السبت، 9 مارس 2019

عن الفارقليط؛ جواد علي.




عن البارقليط (أو الفارقليط):

جواد علي


.. وقد كتب الإنجيل المذكور باليونانية [المقصود هو إنجيل يوحنا]، وترجمت لفظة (parakletos) في الإصحاح الخامس عشر وفي الآية السادسة والعشرين وفي مواضع أخرى منه، بلفظة (comforter) و (advocate) وبـ (helper) في الإنكليزية. وبـ (المعزّي) في العربية. وأقرب هذه الكلمات إلى المعنى الصحيح لفظة (advocate) المقابلة للفظة (aevocatus) في اللاتينية، ومعناها في العربية المحامي والمعين والمدافع والنصير والمساعد والمواسي. وقد ترجمت الآية على هذه الصورة في العربية: (ومتى جاء المعزي الذي سأرسله أنا إليكم من الأب روح الحق، الذي من عند الرب ينبثق، فهو يشهد لي).
وقد حافظ الأخباريون على الأصل اليوناني للفظة، ولم يترجموها. فجاء في السيرة الحلبية: "وفي الإنجيل: إن أحببتموني، فاحفظوا وصيتي، وأنا أطلب إلى ربي، فيعطيكم بارقليط. والبارقليط لا يجيئكم ما لم أذهب، فإذا جاء وبّخ العالم على الخطيئة. ولا يقول من تلقاء نفسه، ولكنه ما يسمع يكلمهم به، ويسوسهم بالحق، ويخبرهم بالحوادث والغيوب". وقد ذكر صاحب السيرة أن البارقليط أو الفارقليط هو الحكيم والرسول.
وقد أخذت هذه الترجمة من إنجيل يوحينا، من الإصحاح الرابع عشر، ففيه: "إن كنتم تحبّوني، فاحفظوا وصاياي. وأنا أطلب من الأب، فيعطيكم معزياً باراقليط آخر". ومن الإصحاح السادس عشر من الإنجيل نفسه، ففيه: "لكني أقول لكم الحق، إنه خيرٌ لكم أن أنطلق؛ لأن إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزّي "البارقليط"، ولكن إن ذهب[تُ]، أرسله إليكم. ومتى جاء ذاك روح الحق، فهو يرشدكم إلى جميع الحق، لأنه لا يتكلم من نفسه، بل كل ما يسمع يتكلم به، ويخبركم بأمورٍ آتية. ذلك يمجدني لأنه يأخذ مما لي ويخبركم".
والحديث كما نرى هو عن رجل يأتي من بعد المسيح ليبكت العالم على الخطيئة، وليرشدهم إلى الحق.
وقد ذكر المسعودي في كتابه "التنبيه والإشراف"، أن المانوية تقول بالفارقليط، الذي وعد به المسيح، وهو "ماني" عندهم، وذكر أن ماني نفسه ذكر ذلك في كتابه "الجبلة" وفي كتابه المترجم بالشابرقان وفي كتاب سفر الأسفار وغيرها من كتبه. وذكر ذلك مؤلفون آخرون أيضاً. ولهذه الإشارة شأن خاص في دراسة مووضوع (المخلص المنتظر). ولا أستبعد أخذ بعض العرب هذه الفكرة من القائلين بظهور الفارقليط.
وذكر بعض الأخباريين أن الرسول هو (المنحمنا) في الإنجيل، و(المنحمنا) بالسريانية محمد. وهذه اللفظة هي "منحيم، مناحيم" في العبرانية، وهي من الصفات التي نعت بها العبرانيون (المسيح)، وهي (consolator) و (comforter) في اللغة الإنكليزية، أي المسلي والمعزّي. وقد وردت في موضعَ من التلمود والمدراش. وهي من الألفاظ المعروفة عن آرم فلسطين النصارى. ومن هذا التقارب الملحوظ بين لفظة (منحمنا) السريانية المستعملة بدلاً من لفظة (بارقليط( الواردة في إنجيل يوحنا باليونانية، ولفظة (محمد)، استخرج أولئك المستشرقون رأيهم في أن الرسول أخذ اسمه ودعوى نبوته من ذلك الإنجيل.
والذين قالوا إن (المنحمنا) بالسريانية هو محمد، وإنها (البرقليطس) بالرومية، قد أخذوا قولهم هذا من مسلمة يهود ومن النصارى في جملة ما أخذوه عن أهل الكتاب وهو من هذا القصص الذي نرجو أن يأتي يوم يتدارسه فيه العلماء دراسة علمية عميقة مبنية على النقد والمقابلة مع الأصول اليهودية والنصرانية القديمة، ليكون في الوسع البت في أمثال هذه الموضوعات، فيقوم فيه العلماء بتثبيت الموارد على وفق التسلسل التأريخي، وبمراجعة الروايات والأخبار ونقد سندها ورجالها، ومقابلة الإسرائيليات والنصرانيات بأصولها الواردة عند اليهود والنصارى، وعندئذٍ ستكون لدينا دراسةٌ علمية دقيقة ترشدنا إلى حقائق من صلات الأديان بعضها ببعض، نجهلها في هذا اليوم.

(جواد علي؛ تاريخ العرب في الإسلام؛ صص: 106ـ 107)

الجمعة، 8 مارس 2019

حرية الإرادة بين الحقيقة والخيال؛ إعداد قصيّ أبوشامة.





حرية الإرادة بين الحقيقة والخيال.
إعداد قصيّ أبوشامة
تدقيق عبدالله الصبّاع
تحرير رغدة عاصي.


