامه.

وأما فلسفتُه فهي كما قدَّمنا عبارة عن انتزاع النتائج المنطقية التي تؤدِّي إليها فلسفة سلفَيْه «لوك وبركلي». مع قَبوله لوجهة نظرهما وآرائهما جُملةً وتفصيلًا.

(١) الآثار الحِسِّية والأفكار:

 يذهب «هيوم» إلى ما ذهب إليه «لوك» من قبلِه، من أنَّ العناصر التي تتألَّف منها معرفتنا كلها هي المُدرَكات البسيطة التي تتلقَّاها عقولنا وتنفعل بها، دون أن يكون لهذه العقول أيُّ أثرٍ فعَّال فيها. ثم يقسِّم «هيوم» هذه المدركات قِسمَين هما: الآثار الحِسِّية والأفكار، وكلاهما في نظرِه من نوعٍ واحد، وكلُّ الفرْق بينهما هو في درجة القوة التي يؤثر بها كلٌّ منهما في العقل، فالآثار الحِسِّية أقوى في العقل أثرًا وأوضح ظهورًا، وأما الأفكار فهي عبارة عن آثار حِسِّية تَقادَم عهدُها، فوهنَت قوَّتُها وضعفُت صُوَرُها. وما دام الأمر كذلك، فلا يمكن أن تنشأ في العقول أفكار إلَّا إذا سبقتْها آثار حسية، وإذن فالآثار الحِسِّية هي المرجِع الأخير الذي نقيس به صحَّة الأفكار وحقيقتها، فإذا استطعْنا أن نُرجِع الفكرة إلى أصلها الحِسِّي كانت صادِقة، وإلا فهي وهْم واختلاق من العقل، وليس لها أصل ممَّا تَلقَّتْه حواسُّنا من آثار … حقًّا إنَّ هناك أفكارًا مُركَّبة لا تُماثل الآثار الحسِّية، ولكن لو حلَّلناها ألفَيناها مُكوَّنة من عددٍ من الأفكار البسيطة التي تنشأ من الحواسِّ مباشرة، وعلى ذلك تكون تلك الأفكار المُركَّبة صحيحة. ويقول «هيوم» إنه إذا قام الدليل على أنَّ الآثار الحسية تسبِق الأفكار، وعلى استحالة هذه بغير تلك، فقد أُجيب على مشكلة الآراء الفطرية التي كثُر حولَها الجدل والنزاع؛ إذ ما دامت الأفكار تتبَع آثار الحواس، وهذه الآثار الحسية لا تكون إلا في تجارب الحياة، إذن فليس ثمة أفكار مَفطور عليها العقل منذ ولادته على الإطلاق.

ثم يُفرِّق «هيوم» بعد ذلك بين أفكار الذاكرة وأفكار الخيال، فيقول: إنَّ الأُولى أنصع وأقوى من الثانية؛ لأنها صُوَر مباشرة لمُدركاتِنا،؛ إذ الذاكرة تحتفظ بالصورة الأصلية التي أدركْنا عليها الأشياء، وأما الخيال فهو يتناول هذه الصور الفكرية بالتغيير والتحوير. وبعبارةٍ أخرى: إن الذاكرة تقِف عند حدود التجربة، أما الخيال فلا يُقيِّد نفسه بذلك، ولهذا يقع في كثيرٍ من الأخطاء، ويختلق كثيرًا من الدعاوى التي لا يمكن البرهنة عليها.

(٢) العلاقة بين الأفكار: 

ينظُر «هيوم» إلى أفكاره فيراها دائمة الاتصال والانفصال بعضها مع بعض. وقوة الخيال هي التي تقوم بربط هذه الفكرة بهذه أو بتلك، ويستحيل أن تكون المُصادَفة وحدَها هي التي تعمل على ربط أشتات الأفكار المُفكَّكة التي تصِل إلى الذهن، بل لا بدَّ أن يكون هنالك أساس لربط الأفكار، وقاعدة تتصِل بمُقتضاها فكرةٌ بفكرة أُخرى. ويقول «هيوم» إن لذلك التداعي بين الأفكار أُسسًا ثلاثة: التشابُه، والتقارُب الزمني أو المكاني، ورابطة العِلَّة بالمعلول. أما التشابُه فهو أساس كلِّ العلوم التي ترتكز على البداهة أو على البرهان. كالحساب والجبر، والرياضة بصفةٍ عامَّة؛ لأن قضايا الرياضة يُدركها العقل بمجرَّد الفكر دون أن يعتمِد في ذلك على ما هو موجود في زمان أو في مكان، فلو فرضْنا مثلًا أنْ ليس في الطبيعة كلها مُربَّع ولا دائرة، فذلك لا يمنع الحقائق العقلية التي نُثبتها بالدليل أو نُدركها بالبداهة عن المُربَّع أو الدائرة، وأما العلاقة الزمنية أو المكانية، فتقوم على أساسها علوم الطبيعة، وعلى السببيَّة يعتمِد كل ما له علاقة بالحوادث التي تقع في تجارب الحياة، وهذه السببيَّة هي أوسَع الروابط الثلاث انتشارًا وأشدُّها اتصالًا بالحياة العادية، فكل ما يقَعُ من حوادث بين الأشياء إنما يحدُث وفقًا لقاعدة السببيَّة، ولهذا فإنَّ «هيوم» يختصُّها بشطرٍ كبير من بحثه، فهو يُحلِّلها تحليلًا دقيقًا ينتهي به إلى القول بأن الإنسان لا يدري شيئًا عن الرابطة بين العِلَّة ومعلولها، وهو يبحث هذا الموضوع في فصلٍ مُسهِب. عنوانه: «العلم والاحتمال» وهو يكوِّن الجزء الثالث من كتابه.

(٣) العلم والاحتمال:

 أراد «هيوم» أن يُبيِّن أنَّ فكرة السببية باطلة؛ لأنَّنا لو ردَدْناها لأصلها لما وجدْنا بين الآثار الحسية ما يُنْشِئها. ولم تكتسِب فكرة السببيَّة ما لها من قوة إلا بالعادة وحدَها فقد تعوَّد الإنسان أن يرى حادثةً تتبع أخرى فربط خيالُه بين الحادثتَين برباطٍ سمَّاه السببية، إذ توهَّم أن الأولى علَّة للثانية، مع أنه لم يتلقَّ من الحياة الخارجية إحساسًا مُعينًا معناه أن هنالك رابطة ضرورية بين هاتين الحادثتَين. فكل ما يُصادفه الإنسان في تجاربه العملية هو جزئيات مُفكَّكة ليس بينها أية صِلة البتة، ولكن إذا كان ذلك كذلك، فما الذي حدا بالإنسان أن يتَّجِه هذا الاتجاه في تفكيره، ومن الذي أوحى إليه بهذا الوهْم الباطل، أي أن صِلة السببية تربط بين مفردات الحقائق، مع أن هذه المفردات مُنفصل بعضها عن بعض في الواقع الخارجي، ولا شأن لأحدِهما بالآخر. نقول إن كانت التجربة العملية لا تُقدِّم إلينا فيما تُقدِّم من أحاسيس هذه الفكرة، فكرة ارتباط العِلة بالمعلول، فلماذا فكَّر فيها الإنسان بادئ بدء، وفرَض أنها حقيقة واقعة على الرغم من حواسِّه؟ إن هذه الفكرة لا يمكن أن تكون قد نشأت من باطن النفس؛ لأنَّنا قد قرَّرْنا أن ليس لدى الإنسان أفكار فطرية تُولَد معه، وكل عِلمه مُكتسَب من التجارب وبطريق الحواس، كذلك لا يمكن أن نقول إنها بديهية تفرِض نفسها على العقل فرضًا؛ لأن المعلول مختلف عن عِلَّته كل الاختلاف، وليس في مقدور العقل أن يُسلِّم بأن يكون اختلاف المُقدِّمة عن نتيجتها بديهية مقطوعًا بصِدقها، بل هي — على النقيض من ذلك — ظاهرةٌ تبعث على التفكير وتستوقف النظر، فأنت مهما أمعنتَ في تحليل العلَّة والمعلول الذي ينشأ عنها، لما وجدتَ أن هذا مُتضمَّن في تلك. إن كُرة «البلياردو» لا تكاد تمسُّ الكرة الأخرى حتى تبدأ هذه في الحركة، فكيف انبعثَتْ الحركة من الكرة الأولى في الكرة الثانية؟ إنه ليس في حركة الأولى ما يستدعي الحركة في الثانية. فمن ذا الذي أوحى إلى الإنسان أن يفرِض بأنَّ هذه علاقة ضرورية لازمة الحدوث باعتبار الأولى سببًا والثانية مُسببًا؟ إنَّ كلَّ ما يراه الإنسان بحواسِّه من هذه الحادثة إحساسان مُتعاقبان: كرة أولى تتحرَّك، ثُم كرة ثانية تتحرَّك، ولم تُقدِّم له الحواسُّ علاقة بين الحركتَين، ولكنه مع ذلك تخطَّى حواسَّه، وزعم أن بين الإحساسَين علاقة عِلة بمعلول، وأنَّ هذه العلاقة ضرورية مُحتَّمة الحدوث.

يتساءل «هيوم»: من أين جاءت هذه الفكرة التي أضافها الإنسان إلى الإحساسات المُتفرِّقة التي ليس بينها في الواقع حلقات مُتوسطة تربط الواحدة منها بالأخرى، فتطوَّع لها الإنسان برابطة السببية، وسَمَّى حادثةً ما عِلة، وسمَّى الأخرى معلولًا، والحقيقة أنهما حادثتان تتابَعَتا لا أكثر، وليس التتابُع بالطبع معناه السببيَّة؟ قد يُقال: إن الإنسان قد حكَم بوجود علاقة السببية بين حادثتَين لمَّا رأى أنهما تتتابعان باطِّراد، ولكن هذا التتابُع مهما اطَّرد فهو تتابُع فقط، ولا يمكن أن يُفهَم منه أنَّ الحادثة الأولى سبَّبت الحادثة الثانية وأوجدَتْها … يقول «هيوم» إنها العادة وحدَها هي التي أدَّت بالإنسان إلى استخلاص هذه النتيجة؛ إذ توهَّم أنه ما دامت هاتان الحقيقتان قد ارتبطتا في الماضي، فلا بدَّ أن يرتبطا كذلك في التجارب المُقبِلة. وإذن ففكرة السببيَّة ذاتية محْضة، وهي خدعة من الخيال الذي يميل إلى فرْض رابطة بين الأشياء والحوادث ليس لها وجود إلا في العقل الذي يُدركها.

(٤) العالم الخارجي وهْم باطل:

 يعتقِد الإنسان أن الأشياء الخارجية تتمتَّع بوجودٍ مُتَّصل دائم، وهي عقيدة باطلة ووهْم نسجَه الخيال، ويرجع هذا الوهم الخاطئ إلى العادة أيضًا التي أوهَمَتْنا بوجود علاقات ضرورية بين الأشياء. يُلقي «هيوم» بادئ بدءٍ هذَين السؤالَين: «لماذا تعزو للأشياء وجودًا مُستمرًّا حتى ولو لم تكن موجودة؟ ولماذا تفرِض أنَّ تلك الأشياء موجودة خارج العقل مُتميِّزة عن القوَّة المُدركة؟» ثم يُجيب عن السؤال الأول فيقول: إنَّ الحواس لا تُقدم إليَّ إلا إدراكًا حاضرًا فقط، فأنا مثلًا أرى مكتبي، ثم أخرج من غرفتي وأعود إليها بعد حينٍ فأرى المكتب ثانية، فمن أدراني أن هذا المكتب الذي أراه الآن هو نفس المكتب الذي رأيتُه منذ حين؟ إنها العادة هي التي تَحمِلني على العقيدة بأن مكتبي مُستمرُّ الوجود، ولكن لو حلَّلتُ الأمر لأيقنْتُ ببُطلان ما تُوحي إليَّ العادة به، أو على الأقل لشككتُ فيها؛ ذلك لأنني في حقيقة الأمر لا أعلم عن المكتب إلا ما دلَّتْني عليه عيناي، وهاتان لم تَبعَثا في إلا صُورًا متفرِّقة عن المكتب، فصورة رأيتُها في الصباح، وأخرى رأيتُها في المساء، وليس لديَّ حجَّة عقلية واحدة أُبرِّر بها أنَّ ما بعث صورة الصباح هو نفسه الذي بعَثَ صورة المساء، لقد جاءني من العالم الخارجي عدَّة «مكاتب» فأسرع خيالي الخادع إلى توهُّم أنَّ كل هذه «المكاتب» التي جاءت بها حاسَّة الإبصار هي في الواقع شيء واحد له وجودٌ مُستمر.