تلامس حرية الإرادة كل شيء في حياتنا، وإنه ليصعب بأن نفكر في القانون أو السياسة أو العلاقات الحميمة أو الأخلاق أو حتى إنجازاتنا الخاصة دون تخيل أن كل شخص هو المصدر الحقيقي لأفكاره وأفعاله، لكننا الآن نُواجه بسؤال قوي: هل حرية الإرادة حقيقة أم وهم؟
وصل ستيفن هاييس وجوشوا كوميسارجفسكي – مجرمان معروفان – إلى بيت الدكتور وليام وجينيفر بيتيت في ولاية كونيتيكت في الصباح الباكر من يوم 23 تموز 2007 ، واستنادًا إلى اعترافاتهم المسجلة، وقف جوشوا فوق الدكتور النائم لدقائق مترددًا قبل أن يضربه بمضرب البيسبول على رأسه، وقال جوشوا أن صراخ ضحيته أطلق العنان لشيء في داخله، وضربه بالهراوة بكل ما أوتي من قوة حتى خر مغشيًا عليه.
وبعدها قام كلاهما بتقييد يديه وقدميه ثم ذهبا إلى الأعلى للبحث عن بقية أفراد العائلة، عندها وجدا جينيفر وابنتيها هيلي 17 عام وميشيلا 11 عام نياماً، وأيقظوهم بسرعة وقيدوهم إلى أسرتهم.
عند الساعة السابعة صباحًا، ذهب هايس إلى محطة الوقود وأحضر أربع جالونات من الغازولين، في التاسعة والنصف أخذ جينيفر إلى البنك وجعلها تسحب 15000 دولار، ظنًا منها أن زوجها في صحة جيدة وأن المجرمين سوف يطلقوا سراح عائلتها.
بعدها قام هايس باغتصاب جينيفر ثم شنقها، في هذه اللحظة لاحظ المجرمان أن وليام فرَّ من المنزل، وأصيبا بالهلع لذا كان رد فعلهما أن ملآ المنزل بالغازولين وأضرما به النار، لكن عندما سألتهما الشرطة لماذا لم تطلقا سراح الفتاتين المقيدتين، كان جواب جوشوا أن هذا الأمر لم يخطر بباله، لذا ماتت الفتاتان اختناقاً وكان وليام هو الناجي الوحيد.
عند سماعنا عن جرائم من هذا النوع، يتبادر في أذهان معظمنا أن هايس وجوشوا يجب أن يتحملا كل مسؤولية أفعالهما، وسيشعر الكثير بالرغبة في قتل هذين الوحشين، لكن هل يهمنا أن هايس أظهر ندمه وحاول الانتحار؟ لا أظن هذا، وأيضًا، ماذا عن حقيقة أن جوشوا في طفولته كان يتم اغتصابه باستمرار؟ وما خلف هذا من أثر عليه سواءٌ بتدميره نفسيًا أم ببلادة الشعور، كما ادعى جوشوا أنه كان مصدومًا مما فعل يومها في ذلك المنزل: حيث كان جوشوا لصًا عاديًا وليس مجرمًا، ولم يكن في نيته قتل أي شخص، تفاصيل كهذه قد تجعلنا نعيد النظر.
كما سوف نرى قريبًا فإنه سواءٌ أكانا مجرمين مثل هايس وجوشوا أم مجرمين من نوع آخر، ومهما كان دافعهم، فإن هؤلاء الناس لا يستطيعون معرفة لماذا هم هكذا، وبالقدر الذي نرى تصرفهما مريضاً، يجب علينا أن نقر بأنه لو تبادلنا الدور مع هؤلاء الاشخاص وعشنا ظروفهم وامتلكنا جيناتهم فإننا لن نختلف عنهم وسنفعل ما فعلوه تمامًا، لذا لربما لعب دور الحظ هنا.
إذا عرفنا أن كلا الرجلين كانا يعانيان من ورم دماغي يفسر تصرفاتهما، عندها سوف يتغير حدسنا الأخلاقي بالطبع، ووجود اضطراب عصبي هو ليس إلا إحدى الحالات المميزة من الأحداث فيزيائية التي تؤثر على أفكارنا وأفعالنا، وفهم الفسيولوجيا العصبية للدماغ، لذلك سوف يعطي هذا الورم درجة من البراءة لمن يمتلكه، والسؤال هنا :
كيف نعطي حياتنا معنىً عقلانيًا، وكيف نحمل الناس مسؤولية أفعالهم بالنظر إلى الجذور غيرالواعية لعقولهم الواعية؟
قد لا تكون حرية الإرادة إلا وهمًا، والخيارات التي نعتقد أننا نتخذها ليست من صنعنا، وقد تكون أفكارنا ونوايانا قد نشأت من أسباب هامشية –عوامل طبيعية- لسنا مدركين لها ولا نستطيع التحكم بها، لذا لا نملك نحن الحرية التي نظن أننا نملكها، وربما تكون إراداتنا يتم تحديدها من قبل أسباب سابقة لسنا مسؤولين عنها، أو ربما أنها نتيجة للصدفة ولسنا مسؤولين عنها أيضًا.
ربما كان خيار الرجل في إطلاق النار على الرئيس نتيجة نمط معين أو نشاط عصبي والذي بدوره نتيجة أسباب مسبقة، أو ربما مصادفة غير محظوظة من جينات سيئة أو طفولة غير سعيدة أو حتى مشاكل في النوم، لذا ما الذي يعنيه أن نحكم على إرادة هذا الرجل بأنها حرة؟ حتى الآن لم يقدم أحد على إيجاد طريقة تنشأ فيها العمليات العقلية والجسدية تشهد بها على وجود حرية كهذه.
يرتكز التصور الشهير لحرية الإرادة على افتراضين:
·         الأول هو أن يتصرف كل واحد منا بطريقة مختلفة عمّا فعل في الماضي.
·         الثاني هو أننا المصدر الواعي لمعظم أفكارنا وأفعالنا في الحاضر.
لكن كلا الافتراضين خاطئين كما سنستقرئ الآن.
يتصرف كل واحدٍ منا بطريقة مختلفة عمّا فعل في الماضي
لا، الحقيقة هي أنه لا تتطابق حرية الإرادة مع أي حقيقة شخصية عنا، وسوف يبين لنا سبر أغوارها أن أفعالنا التي تبدو مأخوذة عن إرادة ليست إلا أفعال تظهر على السطح بشكل عفوي، ولا يمكن اقتفاء أثرها إلى نقطة الأصل في عقلنا الواعي، ولربما ستجعلك لحظة أو لحظتين من الفحص الدقيق لنفسك تلاحظ أنك لن تقرر فكرتك التالية التي تظنها غير الفكرة التي أكتبها أنا الآن.
نحن نعي جزءاً بسيطًا من المعلومات التي يعالجها دماغنا في كل لحظة، بالرغم من أننا نلاحظ باستمرار تغيرًا في تجاربنا من أفكار وتقلبات في المزاج والإدراك والسلوك إلخ…، إلا أننا غير واعين تمامًا بالأحداث الفسيولوجيا العصبية التي تسببها، بل بالحقيقة، نحن لسنا إلا شهداء رديئين للتجربة نفسها، من خلال مجرد النظر إلى وجهك أو الاستماع إلى نغمة صوتك، حتى الآخرين يملكون في العادة وعيًا أكبر بحالتك العقلية ودوافعك أكثر منك.
أنت تبدأ يومك بشكل عام بكوب قهوة أو شاي، هذا الصباح بدأته بقهوة، لكن لماذا ليس الشاي، أنت لا تعرف لماذا، لكنك في ذلك الصباح رغبت بالقهوة أكثر من رغبتك بالشاي، وكنت حرًا بامتلاك ما رغبت، ولكنك هل فضلت بكل وعي القهوة على الشاي، لا، هذا الخيار صنع لك من قبل أحداث في دماغك والتي كنت شاهدًا واعيًا عليها، والتي لم تعرف سببها أو تؤثر بها، وهل كان بإمكانك “تغيير رأيك” والتحويل إلى الشاي قبل أن يستحوذ شارب القهوة في داخلك على قهوته؟ نعم، لكن هذ الدافع – دافع التحويل من كأس قهوة إلى شاي – سوف يكون أيضاً نتيجة أسباب لا واعية، لماذا لم تظهر هذه الأسباب في الصباح؟ لماذا قد تظهر في المستقبل؟ لا تستطيع الإجابة، هنا نرى أن النية في فعل شيء واحد وليس الآخر لم تنشأ من وعيك لكن عوضًا عن ذلك ظهرت في وعيك تمامًا كما أي فكرة أخرى أو دافع آخر تشهده كل يوم.
استخدم عالم وظائف الأعضاء بينجامين ليبيت تخطيط أمواج الدماغ (تخطيط أمواج الدماغ أو EEG وهي طريقة غير متوغلة عادةً، لتسجيل النشاط الكهربائي للدماغ على طول فروة الرأس) ليظهر أن الأنشطة الحركية في قشرة الدماغ يمكن رصدها في حوالي 300 ملي ثانية قبل أن يشعر شخص أنه قرر أن يتحرك، وفي مختبر آخر وسعت أعماله باستخدام التصوير بالرنين المغناطيسي : طلب من الأشخاص بأن يضغطوا على واحد من الأزرار أثناء مشاهدة ساعة تتألف من تسلسل عشوائي من الأحرف التي تظهر على الشاشة، ذكر الأشخاص أي حرف كان ظاهرًا في اللحظة التي قرروا أن يضغطوا أحد الزرين، توصلت التجربة إلى منطقتين في الدماغ احتوتا على المعلومات فيما يخص أي الأزرار التي سوف يختارها الأشخاص في وقت يتراوح بين 7 إلى 10 ثوان قبل أن يتم اتخاذ القرار، ومؤخرًا، أظهرت التسجيلات المباشرة من قشرة الدماغ أن متابعة أنشطة ما يقارب 256 خلية عصبية كانت كافية للتنبؤ بدقة قدرها 80% في قرار الشخص بأن يتحرك قبل أن يصبح واعيًا به ب 700 ملي ثانية.
هذه النتائج يصعب توفيقها مع اعتقادنا بأننا المؤلفين الواعيين لأفعالنا، حيث تبدو الآن حقيقة واحدة لا تقبل الجدل، وهي أن في لحظة ما قبل أن تصبح واعيًا بما سوف تفعله تاليًا، فإن عقلك قرر مسبقًا ما سوف تفعله، باستثناء أنك ستصبح واعيًا بهذا القرار.
تخيل جهاز تصوير للأعصاب متكامل يسمح لنا برصد وتنبؤ التغيرات الملحوظة في طريقة عمل الدماغ، لربما سوف تمضي تفكر وتتصرف بحرية في المختبر، فقط لتكتشف في النهاية أن العلماء الذين فحصوا دماغك كانوا قد تمكنوا من صنع تسجيل كامل يوضح بماذا ستفكر أو ماذا سوف تفعل قبل لحظات من تنفيذك أو تفكيرك في هذه الأمور على أرض الواقع، على سبيل المثال، بعد التجربة ب 10 دقائق وعشر ثوان ، قررت أن تبتاع مجلة من كشك قريب وتبدأ بقرائتها، لكن الجهاز كان قد تنبأ بهذا التصرف عند مرور 10 دقائق و6 ثوان، بدقة كبيرة لدرجة أن الجهاز حتى اكتشف ما هي المجلة التي سوف تبتاعها، أما الآن سوف تقرأ المجلة وتصاب بالملل وتتوقف عن القراءة، لكن الجهاز تنبأ بتوقفك قبل تنفيذك هذا الفعل بثوان واستطاع معرفة ما هي الجملة التي ستتوقف عندها بالقراءة.
الدماغ ليس إلا جهازاً في جسمك، يخضع كاملًا لقوانين الطبيعة، ولدينا جميع الأسباب لكي نعتقد بأن التغير في طريقة عمل دماغنا وبنيته سوف تنعكسان على أفكارنا وأفعالنا.
إذا لم تكن تعلم ماذا سوف تفعل في اللحظة التالية، فإنك لست مسيطراً على نفسك، وهذا أمر واضح وحقيقي في جميع الحالات التي يتمنى شخص ما لو شعر أو تصرف بطريقة أخرى مما فعل، فكر بالملايين الذين ولدوا في بيئة لم يرغبوا بها.
هنالك بالطبع فرق واضح بين الأفعال الإلزامية والاختيارية، لكن هذا لا يدعم فكرة حرية الإرادة :
الفعل الاختياري يلتزم وجود نية لتنفيذه على عكس الفعل الإلزامي، لكن من أين تأتي النوايا بحد ذاتها؟ نحن لا نعرف ماذا سوف نفعل حتى تصعد نية هذا الفعل إلى وعينا، بالتأكيد هذا الاستنتاج لن يجعل حرية التعبير والحرية السياسية أقل أهمية، لكن فكرة أننا ككائنات واعية أننا المصدر لعقليتنا وتصرفاتنا يصعب إسقاطها على الواقع.
لا تثق بغرائزك عندما يتعلق الأمر بحرية الإرادة والوعي
هذا ما تخبرنا به الفلسفة التجرييبة
تبدو حرية الإرادة جلية عندما نتخذ قرارًا ما، لنقل مثلًا قرار الذهاب إلى حفل ما، أشعر عندها أنني قد أستطيع فعل شيء آخر، لكن العديد من الفلاسفة يخبرونا أن غريزتنا خاطئة، استنادًا إلى رؤيتهم، فإن حرية الإرادة هي نسج من خيالنا، لا يملكها أحد ولن يملكها، فخيارتنا إما حددت مسبقًا أو أنها عشوائية.
يتحدى حدسنا لحرية الإرادة، بأية حال، هذه النظرة العدمية، ونحن قد نستطيع بالطبع الحكم على حدسنا بأنه خاطئ، لكن علم النفس يقترح أن حكمنا سابق لأوانه، على سبيل المثال، إذا لم تعرف الإجابة على سؤال في اختبار، فإن أول تخمين لديك سيكون على الأغلب صحيح، في كلا الفلسفة والعلم، قد نشعر بأن هناك شيئاً غامضاً في قضية جدلية أو تجربة قبل أن نستطيع التعرف بالضبط على ماهية المشكلة.
المناظرة على حرية الإرادة هي أحد الأمثلة التي يتضارب فيها حدسنا مع الجدل العلمي والفلسفي، تمامًا كما الوعي، أو حتى حسنا الأخلاقي، ويتعامل الفلاسفة الاعتياديين مع قضايا كهذه بحذر، وخلال العقد الماضي، تبنت مجموعة من الفلاسفة بيانات كثيرة وطرائق أكثر بهدف التنوير في بعض هذه الاسئلة المربكة، أدار هؤلاء (الفلاسفة التجريبيون) هذه الدراسات المسحية وفحصوا الصورة الدماغية وحاولوا تأويلها، وربط حرية الإرادة بالدماغ الذي يعتبر مصدر غرائزنا، عندها إذا استطعنا تفسير لماذا نشعر أننا نمتلك حرية إرادة أو لماذا نعتقد أن الوعي يتألف من شيء أبعد من أنماط وأنشطة عصبية، قد نستطيع معرفة مدى مصداقية هذه المشاعر، وهذا هو بيت القصيد، فإذا استطعنا إظهار أن بداهة أفكارنا حول حرية الإرادة تظهر من عمليات غير جديرة بالثقة فإننا سوف نقرر أننا لن نثق بهذه الاعتقادات.
مؤثرات مجهولة
لاكتشاف الجذور النفسية لمشكلتنا الفلسفية، يجري الفلاسفة التجريبيون عادةً مسوحات على الناس فيما يخص رؤيتهم على هذه القضايا المشحونة، على سبيل المثال، عالج العلماء قضايا تخص اعتقاد الفرد باستقلال خياراته عن الماضي وعن قوانين الطبيعة، حاول الفلاسفة التجريبيون أن يحلوا المناظرة عن طريق سؤالهم الأشخاص في دراستهم إذا ما كانوا يتفقون مع الوصف التالي:
تخيل كونًا كل ما يحدث فيه تسبب بشكلٍ كامل بما سيحدث بعده، لذا ما حدث في بداية الكون هو السبب لما سوف يحدث بعده وهكذا، حتى هذا الحاضر، إذا قرر جون أن يأكل بطاطس فرنسية للغداء في يومٍ ما، هذا القرار كما القرارات الأخرى، تسبّبت به أحداث حدثت قبله.
عندما أجريت الدراسة، قال الأمريكيون أنهم لا يتفقون مع أوصاف هذا الكون، وعندما أجريت دراسات في دول أخرى اكتشف الباحثون أن الصينيين والكولومبيين والهنود يتشاركون الرأي التالي: «خيار الفرد غير مقرر» لكن لماذا يتشارك البشر في هذه الرؤية؟ هنالك تفسير واعد ووحيد وهو أننا نفرض أننا بشكل عام ندرك جميع المؤثرات التي تؤثر على عملية صنع القرار، ولأننا لا نستطيع رصد المؤثرات الحتمية، بل نسثني وجودها من الأساس.
بالطبع، لا يعتقد الناس بأنهم يملكون ولوجًا واعيًا إلى كل شيء في عقلهم، ونحن لا نفرض أننا نستشعر أسباب الصداع، أو تشكيل الذاكرة أو العمليات البصرية، ومع ذلك فإن البحث يشير إلى أن الأشخاص يعتقدون أنهم بإمكانهم الولوج إلى العوامل التي تؤثر في خياراتهم.
ومع ذلك يتفق علماء النفس على نطاق واسع أن عمليات اللاوعي تؤثر بقوة على خياراتنا، في دراسة معينة على سبيل المثال، حل المشاركون في الدراسة أحاجي مكونة من كلمات حيث ارتبطت الكلمات مع موضوع الوقاحة أو الأدب، الذين تعرضوا إلى كلمات وقحة كانوا أكثر احتمالًا أن يقاطعوا المشرف عليهم أو يقاطعوا التجربة التالية، وعندما تم سؤالهم عن السبب، لم يشر أحدٌ منهم وعيًا بأن الكلمات كان لها أثرعلى تصرفهم، هذا السيناريو هو واحد فقط من عديد من السناريوهات الذي تعتبر فيه قراراتنا موجهة بقوة تختبئ خلف وعينا.
لذا ولأن لاوعينا قوي جداً بطرق أخرى، يبدو من السخرية أن نستطيع الوثوق به عندما ندرس مفهومنا عن حرية الإرادة، لا نزال لا نعلم بشكل قاطع أن خياراتنا محددة مسبقاً، لكن مفهومنا عن حرية الإرادة لا يزودنا بسبب كاف لنعتقد بأنه صحيح، وإذا كانت غريزتنا لا تستطيع دعم فكرة حرية الإرادة، عندها سنخسر الأساس المنطقي المقاوم لادعاء وهم حرية الإرادة.
علم النفس الإدراكي وحرية الإرادة
يلاحظ طلاب السياسة أو متابعو البرامج السياسية أن استدلال التوفر – تكرر مواضيع مختارة بكثرة – يسهم في تفسير سبب بروز بعض الموضوعات في المجتمع المحلي والعقل الجمعي بينما يجري إهمال موضوعات أخرى، قد يلعب اللاوعي دورًا في عملية اتخاذ القرار عن طريق ما يسمى في علم النفس الإدراكي ب (اليسر الإدراكي) وهو سهولة استذكار معلومة أو ادعاء ما بغض النظر عن صحته أو خطئه، فيميل الناس إلى تقييم الأهمية النسبية للموضوعات من خلال سهولة استرجاعها من الذاكرة، وهو ما يحدده إلى حد كبير مقدار التغطية الإعلامية لها.
وتشغل الموضوعات المذكورة بكثرة العقل في الوقت نفسه الذي تختفي فيه موضوعات أخرى من الوعي بدورها، ويتطابق ما تختاره وسائل الإعلام أن تعرضه مع رؤيتها لما يدور في الوقت الحالي في العقل الجمعي.
كما يرى علماء النفس الإدراكي أن أثر التكرار على الإعجاب بالأشياء هو حقيقة بيولوجية مهمة كثيرًا وتتمثل بإحدى العوامل التي تتخزن في الذاكرة ويستخدمها اللاوعي في عملية اتخاذ القرار، وهي مسألة تنسحب على جميع الحيوانات، فحتى يتسنّى له البقاء في عالم خطر باستمرار، يجب أن يتصرف الكائن الحي بحذر تجاه أي مثير جديد، من خلال الانكفاء على الذات والخوف، وتعتبر فرص البقاء بالنسبة إلى الحيوان الذي لا يحذر من الأشياء الجديدة ضئيلة، وفي المقابل من قبيل التكيف أن يخف تدريجيًا رد فعل الحذر المبدئي إذا ثبت أن المثير آمن، وبالتالي يصبح المثير في نهاية المطاف علامة على السلامة التي تعد شيئًا جيدًا.
من نواحٍ أخرى
على الجانب الآخر لنعتبر هنا ما سوف يلزم لامتلاك حرية الإرادة، سوف تحتاج أن تكون متنبهًا إلى جميع العوامل – سواء الداخلية أو الخارجية منها سواء كنت واعيًا بها ام لم تكن واعيًا – التي تساهم في تحديد أفكارك وتصرفاتك، وسوف يتوجب عليك أن تمتلك سيطرة كاملة على هذه العوامل، لكن هنالك متناقضة تبطل مفهوم حرية الإرادة، تتلخص بالسؤال التالي :
ما الذي يؤثر على العوامل التي تؤثر في قرارك؟، عوامل أكثر؟ وهكذا تبقى في حلقة مفرغة محاولًا التحكم بالعوامل الجانبية التي لا تمثلك، ولست بالمتحكم في هذه العاصفة، ولست ضائعًا فيها، بل أنت العاصفة.


اللاوعي وحرية الإرادة.



حرية الإرادة أشكالية على الأرجح أنها ستبقى مطروحة للاجتهاد ووجهات النظر. 
هنا مقاربتان لهذه الإشكالية.


هل تتناقض فكرة الحرية مع اللاوعي؟

مقاربة أولى


يتعلق الجواب على السؤال بالمعنى الذي نقصده بمعنى الحرّية. فإذا كان المقصود بالحرّية، الحرية الاعتباطية arbitrary غير المقيّدة بأسباب وعلل، أي، بتعبير آخر، إذا كان المقصود بكلمة "حرية"، حرية المرء أن يفعل ما يشاء [إمكانية قيام المرء بأي فعل] بحيث يكون الفعل وعدمُه سيّان، وأنه بالتالي غير خاضع لنظام الأسباب الطبيعية.. إذا كان الأمر كذلك فإنه لا بدّ أن نستنتج أن فكرة اللاوعي تتنافى مع فكرة الحرية. وآية ذلك، أن فكرة اللاوعي تفترض وجود أسباب أوجبت ما نقوم به من تصرفات عن غير وعيٍ منا. وعليه فإن ما يبدو لنا من أننا أحرار، إنما هو وهمٌ من أوهام وعينا. ألم يقل اسبينوزا أن الحجر، لو كان مزوّداً بالوعي، لظنّ أنه يسقط بحرّية؟!
على أننا إذا فهمنا بمصطلح الحرية معنى التحرّر liberation، أي إذا فهمنا الحرية، لا على أنها قدرة المرء أن يفعل ما يشاء، وإنما قدرة المرء أن يفعل طبقاً لطبيعته، فإن التناقض بين الحرية واللاوعي يرتفع ويزول. ذلك أن اللاوعي ليس قدراً يتحكم بنا من خارجنا. إنما هو الحقيقة المجهولة لذاتنا. وبقدر م ينفتح وعيُنا على اللاوعي، وبقدر ما يكشف نقاب الكبت عن تلك الحقيقة المجهولة، بقدر ما نكون أحراراً. فالحرية بهذا المعنى ليست فعل المرء ما يشاء وإنما هي التحرر من العقد وآليات الكبت التي تمنع المرء أن يتصرّف طبقاً لميوله وطبيعته. إن الفتاة الموسوسة بوسواس غسل الأيدي لا تملك زمام نفسها، بل تشعر بأنها مستلبةُ الإرادة مجبرةٌ على القيام بذلك الفعل. ولا يمكنها أن تتخلص من عقدتها إلا إذا أدركت الدوالفع المكبوتة واء هذا السلوك الغريب.
مرةً أخرى نضيف، ليست الحرية هي القدرة على أن يفعل المرء ما يشاء، وإنما هي التحرر من آليات الكبت التي تمنعنا من أن نعيش تبعاً لحقيقتنا الطبيعية. وبهذا ليس اللاوعي نفياً للحرية. فالحرية كما قال هيغل: "تقوم على معرفة الضرورة". (والضرورة هنا هي اللاوعي).

(الأستاذ م. ف؛ 28 كانون الثاني 2019)



هل تتناقض فكرة الحرية مع اللاوعي؟

مقاربة ثانية


موضوع الحرية ما زال وربما سيبقى إشكاليةً فلسفية لن تجد حلاً يلقى إجماعاً حوله.
في ظني أن الحرية (إن وُجِدت) يجب أن تقترن بقرارٍ واعٍ (بعد مداولةٍ ذاتية)، ثم بإرادةٍ كشرطٍ لتنفيذ ما قررناه.
إذا كان الاختيار ناجماً عن الوعي (والمداولة الذاتية) سيكون اختياراً حراً.
أما إذا كان الاختيار ناجماً عن دوافع لاواعية، فيكون الوعي قناعاً لوهم الحرية.
إذا كان الوعي هو الذي يختار، يمكن أن نسمي ذلك "حرية" إرادة.
أما إذا كان اللاوعي أو الدوافع اللاواعية هي التي تدفعنا إلى ذلك "الاختيار"، فسيظن الوعي أنه يختار، بينما يكون هذا الاختيار خالياً من المضمون، لأن السيد الحقيقي الذي اختار موجودٌ في مكان آخر.
لو أني اتخذت قراراً واعياً أن أكون مهندساً، بعد أن تأكدت من قدرتي الذهنية على النجاح في دراسة الهندسة، وبعد أن درست خيارات وفرص العمل لهذا الاختصاص، وبعد دراسة عوامل أخرى.. يكون ذلك اختياراً حراً توصل إليه الوعي أو توصلتُ إليه بوعيي، وقررتُ بناءً على معطياتٍ واضحة وواعية.
أما إذا كان السبب الحقيقي هي دوافع لاواعية، كأن أُعجَب في طفولتي بشخصٍ ما، ثم نسيت ذلك، لكن بقي أثر ذلك الإعجاب في اللاوعي، وهو ما دفعني إلى اختيار اختصاص الهندسة، فلن يكون الوعي في هذه الحالة إلا مبرّراً، ولن يكون هو صاحب القرار الحقيقي. ويكون ما أظنه قراراً إرادياً محضَ وهم. وبالتالي فإن الكشف عن الدوافع اللاواعية يكون مدخلاً للوعي من أجل التخلص من تأثير تلك الدوافع وتأهيلاً له (للوعي) ليكون سيد نفسه وصاحب القرار الحقيقي.

(م.ح) 


الثلاثاء، 5 مارس 2019

عن "الشيء في ذاته"؛ محمد الحجيري.



عن الشيء في ذاته.
محمد الحجيري.

قبل ديكارت، كان العالم موجوداً ومن البديهيات. (وكان الفلاسفة يحاولون فهم العالم، دون أن يشكوا في وجوده)
وهذا العالم يساهم في تشكيل وعينا عنه
مع ديكارت، أصبح الوعي موجوداً. وهو الذي يسعى للبرهان على وجود العالم وعلى فهمه. (الكوجيتو عند ديكارت يبرهن على وجود الفكر، ثم يجد صعوبةً في البرهان على وجود العالم، بل إن ديكارت يجد من الأسهل عليه البرهنة على وجود الله، ثم يجعل من الله ضمانةً للتيقن والبرهان على وجود العالم).
مع كانط، استمرت الأولوية لوجود الوعي، أو لوجودِ قوالبِ العقل الأولية، التي تساهم في تشكيل الوعي بالعالم.
الوعي بالعالم إذاً يتشكل بناءً على شكل العقل وشروطه أو الطريقة التي يستطيع من خلالها فهم العالم.
بدايةً، كان العالم يأتي إلى العقل ليحدث وعياً يشبه العالم ذاتَه.
مع كانط، أصبح العالم يأتي إلى العقل ليحدث وعياً يشبه العقل ذاتَه. أو وعياً لم يعد يشبه العالم ذاته، بل يرتبط بقدرة العقل وطريقته في الفهم.
كان العالم يأتي إلى العقل ليحدث وعياً مطابقاً للعالم أو يمكن له أن يكون مطابقاً.
مع كانط، أصبح العقل يذهب إلى العالم ليفهمه، أو يذهب إليه ليستحضره بطريقته هو وبناء على شروطه هو، أي بناءً على شروط العقل ذاته.
لم يعد الوعي المطابق للعالم ممكناً أو في متناول الوعي. أصبح عالماً مقفلاً على كل وعي موضوعي: أصبح "شيئاً في ذاته".
أصبحنا لا نملك إلا وعينا عن العالم، أما وعي العالم كما هو فلم يعد ممكناً. لم يعد من الممكن فصل فهم العالم عن الأداة التي تقوم بهذا الفهم.
مع هوسرل، لم يعد بإمكان العقل أن يذهب إلى "اللامكان" كما كان الأمر عند ديكارت. (عند ديكارت، بعد أن شك العقل في كل الأشياء، اكتشف نفسه. "أنا أفكر إذاً أنا موجود". حتى لو كان العالم كله غير موجود ونوعاً من الوهم، الفكر موجود، والذات المفكرة موجودة. العقل أو الفكر مكتفٍ بذاته عند ديكارت. عند هوسرل، العقل يجب أن يفكر في شيءٍ ما. لا يمكن أن يكتفي بذاته: كل وعيٍ هو وعي بشيءٍ ما. العقل يقصد ويتوجه خارج حدوده، يجب أن "يذهب إلى مكان ما" وأن يقصد موضوعاً ما)
العقل الذي لا يجد مكاناً يذهب إليه أو موضوعاً يعقله، لن يكون عقلاً.
هوسرل يشبه كانط هنا أكثر مما يشبه ديكارت. رغم أنه انطلق بتأملات "ديكارتية".
كان كانط يعتبر بأن عقلاً بدون موضوع للتعقل هو عقل فارغ. وبأن موضوعاً بدون "تعقيل"، أو بدون أن تُفرض عليه قوالب العقل أو قوانينُه، هو نوع من الفوضى.
لكن هوسرل يذهب بجيوش العقل محاولاً هدم جدران "الشيء في ذاته" التي أقامها كانط.
يعتبر هوسرل بأن معرفة هذا الشيء في ذاته ممكنة، بل يذهب إلى القول بأن لا وجود لهذا "الشيء في ذاته"، ولا وجود إلا لما يظهر للوعي، أو للظواهر.. وبأن معرفة ماهية هذه الظواهر هي معرفة ممكنة.
يبحث هوسرل في حدس الماهيات، أي عن وعيها مباشرةً.
نحن حين نرى طاولةً حمراء، فإننا نعي اللون الأحمر بشكل مباشر.. ونتحدث عنه، حتى لو لم نرَ إلا هذا الشيء الأحمر.
لسنا بحاجة إلى التجريد الذهني: أي لسنا بحاجة إلى أن نرى الدجاجة الحمراء والوردة الحمراء والطاولة الحمراء وغيرها من الأشياء ذات اللون الأحمر حتى نستخلص مفهوم اللون الأحمر كما كان يذهب إلى ذلك أرسطو في رده على أستاذه أفلاطون.
أفلاطون الذي كان يرى أن مثال أو فكرة اللون الأحمر سابقة في الوجود على وجود الأشياء الحمراء.
نحن نحدس اللون الأحمر مباشرة وليس كنوع من التجريد الذهني الناتج عن الصفة المشتركة للأشياء المتعددة الحمراء.
وكذلك نحن نحدس ماهيات بقية الأشياء مثل هذه الطاولة أو الكرسي أو غير ذلك.
الحواس لا تقدم لنا كل معطيات الكرسي في آن واحد.
حدس ماهية الكرسي هو حدس عقلي مباشر وليس تجريداً ذهنياً.
والتجربة الحسية لا تقدم لنا إلا الجزئيات ولا يمكن أن تكون سبباً للماهيات أو الكليات. إنه الحدس الماهوي.
يحاول هوسرل المصالحة بين الذات والموضوع في تشكيل الوعي، وهذا ما قال به كانط.
لقد حاول هدم جدار "الشيء في ذاته" لولوج ماهية الأشياء.. محاولاً تخطي حواجز كانط بين الوعي بالعالم وحقيقة ذلك العالم.
لكن إذا كان فهمي لهوسرل صحيحاً، فأظنه قد بقي أمام تلك الأسوار ولم يستطع تجاوزها.
أظن أن نقده ربما نجح في زحزحة التجريدات التي قال بها أرسطو: يمكن لنا حدس الكليات لا كنوع من التجريد الذي تقدمه التجربة الحسية بل كنوع من الحدس المباشر.
لكن أظن أنه ما زال بيننا وبين ماهية الشيء في ذاته جدران كانطية عالية ربما يستحيل تجاوزها.
يبدو أن هوسرل بتصويبه على كانط لم يصب إلا بعضاً من الإرث الأرسطي..
والله أعلم..
محمد الحجيري
5 آذار 2017

تعليق للدكتور جمال نعيم:
لقد خضت يا صديقي في موضوعاتٍ شائكة، في الحقل الذي افتتحه ديكارت، أعني به حقل الذاتيّة الذي ميّز الفلسفة الحديثة والذي حقّق قممه العاليه مع كنط ومن ثمّ مع هوسيرل الذي أسّس على ديكارت، لكن كمنطلقات وتوجّهات وليس كمضمون للمذهب الديكارتي، وقام بنقد لكنط، محاولًا تجاوزه، فلم يكتفِ بالحدس الحسي، فقال بالحدس المقولي أيضًا، أو بالأحرى بالحدس الحسي- المقوليّ. حاول هوسيرل تجاوز البنية الذهنية المجاوزة الكنطية، لكنّه، في رأيي، تابع طريقه، فقال بالأنا المحض المطلق الذي بإمكانه أن يؤسس كل موضوعيّة، متابعًا الثورة الكوبرنيقوسيّة الكنطيّة التي جعلت الأشياء تدور حول الذات لا العكس، أي دوران الذات حول الموضوع. الكوجيتو أو الأنا أفكّر، حقل الذاتيّة، الثورة الكوبرنيقوسيّة، البنية الذهنيّة المجاوزة، القوالب الذهنيّة النشطة أو الأفاهيم الفاهميّة المحضة، نشاطيّة الفاهمة، الأنا المحض المطلق... كلّها مصطلحات مفتاحيّة لإمكان السير في الطريق الوعر الذي سلكته يا صديقي. وأنا أرى أنّك كنت موفّقًا الى حدٍ كبير. فهنيئًا لك، فأنت محاربٌ من طرازٍ رفيع وتطرق موضوعات هي أشبه ما تكون بحجارة كبيرة تُرمى في المياه العقلية الراكدة ، مياهنا نحن.