وهذا الوَهْم الباطل الذي نسجَه الخيال ولفَّقَه — بغير سندٍ يُثبت حقيقته — هو الذي أدَّى كذلك إلى اعتقادِنا بوجود المادية مُستقلة عنَّا. إنَّني لا أعلَم عن العالم الخارجي إلا ما في ذهني من مُدرَكاتٍ حسية، فبأيِّ حقٍّ أتعدَّى حدود علمي، وأزعم أن في الكون أشياء غير هذه المُدرَكات؟ إنَّنا نرى بعض أفكارنا واضحةً قوية ناصعة، فلا نُصدِّق أن تكون هذه الأفكار بغَير أشياء تُقابلها، وبهذا نخلُق وجودَين في كونٍ واحد: أفكار وأشياء!

كلا، ليس في الكون إلا هذه الأفكار التي نُدركها، ومن الخطل أن نفرض وجود ما لا نعلم.

وليتَ هذه الفأس الهادِمة قد اقتصرت على العالَم المادي، بل تعدَّتْه إلى العقل نفسه فأنكرَتْه وأزالته من الوجود! هات هذا العقل وسلِّط عليه المقياس الذي اتَّخذَه «هيوم» لمعرفة ما هو حق وما هو باطل، ثم انظر ماذا يكون من أمرِه، نحن لا نعلم إلَّا طائفة من آثارٍ حسية، فكل فِكرة مهما جلَّ قدرُها لا يمكن ردُّها إلى أثرٍ من تلك الآثار الحسية قضَيْنا عليها بالبطلان، تتبَّع إذن فكرة العقل أو الذات ورُدَّها إلى أصلها الحِسي، فهل أنت واجِدٌ بين الآثار الحسية التي أتتْك من الخارج ما معناه «عقل»؟ هل تُمثِّل فكرة الذات إحساسًا جاءت به العين أو الأذن، أو أية حاسَّة أخرى؟ كلا، وإذن فقد تقوَّض العقل كما تقوَّضَت المادة من قبل، فلا عقل هناك، وكل ما في الأمر سلسلة من المشاعر والعواطف يتبع بعضها بعضًا في حركةٍ دائمة دون أن تكون هناك «ذات» أو «عقل» تُمسكها كلها في آنٍ واحد.

وبعبارةٍ أخرى ليس لدى تلك القوة المزعومة التي أستطيع بها أن أُخزِّن طائفةً من الأفكار والمشاعر، بل كل ما لديَّ هو سيل مُتدفق مُتلاحق من الإحساسات العابرة التي لا يربط بعضها ببعض أية رابطة. فأنا الآن في هذه اللحظة ليس لديَّ إلا شعور واحد أو فكرة واحدة، وهذه ستمضي من فورها وتحلُّ أخرى مكانها، ثم ثالثة فرابعة وهَلُمَّ جرًّا، وليس ثمة عقل يُمسكها ويجمع بينها كلها في لحظة بعينها، فإن كان هذا القول لا يزال غامضًا، فيمكن توضيحه «بفيلم السينما»، فالشاشة لا يظهر عليها في كل لحظةٍ إلا صورة واحدة، ثم تأخُذ الصور في التتابُع، دون أن يكون بين الصورة السابقة والصورة اللاحِقة أدنى رابطة، اللهم إلا التتابُع وحدَه، وبديهي أنَّ الشاشة (وهي مثل العقل في هذه الحالة) لا تحتفظ على صفحتِها بكلِّ الصور في لحظةٍ واحدة، بل إنَّ الصورة التي تمضي لا عودة لها، وليس هناك مجال إلَّا لصورة واحدة في لحظةٍ واحدة. ومن تتابُع الصور تنشأ القصَّة، كما أن من تتابُع الأفكار تنشأ الحياة الفكرية.

وهنا يُعترض على «هيوم» بحق أنه يرفض وجود العقل أو الذات في آخر رسالته، بعد أن استغلَّ فُرَص وجوده أثناء البحث، فقد زعم أنَّ هناك بعض العلائق التي تربِط الأفكار فقال: إنَّ الذاكرة والخيال عامِلان من عوامل هذا الربط، فسواء سَمَّينا هذه القوة التي تربط ما بين الأفكار بالذاكرة أو بالخيال أو بالعقل، فليس يُقدِّم هذا الاختلاف في الأسماء من الأمر ولا يؤخِّر.

فإنْ صدَق ما ذهب إليه «هيوم» من أن العقل ليس إلَّا إحساسات مُتناثِرة تتلاحَق في العقل، وتتتابع دون أن يكون بينها أية صِلة، فلقد انهدَمَت روحانية النفس وخلودها؛ لأنه بذلك لا نفس هناك ولا روح. ولكن هذا الاعتراض ليس له معنى عند «هيوم»؛ لأنه قد محا المادة والروح على السواء، ولم يُبقِ على شيءٍ منهما حتى يجوز لنا أن نُسائله: هل النفس روحانية أو مادية؟

ومن نتائج فلسفة «هيوم» أيضًا القضاء على كلِّ دليلٍ ينهض على وجود الله، فهو يقول في كتابه «محاورات في الدِّيانة الطبيعية»: إنَّنا لا نعلَم عن العلَّة شيئًا إلا أنها الحادثة السابقة التي نُشاهدها قبل حدوث معلولها، وإذن فلا بدَّ من مشاهدة الحادثتَين معًا: السابقة واللاحقة على السواء، إنَّنا نستدلُّ من وجود الساعة على وجود صانعها؛ لأنَّنا رأينا الساعة والصانع كليهما، وإذن فوجود الكون لا يقوم دليلًا على وجود صانعه، إلا إذا رأيْنا الصانع والمصنوع جميعًا. وهنا عارَضَه «ريد» بأنَّ في الطبيعة علامات كثيرة تدلُّ على أنه يسير وفق خطةٍ مُعيَّنة، ووجود خطة تقتضي وجود سببٍ عاقل. فأجابه «هيوم» بأنه إذا كان لا بدَّ لنا من البحث عن عِلة لكلِّ شيء، لوجب إذن أن نبحث عن عِلةٍ للإله نفسه.

ويُنكر «هيوم» في كتابه «مقالة في المعجزات» وقوع المعجزة، على الرغم من أنه لا يُنكر إمكانها؛ لأنَّ إمكان وقوع المعجزة الخارجة نتيجة طبيعية لمذهبه الذي يُنكِر به ضرورة التتابُع السببي بين الأشياء والحوادث، فما دامت الأشياء لا تتتابع في نظامٍ معين، فمن الجائز إذن أن يحدُث في الطبيعة أيُّ شيء، دون أن يسترعي ذلك انتباهنا أو يُثير دهشتنا، نقول إنه يُنكر وقوع المُعجزة رغم جوازها عقلًا، مُحتجًّا بأن التجربة قد دلَّت على أن الكون يسير في نظامٍ مُعين. فالعقل أقرَب إلى قبول استمرار هذا النظام منه إلى قبول كسرِه واضطرابه. ولكن من حقِّنا أن نُسائل «هيوم»: لماذا يَعتبِر المعجزة كسرًا لنظام الطبيعة بناءً على نظريته هو؟ أليس يدعونا إلى اعتبار كلِّ حادثةٍ إدراكًا جديدًا لا علاقة له بما سلفَها من حوادث؟ وعلى ذلك يكون الحادث الذي يُسمِّيه هو كسرًا للنظام المعهود، مجرد إدراك جديد لا يتَّصِل بالحالة السابقة له، إنه حقيقة جديدة صادفناها في مجرى تجربة الحياة العملية. إن فلسفة «هيوم» لأمْيَلُ إلى وقوع الحوادث الخارقة غير المعهودة، بل إنَّ مذهبه ليقتضي أكثرَ من هذا، إنه لا يؤدي إلى أنَّ هناك نظامًا مُعيَّنًا في الكون، حتى نقول إنه كُسِر أو لم يُكسَر؛ لأنه ليس في أذهاننا فكرة عن نظام موجود بين الأشياء الخارجية، ولا يمكن أن توجَد هذه الفكرة ما دامت كل معلوماتنا عبارة عن إحساساتٍ مُفكَّكة مُتناثِرة لا يرتبط بعضها ببعضٍ في نظامٍ أو ما يُشبِه النظام.

رأيه في الأخلاق:

يرى «هيوم» أنَّ سلوك الإنسان عمل آلي محْض، وليس هناك ما يُسمَّى بالإرادة الحرَّة، فإن عرفْتَ طبيعة إنسان أمكنك أن تتنبَّأ بتصرُّفه في كل مواقفه المُقبلة، [لكن ألا يتعارض هذا مع نظرية هيوم بتتابع الأحداث دون أي رابط أكيد بينها؟] وهو يزعُم أن الدافع الأساسي لسلوك الإنسان هو اللذَّة والألَم، وبهما نُميز بين الخير والشر، وليس العقل هو الذي يوجِّه أعمال الإنسان؛ لأنَّ العقل ملكة نظرية محضة لا شأن لها بالجانب العملي، وكل أثرِه هو أنه يوجِّه الدافع الذي ينبعِث من الشهوة أو الرغبة، فهو يُبيِّن لنا ما هو حق، ولكنه لا يستطيع أن يؤثر في السلوك على نحوٍ مُعيَّن.

إن ما يدفع الإنسان إلى العمل هو المشاعر والعواطف، وهو يُقسِّم هذه المشاعر إلى هادئة وعنيفة، فالأولى تشمل: الجمال والقبح، والثانية تشمل: الحُبَّ والكُره، والحزن والسرور، والغرور والتواضُع.

وما دامت أعمالنا نتيجة العاطفة فلا يصحُّ أن يكون العقل حَكمًا أخلاقيًّا، إنما المرجع الذي يجِب أن يحتكِم إليه هو غريزة أخلاقية يعتقد «هيوم» بوجودها عند الإنسان، وهذه الغريزة تحكُم على أخلاقية العمل بناء على ما يؤدي إليه من شعور باللذة أو الألم. فالفضيلة هي ما يُثير في الشخص اللذة، أما ما يُمكننا من الحكم على أعمال الناس، فهي ملكة خاصَّة عند الإنسان يستطيع بها مشاركة غيره في شعوره، فيحسُّ بنفس إحساسِه، ويقِف ذات موقِفه، وحينئذٍ يرى هل ما يقوم به غيره من عملٍ يستدعي القدْح أو الثناء؛ لأنه بذلك يتخيَّل أن ذلك العمل قد وقَع منه هو، ثم ينظُر أي شعورٍ قد أُثير في نفسه، أهو شعور الزَّهو فيكون العمل صالحًا؟ أم هو شعور الخجَل والضِّعَة فيكون غير صالح؟ فاستحسان العمل أو استهجانه يكون على أساس ما يُثيره من زهوٍ أو ضعة، وهذا هو مِقياسُنا في الحُكم على سلوك الناس، وليس صحيحًا ما يُقال من أنَّنا نحكُم بناءً على ما نراه صالحًا لنا، أي أنَّ مِقياسنا هو حُب الذات؛ لأننا قد نمدَح عملًا قام به رجل منذ آلاف السنين، أو عملًا باسِلًا يقوم به أحد أعدائنا، مع أنه قد يتعارَض مع مصلحتنا.