شكراً لك يا دكتور جمال. شهادتك أعتز بها كثيراً.
وإن كنت أعرف أني ما زلت في طور التمرين، وربما كان سابقاً لأوانه أن أتحدث عن هوسرل.. لكن في كل الأحوال سأتراجع عن كل فهم سيتبين لي أنه غير دقيق. (م. ح)

تساؤل (دون ادعاء بخبرة فلسفية!)، ألا يجوز أن يكون الحدس الماهي للأشياء (الكرسي الأحمر مثالاً) هو حدس مباشر وآنيّ فقط فيما التجريد الذهني، المفهومي الأرسطي، هو تراكم وتفاعل الحدس الذهني للأشياء عبر الزمن؟
بطبيعة الحال، إن فهمي للكرسي الأحمر الآن هو غيره بعد حين. حتى الفوضى تصبح أكثر اتساقاً وانتظاماً في وعينا مع الوقت. (خليل الصغير)
أرسطو كان يقول بأن مفهوم "الأحمر" قد جاء كتجريد ناتج عن رؤيتي لهذا الشيء الأحمر ولذاك الشيء الأحمر ولشيء ثالث وهكذا..
وحين أتحدث عن اللون الأحمر بشكل مطلق دون أن يرتبط بموضوعٍ محدد، فإنما جاء فهمي لذلك بسبب تجريدي السابق لمفهوم الأحمر من خلال الأشياء ا
لجزئية الحمراء.
وهو بذلك كان يرد على أستاذه أفلاطون الذي كان يقول بأن اللون الأحمر كمفهوم سابق في وجوده لوجود الأشياء الحمراء.. هناك مثال الأحمر السابق لوجود الأشياء المادية.
لنأخذ مثالاً آخر.
أفلاطون يعتبر بأن القول بأن زيداً إنسان ما كان ممكناً لولا وجود مثال الإنسان في عالم المثل. زيد إنسان لأنه يشترك أو يشبه مثال الإنسان أو الفكرة الثابتة الموجودة بشكل واقعي في عالم المثل.
أرسطو يرى بأن لا وجود لمثال الإنسان السابق لوجود الأفراد.
"إنسان" ما هي إلا كلمة. لا وجود واقعياً لها قبل وجود الأشخاص.
ما يوجد في الواقع هو زيد وعمر وفلان وغيرهم.. ثم جاءت كلمة إنسان كتجريد للصفات المشتركة بين كل الأفراد.. 
الإنسان كمفهوم ليس سابقاً على وجود الأفراد. هو تجريد تم استخلاصه من الحالات الجزئية المتعددة.
هوسرل لا يرى ضرورة لهذا التعدد ثم التجريد من الخبرات المتشابهة المتعددة. لسنا بحاجة إلى أشياء متعددة حمراء لنستخلص منها فكرة اللون الأحمر. يمكن حدس ذلك مرة واحدة حتى لو لم تتعدد التجارب.
هذا إذا كان فهمي صحيحاً للمسألة المطروحة. (م. ح)

الاثنين، 25 فبراير 2019

جواد علي؛ العرب واليونان.



جواد علي: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام


المجلد الثالث
الفصل السابع عشر: العرب واليونان

...
الفصل السابع عشر: العرب واليونان
أقدم من سجل اسمه في اليونان في سجل العلاقات العربية اليونانية هو "الإسكندر الكبير" "356- 323ق. م"، فبعد أن سيطر هذا الرجل الجبار الغريب الأطوار الذي توفي شابًّا، على أرضين واسعة، وأسس امبراطورية شاسعة الأرجاء ذات منافذ على البحر الأحمر والخليج العربي، وبعد أن استولى على مصر والهلال الخصيب، فكر في السيطرة على جزيرة العرب، وفي جعلها جزءًا من امبراطوريته، ليتم له بذلك الوصول إلى سواحل المحيط الهندي، والسيطرة على تجارة إفريقيا وآسيا، وتحويل ذلك المحيط إلى بحر يوناني.
وقد شرح الكتاب "أريان" Flavius Arrianus المولود في سنة "95 ب. م" والمتوفى سنة "175 ب. م."1، الأسباب التي حملت الإسكندر على التفكير في الاستيلاء على جزيرة العرب وعلى بحارها، في الكتاب السابع من مؤلفه2 Anabasis Alexandri فذكر أن هناك من يزعم أن الإسكندر إنما جهز تلك الحملة البحرية؛ لأن معظم القبائل العربية لم ترسل إليه رسلًا, للترحيب به ولتكريمه، فغاظه ذلك. أما "أريان" فإنه يرى أن السبب الحقيقي الذي

1 Harvey, The Oxford Companion to Classical Literature, P., 51
2 Arrien, History of Alexander and Indica, in 2 vol., Loeb Classical Library, 1946, Anabasis, Book, VII, 19, 5. XX, II. f.
حمل الإسكندر على إرسال هذه الحملة، يكمن في رغبته في اكتساب أرضين جديدة1.
وأورد "أريان" في كتابه قصة أخرى، خلاصتها: أن العرب كانوا يتعبدون لإلهين هما: "أورانوس" uranus، و"ديونيسوس" Dionysus وجميع الكواكب وخاصة الشمس، فلما سمع الإسكندر بذلك، أراد أن يجعل نفسه الإله الثالث للعرب2، وذكر أيضًا أنه سمع ببخور بلاد العرب وطيبها، وحاصلاتها الثمينة، وبسعة سواحلها التي لا تقل مساحتها كثيرًا عن سواحل الهند، وبالجزر الكثيرة المحدقة بها، وبالمرافئ الكثيرة فيها التي يستطيع أسطوله أن يرسو فيها، وببناء مدن يمكن أن تكون من المدن الغنية، وسمع بأشياء أخرى، فهاجت فيه هذه الأخبار الشوق إلى الاستيلاء عليها، فسير إليها حملة بحرية للطواف بسواحلها، إلى ملتقاها بخليج العقبة3. وعندي أن التعليل الأخير هو التعليل المعقول الذي يستطيع أن يوضح لنا سر اهتمام "الإسكندر" بجزيرة العرب، وتفكيره في إرسال بعثات استكشافية للبحث عن أفضل السبل المؤدية إلى الاستيلاء عليها، ولم يكن "الإسكندر الأكبر" أول من فكر في ذلك، فقد سبقه إلى هذه الفكرة حكام كان منطقهم في الاستيلاء على بلاد العرب وعلى غير بلاد العرب من أرضين، هو سماعهم بغنى من يريدون الاستيلاء عليه، فهو إما أن يتصادق معهم، فيقدم ما عنده من ذهب وفضة وأحجار كريمة وأشياء ثمينة إليهم ويرضى بأن يكون تابعًا لهم، وإما أن يمتنع فيكون عدوًّا، ويتعرض للغزو وللسلب والنهب والقتل والإبادة. بهذا المنطق كتب ملوك آشور إلى ملك "دلمون" وغير دلمون، وبهذا المنطق كتب "أوغسطس قيصر" إلى ملوك اليمن فيما بعد.
أرسل الإسكندر بعثات استطلاعية تتسقط له المعلومات اللازمة لإرسال أسطول كبير يستولي على سواحل الجزيرة، يتجه من الخليج فيعقب سواحلها، ثم يدخل البحر الأحمر إلى خليج العقبة، حيث ينفذ أسطوله إلى سواحل مصر. وقد هيأ الأسطول، وجاء بأجزاء السفن وبالأخشاب اللازمة لبنائها من "فينيقية".

1 Anabasis, Vil, 19, 6.
2 Anabasis, VII, XX, I, II.
3 Anabasis, VII, II. ff.
Phoenicia "وقبرس" Cyprus، واتخذ "بابل" قاعدة للإشراف على تنفيذ هذه الخطة. وممن أرسلهم الإسكندر لاكتشاف الطريق، القائد البحري "أرشياس" "أرخياس" Archias، وقد كلف السير في اتجاه السواحل، فبلغ جزيرة سماها "أريان" "تيلوس" Tylus، وهي "البحرين"، ولم يتجاوزها والقائد "أندروستينيس". Androsthenes، وقد بلغ مكانًا قصيًّا لم يصل إليه القائد "أرشياس"، "وهيرون" Hieron، وقد وصل مكانًا بعيدًا لم يصل إليه القائدان المذكوران، وكان قد كلف أن يطوف حول جزيرة العرب حتى "هيروبوليس" Herooplis أي السويس، وقد عاد فأخبر الإسكندر بما حصل عليه من معلومات وبما يتطلبه المشروع من جهود1، ولم يذكر "أريان" المكان الذي بلغه "هيرون"، ويظن "أرنولد ولسن" A, wilson أنه لم يتجاوز موضع "ماكيته" Maketa وهو موضع "رأس الخيمة" أي "رأس مسندم" Ras Musandam كما يسميه الأوروبيون، وهو "مونس اسبو" Mons Asabo عند "بلينيوس"، أي "رؤوس الجبال2".
ويصف "أريان" جزيرة "تيلوس" Tylus، [= البحرين] بأنها جزيرة تبعد عن مصب نهر الفرات، بمسيرة سفينة تجري مع الريح يومًا وليلة، وهي جزيرة واسعة وعرة، لا يوجد بها شجر وافر، غير أنها خصبة ويكن غرسها بالأشجار المثمرة كما يمكن زرعها بنباتات أخرى، وذكر "أريان" أن مخبري "الإسكندر" كانوا قد أخبروه بوجود جزيرة أخرى غير بعيدة عن مصب نهر الفرات، إذ لا تبعد عنه أكثر من "120" "استاديونًا"، وهي صغيرة نوعًا ما، غير أنها ذات شجر من كل نوع وبها معبد للإله "أرطميس" Artimus= Artemis يعيش الناس حول معبده وتمرح الحيوانات وتسرح دون أن يمسها أحد بسوء؛ لأنها في حمى المعبد، فهي حرام على الناس وقد سمى هذه الجزيرة باسم "ايكاروس" Ikaros3، نسبة إلى جزيرة "ايكاروس" من جزر البحر الايجي 4 Aegaein Sea، ويظهر أن الإسكندر عرف الصعاب التي ستواجهه في إقدامه على اقتحام الجزيرة

1 Anabasis, VII, XX, 8.
2 The Persian Gulf, P., 40. 43.
3 The Persian Gulf, P., 40, 43, 3 Anabasis, VII, XX; 8; Die Araber; IV; S.; 6 (3. ff.
4 Die Araber, IV, S., 66. ff.
من البر: من مقاومة القبائل، وصعوبة قطع الفيافي، وقلة المياه، فعزم على تحقيق المشروع من البحر، وكلف "هيرون" Hieron متابعة السواحل، ودراسة أحوال سكانها ومواضع المرافئ، وأماكن المياه والمنابت ومواضع الشجر فيها، وعادات العرب وأحوالهم، لتكون جيوشه على بينة من أمرها، إذا أقدم أسطوله على تحقيق هذا المشروع الخطير1.
وأعد "الإسكندر" كل ما يلزم إعداده، غير أن موته المفاجئ، وهو في مقتبل عمره، ثم تنازع قواده وانقسامهم، وما إلى ذلك من شئون، صرف قواده عن التفكير فيه، فأهمل ومات بموته مشروعه الخطير.
ويرى بعض الباحثين أن الإسكندر لم يكن يقصد فتح جزيرة العرب، ولكن كان يرغب في الاستيلاء على بعض الموانئ والمواضع المهمة على ساحل الجزيرة وبذلك يكون قد أدرك الغايات التي قصدها من هذا الفتح2.
ولما أراد الإسكندر احتلال "غزة" في طريقه إلى مصر، قاومت المدينة، ودافع عنها رجل سماه "أريان" "باتس"3 Betis = Baetis= BATIS مستعينًا بجيوش عربية قاومت مقاومة شديدة اضطرت الإسكندر إلى نصب آلات القتال، إلا أن العرب هاجموها لإحراقها، كما هاجموا المقدونيين الذين كانوا متحصنين في مراكز القيادة وراء تلك العدد4. وقد اضطر المقدونيون إلى مغادرة مواضعهم هذه اإلى أماكن جديدة، وكادوا ينهزمون هزيمة منكرة لو لم يأتهم الإسكندر بمساعدات قوية في الوقت المناسب، وقد أصيب بجراح5، وظلت تقاومه مدة خمسة شهور "332ق. م" ويذكر "هيرودوتس" أن المنقطة الواقعة من "غزة" إلى موضع jENYSUS، كانت مأهولة بالقبائل العربية المتصلة بطور سيناء منذ القديم. وقد حكمها ملك عربي لم يذكر اسمه6.

1 Anabasis, VII, XX, 10.
2 Tarn, II, P, 394, U. WUcken, Die Le,tzen Flaene Alexanders des Grossen; Berlin, 1937, S., 195.
3 W. W. Tarn, Alexander the Great, Cambridge, 1948, Vol., 2, P.; 265; "Betis"; ss; Curtius Rufus, 4, 6, 7, 20,: 30, Die Araber; I; S.; 171.
4 Arrian, Vol., I, P. 217, II. 23, 4.
5 Arrian, I, P., 219.
6 Herodotus, I, P., 212.
ويرى بعض الباحثين أن "باتيس" Batis هذا الذي وقف بوجه جيوش الإسكندر وقاومها هذه المقاومة العنيفة، في حوالي سنة "332ق. م."1 كان رجلًا عربيًّا اسمه "باطش"، أي الفاتك. ويستدلون على ذلك بورود اسم رجل في الكتابات النبطية، هو "بطشو"، أي "باطش"2. وقد حرف ذلك الاسم فصار3 Batis وهم يرون أن غالبية سكان "غزة" كانت من العرب منذ زمن طويل قبل الميلاد وأنها كانت نهاية طرق القوافل البرية التجارية التي كان يسلكها التجار العرب القادمون من اليمن والحجاز ومن مواضع أخرى، ولا يعقل لذلك أن يكون حاكمها إيرانيًّا، كما ذهب إلى ذلك بعض المؤرخين فرجحوا لذلك رأي من يقول: إن "الباطش" Batis، كان من العرب4.
لقد كانت "غزة" المركز الرئيسي للتجار العرب على البحر المتوسط، فإليه تنتهي التجارة العربية، ومنه يتسوق التجار العرب البضائع التي ترد إليه من موانئ هذا البحر. ولما فتحت المدينة أبوابها، لجيش الإسكندر بعد ذلك الحصار الشاق، وجد اليونان فيها مقادير كبيرة، من المر واللبان وحاصلات العربية الجنوبية، فاستولوا عليها، فخسر التجار العرب بذلك خسارة فادحة5.
ونجد في كتاب "تأريخ الإسكندر" لـ "كوينتس كورتيوس" Quintus Curtius، خبرًا يفيد أن "الإسكندر" أخذ من أرض العرب المنتجة للبخور كمية من البخور لإحراقها للآلهة تقربًا إليها، غير أننا لا نستطيع تصديق هذه الرواية؛ لأن جيوش الإسكندر لم تتمكن من دخول جزيرة العرب، ولم تصل إلى أرض البخور6. إلا أن يكون حكامها قد أرسلوا البخور المذكور هدية إليه، أو ضريبة من التجار العرب في مقابل السماح لهم ببيعه في الأسواق التي استولى عليها اليونان.

1 H. Berve, Das Alexanderreich auf Prospographischer Grundlage, 2 , (1928) , a, 105, Die Araber, I, S., 34, 173.
2 Die Araber, I, S., 35.
3 Curtius Rufus, 4, 6, 7, Die Araber, I, S.; 35.
4 J. Cantineau, Le Nabateen, 2, (1932) , 70, R. Maecus, in: Josophos; Vol.; 6; 1937, P. 463 (Loeb) , Tran. Alexander. 2; P. 266; Die Araber; I; S. 172.
5 Diodorus, XVII, 48, 7, Strabo, XVI, 2; 30; Plutarch; Alexander; 25; 4; 26-27; Olmstead, History of the Persian Empire, P., 507, f-
6 Quintus Curtius, I, P., 7,
وقد توسع مؤلف الكتاب المذكور في إطلاق لفظة العرب Arabum والعربية أي أرض العرب Arabia في أثناء حديثه عن العرب وعن أرضهم فأدخل في العرب جماعة ليسوا منهم مثل "بني إرم"، ولما تحدث عن فتح الإسكندر للبنان، ذكر أنه ذهب بعد ذلك إلى العربية، أي أرض العرب وعني بها البادية الواسعة التي تفصل بلاد الشام عن "ما بين النهرين"، وكل الأرضين على ضفة الفرات الغربية1.
هذا ولا أظن أن إنسانًا يقول: إن "الإسكندر" المذكور كان قد حصل على علمه بثراء العرب وبنفاسة ما يبيعونه في أسواق البحر المتوسط من تجارات عن طريق الوحي والإلهام، وبنباهة فكره، إن علمًا من هذا النوع لا يمكن أن يحصل عليه إنسان إلا من علم الماضين ومن علم السياح والتجار بصورة خاصة؛ لأنهم كانوا وما زالوا منذ خلق الإنسان يفتشون عن الأسواق وعن المنتجات ويتعارفون فيما بينهم على اختلاف ألوانهم وأديانهم للحصول على معارف تجارية تخولهم الحصول على ما يبتغون بأرخص الأسعار.
من هذه الموارد ولا شك حصل "الإسكندر" على عمله بأحوال الهند وبأحوال جزيرة العرب وبالأسواق التي كانوا يرتادونها، وعلمه هذا هو الذي حمله على أن يوجه حملته على بلاد العرب -على ما أرى- من البحر لا من البر؛ لأنه أدرك أن حملة بحرية تمكنه من السيطرة على مفاتيح الجزيرة وعلى النقط الحساسة فيها بسهولة ويسر وبدون تكاليف باهظة، وبذلك يقبض على خناقها ويقطع عنها إن تيسر له النجاح اتصالها بأسواق إفريقيا والهند وما وراء الهند، وهي الأسواق الرئيسية التي مونت العرب بالثراء وبذلك يقطع عنهم موارد الثراء، أما من البر فقد كان على علم أكيد من خلال تجارب الماضين ومن علمه وعلم قواد جيشه بصعوبة الاستيلاء عليها من البر ومن الاحتفاظ بها أمدًا طويلًا والمحافظة على طرق المواصلات الطويلة وإيصال المؤن إلى قواته، لذلك لم يفكر في الاستيلاء عليها من البر, ثم إن ثراء سكان الجزيرة المشهور لم يكن من ثراء حاصلاتها وإنتاجها وإنما كان من أسواق إفريقيا والهند في الغالب، ولهذا رجح خطة السيطرة على موانئ جزيرة العرب بوضع قوات بها على خطة السيطرة

1 Quintus Curtlus I p 185.
على الجزيرة من البر، وأغلب الجزيرة بحار من رمال. وبذلك وضع خطة سار عليها من جاء بعده من الغربيين حتى العصر الحديث باستثناء "أغسطس قيصر" الذي لاقت حملته البرية الفشل والهزيمة؛ لأنها بنيت على جهل فاضح بحال جزيرة العرب، وبحقيقة صعوبة السيطرة عليها من البر.
وقد ورد في بعض الموارد أن العرب قدموا الأسلحة والملابس إلى الجيش المقدوني1، وأن الإسكندر تمكن من قهر العرب2. كما ذكر أن عربيًّا انقض على الإسكندر وفي يده اليمنى سيف مسدد نحو رقبته، قاصدًا قتله في أثناء معركة حامية، غير أن الإسكندر تجنب الضربة بسرعة فائقة فنجا. وكان هذا العربي في جيش "دارا" "داريوس"3 Darius.
وذكر "كونيتوس كورتيوس"" أن "الإسكندر" بعد أن سار مع مجرى نهر Pallacopas وصل إلى مكان أعجبه، فأمر بإنشاء مدينة فيه، أسكنها العجزة والمسنين من رجاله، وذلك في أرض العرب4، وسوف يأتي الكلام على ذلك في أثناء الحديث عن "بلينيوس" وما عرفه من بلاد العرب.
وكان مما تحدث به المورخ المذكور عن حملة الإسكندر أن أحد قواده كان قد تنكر في زي الأعراب، وأخذ معه اثنين من العرب ليكونا دليلين في سيره، ووضعا زوجيهما وأطفالهما لدى الملك الإسكندر ليكونوا رهائن عنده، لئلا يصيب القائد أي سوء ومكروه. فلما وصل إلى الموضع الذي قصده، وأبلغ رسالة الملك من أرسله إليه عاد ومعه الأعرابيان، فأثابهما5.
ليست فتوحات الإسكندر التي قذفت بالإغريق والرومان إلى مساحات واسعة من آسيا، حدثًا سياسيًّا حسب، إنما هي فصل من فصول كتاب التاريخ البشري، نقرأ فيه أخبار التقاء العالمين الشرقي والغربي وجهًا لوجه على مساحات واسعة من وجه هذه المسكونة، ونزعة الغرب في السيطرة على الشرق وتأثر الحضارات والثقافات بعضها ببعض، وحصول علماء اليونان والرومان على معارف مباشرة عن

1 Julius Valerius, II, 25, Arabien, S. 23.
2 LIvius, XLV, 9, Plinius, XII, 62, Arabien; S.; 23.
3 Quintus Curtius, It P., 219.
4 Quintus Curtiu?, II, P., 513.
5 Quintus Curtis, II, P. 137.
أحوال أمم كانوا يسمعون أخبارها من أفواه التجار والسياح والملاحين فإذا وصلت إليهم كان عنصر الخيال فيها الذي يميل إلى التفخيم والتجسيم قد انتهى من عمله وأدى واجبه، فصححت فتوحات الإسكندر هذه للهلال الخصيب ولمصر، بعض تلك الأوهام، وجاءت بعلماء من اليونان إلى هذه البلاد، ولا سيما مصر فأفادوا واستفادوا، وصارت "الإسكندرية" بصورة خاصة، وبعض مدن بلاد الشأم ملتقى الثقافات، الثقافات الشرقية والثقافات الغربية، ومركز الاتصال العقلي بين الغرب والشرق وبقيت الإسكندرية محافظة على مكانتها هذه حتى ظهور الإسلام.
وقد حملت فتوحات الإسكندر والحروب، التي وقعت بين الروم والفرس إلى الشرق الأدنى، دمًا جديدًا هو دم الإغريق ومن دخل في خدمة الإسكندر واليونان والرومان من الجنود والمتطوعة والمرتزقة من سواحل البحر المتوسط الشمالية وما صاقبها من أصقاع أوروبية، لقد بنى الإسكندر الأكبر مدينة Charax على ملتقى نهر "كارون" بدجلة1. وأسكنها أتباعه وجنوده ومواطني المدينة الملكية. كما بنى مدنًا أخرى، وقد كان من المحبين المولعين ببناء المدن، وبنى خلفاؤه مدنًا جديدة في الشرق، وكذلك من أخذ تراثهم من اليونان والرومان2. وحمل الفرس عددًا من أسرى الروم، وأسكنوهم في ساحل الخليج وفي مواضع أخرى. وطبيعي أن تترك سكنى هؤلاء في الشرق أثرًا ثقافيًّا في الأماكن التي أقاموا فيها وفي نفوس من جاورهم أدرك قيمته المؤرخون المعاصرون.
والمؤرخ "بلينيوس"، وهو أول من أشار إلى مدينة Charax، هذه المدينة التي أنشأها الإسكندر. في جملة المدن التي أنشأها في الشرق، ويظن أنها "المحمرة"3 بنيت هذه المدينة -كما يقول: "بلينيوس"- في النهاية القصوى من الخليج العربي أي الخليج الذي يسمى اليوم باسم "خليج البصرة" أو "خليج فارس" كما يسميه "الكلاسيكيون" Sinus Persicus، عند خط ابتداء العربية السعيدة arapea eudaemon أي جزيرة العرب، ويقع نهر دجلة على يمينها. وقد دعيت "الإسكندرية" نسبة إلى الإسكندر. وقد خربت هذه المدينة مرارًا من فيضان الأنهر وإغراقها لها، ثم بناها "انطيوخس الرابع".