لقد سبق القول إنَّ الفضيلة هي ما تبعَث في النفس الرِّضا واللذة، ومعنى ذلك أن الخير هو ما ينفع، ولكن «هيوم» يُحذرنا أن نأخذ كلمة المنفعة بمعناها الفردي، فإنه يُريد بها المنفعة العامة، فما يعود بالخير على أكبر عددٍ مُمكن من الناس أفضل مما ينفع فردًا واحدًا فقط، ومن هنا جاء تفضيلنا للعدْل والإحسان مثلًا على مهارة شخصٍ مُعين في حرفةٍ ما؛ لأن الأوَّلَين يعمُّ نفعهما الناس جميعًا بخلاف الثانية، فهي لا تُفيد إلا صاحبها أو نحو ذلك. هذا ويقرِّر «هيوم» أن للفضيلة ثوابها وللرذيلة عقابها، وهما اللذة أو الألم الذي يشعُر به من يعمل الفضيلة أو يأتي الرذيلة، وليس لهما من ثوابٍ أو عقاب وراء هذه اللذَّة العاجِلة أو الألَم الذي يُصيب صاحب الرذيلة في حينها.

 


الخميس، 3 فبراير 2022

باركلي؛ زكي نجيب محمود؛ قصة الفلسفة الحديثة




بركلي Berkcley (1684ـ 1753)

زكي نجيب محمود؛ قصة الفلسفة الحديثة

 

وُلد جورج بركلي في مدينة كِلْكرِن Kilcrin من أعمال إيرلندة سنة ١٦٨٤م، وكان ذا مقدِرة عقلية مُمتازة، وأخلاقٍ بلغت أقصى حدٍّ من النُّبل والكرم، ولم يكَدْ يبلغ من العمر الرابعة والعشرين، حتى أخرج للناس كتابه «نظرية جديدة في الرؤية» New Theory of Vision، ثم أتبعَهُ بعد عامٍ واحد بمؤلَّف آخر هو «أصول المعرفة البشرية»، فكان لهذَين الكتابَين صدًى قويٌّ في دوائر العلم لِما اشتملا عليه من آراءٍ مُمتعة طريفة، ولِما أُفرغا فيه من أسلوبٍ رائع جذَّاب. فلمَّا كان عام ١٧١٣م قصد إلى لندن، حيث توشَّجَت روابط الصداقة بينَه وبين أعلام الأدَب من مُعاصريه، وكلهم من أئمة الأدب الإنجليزي البارِزين؛ أديسون، وسويفت، وستيل، وبوب وغيرهم، ولكن إلى جانب هذه المنزلة المُمتازة التي كان يتمتَّع بها بركلي فقد تعرَّض للسخرية اللاذِعة والتهكُّم القارص من بعض حمَلَة الأقلام في عصره، لرأيه الذي بَنى عليه فلسفته وهو وجود المادة، وانطلقَتْ ألسِنة القوم بالتنادُر عليه.

وكان بركلي رجلًا من رجال الدين، يخفق قلبُه بالإيمان والتقوى، وهَمَّ بعد رحلةٍ قصيرة قام بها في أوربا، وقابل أثناءها مالبرانش (1638ـ 1715)، أنْ يضطلع بمشروعٍ دينيٍّ عظيم: هو هداية المُتوحِّشين من سُكَّان أمريكا الشمالية. وبعد أن أعدَّ لهذه المهمَّة الجليلة عُدَّتَها بَخِلَ عليه البرلمانُ الإنجليزي بالمال فحبط المشروع، وبعدئذٍ عُيِّن في منصبٍ ديني في إيرلندة حيث أنفق ما بقِيَ له من عمره في شئون منصبه، وفي متابعة دراسته.

ولقد ساء بركلي — وهو ذلك المؤمِن الورع — أن يرى موجةً من الإلحاد وفساد الأخلاق تطغى على قومه باسم الفلسفة المادية، فنشَر كتابًا يُحاول به أن يُصلِح شيئًا من الفساد، وهو «محاورات هيْلاس وفيلونوس» Dialogues of Hylas and Philonous، وهو عبارة عن حوارٍ فلسفي يُمثِّل فيه هيلاس نظرية الماديِّين، فينقُض فيلونوس آراءه بالحُجَج الدامغة، وفيلونوس هذا إنما يُعبِّر في هذا الحوار عن آراء بركلي نفسه.

أما فلسفتُه فشُعبتان: شعبة سلبية وأخرى إيجابية، فهو في الأولى يحاول أن يُبرهن على أن العالَم الماديَّ ليس له وجودٌ مُستقل عن العقل الذي يُدركه، ثم يُبيِّن بعد ذلك أن العقول وما تشمل عليه من أفكارٍ هي وحدَها الحقيقة. ولمَّا كان الله هو العقل الأسمى كان هو باعث أفكارنا، كما أنه في الوقت نفسه هو الذي يُوجِد ما بينها من روابط.

(١) بُطلان الأشياء المادية: 

يستهلُّ بركلي كتابه «أصول المعرفة البشرية» بعبارةٍ يُلخِّص فيها المشكلة، ويُوجِز موقفه منها: «حسبُك أن تُلقي نظرة شاملة على ما تتألَّف منه المعرفة البشرية لتُوقِن يقينًا جازمًا أنَّ معرفتنا إحدى ثلاث: فهي إما أن تكون أفكارًا قد انطبعَتْ آثارُها على الحواسِّ حقًّا، وإما أن تكون أفكارًا أدركْناها بالتأمُّل في عواطفنا وخلجات عقولنا، أو هي أفكار كوَّنتْها الذاكِرة والخيال … ولكن لا بدَّ أن يكون هنالك — عدا هذه الأفكار المُتنوِّعة تنوُّعًا لا حدَّ له — شيءٌ يعرِفها ويُدركها، ويتصرَّف فيها بما له من إرادةٍ وتخيُّل وتذكُّر، وهذا الكائن المُدرِك الفاعل هو ما أُسمِّيه العقل، أو الروح، أو النفس، أو الذات … وإنه لبديهيٌّ أنَّ آراءنا وعواطفنا وأفكارنا التي يُكوِّنها خيالنا ليست موجودةً خارج عقولنا، وليس أقلَّ من ذلك بداهةً أنَّ الأحاسيس المُختلفة أو الأفكار التي تنطبع على الحواس — مهما بلَغَ من امتزاجها واختلاطها بعضها مع بعض. لا يمكن أن تُوجَد إلا في عقلٍ يُدركها.»

ولقد أراد بذلك أن يُقيم الدليل على أنَّ وجود العالم الخارجي مُتوقِّف على وجود العقل الذي يُدركه، فإن لم يكن عقل مُدرك لَما كان هناك عالَم مادي، فلو انعدمَتْ حواسُّ الأبصار لانعدمَتْ معها المرئيَّات، ولو صُمَّت الآذان لانمحَتِ الأصوات، وعلى الجُملة لو ذهبت الحواسُّ لامتنع وجود الأشياء. ويجِب أن نلفِت النظر إلى أن بركلي لا يقصد بذلك أن يَشُكَّ في وجود العالَم الخارجي، ولكنه يرى أنه من خلْق العقل والحواس، وهو يُنكِر وجود ذلك الجوهر المجهول الذي زعم الفلاسفة من قبله — ومنهم لوك — أنه كان وراء الظواهر المحسوسة. يقول بركلي: إنَّني لستُ أقلَّ منك إيمانًا بوجود ما تراه عينايَ وتُحسُّه يداي، إنما أُنكر أن يكون ثمَّة شيءٌ غير ما أرى وما أُحس، وأنَّ هذا الجوهر المزعوم إنْ هو إلا فِكرة مجردة ليس لها حقيقة واقعة. إنَّنا لو تأمَّلنا في ما تأتينا به التجربة لَما رأيْنا فيه ذلك الجوهر أو تلك القوة التي تنشأ عنها الظواهر أو تكون قوامًا للأشياء كما يزعمون، بل كل ما نراه هو مجموعة من الإحساسات إذا حلَّلْتها وجدتَها تتألَّف من مرئياتٍ مُعيَّنة، وأصوات، وطعوم، وما إلى هؤلاء من ضروب ما تجيء به الحواس. هذا فضلًا عن معرفتي بنفسي؛ إذ إني أعلم — إلى جانب تلك الأحاسيس — أنَّني أنا الذي أعرفها. وليس يَعي الإنسان غير هذَين الجانبَين؛ إحساسات، وذات تُدركها.

وإذا قلتُ إنَّني أرى أو ألمس شيئًا ما، فإنما أُريد بذلك أنَّني أُدرك فكرتي عنه. إنَّ هذا القلم الذي أكتُب به موجود ما دمتُ أراه بعَيني وأُحسُّه بين أصابعي، فإذا تركتُه على المائدة وانصرفتُ من غرفتي، فسأظلُّ أعلَم أنه موجود، ويكون معنى وجودِه عندئذٍ أنَّني لو كنتُ في الغرفة لرأيتُه وأحسسْتُه، أو قد يكون معنى وجوده أنَّ هنالك عقلًا آخَر يُدرِكه. ويريد بركلي بذلك أن يقول إنه يسمع أصواتًا، ويرى ألوانًا وأشكالًا ويذوق طعومًا، إلى آخر هذه الآثار الحِسِّية التي هي كل ما يستطيع أن يعلَمَه، بل كل ما يمكن أن يكون له وجود حقيقي. أما ما يُقال من أنَّ للأشياء جوهرًا حقيقيًّا موجودًا في الخارج سواء أكانت هنالك عقول تُدركه أو لم تكُن، فذلك ما يرفُضُه رفضًا باتًّا، فلفظة «موجود» معناها «مُدْرَك». وبعبارةٍ تُلخِّص ما مضى نقول: إنه يستحيل أن يكون للأشياء وجودٌ خارج العقول التي تُدرِكها «إنَّ كلَّ هذه الأجسام المادية التي يتركَّب منها الكون ليس لها وجود بغَير عقل — فوجودها هو أن تُدْرَك وتُعْرَف …» وفي هذا الرأي تتلخَّص رسالة بركلي.

ويقول بركلي: إنَّ ما حدا بالإنسان إلى الزعم بأنَّ للأشياء جوهرًا حقيقيًّا خارجيًّا غير ما تنبعِث فينا عنه من إحساساتٍ هو الفرْض الباطل بأنَّ في أذهاننا ما نُسمِّيه بالأفكار الكُلية المجرَّدة (أي أنَّ في الذهن أفكارًا كُلية غير الإحساسات الجُزئية ممَّا يدلُّ على أنَّ للأشياء حقيقةً أُخرى غير مجموعة الآثار الحِسِّية التي تنطبِع على حواسِّنا)، ولكن بركلي يقول: إن الإنسان ليخدَع نفسه حين يخلط، فيظنُّ الألفاظ أفكارًا، فليس لهذه الأفكار الكلية وجود قطعًا، وليس ثمَّة إلَّا الحقائق الجزئية التي نُحسُّها بحواسِّنا. إنَّ هذه الأفكار المُجرَّدة ليس لها وجود، حتى في العقل نفسه فضلًا عن العالم الخارجي.