1 Charax Spaslni.
2 Pliny, Book, VI, 138, Vol., II. P.; 443; "H. Rackham";
3 The Persian Gulf, P., 30, 49.
Antiochus Epiphanes IV "ق. م 163 -175" ودعيت باسمه، ثم تخربت أيضًا، فرممها وأعاد بناءها الملك "سباسينس" Hyspaosines /Spasines ملك العرب المجاورين، وأنشأ لها سدًّا لحمايتها، وسماها، باسمه، وقصدها التجار اليونان والعرب1.
وقد ذكر أن والد الملك "سباسينس" Hispaosines /Spassiones كان ملكًا يحكم العرب المجاورين لهذه المدينة، وقد عرف بـ Sagdodonacus، وهو اسم لم يتفق الباحثون على أصله2. ولما وجد "سباسينس" أن الخراب قد حل بالمدينة المذكورة، بنى لها سدًّا، أنقذها من الغرق، وأعاد بناءها فعرفت باسمه.
ويظهر أن حكم هذا الملك كان في النصف الأول من القرن الثاني قبل الميلاد. ويرى بعضهم أنه حكم بابل و"سلوقية" Seleukeia في حوالي سنة "ق. م 127"3، وأنه كان يحكم مقاطعة Charax في حوالي سنة "130 ق. م"4 أو "129"، وقد عثر على نقود ضربت باسمه5، ويظهر أن حكم هذه المملكة الصغيرة بقي إلى أيام الملك "أردشير" الساساني، حيث قضى عليها في حوالي سنة 224 أو 227م6.
وقد عرفت Charax بـ Charakene، وهي "ميسان7 "Mesene و CharaxK"، وهي "كرخا"، وعرفت أيضًا بـ "كرخ ميسان"8.
وقد تحدث "سترابون" بشيء من الإيجاز عن الساحل العربي المشرف على الخليج، مستمدًّا له من "إيراتوستينس" على الأكثر، إذا استند إلى وصفه وأخباره، وأما "ايراتوستينس"، فقد جمع مادته من أقوال رجال عرفوا الخليج وعركوه، وكانت لهم أيام فيه. منهم "نيرخس" Nearchus قائد الإسكندر

1 Gulf, p., 49.
2 Die Araber, I, S., 279, 317.
3 Araber, I, S., 321, A.R. Bellinger, Hyspaosines of Charax, In Yale Class.Stud., 8, (1942) , 55.
4 Araber, I, S., 327.
5 Ency., ni, P., 146.
6 Noldecke, Gesch. der Araber und Perser, Leiden, 1879, S. 13.
7 Ency., Ill, P., 146.
8 Ency., ni, P., 146.
الشهير وأمير أسطوله، و"أندروستينس" Androsthenes من أهل "ثاسوس" Thasos، كان في صحبة القائد "نيرخس" ثم كلف قيادة الأسطول الذي أمر بالسير بمحاذاة ساحل الجزيرة للكشف عنه، وللحصول على معارف جديدة عن بلاد العرب ومنهم "أرسطوبولس" Aristobulus وكان أيضًا من رجال البحر، و"أورثاغوراس" Orthagoras الذي كان من هذا الصنف كذلك1.
وأخذ "سترابون" من مورد آخر يرفع سنده إلى "نيرخس" إلا أن "سترابون" لم يذكر رجال السند، وإنما ذكر جملة "قال نيرخس"2.
فيجوز أن يكون هذا المورد من وضع القائد نفسه، أو من وضع مرافقيه، حكموا عنه، أو من وضع أناس جاءوا بعدهم، استندوا إلى روايات وأقوال مرجعها "نيرخس" أخذ منه "سترابون".
وقد اقتصر "سترابون" على ذكر "جرها" Gerrha و"تير" Tyre و "أرادوس" Aradus و "ماكه" Macae، وهي مواضع تقع على ساحل العروض، أي الساحل الشرقي لجزيرة العرب المطل على الخليج، ولم يذكر أماكن أخرى غيرها تقع في هذه المنطقة3. وفي ذلك دلالة على قلة علمه بأحوال ذلك الخليج.
أما "جرها"، فمدينة تقع، على حد قوله، على خليج عميق أسسها مهاجرون "كلدانيون" من أهل بابل4، في أرض سبخة، بنوا بيوتهم بحجارة من حجارة الملح، ترش جدرانها بالماء عند ارتفاع درجات الحرارة لمنع قشورها من السقوط. وتقع على مسافة "200" "اسطاديون" Stadia من البحر5، وهم يتاجرون بالطيب والمر والبخور، تحملها قوافلهم التي تسلك الطرق البرية، ويذكر "أرسطوبولوس" Aristobulus  أنهم ينقلون تجارتهم بالبحر إلى بابل،

1 Strabo, in, P., 186, Book, XVI, III; 3-6.
2 Strabo, III, P., 188, Book, XVI, 5; 7.
3 Strabo, III, P., 186.
4 "
الكلدانيون"، المسعودي، التنبيه "ص 1، 2، 7، 31، 50، 56" ومواضع أخرى.
5 "
أسطاديون"، stadion، استخدم علماء تقويم البلدان كلمة "أسطاديون" في مقابل: stadion و"الأسطاديون: مساحة أربعمائة ذراع". البلدان "1/ 18".
ثم إلى مدينة  Thapascus، ومنها يعاد نقلها بالطرق البرية إلى مختلف الأنحاء1 و "تباسكوس" Thapascus، هي: الدير، أو "الميادين" في رأي كثير من الباحثين2.
وقد أشار إلى "جرها" كتاب آخرون، عاشوا بعد "إيراتوستينس" صاحب خبر هذه المدينة المدون في جغرافية "سترابون" أشار إليها مثلًا "بوليبيوس" Polybius "204- 122 ق. م"3، و "أغاثرسيدس" المتوفى سنة "145" أو "120 ق. م"4 و "أرتميدورس" Artemidorus من أهل مدينة "أفسوس" Ephesus "حوالي 100 ق. م"5، و "بلينيوس".
وخلاصة ما أوردوه عنها أن المدينة كانت مركزًا من المراكز التجارية الخطيرة، وسوقًا من الأسواق المهمة في بلاد العرب، وملتقى طرق تلتقي في القوافل الواردة من العربية الجنوبية والواردة من الحجاز والشأم والعراق، كما أنها كانت سوقًا من أسواق التجارة البحرية تستقبل تجارة إفريقيا والهند والعربية الجنوبية، وتعيد تصديرها إلى مختلف الأسواق بطريق القوافل البرية حيث ترسل من طريق "حائل" - "تيماء" إلى موانئ البحر المتوسط ومصر، أو من الطريق البري إلى العراق، ومنه إلى الشأم6، وقد ترسل في السفن إلى "سلوقية" Seleucia، أو بابل فـ Thapascus ومنها بالبر إلى موانئ البحر المتوسط وما بي حاجة إلى أن أقول إنها كانت تستقبل تجارات البحر المتوسط والعراق والأسواق التي تعاملت معها، لتتوسط في إصدارها إلى العربية الجنوبية وإفريقيا والهند، وربما إلى ما وراء الهند من عالم ينتج ويستهلك فهي، سوق وساطة، والوسيط يصدر ويستورد وبعمله هذا يكتنز الثروة والمال.
وذكر القدماء أن الجرهائيين تاجروا مع حضرموت، فوصلت قوافلهم إليها في أربعين يومًا7. وكانت تعود وهي محملة بحاصلات العربية الجنوبية، وحاصلات

1 Strabo, III, P. 186, Book, XVI, III; 3-4; Dillman; Haute Mesop.; 131.
2 Gulf, P., 30, Deserta, P., 515, Strabo; III; P.; 187.
3 Gulf, P., 46.
4 Sklzze, II, S., 10.
5 Gulf, P., 46.
6 Cornwall, Ancient Arabia, in Geographical Journal, CVII, 142, Febr., 1946; P., 30, Dussaud, La Penetration des Arabes en Byrle, 13, 25.
7 Gulf, P., 45, Strabo, III, P., 191; Book; XVI; IV; 4.
إفريقيا المرسلة بواسطتها، وهي بضاعة نافقة ذات أثمان عالية في الأسواق التجارية لذلك العهد، وتاجروا مع النبط بإرسال قوافلهم التي قطعت الفيافي مارة بمواضع الماء والآبار إلى "دومة الجندل" Dumatha، ومنها إلى "بطرا" عاصمة النبط. والنبط هم مثل بقية العرب تجار ماهرون نشيطون. فإذا وصل تجار "جرها" إلى أرض النبط باعوا ما عندهم للنبط واشتروا منهم. ما يحتاجون إليه من حاصل بلاد الشأم والبحر المتوسط, أما التجار الذين يريدون أسواقًا أخرى، غير أسواق النبط، فكانوا يتجهون نحو الشمال، فيدخلون فلسطين قاصدين "غزة" أو يتجهون وجهة أخرى هي وجهة بصرى وبقية بلاد الشأم. وقد اكتسبت "جرها" شهرة بعيدة في عالم التجارة في ذلك الزمان، بسبب مركزها التجاري الممتاز، وذاع خبر ثراء أهلها وغناهم، حتى زعم أنهم كانوا يكنزون الذهب والفضة والأحجار الكريمة، وأنهم اتخذوا من الذهب آنية وكئوسًا وأثاثًا، وجعلوا سقوف بيوتهم وأبواب غرفهم به وبالأحجار النفيسة الغالية، وغير ذلك مما يسيل له لعاب الجائعين إلى المال1. وهذا الصيد البعيد، هو الذي أثار الطمع في نفس الملك "انطيوخس الثالث"2 Antiochus lll، فجلعه يقود أسطوله في عام "205 ق. م"، للاستيلاء على المدينة الغنية الكانزة للذهب والفضة واللؤلؤ وكل حجر كريم، وإذلال القبائل المجاورة لها، وإلحاقها بحكومته. فإما أن تذعن وتستسلم بغير قتال، وتقدم ما عندها هدية طيبة إليه، وإما القتل والنهب ودك المدينة دكًّا.
وتقول الرواية التي تتحدث عن طمع هذا الملك وجشعه للمال إن المدينة المسالمة التاجرة، أرسلت رسولًا إلى الملك يحمل رجاءها إليه ألا يحرمها نعمتين عظيمتين أنعمتهما الآلهة عليهم: نعمة السلام، ونعمة الحرية. وهما من أعظم نعم الآلهة على الإنسان، فرضي من حملته هذه بالرجوع بجزية كبيرة من فضة وأحجار كريمة، فأبحر إلى جزيرة "تيلوس" ومنها إلى "سلوقية" "205 - 204 ق. م"3.
وهكذا اشترت المدينة سلمها وحريتها من هذا الطامع بالمال، وصدق أهل المدينة إن كانت الرواية صادقة، فالسلم والحرية من أعظم نعم الله على الإنسان4.

1 Polybios, II, 39, Il.f. ,
2 Gulf' P" 46" "
انطيخس"، الطبري "1/ 790" "طبعة ليدن".
3 Gulf, P., 46, Polyblus," Book, 13, 9; Die Araber; II; S.; 74.
4 Polybios, 13, 9, 4-5.
وفي رواية أن الملك المذكور لما عاد من حملته على الهند اتجه نحو الغرب، أي السواحل الشرقية لجزيرة العرب، ساحل العروض، فنزل في أرض دعتها "خطينة" Chattenia وهي أرض من "جرها"، وعندئذ أرسل الجرهائيون رسلًا إليه يفاوضونه على الصلح على نحو ما ذكرت، فوافق على أن يدفعوا إليه في كل سنة جزية من فضة ولبان وزيت مصنوع من البخور1.
ويظهر من هذه الرواية أن مجيء الملك إلى أرض الجرهائيين، كان من الهند، وكان قد رجع بعد أن قاد جيشه إليها، وأنه نزل في ساحل عرف باسم Chattenia وهو الخط.
يتبين من وصف "سترابون" للحجارة التي بنيت بها المدينة على زعمه ومن ادعاء "بلينيوس"، أن أبراج المدينة وسورها قد بنيت بقطع مربعة من صخور الملح2. يتبين من ذلك أنها بنيت في أرض سبخة، وأن هذا السبخ هو الذي أوحى إلى مخيلة "الكلاسيكيين" ابتداع قصة حجر الملح الذي بنيت به دور المدينة وسورها، وفي التأريخ قصص من هذا القبيل عن قصور ومدن شيدت بحجارة من معدن الملح.
يظن أن Gerra أو garraei أو Gerrei على حسب اختلاف القراءات، "وهو موضع ذكره "بطليموس" "هو هذه المدينة "جرها"3. وذكر "بلينيوس" أنها تقع على خليج يسمى باسمها4 Sinus Gerraicus ويبلغ محيطها خمسة أميال5 "خمسة آلاف خطوة"6، وعلى مسافة خمسين ميلًا من الساحل، "أي خمسين ألف خطوة"، وتقع منطقة تدعى "أتنه" Attene وفي مقابل مدينة "جرها" من جهة البحر وعلى مسافة خمسين ميلًا تقع جزيرة "تيلوس" Tylos المشهورة باللؤلؤ، والمدينة التي ذكرها "بلينيوس" هي المدينة التي قصدها "سترابون".

1 Pliny, 6, 148, J. Pirenne, Le Royaume Sud-Arabe de Qataban et sa Datation,U961) , 169; Araber, I, S., III.
2 Pliny, II, 448.f.
3 Forster, II, P., 209, 217.
4 PUny, II, P., 449, Book, VI, 147.
5
بالأميال في الترجمة الإنكليزية لكتاب "بلينيوس"، راجع:
Pliny, II, P., 449, Book., VI, 147; Gulf; P.; 51.
6 sktzze, II, S., 74.6
بالخطوات في الترجمة الألمانية راجع
وبعد، فـ"جرها" إذن، مدينة تقع في العربية الشرقية على ساحل الخليج على مسافة منه، أو عليه مباشرة. وقد رأى "شبرنكر" أنها "العقير"1، وتدعى "العجير" في لهجة الناس هناك2. ويرى هذا الرأي "فلبي"3 وطائفة من الباحثين, ومنهم من رأى أنها "القطيف"4، أو الخرائب المعروفة باسم "أبو زهمول" مع "العقير"، وتكون هذه الخرائب الطرف النائي من "جرها" الذي يكون الميناء، ودعاها بعضهم "الجرعاء"6. وظن آخرون أنها "سلوى" الواقعة على ساحل البحر7.
ومن رجح "الجرعاء" رأى أنها في لفظها قريبة جدًّا من "جرها" "جرهاء"، وموضعها قريب منها. ولسبب آخر، وهو ورود اسم Thaimon/ Thaemae مع Gerraei عند "بطلميوس" و Thaemae هو "تميم" في نظر الباحثين، وقد اقترن اسم "الجرعاء: بتميم. فقد ذكر "الهمداني" "الجرعاء"، فقال: "ثم ترجع إلى البحرين فالأحساء منازل ودور لبني تميم ثم لسعد من بني تميم، وكان سوقها على كثيب يسمى الجرعاء تتبايع عليه العرب"8، وقد كانت "جرها" سوقًا تتبايع فيه الناس. ويرى "كلاسر" أن Gerrha/ Gerra  ليست "العقير" أو الجرعاء، وإنما هي موضع يقع في الطرف الجنوبي الغربي من خليج "القطن"9.
ويظهر أن "جرهاء" كانت قد بلغت أوجهًا في هذا العهد، وقد بقيت على ذلك مدة، غير أننا لا ندري إلى متى بقيت على هذه الحال, والظاهر أن مدنًا أخرى أخذت تنافسها، مثل مدينة Charax، فأثرت هذه المنافسة فيها وذلك بتحول الطرق البحرية عنها، وتحسن وضع صناعة السفن مما أدى إلى

1 "العقير: تصغير العقر ... قرية على شاطئ البحر بحذاء هجر"، البلدان "6/ 198"
Sprenger, Geographie, S., 135.
2 Chessman, In Unknown Arabia, P. 23.
3 The Empty Quarter, P., 3, Araber, I, S., 112.
4 Forster, II, P., 216.
5 Cheesman, P., 28.
6 Skizze, II, S., 75.
7 Geographical Journal, CVII, 142, Febr., 1946, P., 32.
8
الصفة "ص173".
Gloser, Skiyyle, II, S., 76.
9 Gloser, Skiyyle, II, S., 76.
تمكنها من قطع مسافات واسعة من غير حاجة إلى التوقف في موانئ كثيرة، فلم تعد تقف في موانئ الجرهائيين أو أن الجرهائيين لم يتمكنوا بذلك من مزاحمة السفن الأخرى فأخذ نجمها في الأفول بالتدريج، ولعل لتحول طرق القوافل البرية دخلًا في ذلك أيضًا. فقد كانت الطرق البرية تتحول دومًا. لعوامل سياسية واقتصادية وعسكرية، وبتحسن وسائل المواصلات، فيؤدي هذا التحول إلى اندثار مدن وظهور مدن، ولا نزال نرى أثر هذا التحول في حياة قرى جزيرة العرب.
وأما جزيرة TYRE / Tyrus، التي أشار "سترابو" إليها، فإنها جزيرة "تيلوس" Tylus / Tylos، التي ذكرها "بلينيوس"1. ويلاحظ وجود شبه بين "تيلوس" Tylus و"تلمون" أو "دلمون"1. الواردة في النصوص الآشورية، يحملنا على التفكير بوجود صلة بين الاسمين2. وقد أشرت إلى ذهاب الباحثين إلى أن "تيروس" Tyrus هي جزيرة من جزر البحرين. أما "كلاسر" فيرى أنها ليست من جزر البحرين، ولكنها جزيرة أخرى تدعى "دلمة" أو "بليجرد"، وقد رجح هذه الجزيرة على الأولى؛ لأن موقعها أقرب في نظره إلى المسافات التي أشار إليها "سترابون" من "دلمة"، ومن جزر البحرين، وقد ذهب "فورستر" إلى أن "تيروس" Tyrus، هي "أوال" وأما Aradus، فإنها "أرد" "أراد"، أي جزيرة "المحرق" من جزر البحرين، وقد تكون لتسمية "خليج عراد" بهذا الاسم علاقة بلفظة "أرد" "عرد" القديمة3.
ولم يعثر المنقبون حتي الآن على كتابات يونانية تشير إلى مدة حكم قواد الإسكندر للبحرين، ولكنهم عثروا على فخار يوناني يعود عهده إلى أواخر القرن الرابع قبل الميلاد، وعلى فخار محلي مصنوع في البحرين عليه أسماء يونانية، وفي ذلك دلالة على سكن اليونان في البحرين لأغراض سياسية، أو حربية أو تجارية. قد يكون ذلك منذ عهد الإسكندر فيما بعد إلى انتهاء ملك خلفائه "السلوقيين"،

1 Pliny, II, P., 449.
2 Gulf, P., 5,26; 27; Ency., I, P., 584; P.B. Cornwall; on the Location of Dllmun;Boas, NO, 103; 1946.
3 Forster, II, P., 219, 221, Gulf, P.; 31.
وقد يكون من عهد السلوقيين فما بعد حتى أيام "البارثيين" parthians، وأما موضع Macae المقابل لـ "هرموزي" "هرمز" Harmozi فيعرف أيضًا باسم1 Maketa/ Maceta، وهو مضيق Make لدى "بطلميوس"2، وهو "رأس الخيمة" الرأس البارز في مضيق "هرمز" Harmozi، وربما الرأس وكل شبه الجزيرة المتصل بها. ويعرف هذا الرأس عند الغربيين باسم "رأس مسندم " Ras Musandam، وهو موضع يظهر أنه أحد المواضع الواردة في كتابة "دارا" التي تشير إلى الأماكن التي كانت خاضعة لحكمه3. ونجد شبهًا في النطق بين Maka / Make / M acae و"مجان" "مكان" يحملنا على تصور أن الاسمين هما لشيء واحد، وأن الاختلاف الذي نجده بين التسميتين هو من التحريف الذي يقع في النقل من لغة إلى لغة أخرى وإذا صح هذا التصور كانت أرض "مكان" "مجان"، في هذه البقعة من جزيرة العرب.
لقد قام تجار الخليج بالتوسط في نقل البضائع من الهند وإفريقيا إلى العراق، يوصلونها إلى موانئ العراق أو إلى موانئ الخليج، ثم تنقل إما بالطرق المائية إلى إيران والعراق وإما بالطرق البرية، فقد تنقل التجارة إلى مدينة "كاركس" "خاراكس" Charax، وهي "المحمرة" في الزمان الحاضر، ثم توزع منها إلى مختلف الأنحاء، وإما إلى ميناء "أبولوكس " Apologus، ومنه بالنهر إلى الأمكنة المقصودة مثل "سلوقية" على دجلة مقابل "طيسفون"، أي "المدائن"، الموضع المعروف اليوم بـ "سلمان بك" وكانت عاصمة "السلوقيين" آنذاك، أو إلى مواضع على نهر الفرات، حيث تنقل منها برًّا إلى بلاد الشأم.
و"أبولوكس" Apologus هي "أوبولم" Ubulum في الكتابات الأكادية، وقد ورد في نص أيام الملك "تغلبت فلاسر" الثالث اسم قبيلة U-bu- lu كما ورد هذا الاسم على هذه الصورة: U-bu- lum في جملة أسماء القبائل التي انتصر عليها "سرجون الثاني" ويرى "كلاسر" صلة بين Apologus و"أبلة"،

1 Stratoo, in, P., 186, Gulf, P., 40.
2 Skizze, n, S., 249.
3 Sldzze, II, S., 249.
واسم هذه القبيلة التي تقع مواطنها على رأيه في جنوب العراق1.
وقد ذكر صاحب كتاب "الطواف حول البحر الأريتري"2 أن مدينة "أبولوكس" هي في "بارئيا" أي في بلاد "الفرث"، وأنها تصدر اللؤلؤ والتمر الذهب ومواد أخرى إلى العربية السعيدة، وكانت تستورد بضاعة ثمينة منها كذلك، منها بضاعة من العربية الجنوبية ومنها بضاعة إفريقية الأصل، كما كانت تتجر مع الهند، فهي "ميناء البصرة" بالنسبة إلى العراق في هذا اليوم.
وفي الحرب الرابعة التي قام به "أنطيوخس الثالث" Antiochus lll" "219- 217 ق. م" اشترك في جيوشه زهاء "218" قبيلة عربية3. وفي الأردن هاجم العرب مدينة "ربة عمان" "فيلادلفيا"، ونهبوها4. وفي ابتداء سنة "217 ق. م" كان في جيش هذ الملك زهاء عشرة آلاف عربي بإمرة "زبديديلوس" "زابدايل" Zabdidelos، وهو اسم يظهر أن صاحبه كان عربيًّا، إذ هو "زابدايل" على ما يظهر، حرف فصار على هذا النحو، وقد اشترك العرب مع هذا الملك في حصاره لمدينة "غزة" كما اشتركوا معه في حربه الخامسة التي أججها في بلاد الشأم، حيث أشير إليهم أيضًا في معركة6 Magnesia.
وقد ذهب pirenne إلى أن الكتابة المعينية التي أمر بكتابتها كبير "مصران" "كبر مصرن" و "معين مصران" وسمها العلماء بـ Res 3022 وهي كتابة تشير إلى هذه الحروب التي نشبت بين "أنطيوخس الثالث" وخصومه البطالمة، وأدت إلى احتلال "غزة" سنة "217 ق. م" وترى من دراسة الكتابة المذكورة أنها تعود إلى ما بين سنة "22 ق. م" و "205 ق. م" وأن لفظة "مذي" التي تعني "الماذيين" "الميديين"، هي كناية عن السلوقيين الذين احتلوا بلاد "الميديين" وورثوا ملكهم منذ عهد الإسكندر7.

1 Skizze, II, S., 188, Gulf, P., 53.
2 Periplus Marls Erythraei, The Periplus of the Erythrean Sea.
3 Polyb., 5,70, Araber, I, S.; 74, 289
4 Polyb., 5, 71.
5 Araber, I, S., 74.
6 Araber, I, S., 77, 171.
7 Pirrenne, Paleographie des Inscriptions Sud-Arabes, (1956) , 211, Araber, I,vs.74.
وورد في الأخبار أن فرقة من العرب من ركبان الإبل، كانت في جيش "أنطيوخس" وذلك في حوالي السنة "190 ق. م"1. ويظهر أنها كانت تقوم بحماية حدود الدولة السلوقية وحفظها من غزو الأعراب لها، وبالحرب في الصحراء، ومساعدة الجيش السلوقي في البادية عند اضطراره إلى اجتيازها.
هذا ويلاحظ أن معظم القبائل كانت قد أيدت "أنطيوخس" ضد "بطليموس" والبطالمة الذين ورثوا القسم الغربي من تركة "الإسكندر"2. ولعل سبب ذلك هو أن ملك "أنطيوخس" لم يكن قد مس أرض العرب والأعراب، ولذلك لم يكن له إشراف مباشر عليهم يستوجب إثارتهم, أما البطالمة فقد كانوا يمتلكون أرضين، أصحابها عرب، وتعيش في أرضهم قبائل عربية، من قديم الزمان، ولذلك لم تستطع هضم "البطالمة" فأرادت التخلص منهم بالانضمام إلى منافسيهم وفي الجزء الشرقي من امبراطورية "الإسكندر".
ويحدثنا الكتاب "الكلاسيكيون" أن "بطلميوس ساطر"3 "322- 382 ق. م" أرسل جيشًا إلى "سلوقوس نيقاطور" "312- 280 ق. م" فخرج من مصر واجتاز "سيناء" إلى غزة، ومنها إلى "بطرا" فركب الجمال، وتمون بالماء، واجتاز البادية، فكان يقطعها بسرعة كبيرة ليلًا، لشدة الحرارة في النهار، إلى أن بلغ العراق4. أما البادية التي اجتازها هذا الجيش فهي بادية السماوة، وأما الطريق التي سلكها فهي الطريق المألوفة التي تسكلها القوافل، وهي من أهم الطرق الموصلة إلى العراق وأقصرها، وقد أرسل "سلوقس نيقاطور" Seleucus Nicator "ميكستينس" Magastenes إلى الهند5.
وكان "بطالمة" مصر أنشط من السلوقيين في مجال الاشتغال بالتجارة البحرية الجنوبية، والاستفادة من البحر، إذ وجهوا أنظارهم نحو البحار الجنوبية فأرسلوا بعثات استكشافية عدة لدراسة أحوال البحار والسواحل والشعوب، لتطبيق ما تتوصل إليه من معارف في مقاصدها العملية التي أرادت تنفيذها في تلك البحار, ولعل

1 Livius, XXXVII, 40, 12, Grohmann.. Arabian, S.; 23.
2 Polybius, V, 71, Arabien, S., 23.
3 "
بطليموس ساطر"، الطبري "1/ 703" "ليدن".
4 Hegaz, P., 216.
5 Montgomery P., 72.
لوضع مصر الجغرافي الممتاز الذي يكون قنطرة بين البحرين وسوقًا تلتقي به التجارات الآتية من الشمال ومن الجنوب، من أوروبة وحوض البحر المتوسط ومن السودان والحبشة وبقية أنحاء إفريقيا، ثم من جزيرة العرب والهند دخلًا في هذه الاهمتام بالبحر الأحمر وبالمحيط الهندي الذي أظهرته حكومة البطالمة، فقد سبقهم إليه قدماء المصريين ثم الفرس ثم الإسكندر، فإهتمامهم هذا هو في الواقع استمرار لتنفيذ تلك المقاصد القديمة المذكورة.
وأمر "بطلميوس الثاني فيلادلفوس" "285- 246 ق. م" "284- 247 ق. م"، بإعادة حفر القناة القديمة بين النيل والبحر الأحمر "المشروع" الذي بدأ به المصريون لربط البحرين وبتوسيع التجارة مع سواحل إفريقيا وسواحل جزيرة العرب والهند، وبتكثير الأصناف التي كانت تستورد من المناطق الحارة، وبذلك اتخذت تجارة مصر والبلاد العربية، وإفريقيا شكلًا لم تعهده من قبل1.
وذكر "ديودورس" أن آخر محاولة جرت لوصل البحر الأحمر بالنيل كانت في أيام "بطلميوس الثاني فيلادلفوس" حيث عزم على شق قناة منه إلى خليج السويس عند مدينة "أرسينو" Arsino، وقد أطلق على القناة التي أمر بشقها اسم "قناة بطلميوس"2. وقد شقت في حوالي سنة "269ق. م" كما حصنت المدينة بسور حصين لحمايتها من الغارات، وقد قصد بذلك غارات الأعراب الذين كانوا في الأرضين منذ أمد طويل3. ولعل هذا الملك هو الذي أرسل "أرستون" "أرسطون" Ariston للكشف عن سواحل البحر الأحمر من السويس إلى المحيط الهندي4، ولعله أيضًا الملك الذي ساعد أهل "مليتيوس"، وهم يونان أسسوا مستعمرة Ampelone / Ampelonaea في مكان ما من الساحل العربي، للبحر الأحمر وأمدهم برعايته, وهي مستعمرة أشار إليها الكتبة "الكلاسيكيون" والظاهر أنها واحدة من مستعمرات متشابهة، أسسها الروم على سواحل البحر الأحمر، لحماية سفنهم وتجارهم وامدادها بما تحتاج إليه من معاونة ومساعدة ولشراء ما يرد إليهم من بر جزيرة العرب.