ولا بدَّ هنا من مُعترِض يُسائل «بركلي» إذا استحال وجود الأفكار نفسها إلا في عقلٍ يُفكِّر فيها — وهذا ما نُسلِّم به — فماذا يمنع أن يكون هنالك، خارج عقولنا، أشياءُ شبيهةٌ بأفكارنا؟ أو على الأصحِّ تكون أفكارنا شبيهةً بها أو صورًا لها؟ إذا كانت فِكرتي عن هذا القلم الذي أكتُب به لا يمكن أن تُوجَد بغَير عقل يُدركها، فلماذا لا يكون ثمَّة قلمٌ مادي في الواقع، هو الأصل الذي انبعثت عنه فكرتي؟ ولكن بركلي يُجيب على من يعترِض بهذا قائلًا: إنَّ الفكرة لا يُمكن أن تُشبِه إلَّا فكرة؛ لأنَّ الشَّبَه لا يكون إلا بين النظائر، فيُماثل لَون لونًا وشكلٌ شكلًا، فإذا سلَّمْنا بوجود أشياء مادية في الخارج، فلا يُمكن لتلك الأشياء أن تخلُق فينا أفكارًا؛ لأنَّ الشيء مادةٌ، والفكرة روحٌ، فلا يُعقل أن يكون بينهما شيء من التشابُه.

ولقد أخطأ «لوك» في تقسيمِه صفات الأشياء قِسمَين: صفات أوَّلية موجودة فعلًا في الأشياء، وأخرى ثانوية تنشأ في العقول. ومِن أمثلة الصفات الأولية الامتداد، فكلُّ جسم يتَّصِف بالامتداد بغضِّ النظر عن العقل المُدرِك له، ومن أمثلة الصفات الثانوية الألوان والطعوم، فهذه من صُنع العقل وتكوينه وليستْ موجودةً فعلًا في الأشياء التي تتَّصِف بها … يقول بركلي: إن «لوك» قد أخطأ في هذا، فليس هناك أي فرقٍ بين صفةٍ وأخرى، وكلها — امتدادًا كانت أو لونًا أو طعمًا — موجودة فقط في الذهن الذي يُدرِك الشيء.

وربما قيل إنَّ للأشياء جوهرًا يكمن وراء صفاتها، وإنه من الجائز أن تكون الصفات كلها كما يقول «بركلي» من خلْق الذات، ولكنَّ جوهر الشيء الذي تتعلَّق به تلك الصفات لا بدَّ أن يكون له وجودٌ حقيقي خارجي واقِع، فإنْ قُلتَ مثلًا إنَّ لون هذه التِّفاحة أحمر، ورائحتها زكية، وطعمُها كذا، إلى آخر هذه الصفات، فما الذي تَصِفه باحمرارٍ وبطِيب الرائحة ولذَّة الطعم؟ أليس المعقول أن يكون للتفاحة جَوهر غير هذه الصفات، تتعلَّق هي به؟ نقول: ربما يُعترَض بهذا على «بركلي» ويكون معناه أنَّ هناك حقيقةً خارج العقول هي جوهر الشيء على فرْض أنَّ الصفات لا تُوجَد إلَّا في العقل وحدَه. ولكن بركلي يُجيب عن هذا الاعتراض بأن الشيء هو مجموعة صفاته ليس إلَّا. خُذ تفاحةً مثلًا في يدِك، ثُمَّ افرض أنك لا تُبصِر، فستنمحي من فكرة التفاحة صورتها، فإذا فقدتَ بعد ذلك حاسَّة الشمِّ انمحَتْ من الفكرة رائحتها، فإذا فقدتَ بعدئذٍ حاسَّة الذوق، كانت فكرة التفاحة عبارة عن ملمسها، فإن فقدتَ حاسَّة اللمس انمحَتْ فكرة التفاحة، ولم يعُد لوجودها أي معنى بالنسبة إليك. ومعنى ذلك أن التفاحة هي صفاتها لا أكثر ولا أقل، فإنْ كانت الصفات من خَلْق الذات كما قدَّمْنا، كانت فكرة التفاحة بأسرِها من خلق الذات كذلك، وليس لها معنًى من معاني الوجود خارج العقل المُشتمِل على تلك الفكرة. وبهذا محا «بركلي» المادة من الوجود، فليس في حقيقة الأمر إلَّا أفكار في عقول.

قُلنا فيما سبَق إن فلسفة «بركلي» تتألَّف من خطوتَين؛ الأولى: سلبية يُنكر فيها وجود المادة، والثانية: إيجابية يُثبت فيها وجود الكائنات الرُّوحية. ولقد بَسَطنا القول في مرحلته السلبية الأولى، ونحن نعرِض عليك الخطوة الإيجابية الثانية.

يقول «بركلي»: إنه لا رَيب أنَّ هنالك إلى جانب أفكارنا ذواتٍ مُدرِكة. إنني أعلم حقَّ العلم أن أفكاري كائنة في عقلي، وأستطيع أن أُميز تمييزًا واضحًا بين ذاتي وبين أفكاري، وإذن فللعقل وجودٌ مُستقل لا شكَّ فيه، وهو الذي يتناول أشتات الأفكار، فيصِل بينها وينظمها، ولَولاه لظلَّت مُفكَّكة لا تؤدي معنى، فيكون لَون التفاحة مثلًا منفصلًا عن مَلمسها، وهذا مُستقل عن رائحتها، وهي جميعًا لا تتَّصِل بطعمها، وبذلك لا يكون هناك فكرة مُتصلة مُترابطة متَّحدة عن التفاحة، أو بمعنى آخر لا تكون في العقل فكرة للتفاحة على الإطلاق، هذا العقل الذي يدرك الأفكار،٩ ويؤلِّف بينها يستحيل أن يكون هو نفسه فكرةً من الأفكار؛ لأنه فاعل والأفكار كلها قابلة، وهو مُدْرِكٌ والأفكار مُدْرَكَة. والخلاصة أن العقل، أو الروح موجود لا رَيب في وجوده، وإذن فكلُّ ما في الوجود عقول وما تحويه من أفكار.

(٢) الله هو مُنشئ الأفكار: 

لقد أنكر «بركلي» وجود الأشياء المادية، ولم يعترِف إلا بالعقول وأفكارها، فبديهي أن يَرِدَ على الذهن هذا السؤال: من أين إذن تأتي أفكارنا؟ إنه ليست هناك أشياء في الخارج تبعَثُها في نفوسنا، حتى نقول إنها صور لتلك الأشياء، كذلك لم تخلُقها عقولنا خلقًا من عدَم، فكل عمل العقل مُقتصر على تنظيمها وربطها، ويستحيل أن تكون وهمًا وخداعًا؛ لأنها حيَّة ناصِعة واضحة مُنظمة، فإذا كانت هذه الأفكار ليست من ابتداعنا نحن، فلا بدَّ أن يكون لها سبب خارج عنَّا، ولا بدَّ أن يكون ذلك الكائن مُفكرًا مريدًا؛ لأنه بغير الإرادة لا يمكن أن يكون فاعلًا ومؤثرًا في الناس، وبغير التفكير يستحيل أن يبثَّ في عقولنا. هذا ولمَّا كانت أفكارنا منوَّعة مُتعددة تنوُّعًا وتعدُّدًا لا نهاية لهما، فلا بدَّ أن يكون لذلك الكائن قوة لا نهائية، وعقل غير محدود، إنه لا بدَّ أن يكون في قُدرته السيطرة على العقول كلها، حتى يتمكَّن من أن يبثَّ أفكارًا بعينها في عقولٍ كثيرة في وقتٍ واحد … هذا الكائن هو الله، وهذه الأفكار التي يؤلِّفها ويُنسقها ويربط بينها هي ما نُسميه بالطبيعة،. أما هذا التتابُع الذي يحدُث بين الأفكار فهو ما نُطلق عليه قوانين الطبيعة. وهنا يستطرِد «بركلي» فيقول: إنَّنا لسْنا في حاجةٍ إلى أن نُثبت وجود الله بالمُعجزات الخارقة لقوانين الطبيعة؛ لأنَّ ثبات هذه القوانين وانسجام الأفكار وتنظيمها تدلُّ على قوة الله أكثر مما تدلُّ عليه الخوارق الشاذَّة … ثم يقول: إنك إذا سمِعتَ رجلًا يتحدَّث دون أن تراه لما شككتَ في وجوده، فكيف يجوز للإنسان أن يشكَّ في وجود الله وهو يتحدَّث إلينا حديثًا مُتصلًا لا ينقطع بلسان هذه الطبيعة — أي الأفكار — إنَّ هذه الأفكار التي يبثُّها في عقولنا هي نماذج من أفكاره الخالدة، فهي دليل قائم على وجوده وخلوده.

ترى ممَّا سبق أن «بركلي» يذهب بفلسفته إلى أنَّ الأشياء جميعًا لا تعدو أفكارًا وما يربطها من علاقات، ولكن هذه العلاقات ليست طبائع الأفكار نفسها، وإذن فهو لا يعترِف بما في العالَم الخارجي من سببيَّة؛ لأنه لا يرى أن الحادثة المُعينة أو الفكرة المُعينة لا بدَّ أن تستتبِع حادثة أو فكرة بعينها، إذ هو — كما رأيت — يُنكر أنَّ العلاقات بين الأشياء ضرورية ليس من حدوثها بد، فكل ما في الأمر سلسلة من الأفكار تتابَع في العقل تتابُعًا يتمُّ كما يريده الله.

أراد «بركلي» بإنكاره للعالم المادي، وبإثباته للكائنات الروحية وحدَها أن يصدَّ تيار المادية الذي طغى على الفكر في عصرِه طغيانًا انتهى بالإلحاد، وأن يُقرِّر وجود الله الذي يُنشئ في نفوسنا الأفكار، ولكنه يعود فيعترِف بأنَّ الإنسان عاجز عن معرفة الله معرفةً تامَّة كاملة؛ وذلك لأن أفكارنا قابلة فقط وليست فاعِلة، وحتى على فرض فاعليَّتها، فهي ولا شكَّ فاعلية ناقصة. ولمَّا كان الله عبارة عن فاعلية خالصة كاملة، كان من غير المُمكن أن تُمثله هذه الأفكار التي تنقُصها الفاعلية، فمَعرفتنا بالله هي من قبيل معرفتنا بذواتنا وبوجود العقول الأخرى، فلسْنا نعلم عن الله إلا ما نستنتجه من آثاره فينا؛ أي الأفكار التي في عقولنا.

ولكن طريقته هذه إذا طُبِّقت إلى نهايتها فقد تنتهي إلى إنكار عالم الرُّوح كذلك.

إنه زعَم أنَّ الشيء المادي لا يكتسِب وجوده إلا من إدراكه في عقلٍ ما، وأن كل ما هنالك عن ذلك الشيء هو فكرة في عقل، فبأيِّ حقٍّ أُقرر أن الله والعقول الأخرى موجودون وجودًا حقيقيًّا خارج عقلي، وأنهم قادِرون مِثلي على التفكير والتخيُّل والإرادة؟

أليست هذه العقول، بل أليس الله نفسه فكرة في نفسي؟ فلماذا لا أحكُم عليه بما حكمتُ به على الأشياء المادية، فأقول: إنه ليس لها وجود إلا في عقلي، وبذلك ينهار عالَم الروح كما اندكَّ عالم المادَّة من قبل؟

ومهما يكُن من أمر هذا الفيلسوف، فقد أفلح في مُعارضة النزعة المادية، كما كان من أئمة المذهب المثالي الذي يتلخَّص في أنَّ العالم هو ما تُصوِّره لنا أذهاننا.

 


الأحد، 16 يناير 2022

فرنسيس بيكون؛ أوهام العقل (من كتاب "الأورغانون الجديد")



فرنسيس بيكون: أوهام العقل.

ترجمة عادل مصطفى 

https://www.hindawi.org/books/52817516/?fbclid=IwAR28mEBW-O6vPd-hleyQQ8kRTj8GIWAx2-RRIE7V96A6JVpFQN7O-YZxtGo


(٣٩) ثمة أربعة أنواع من «الأوهام»١٢ تُحْدِق بالعقل البشري، وقد قَيَّضتُ لكلٍّ منها اسمًا بغرض التمييز بينها،

فأطلقتُ على النوع الأوَّل: «أوهام القبيلة» idols of the tribe  (idola tribus)،

وعلى النوع الثاني: «أوهام الكهف» idols of the cave  (idola specus)،

 وعلى الثالث: «أوهام السوق» idols of the market place  (idola fori)،

وعلى الرابع: «أوهام المسرح» idols of the theatre  (idola theatric).

•••

(٤٠) لا شك أن تكوين التصورات والمبادئ بواسطة الاستقراء الصحيح هو العلاج الناجع للتخلص من الأوهام وإزالتها، إلا أن التعرف على الأوهام هو أيضًا أداة مفيدة للغاية، فدراسة «الأوهام» idols هي بالنسبة إلى «تفسير الطبيعة» مثل دراسة «الدحوضات السوفسطائية » sophistic refutations١٣ بالنسبة للمنطق العادي.

•••

(٤١) «أوهام القبيلة» (أوهام الجنس) idola tribus مُبَيَّتةٌ في الطبيعة البشرية وفي القبيلة البشرية نفسها أو الجنس البشري نفسه، فالرأي القائل بأن حواس الإنسان هي مقياس الأشياء إنما هو رأي خاطئ، فالإدراكات جميعًا، الحسية والعقلية، هي — على العكس — منسوبة إلى الإنسان وليس إلى العالَم، والذهن البشري أشبه بمرآة غير مستوية تتلقَّى الأشعة من الأشياء وتمزِج طبيعتها الخاصة بطبيعة الأشياء فتشوهها وتُفسِدها.

•••

(٤٢) أمَّا «أوهام الكهف» idola specus فهي الأوهام الخاصة بالإنسان الفرد، إن لكل فرد — بالإضافة إلى أخطاء الطبيعة البشرية بعامة — كهفًا أو غارًا خاصًّا به يعترض ضياءَ الطبيعة ويشوهها، قد يحدث هذا بسبب الطبيعة الفريدة والخاصة لكل إنسان، أو بسبب تربيته وصلاته الخاصة، أو قراءاته ونفوذ أولئك الذين يُكِنُّ لهم الاحترام والإعجاب، أو لاختلاف الانطباعات التي تتركها الأشياء في أذهان مختلفة: في ذهنٍ قلقٍ متحيز، أو ذهنٍ رصينٍ مطمئنٍ … إلخ. الروح البشرية إذن (بمختلف ميولها لدى مختلف الأفراد) هي شيءٌ متغير، وغير مُطَّرد على الإطلاق، ورهنٌ للمصادفة العشواء، وقد صدق هيراقليطس حين قال: إن الناس تلتمس المعرفة في عوالمهم الصغرى الخاصة، وليس في العالم الأكبر أو العام.

•••

(٤٣) ثمة أيضًا أوهام تنشأ عن تواصل الناس واجتماعهم بعضهم ببعض، والتي أسميها «أوهام السوق » idola fori، بالنظر إلى ما يجري بين الناس هناك من تبادل واجتماع، فالناس إنما تتحادث عن طريق القول، والكلماتُ يتم اختيارها بما يلائم فهم العامة، وهكذا تنشأ مُدَوَّنةٌ من الكلمات سيئةٌ بليدةٌ تعيق العقل إعاقةً عجيبة، إعاقة لا تُجْدي فيها التعريفاتُ والشروح التي دأب المثقفون على التحصن بها أحيانًا: فما تزال الألفاظ تنتهك الفهمَ بشكلٍ واضحٍ، وتُوقِع الخلطَ في كل شيء، وتوقِع الناس في مجادلات فارغة ومغالطات لا حصر لها.

•••

(٤٤) وأخيرًا هناك تلك الأوهام التي انسربت إلى عقول البشر من المعتقدات المتعددة للفلسفات المختلفة، وكذلك من القواعد المغلوطة للبرهان، وهذه أسميها «أوهام المسرح » idola theatric، ذلك أني أعتبر أن كل الفلسفات التي تَعلَّمَها الناسُ وابتكروها حتى الآن هي أشبه بمسرحيات عديدة جِدًّا تُقدَّم وتؤدَّى على المسرح، خالقةً عوالمَ من عندها زائفةً وهمية، ولا ينسحب حديثي على الفلسفات والمذاهب الرائجة اليوم فحسب، ولا حتى على المذاهب القديمة، فما يزال بالإمكان تأليف الكثير من المسرحيات الأخرى من نفس النمط وتقديمُها بنفس الطريقة المصطنعة وإضفاء الاتفاق عليها، ما دامت أسبابُ أغلاطها الشديدة التعارض هي أسباب مشتركة إلى حد كبير، ولا أنا أقصر حديثي على الفلسفة الكلية، وإنما أشمل أيضًا كثيرًا من العناصر والمبادئ الخاصة بالعلوم، والتي اكتسبت قوتها الإقناعية من خلال التقليد والتصديق الساذج والقصور الذاتي، غير أننا ينبغي أن نعرض لكل صنف من الأوهام على حدة بتفصيل أكبر؛ كيما نحصِّن الفهم البشري ضدها.

•••

(٤٥) من طبيعة الفهم البشري الخاصة أنه يميل إلى أن يفترض في العالم نظامًا واطِّرادًا أكثر مما يجده فيه، ورغم وجود أشياء كثيرة في الطبيعة فريدة في نوعها وعديمة النظير، فإن الذهن البشري يخترع لها أشباهًا ونظائرَ وصلاتٍ لا وجود لها، ومن هنا يأتي الوهم القائل بأن جميع الأجرام السماوية تتحرك في دوائر مكتملة، بينما تُستبعَد تمامًا المسارات اللولبية والمتمعجة (إلا في الاسم)، ومن هنا كذلك إدخال عنصر النار ومداره؛ لكي يكوِّن رباعيًّا مع العناصر الثلاثة الأخرى التي تدركها الحواس، وكذلك فرض نسبة عشرة إلى واحد على العناصر (كما يطلَق عليها) بشكلٍ اعتسافي، والتي هي نسبة كثافاتها على التوالي، وما إلى ذلك من الهُراء، ولا تقتصر هذه الحماقة على النظريات، بل تمتد أيضًا إلى التصورات البسيطة.

•••

(٤٦)١٤ من دأب الفهم البشري عندما يتبنى رأيًا (سواء لأنه الرأي السائد أو لأنه يروقه ويَسُرُّه) أن يقسِر كلَّ شيءٍ عداه على أن يؤيده ويتفق معه، ورغم أنه قد تكون هناك شواهد أكثر عددًا وثقلًا تقف على النقيض من هذا الرأي، فإنه إما أن يهمل هذه الشواهد السلبية ويستخف بها، وإما أن يختلق تفرقةً تُسوِّل له أن يزيحها وينبذها؛١٥ لكي يخلص — بواسطة هذا التقدير السبقي المسيطر والموبِق — إلى أن استنتاجاته الأولى ما زالت سليمةً ونافذة؛ ولذا فقد كان جوابًا وجيهًا ذلك الذي بَدَر من رجلٍ أطلَعوه على صورةٍ معلقةٍ بالمعبد لأناسٍ دفعوا نذورهم ومِنْ ثَمَّ نجوا من حطام سفينة؛ عساه أن يعترف الآن بقدرة الآلهة، فما كان جوابه إلا أن قال: «حسنًا، ولكن أين صورُ أولئك الذين غرقوا بعد دفع النذور؟١٦ وهكذا سبيل الخرافة، سواء في التنجيم أو في تفسير الأحلام أو الفأل أو ما شابه، حيث تجد الناس — وقد استهوتهم هذه الضلالاتُ — يلتفتون إلى الأحداث التي تتفق معها، أمَّا الأحداث التي لا تتفق — رغم أنها الأكثر والأغلب — فيغفلونها ويَغُضون عنها الطرف، على أن هذا الأذى يتسلل بطريقة أشد خفاءً ودقةً إلى داخل الفلسفة والعلوم، حيث يفرض الحكمُ الأوَّل لونَه على ما يأتي بعده، ويحمله على الإذعان له والانسجام معه، ولو كان الجديدُ أفضلَ وأصوبَ بما لا يُقاس، وفضلًا عن ذلك — وبغض النظر عن ذلك الهوى والضلال الذي ذكرتُ — فإن من الأخطاء التي تَسِم الفكرَ الإنساني في كل زمان أنه مُغرَمٌ ومُولَع بالشواهد الموجبة أكثر من الشواهد السالبة،١٧ حيث ينبغي أن يقف من الاثنين على حياد. والحق أنه في عملية البرهنة على أي مبدأ صحيح يكون المثال السلبي هو أقوى المثالين وأكثرهما وجاهةً وفعاليةً.

•••

(٤٧) إن أكثر ما يشغف الفهمَ البشري هو تلك الأشياء التي تلفت العقلَ وتنفذ إليه فورًا وفجأةً، فتجعل المخيلة تمتلئ للتو وتتمدد، ثُمَّ يتراءى له (أي الفهم) ويفترض أن كلَّ شيءٍ آخر هو بطريقة ما — وإن تكن خفيةً غيرَ مدرَكة — شبيهٌ بتلك الأشياء القليلة التي استحوذت على العقل، أمَّا في الترحال إلى أمثلةٍ بعيدةٍ وغير متجانسة تختبر المبادئ اختبارَ النار فإن الفكر بطيءٌ جِدًّا وغيرُ مؤهَّل ما لم تحمله على ذلك قواعدُ قاسيةٌ وسلطةٌ نافذةٌ.

•••

(٤٨) إن الفهم البشري في نشاط دائب، ولا يمكنه أن يتوقف أو يستكنَّ، وما يزال يبتغي المضيَّ قُدُمًا وإن كان ذلك بغير جدوى؛ ولذا فمن غير المتصوَّر أن يكون هناك حَدٌّ ما للعالَم أو نقطة نهاية؛ إذ يبدو لنا دائمًا — بما يشبه الضرورة — أن هناك شيئًا ما وراء ذلك الحد أو النهاية، ولا هو من المتصوَّر أيضًا كيف تدفقت الأبدية نُزُلًا إلى يومنا هذا؛ لأن هذا التحديد المتفق عليه للانهاية في الماضي واللانهاية في المستقبل لا يمكن أن يصمد، إذ سيترتب أن هناك لا نهاية أكبر من لا نهاية أخرى، وأن اللانهائية تتآكل وتؤول إلى نهائية، وثمة نفس الصعوبة فيما يتعلق بقابلية الخطوط للانقسام إلى ما لا نهاية، والناجمة عن انفلاتِ فكرِنا وعجزه عن التوقف،١٨ على أن هذا الانفلات من جانب العقل يكون أكثر إيذاءً في عملية اكتشاف العلل، فعلى الرغم من أن المبادئ الأكثر عمومية في الطبيعة ينبغي أن تكون وقائع خامًا هي كما وُجِدَت عليه ولا يمكن أن تُحال حقًّا إلى علة، إلا أن الفهم البشري في عجزه عن التوقف ما يزال يتلمس شيئًا ما سابقًا في نظام الطبيعة، ثم هو في غَمرة جهادِه في المضي إلى ما هو أبعد إذا به يرتد إلى ما هو أقرب مأخذًا، أعني إلى العلل الغائية،١٩ تلك التي تَمُتُّ بالصلة إلى طبيعة الإنسان أكثر مما تَمُتُّ إلى طبيعة العالم، وهي من جَرَّاء هذا المنشأ قد أفسدت الفلسفة على نحو عجيب، على أن الفيلسوف الذي يلتمس العلل في العموميات القصوى ليس أقلَّ خَرَقًا وسطحيةً من ذلك الذي يتوانَى عن التماسها في الأشياء التابعة والفرعية.

•••

(٤٩) الفهم الإنساني ليس مجبولًا من ضياء صرف،٢٠ وإنما هو مُشرَّبٌ بالإرادة والعواطف،٢١ من هنا تأتي المعرفة التي يمكن أن تُسَمَّى «معرفة حسب الطلب»، فالإنسان أمْيَلُ دائمًا إلى تصديق ما يُفضِّله، ولذا فهو ينبذ الأمور الصعبة؛ لأنها تُجشِّمه الصبرَ في البحث، وينبذ الاعتدال لأنه يُضيِّق حدود أمله، وينبذ التعمق في الطبيعة؛ لأنه — أي الإنسان — مرتهنٌ للخرافة، ويرفض نورَ التجربة؛ لأنه متغطرسٌ مكابِرٌ يظن أن العقل لا يليق به أن يهدر وقته في أشياء مبذولة متغيرة، ويرفض كل ما هو غير تقليدي خوفًا من رأي العامة، صفوة القول: إن العاطفة تدمغ العقل وتصبغه بطرائق لا حصر لها، وطرائق خفية تَنِدُّ عن الإدراك في بعض الأحيان.

•••

(٥٠) غير أن أكبر عائق للفهم البشري على الإطلاق وأكبر زيغ إنما يأتي من بلادة الحواس وقصورها وخداعها، فالأشياء التي تمس الحواس لها الأرجحية على الأشياء التي لا تمسها مباشرةً مهما علا شأنها، هذا ما يجعل التأمل يتوقف في أغلب الأحوال حيثما يتوقف البصر، بحيث لا يؤبَه للأشياء غير المرئية، وبذلك يبقى كل فعل الأرواح المكنونة في الأجسام الملموسة٢٢ خفيًّا غير ملحوظ من الناس، وخَفِية بالمثل تلك التغيرات البنيوية٢٣ الأدق في أجزاء الأشياء الكثيفة (والتي تشيع تسميتها بالتغير ولكنها في حقيقة الأمر حركة جسيمات دقيقة)، ولكن ما لم يتم بحثُ هذين الأمرين المذكورين وإخراجُهما إلى واضحة النهار فلن يمكن تحقيق نتائج ذات قيمة في الطبيعة، وكذلك الطبيعة الجوهرية للهواء المشاع ولجميع الأجسام الأقل كثافةً من الهواء (وهي كثيرة جِدًّا) فهي أيضًا مجهولة تقريبًا؛ ذلك أن الإحساس بحد ذاته كليلٌ وعُرضة للخطأ، ولا تفيده كثيرًا الأدواتُ المستخدَمة لتوسيعه وشحذه، أمَّا التفسير الأصدق للطبيعة فإنما يتحقق بواسطة الشواهد وبواسطة التجارب المناسبة وذات الصلة، حيث يحكم الحس على التجربة وحدها، بينما تحكم التجربةُ على الطبيعة والشيء ذاته.

•••

(٥١) الفهم البشري يميل بطبيعته الخاصة إلى التجريد، ويفترض جوهرًا (ثابتًا) وواقعًا فيما هو عابرٌ ومتغيرٌ، غير أنه أفضل لنا أن نُشَرِّح الطبيعةَ إلى أجزاء من أن نجردها، وهذا ما فعلته مدرسة ديمقريطس التي حققت تقدُّمًا أكبر من غيرها في اختراق الطبيعة، إن المادة — وليست الصور — هي ما ينبغي الالتفات إليه: المادة وبنيتها وتغيرات هذه البنية والفعل المحض٢٤ وقانون هذا الفعل، أمَّا الصور فما هي إلا وهم العقل البشري، إلا إذا أطلقنا اسم «الصور» على قوانين الفعل.

•••

(٥٢) هكذا هي أوهام القبيلة، التي تنشأ إما عن اطراد جِبِلة الروح البشرية أو عن تحيزاتها أو قصور مَلَكاتها أو حركتها الدائبة أو عن تأثير الانفعالات أو عن عجز الحواس أو عن شكل انطباعاتها.

•••

(٥٣) أمَّا «أوهام الكهف» idola specus فتَصدُر عن الطبيعة الخاصة لعقلِ كل فرد وجسمه، وعن ثقافته أيضًا وعاداته وظروفه، ورغم أن هذه الفئةَ متنوعةٌ ومركَّبة إلا أننا سنتناول منها تلك الجوانب الأكبر خطرًا وأشد إفسادًا لصفاء الفهم.

•••

(٥٤) يقع الناس في غرام قطاعات معينة من المعرفة والأفكار، إما لأنهم يظنون أنفسهم مؤلفيها ومبتكريها، وإما لأنهم أنفقوا فيها جهدًا كبيرًا وصاروا على إلفٍ كبيرٍ بها، إذا عَمَدَ مثل هؤلاء الناس إلى الفلسفة والتأملات ذات الصبغة الكلية فإنهم يلوون بها ويفسدونها لكي تلائم خيالاتهم المسبقة، ولدينا من أرسطو نموذجٌ واضحٌ لهؤلاء: لقد أخضع فلسفة الطبيعة تمامًا لمنطقه، فجعل منها شيئًا خِلافيًّا ولا خيرَ فيه، ولدينا أيضًا جماعة الخيميائيين، فقد شيَّدوا فلسفةً خياليةً ضيقةَ النطاق للغاية، قوامُها بضعُ تجارب في الأتون، وكذلك جلبرت Gilbert٢٥ فبعد أن كرَّس جهدًا كبيرًا في دراسة الحجر المغناطيسي وملاحظته توجَّه للتو إلى تلفيق فلسفةٍ كاملةٍ أخضعها لموضوعه الأثير.

•••

(٥٥) أمَّا أكبر الفروق بين العقول وأكثرها جذرية في مجال الفلسفة والعلوم، فهو أن بعض العقول أقْدَر وأمْيَل إلى ملاحظة الفروق بين الأشياء، وبعضها الآخر إلى ملاحظة التشابهات بينها، فالعقول المدقِّقة الدءوبة بوسعها تثبيت الانتباه وتركيزه فترات طويلة على كل فارق طفيف، أمَّا العقول الرصينة الاستدلالية فبوسعها التفطن إلى أخف التشابهات وأعمِّها والمضاهاة بينها، وكلا الصنفين من العقول عُرضةٌ للشَّطَط، سواء بالتشبث بالفروق التافهة أو بخيالات التشابه.

•••

(٥٦) ثمة عقولٌ أُشرِبَت بإعجاب لا حدود له بالقديم، وعقولٌ أخرى مُغْرَمَة بالجديد، وقلَّما نجد من يقف موقفًا متوازنًا فلا يَبخَس القدماء إنجازاتهم الصائبة ولا يزدري الإسهامات الوجيهة للمحدَثين، وهذا خسران مبين للعلوم والفلسفة، فهذه ليست أحكامًا مستبصِرة بل مجرد وُلوع بالقديم أو بالجديد، أمَّا الحقيقة فينبغي ألا تُلتمَس في حظوة زمنٍ بعينه، فهذا أمرٌ غير مضمون، بل في ضوء الطبيعة والتجربة، وهو شيءٌ أزلي، علينا إذن أن نجتنب مثل هذه الأهواء ونُعيذ فكرنا أن ينساق إليها.

•••

(٥٧) إن ملاحظة الطبيعة والأجسام في أجزائها البسيطة من شأنها أن تكسر الفهمَ وتُشتِّته، في حين أن ملاحظة الطبيعة والأجسام في تكوينها الكلي وبنيتها المركبة من شأنه أن يُذهِل الفهمَ ويوهِنه، وهذا التمييز نراه في أوضح صورة عند مقارنة مدرسة ليوسيبوس وديمقريطس٢٦ بغيرها من الفلسفات، فهذه المدرسة مشغولة بالجزئيات بحيث أغفَلَت البنيةَ إلى حد كبير، بينما المدارس الأخرى منبهرةٌ بمشاهدة البنية فلا تكاد تَنفُذُ إلى بساطة الطبيعة. ينبغي إذن أن نتناوب هذين الصنفين من الملاحظة، بحيث نجعل الفهم ثاقبًا وشاملًا في الوقت نفسه، ونتلافى العيوبَ المذكورة لكلٍّ من الطريقتين والأوهامَ التي تنجم عنها.

•••

(٥٨) كذا فَليَكُن الحَذَرُ في الملاحظة، الكفيلُ بنفي أوهام الكهف، تلك الأوهام التي تنشأ في معظمها من غُلُوٍّ في التركيب أو شَطَطٍ في التقسيم، ومن التحيز لعصورٍ تاريخية بعينها، ومن كِبَر موضوعات الملاحظة أو صغرها،٢٧ وبصفة عامة: فعلى كل دارس للطبيعة أن ينظر بارتيابٍ إلى كل ما يفتن عقلَه ويأخذ بِلُبِّه، وأن يجعل ذلك هَمَّه الأكبر في هذا الصنف من البحث؛ كيما يحفظَ ذهنَه صافيًا ومتوازنًا.

•••

(٥٩) غير أن «أوهام السوق» idola fori٢٨ هي أكثر الأوهام إزعاجًا، تلك الأوهام التي انسرَبَت إلى الذهن من خلال تداعيات الألفاظ والأسماء؛ ذلك أن الناس يظنون أن عقلهم يتحكم في الألفاظ، بينما الحقيقةُ أيضًا أن الألفاظ تعود وتشن هجومًا مضادًّا على الفهم، وهذا ما جعل الفلسفة والعلوم مغالِطَة وعقيمة؛ لأن الألفاظ تكوَّنت في معظمها لكي تلائم قدرةَ العامة من الناس، وهي تحدد الأشياء بخطوط تقسيمٍ تَسهُل على الذهن العامي، وحالما أراد ذهنٌ أكثرُ حِدَّة أو ملاحظَةٌ أكثرُ تدقيقًا أن تغير هذه الخطوط لتلائم التقسيمات الأصوب للطبيعة فإن الألفاظ تعترض الطريق وتقاوم التغيير، ومِنْ ثَمَّ تنتهي الحوارات الرفيعة والجليلة — في كثيرٍ من الأحيان — إلى خلافات حول ألفاظ وأسماء؛ ولذا فمن الأسلم (اقتداءً بحذر علماء الرياضيات) أن نبدأ منها ونُضْفِي عليها النظام باستخدام التعريفات، إلا أن مثل هذه التعريفات لا يمكنها أن تعالج هذا الخلل إذا كان موضوع الدراسة هو الطبيعة والمادة؛ لأن التعريفات نفسها تتكون من ألفاظ والألفاظ تولِّد ألفاظًا؛ ولذا فإن علينا أن نلجأ إلى شواهد محددة وإلى تسلسلها المطرد ونظامها، كما سنذكر حالًا عندما نعرض للمنهج والطريقة فيما يتصل بتكوين التصورات والمبادئ.

•••

(٦٠) هناك نوعان من الأوهام تفرضهما اللغةُ على الفهم، وهما إما أسماء لأشياء لا وجود لها (فإلى جانب الأشياء التي تفتقر إلى أسماء؛ لأنها لم تُلاحَظ بعد، هناك أيضًا أسماء تفتقر إلى أشياء؛ لأنها وليدة افتراضات خيالية لا تناظرها أشياء في الواقع)، وإما أسماء لأشياء موجودة ولكنها مختلطة وغير محددة؛ لأنها انتُزِعَت من الأشياء على عجلٍ ودون تدقيق، من الصنف الأوَّل لفظ fortune٢٩ و«المحرك الأوَّل» و«الأفلاك الكوكبية»٣٠ وعنصر «النار»، إلى غير ذلك من الخيالات التي تعود في نشأتها إلى النظريات الزائفة العقيمة، هذا الصنف من الأوهام يسهل التخلص منه، إذ من الممكن استئصالها بواسطة التفنيد المستمر أو التخلي عن النظريات نفسها، أمَّا الصنف الثاني من الأوهام فهو معقَّد ومتجذِّر؛ لأنه ناتج من تجريد مغلوط وأخرَق، ولنأخذ كمثال كلمة «رطب»، وننظر إلى أي حد تتسق الأشياء المُشار إليها بهذه اللفظة، وسنجد أن كلمة «رطب» لا تعدو أن تكون علامة تُستخدَم بتسيُّبٍ وخلطٍ لتدل على أفعال متباينة لا يجمعها أي اطراد أو قاسم مشترك، فهي تشير إلى ذلك الذي ينشر نفسَه حول شيء آخر، وذلك الذي لا تخوم له ولا ثبات، وذلك الذي يستسلم في كل اتجاه، وذلك الذي يسهل انقسامه وتناثره، وذلك الذي يسهل تدفقه وتحريكه، وذلك الذي يسهل التصاقه بجسم آخر وترطيبه، وذلك الذي يُرَد بسهولة إلى الحالة السائلة، أو هو صلب يسهل انصهاره، ومِنْ ثَمَّ فإذا أتيت إلى استعمال هذا اللفظ فستجد من جهة أن اللهب رطب، ومن جهة أخرى أن الهواء رطب، ومن أخرى أن التراب الدقيق رطب، ومن أخرى أن الزجاج رطب،٣١ هكذا يتبين بسهولة أن هذا التصور قد انتُزِعَ على عجلٍ من الماء والسوائل الشائعة والعادية فحسب بدون أي تمحيص واجب.

ثمة درجات من القصور والخطأ في الألفاظ، فأقل فئات الألفاظ خطأً أسماء المواد وبخاصة النوع الأقل تجريدًا وأكثر تحديدًا (تصور الطباشير والطين حسن، وتصور التراب سيئ)، تليها أسماء الأفعال مثل «يولِّد» «يفسد» «يغيِّر»، أمَّا أكثر الفئات خطأً فأسماء الكيفيات (باستثناء الموضوعات المباشرة للإحساس)، مثل: «ثقيل» «خفيف» «مخلخَل» «كثيف» … إلخ، على أنه في جميع الفئات تكون بعض التصورات بالضرورة أفضل قليلًا من البعض الآخر، وفقًا لكثرة أو قلة الأشياء التي تقع في نطاق الحواس.

•••

(٦١) أمَّا «أوهام المسرح» idola theatric فليست فطرية ولا هي تَسترِق إلى الذهن سِرًّا، وإنما يتم إدخالُها عَلَنًا وتقبُّلُها عن طريق النظريات الخرافية والقواعد المغلوطة للبرهان، ولكن ليس بما يتفق مع ما أعلنتُه آنفًا أن أحاول أو أضطلع بتفنيدها، فما دمنا لا نتفق حول المبادئ ولا حول البراهين فلا محل للجدل، وهذا من حسن الحظ بقدر ما يحفظ للقدماء كرامتهم، فأنا لا أنتقص من قدرهم، إذ لا يعنيني في مذهبي كله إلا الطريقُ الذي يُتَّبَع، وكما يقول المثل: «الأعرجُ على الطريق الصحيح يَسبِق العَدَّاء على الطريق الخطأ.» بل إن الذي يتخذ الطريقَ الخطأ يزداد ضلالًا وبُعدًا عن المقصِد كلما كان أمهرَ وأسرع.

إن منهجي في الكشف مصمَّم بحيث لا يعوِّل على حِدَّة الموهبة الفردية وقوتها، بل إنه يكاد يُسوِّي بين المَلَكات والأفهام، فمثلما أن رسم خط مستقيم أو دائرة دقيقة يعتمد كثيرًا على ثبات اليد ودُربتِها بينما لا حاجةَ لأي ثباتٍ ودُربة إذا ما استُخدِمَت مسطرةٌ أو فرجار، كذلك الأمر بالضبط في منهجي المقترَح، ولكن رغم أني لا أعرِض لتفنيداتٍ بعينها، إلا أن شيئًا ما ينبغي أن يُقال، أوَّلًا عن مذاهب هذه النظريات وأنواعها، ثم عن وجود دلائل خارجية على ضعفها، وأخيرًا عن أسباب مثل هذا الفشل ومثل هذا التشبث الطويل بالخطأ والإجماع عليه، أتَغيَّا من ذلك أن أجعل المسلك إلى الحقيقة أقلَّ عِثارًا، والفهم البشري أكثر نزوعًا إلى التطهر ونبذ الأوهام.

•••

(٦٢) هناك الكثير من «أوهام المسرح» أو أوهام النظريات، ويمكن أن تكون هناك وربما ستجدُّ فيما بعد أوهامٌ أخرى كثيرة، إذ لولا أن عقول الناس قد انشغلت أحقابًا طويلةً بالمسائل الدينية واللاهوتية، والحكومات المدنية (وبخاصة الملكيات) قد أبغضت مثل هذه التجديدات حتى في الفكر (بحيث لا يمكن لأحد أن ينخرط فيها دون خطر وضرر، ولا يعدم الثواب فحسب بل يلحقه الازدراء والحسد)، لولا ذلك لكانت أدخلت — بلا شك — مذاهب فلسفية ونظرية أخرى كثيرة مثل تلك التي ازدهرت مرة بوفرة وتنوع كبير عند اليونان، فمثلما يمكن تشييد نظريات خيالية كثيرة من ظواهر السماء، فمن الممكن — بل والأيسر — تشييدُ اعتقاداتٍ متنوعة كثيرة من ظواهر الفلسفة، وفي مسرحيات هذا المسرح الفلسفي قد تلاحظ نفس الشيء الموجود في مسرح الشعراء: أن القصص المؤلَّفةَ للمسرح أكثر تماسكًا ووجاهةً وإمتاعًا من القصص الحقيقية من التاريخ، وأقرب لرغبات الناس.

وبصفة عامة فإن الناس يأخذون كأساسٍ لفلسفتهم: إما أشياء كثيرة جِدًّا من موضوعات قليلة، وإما أشياء قليلة جِدًّا من موضوعات كثيرة، وفي كلتا الحالتين تتأسس الفلسفة على أساسٍ ضيِّقٍ جِدًّا من التجربة والتاريخ الطبيعي، وتُقَرَّر الأحكام بناءً على شواهد أقل مما يجب، فالفلاسفة العقليون يلتقطون من التجربة تنويعةً من الأمثلة العامة لم يَتِم فهمُها بدقة ولا فحصها ووزنها بعناية، ويعتمدون فيما تبقَّى على التأمل والنشاط الفكري.

وهناك أيضًا فئة أخرى من الفلاسفة ما يكادون يعكِفون بعناية وصدق على بضع تجارب حتى يسارعوا باستنباط فلسفاتهم منها ويشيدوها تشييدًا، ويلوون كل الوقائع الأخرى بطرق عجيبة لكي تنسجم مع هذه الفلسفات.

وهناك بَعدُ صنفٌ ثالث من الفلاسفة يحملهم إيمانهم ووقارهم على أن يخالطوا فلسفتهم باللاهوت والتعاليم، مِن هؤلاء مَنْ بَلَغ بهم الغرور مبلَغًا جعلهم يحاولون اشتقاق العلوم من الأرواح والعفاريت. ثمة إذن ثلاثةُ مصادرَ للخطأ وثلاثةُ أنواع من الفلسفة الزائفة: السوفسطائية٣٢ والتجريبية العشوائية والخرافية.

•••

(٦٣) وأوضح مثل على الصنف الأوَّل من الفلاسفة هو أرسطو، الذي أفسد الفلسفة الطبيعية بمنطقه، وشَيَّدَ العالمَ بمقولاته، ونَسَبَ إلى الروح البشرية — أنبل الجواهر جميعًا — جنسًا يقوم على كلمات من المقصد الثاني،٣٣ وحوَّل التفاعل بين الكثيف والمُخلخَل (الذي به تَشغَل الأجسامُ محلًّا أكبر أو أصغر) إلى تلك التفرقة الباردة بين القوة والفعل، وأكَّدَ أن لكل جسم حركة فريدة خاصة به، فإذا شارك في حركةٍ أخرى فإن هذه الحركة تعود إلى علة خارجية، وفَرَضَ على الطبيعة أشياء أخرى لا حصر لها وفقًا لهواه، فقد كانت تعنيه دائمًا التعريفاتُ والدقة في صياغة قضاياه أكثر مما تعنيه الحقيقة الداخلية للأشياء، يتجلى هذا في أوضح صورة إذا ما قارنَّا فلسفته بغيرها من الفلسفات الذائعة بين اليونان: فاﻟ «هومويوميرا»٣٤ (الأجزاء المتماثلة) عند أنكساجوراس، والذرات عند ليوسيبوس وديمقريطس، والسماء والأرض عند بارمنيدس، والتنافر والانسجام عند أمبدوقليس، وتلاشي الأجسام في الطبيعة غير المتمايزة للنار ثم عودتها إلى الصلابة مرة أخرى عند هيراقليطس، كل أولئك يحمل داخله شيئًا من الفلسفة الطبيعية ومن حس الطبيعة والتجربة والأجسام، في حين لا تكاد تسمع في فيزيقا أرسطو أي شيء عدا مصطلحات المنطق، والتي أعاد تدويرها مرة أخرى في ميتافيزيقاه تحت تسمية أكثر جلالًا، زاعمًا أنه واقعي realist أكثر منه اسميًّا nominalist، ولا يخدعن أحدًا كثرةُ التجائه إلى التجربة في كتبه «عن الحيوان» و«مشكلات» ورسائل أخرى، فحقيقة الأمر أنه قد حَسَمَ أمرَه مسبقًا ولم يستشِر التجربة حقَّ المشورة كأساسٍ لأحكامه ومبادئه. إنه يعتسفُ أحكامه اعتسافًا ثم يلوي بالتجربة حتى تُلائم أفكاره، ويجُرُّها كما يُجَرُّ أسيرٌ في موكب، ومِنْ ثَمَّ فهو أفدح ذنبًا من تابعيه المحدَثين (الأسكولائيين) الذين هجروا التجربة تمامًا ونفضوا أيديهم منها.٣٥

•••

(٦٤) تتولد عن المدرسة التجريبية معتقداتٌ أكثر تشوُّهًا ومَسخًا مما تُنتِجه المدرسة السوفسطائية أو العقلية؛ ذلك لأن هذه المعتقدات لا تتأسس في ضوء التصورات العامة (التي رغم ضعفها وسطحيتها فهي بشكل ما عمومية وتشير إلى أشياء كثيرة)، بل تقوم على أساسٍ ضيِّق ومعتم من حفنة تجارب، مثل هذه الفلسفة تبدو محتملة وشبه يقينية عند أولئك الذين ينخرطون كل يوم في مثل هذا الصنف من التجارب فأفسدوا مخيلتهم بها، أمَّا لغيرهم فتبدو بعيدة عن التصديق وغير ذات جدوى، ولدينا عليها مثال صارخ في أهل الخيمياء ومعتقداتهم، وهي عدا ذلك نادرة الوجود في زمننا هذا، ربما باستثناء فلسفة جلبرت، ويبقى علينا رغم ذلك أن نحذر من مثل هذه الفلسفات؛ ذلك أننا ندرك ونتوقَّع أنه إذا أصغى الناس لنصيحتنا وكرَّسوا أنفسهم حقًّا للتجربة (بعد أن ودعوا المذاهب السفسطائية) فإن هذه الفلسفة ستكون مصدر خطر حقيقي على أقل تقدير، وذلك بسبب تسرُّع العقل وتهوره، وقفزه أو طيرانه إلى العموميات وإلى مبادئ الأشياء، ذلك الخطر الذي ينبغي مِنْ ثَمَّ أن نكون متأهبين — حتى في هذه اللحظة — لمواجهته.

•••

(٦٥) على أن الفساد الذي يأتي الفلسفة من الامتزاج بالخرافة والثيولوجيا هو أوسع انتشارًا وأشد ضررًا عليها، سواء على منظوماتها الكلية أو على أجزائها، فتأثر العقل البشري بالخيال لا يقل عن تأثره بالأفكار الشائعة. إن الصنف الجدلي والسوفسطائي من الفلسفة يوقِع العقل في شَرَك، أمَّا الصنف الآخر أي الفلسفة الخيالية الطنانة شبه الشعرية فتُغويه. إن بالإنسان ضربًا من طموح الفكر لا يقل عن طموح الإرادة، وبخاصة لدى الشخصيات الشامخة النبيلة.

وهناك مثال لافت على هذا بين اليونان نجده في فيثاغوراس، وإن كانت الخرافة لديه فظة ثقيلة، ومثال آخر في أفلاطون ومدرسته حيث الخرافة أخطر وأرقى، وهذا الإثم نجده أيضًا في جوانب من الفلسفات الأخرى، متمثِّلًا في القول بالصور المجردة والعلل الغائية والأولى،٣٦ مع إغفالٍ كثيرٍ للعلل الوسطى وما إليها. إن علينا أن نتخذ أشد الحذر هنا، فليس ثمة ما هو أسوأ من تمجيد الخطأ، فحين تؤلَّه الحماقةُ فذلكم بلاءٌ يحيق بالفكر، في هذه الحماقة انغمس بعضُ المحدَثين، وبغفلةٍ متناهيةٍ حاولوا أن يؤسِّسوا فلسفةً طبيعيةً على الفصل الأول من سِفْر التكوين Genesis وسِفْر أبواب وأجزاء أخرى من الكتاب المقدس، باحثين — هكذا — عن الموتى بين الأحياء،٣٧ ومثل هذه الحماقة يجب أن توقَف وتُقمَع بكل قوة، فمن هذا المزج غير الصحي بين البشري والإلهي لا تنبثق فقط فلسفةٌ وهميةٌ، بل ودينٌ هرطقيٌّ، ومِنْ ثَمَّ فإن رأس الحكمة والاتزان أن نعطي للإيمان ما هو للإيمان ولا نَتَزَيَّد.

•••

(٦٦) بحسبنا هذا عن السلطة الخبيثة للفلسفات القائمة على تصورات عامة أو تجارب قليلة أو على الخرافة، ويبقى أن نتحدَّث عن الموضوعات الخاطئة للتأمل العقلي، وبخاصة في الفلسفة العقلية، إن العقل يضل السبيل إذ ينظر إلى ما يجري في الفنون الميكانيكية، حيث الأجسام تتغير تمامًا عن طريق التركيب والتفريق، فيفترض أن شيئًا شبيهًا بذلك يحدث في الطبيعة الكلية للأشياء، وهذا هو مصدر الوهم القائل ﺑ «العناصر» elements واحتشادها لتكوين الأجسام الطبيعية، كذلك عندما يتأمَّل الإنسان في الطبيعة وهي تعمل بحرية، فإنه يلتقي بأجناسٍ شتى من الأشياء: حيوانات، نباتات، معادن، ومن هنا ينزلق بسهولة إلى تصور أن في الطبيعة صورًا أوليةً للأشياء تريد أن تنتجها، وأن ما عدا ذلك من تنويعات إنما يأتي من جراء عوائق وأخطاء للطبيعة في إنجاز مهمتها، أو من صراع بين الأجناس المختلفة، أنتجَت الفرضية الأولى مذهب الخواص الأولية، والثانية أنتجت مذهب الخواص الخفية والقوى النوعية، وكلا التصورين ينتميان إلى تلك الفئة من المختصرات الفكرية الفارغة التي فيها يسترخي العقلُ وينصرف عن موضوعات أكثر أهمية، وحسنًا يفعل الأطباء حين يُكِبُّون على الخواص الثانوية للمادة وعمليات الجذب والطرد والتكثيف والبسط والقبض والتشتيت والنضج وما إلى ذلك،٣٨ ولقد كانوا حَرِيين بتحقيق تقدم أكبر لو لم يَعْمَدوا إلى التصورات المبسوطة التي تحدثتُ عنها (أي الخواص الأولية والقوى النوعية) فيُفسِدوا بها هذه الملاحظات القويمة باختزالها إلى خواص أولية وأخلاط دقيقة غير قابلة للمقايسة، أو بعدم تتبعها بملاحظات أكثر قوة ودقة إلى خواص ثالثة ورابعة، والتوقف فجأة عن الملاحظة قبل الأوان، مثل هذه القوى (أو ما شابهها) لا ينبغي أن نبحث عنها بين أدوية الجسم البشري فحسب، بل أيضًا في العوامل التي تغيِّر الأجسام الطبيعية الأخرى.

وأشد خطرًا من ذلك أنهم يبحثون ويتقصُّون المبادئ الساكنة للأشياء التي «منها» أتت الأشياء نفسها إلى الوجود وليس المبادئ المتحركة التي «بواسطتها» أتت،٣٩ فالأولى تتعلق بالحديث، والثانية بالعمل، وليس ثمة أي قيمة في التمييزات الشائعة للحركة والتي نلحظها في الفلسفة الطبيعية التقليدية، مثل: الكون والفساد والزيادة والنقصان والتغير والحركة الموضعية، فكل ما تعنيه هو أنه إذا ما تحرك جسم — هو على ما هو عليه فيما عَدا ذلك — مِن مكانه، فهذه هي الحركة الموضعية (النقل)، فإذا تغير في الكيف بينما بقي المكان والنوع على حاله فهذا هو «التغير» alteration، أمَّا إذا نتج من هذا التغير أن الكتلةَ نفسها وكَمَّ الجسم لم يظلا كما هي فهذه هي حركة «الزيادة» augmentation و«النقصان» diminution، فإذا استمر التغير إلى أن تبدل النوعُ نفسه والجوهرُ ذاته، فهذا هو «الكون»  generation و«الفساد» corruption، ولكن كل هذه أمور معلومة ومبتذلة، ولا تنفذ إلى عمق الطبيعة على الإطلاق؛ لأنها تشكِّل مقاييس الحركة وحدودها وليس الأنواع المختلفة للحركة، فهي تشير إلى «كم» (إلى أي درجة) وليس إلى «كيف» (بأية وسيلة) أو «من أين» (من أي مصدر)، ولا تخبرنا بأي شيء عن نزوع الأجسام أو عن صيرورة أجزائها، بل تحدِس فحسب بتقسيم للحركة عندما تُظهِر هذه الحركة للحواس بطريقة واضحة أن شيئًا ما لم يعد كما كان من قبل، وحتى عندما يريدون تفسير شيء ما عن علل الحركات وأن يؤسسوا تقسيمًا لهذه العلل، فإنهم يضعون تمييزًا بين الحركة الطبيعية والحركة العنيفة، وهي نقلة غاية في العقم؛ لأن هذا التمييز هو نفسه مُسْتَمَد تمامًا من تصور عامي، حيث إن الحركة العنيفة هي أيضًا في الحقيقة حركة طبيعية، أي علة خارجية تجعل الطبيعة تعمل بطريقة مختلفة عما كانت عليه من قبل.

ولكن لنضرب صفحًا عن كل هذا، فإذا ما لاحظ أي شخص — على سبيل المثال — أن في الأجسام نزوعًا إلى الاتصال المتبادل، بحيث لا تسمح لوحدة الطبيعة أن تنفصم أو تنحطم تمامًا وللفراغ بالتالي أن يتكون، أو إذا لاحظ أي شخص أن في الأجسام نزوعًا إلى استعادة أبعادها أو ضغطها الطبيعي، بحيث إذا ضُغِطَت أو مُطَّت أكثر من ذلك أو أقل جهدت على الفور لاستعادة واسترداد حجمها وامتدادها السابق، أو إذا لاحظ أي شخص أن في الأجسام نزوعًا إلى التجمع مع كتل الأشياء التي من صنفها، أي نزوع الأجسام الثقيلة إلى الأرض، والأشياء الهزيلة والخفيفة إلى محيط السماء؛ فكل هذه الأشياء وأمثالها هي في الحقيقة أنواع فيزيقية من الحركة، أمَّا تلك الأشياء الأخرى فهي نظرية ومدرسية قلبًا وقالبًا كما هو واضح جلي من هذه المقارنة فيما بينها.

وليس أهون من ذلك أنهم في فلسفاتهم وملاحظاتهم يهدرون جهودهم في بحث وتناول المبادئ الأولى للأشياء والعلل القصوى للطبيعة ultimatibus naturae، رغم أن كل الجدوى وفرص التطبيق تكمن في العلل الوسطى in mediis؛ لذا لا يكف الناس عن تجريد الطبيعة إلى أن يصلوا إلى مادة ممكنة وغير مُشَكَّلة، ولا هم من الجهة الأخرى يكفون عن تشريح الطبيعة إلى أن يصلوا إلى الذرة، وهي أشياء — حتى لو صدقت — قلَّما تُجْدِي نفعًا في تحسين حالة الجنس البشري.٤٠

•••

(٦٧) على الذهن أيضًا أن يأخذ حِذرَه من الإفراط الذي تُبديه المذاهب الفلسفية في إبداء الموافقة أو الامتناع عنها، ويبدو أن هذا الإفراط يُرَسِّخ الأوهامَ وأنه بطريقةٍ ما يطيل عمرَها، غيرَ تاركٍ أيَّ منفذٍ للوصول إليها والتخلص منها.

ثمة نوعان من هذا الإفراط: الأول هو الذي يأتيه أولئك الذين يتسرعون في إصدار الأحكام، فيجعلون العلوم جازمةً تسلطية، والثاني يأتيه أولئك الذين ينكرون أن بإمكاننا أن نعرف أي شيء (acatalepsia)، فيفتحون المجال لنوع هائم من البحث لا يهدف إلى شيء ولا ينتهي إلى شيء، من شأن النوع الأول أن يقمع الذهن، أمَّا الثاني فيوهِنه، فبعد أن فرغت الفلسفة الأرسطية من تدمير الفلسفات الأخرى (على طريقة العثمانيين تجاه إخوتهم)٤١ بتفنيدات عدائية، أخذ أرسطو يؤسس أحكامًا في كل شيء، ثُمَّ أخذ هو نفسُه يطرح اعتراضات من عنده؛ كَيلا يلبث أن يتصدى لها، بحيث لا يترك أمرًا إلا وهو يقيني محسوم، وهي طريقة ما زالت قائمة اليوم بين أتباعه.

أمَّا مدرسة أفلاطون فأدخلَت مذهب الشك، بدأ ذلك هَزلًا وتهكُّمًا من جراء استيائها من قُدامى السوفسطائيين — بروتاجوراس وهيبياس وغيرهما — الذين كانوا يستخذون من الظهور بمظهر مَن يتردد بإزاء أي شيء، غير أن الأكاديمية الجديدة تصلَّبت في الشك واتخذته عقيدة، إنه لَمنهجٌ أكثرُ صدقًا من الترخُّص في سَكِّ الأحكام؛ لأنهم قالوا بأنهم لا يقوِّضون كل بحث بأي حال مثلما كان يفعل فيرون و«المتوقفون عن الحكم»  Ephectici، بل يسمحون باستقصاء بعض الأمور على أنها احتمالية، وإن لم يسمحوا بأي شيء أن يُؤخذ كحقيقة، غير أن العقل البشري ما إن ييأس من العثور على الحقيقة حتى يأخذ شغفُه بكل الأشياء في الخمود، وينتهي الأمر بأن ينصرف الناس إلى مناقشاتٍ وأحاديثَ لطيفةٍ، وإلى نوعٍ من التطواف حول الأشياء دون المثابرة على البحث الجاد، ولكن — كما أسلفنا في البداية وكما نؤكد على الدوام — فإن علينا ألا ننتقص من سلطة الحواس البشرية والفهم البشري — على قصورهما — بل علينا أن نزودهما بما يساعد ويُعِين.

•••

(٦٨) انتهينا الآن من عرض لمختلف ضروب «الأوهام» idola وخصائصها، وكلها أوهام ينبغي التخلي عنها وشجبها، وتطهير العقل وتحريره منها، حتى لا يبقى ثمة إلا مدخل واحد إلى مملكة الإنسان، المدخل القائم على العلوم، مثلما أنه «لا مدخل إلى مملكة السماء إلا عبر طهارة الطفولة».٤٢