1 O'Leary, P. 71. S.A. Huzayyin, Arabia and the Far East, P. 86.
2 Booth, P., 16.
3 Araber, I, S., 72.
4 Araber, I, S. 67, Tran, in: Journal of Egypt. Archeol., 15; (1929) ; 14.
وقد عاد "أرسطون" من أسفاره البحرية، فقدم تقريرًا إلى ملكه ذكر فيه قوم "ثمود" في جملة من ذكرهم من الشعوب ولعله أول إغريقي ذكرهم.
وفي أيام "بطلميوس فيلادلفوس" كذلك، أسست موانئ جديدة على سواحل البحر الأحمر، لرسو السفن فيها، وللمحافظة على الطرق البحرية من لصوص البحر، بلغت مداها جزيرة "سقطرى"1 Dioscorida.  حيث أنشئت فيها جملة مستعمرات يونانية, وقد بقي اليونانيون فيها عصورًا غير أن نزولهم فيها لا يدل على احتلالهم لها2، وفي أيام صاحب كتاب "الطواف حول البحر الأريتري"3 كانت الجزيرة على حد قول المؤلف في حكم "اليعزوز" Eleazus ملك "سباتا" Sabbatha، أي "شبوة"، ويدل هذا على أنها كانت تابعة للعربية الجنوبية، ويظهر أن "بطلميوس فيلادلفوس" قصد أيضًا الالتفاف حول السواحل العربية وضرب الفرس وإلحاق الأذى بهم، بأسطول كونه لهذه الغاية4.
وقد كانت جزيرة "سقطرى" "سقطرة"5 ذات أهمية في ذلك العهد، وإن فقدت أهميتها في الزمن الحاضر فلا يعرفها ولا يذهب إليها اليوم إلا القليل؛ وذلك لأنها كانت تنتج حاصلات لها أهمية كبيرة في أسواق العالم إذ ذاك مثل البخور والصير والصمغ وغير ذلك، وهي سلع لها قيمة، تشبه قيمة البترول في القرن العشرين؛ ثم لأنها محطة مهمة لاستراحة رجال السفن ومفتاح يؤدي إلى مغالق المحيط الهندي من جميع النواحي، ولما كانت السفن في ذلك العهد صغيرة، تسيرها الرياح، وليس في مقدورها أن تحمل مقادير كبيرة من الماء العذب والأكل، كان لا بد لها من الوقوف في منازل عديدة، ومنها هذه الجزيرة، التي يعني اسمها "جزيرة السعادة"، إذ يذكر الباحثون، أن تسميتها جاءتها من السنسكريتية "دفيبا سوخترا" Dvipa SUKHATARA  وهي تسمية إن صح أنها من هذا الأصل، فإنها تدل على صلة أهل الهند بها منذ عهد قديم6.

1 Dloscordla, Dloscorides, Dioscurias, Dioscora, William Vincent, The Periplus of the Erythvean Sea. Part the Second, London, 1805, P., 307.
2 O'Leary, P. 72, Vincent, II, P. 309.
3 Periplus of the Erythream Sea.
4 Vincent, II, P. 309, O'Leary, P. 72.
Stuhlmann, Der Kampf, S., 10.
5
مروج الذهب "1/ 335"
6 H. F. Tozer, A History of Ancient Geography, Camebridge, 1935, P. 138.
وأهلها خليط من عرب وروم وإفريقيين وهنود، يتكلمون بلهجات متداخلة، وهذا الاختلاط نفسه أمارة على الأهمية التي كانت للجزيرة في ذلك الزمن، وقد ذكر "ياقوت الحموي" أن أكثر أهلها نصارى عرب، وأن اليونانيين الذين فيها يحافظون على أنسابهم محافظة شديدة وقد وصلوا إليها في أيام الإسكندر، ويزعم بعض الأخباريين أن "كسرى" هو الذي نقل اليونانيين إليها، ثم نزل معهم جمع من "مهرة" فساكنوهم وتنصر معهم بعضهم1. وفي الروايات العربية عن الروم الذين بجزيرة "سقطرى" شيء من الصحة.
والذين يزورون هذه الجزيرة في هذه الأيام، يرون آثار ذلك الاختلاط وتشابك الشعوب والثقافات فما زالت الآثار النصرانية باقية فيها، تتحدث عن انتشار النصرانية فيها، وعن وجود جالية رومية، أنساها الزمن أصلها فدخلت في أهل "سقطرى"، وأخذت لسانًا جديدًا مزيجًا من ألسنة آرية وسامية وحامية، ولا يزال كثير من أهلها يسكنون الكهوف والمغاور ويعيشون عيشة بدائية، لانعزال الجزيرة عن بقية العالم.
لقد صرف البطالسة مجهودًا كبيرًا في سبيل السيطرة على البحر الأحمر، والتوسع في المحيط الهندي، وقد تابع البطالسة الذين خلفوا "بطلميوس الثاني فيلادلفوس" خطته في التوسع في السواحل الإفريقية وفي المحيط الهندي، وأخذوا يرسلون الرجال المغامرين إلى تلك الأماكن للكشف عنها بغية الوقوف على أحوالها والاستفادة مما يحصلون عليه في سياسة التوسع التجاري والسياسي، التي وضعوها للبلاد التي تقع في المناطق الحارة، وقد جمعت التقارير وكانت مهمة ولا شك، ووضعت في خزائن الإسكندرية، وقد وقف على بعضها الكتبة "الكلاسيكيون".
وقد أخرجت أيام البطالمة جماعة من المغامرين الإغريق جابوا البحر الأحمر وسواحله، ودخلوا بسفنهم المحيط الهندي حتى بلغوا الهند2. وغير أن تجارة الهند، والبحار، بقيت في الجملة في أيدي العرب، ولم يحاول البطالمة تغيير الوضع وتبديل الحال، وقد انحصرت كل محاولتهم في توجيه التجارة في الموانئ

1 البلدان "5/ 93" ويذكر المسعودي أن "أرسطوطاليس" هو الذي كتب إلى الإسكندر حين سار إلى الشرق يوصيه بهذه الجزيرة، وكان يحكمها ملوك الهند، فنزل اليونانيون بها، وأقاموا بها، وتنصروا بعد ذلك، وذكر أن بوارج الهند، تأتي إليها في أيامه، مروج الذهب "1/ 335" وما بعدها".
2 Strabo 15 1 4 Oleary p 73.
إلا أنها كانت تخضع لنفوذ البطالمة، وقد تأثرت مصالحهم كثيرًا، ولا شك بتدخل البطالمة في أمور البحر وبوضعهم اليونان في أماكن متعددة من الساحل لحماية سفنهم، ولاتجارهم مباشرة مع موانئ جزيرة العرب، حيث أثر ذلك على القوافل التجارية البرية التي كانت تحمل تجارات إفريقيا والهند، والعربية الجنوبية فتأتي بها على ظهور الجمال إلى بلاد الشأم مخترقة أرض النبط وبذلك تدفع لهم حق المرور.
ولم يتأثر النبط وحدهم بسيطرة البطالمة على البحر الأحمر، بل تأثر بهذه السيطرة عرب الحجاز والعربية الجنوبية كذلك، إذ أخذت سفن البطالمة تصل بنفسها وبحراسة السفن الحربية إلى الموانئ المشهورة، فتشتري ما تحتاج إليه وتبيع ما تحمله من سلع، وحرمت بذلك التجار العرب من موارد رزقهم التي كانوا يحصلون عليها من الاتجار بالبحر، وقد اضطر التجار العرب على ترك البحر للمنافسين الأقوياء وعلى الاقتصار على إرسال تجارتهم بطرق البر نحو بلاد الشأم.
ويظهر أن عرب البحر الأحمر، لم يكونوا يميلون إلى ركوب البحار وبناء السفن قبل أيام البطالمة وبعد، أيامهم كذلك، ولهذا فلم تكن لديهم سفن مهمة مذكورة في هذا البحر، ولم تكن لهم سيطرة عليه، بل يظهر أنهم كانوا يتخوفون من ركوب البحر، وفي المثل المنسوب إلى "أحيقار": "لا تر العربي البحر، ولا ساكن صيدا البادية"1، تعبير عن وجهة نظر عرب العربية الغربية وأعراب البادية بالنسبة إلى البحر، والتجارة البحرية.
وقد كان ميناء "أيلة" Ailana / Eloth في أيدي البطالمة في هذا العهد2.
وهو ميناء مهم ترسل منه تجارة فلسطين إلى موانئ البحر الأحمر وإفريقيا، كما كان يستقبل السفن القادمة من إفريقيا ومن المحيط الهندي، فهو إذن من الأسواق التجارية المعروفة في ذلك العهد.
لقد كان ميناء "لويكة كومة"3 Lueke Kome أي "المدينة البيضاء" من أهم الموانئ التجارية على سواحل الحجاز على عهد البطالسة، منه تتجه

1 Araber, 1, 70.
2 Araber, 1, s. 69.
3 Leuce Kome, Forster, 1, P. 220.
السفن إلى الساحل المصري لتفرغ شحنتها هناك، فتنقل إما بواسطة القوافل، وإما بالسفن من القناة المحفورة بين البحر الأحمر ونهر النيل لتتابع طريقها إلى موانئ البحر المتوسط1، وقد كان من موانئ النبط، ذكره "سترابون" في معرض كلامه على حملة "أوليوس غالوس" على جزيرة العرب، ففيه نزلت جيوش الرومان القادمة من مصر للاتصال بحلفائهم النبط2، ولا يعرف موضعه الآن معرفة تحقيق وإنما يرى بعضهم أنه "الحوراء"3. مرفأ سفن مصر إلى المدينة4. ويظهر أن "الحوراء" كان من المواضع الجاهلية القديمة وقد وجدت فيها آثار قصور.
ورأى "ونست" Vincent أن "لويكة كومة" هو "المويلح" في الزمان الحاضر5، وهي قرية بها بساتين ومزارع ونخيل، ومياهها من الآبار، لها طريق قوافل إلى المدينة وإلى تبوك 6. ورأى آخرون أنها "عينونة" أو "الحربية" وهي تابعة لإمارة "ضبا" على ساحل البحر الأحمر، وهي من إمارات الحجاز7.
ويظهر أن تجارة هذا الميناء كانت عامرة جدًّا، فكانت القوافل التي تنقل البضائع بين "بطرا" Petra وبين Leuce/ Kome /Leuke Kome ضخمة جدًّا حتى كأنها قطع كبيرة من الجيوش8. تقوم بنقل الأموال من الميناء إلى "بطرا" ومنها إلى الأسواق، أو بنقل التجارة الواصلة إلى "بطرا" من العراق أو الخليج أو اليمن، ومنها إلى ذلك الميناء لتصديره إلى مصر وحوض البحر المتوسط ويتبين من إهمال الكتب اليونانية أو اللاتينية ذكر هذا الميناء بعد الميلاد أن شأنه أخذ في الأفول منذ ذلك العهد، ولعل ذلك بسبب تحول خطوط سير السفن في البحر الأحمر بعد استيلاء الرومان على مصر، وإنشائهم أسطولًا تجاريًّا كبيرًا في

1 Vincent, II, PP.,230.
2 Skizze, 11, S., 46.
3 Forster, 1, P.,220.
4
البلدان "3/ 359"
5 Forster, II, P.285.
6
حافظ وهبة، جزيرة العرب "ص19".
7
فؤاد حمزة، قلب جزيرة العرب "ص72"، Hegaz, PP.,125.
8 Huzayyin, P.,112, Strabo, 16, 4,33.
هذا البحر قام بالاتجار مباشرة مع إفريقيا والهند ومصر، فلم تبق له حاجة إلى النزول في هذا الميناء.
وLeuce Kome / Leuke Kome اسم أعجمي بالطبع، ورد في الكتب "الكلاسيكية"، لا ندري أهو ترجمة لمسمى عربي، أم هو اسم حقيقي لذلك الميناء أطلقه عليه مؤسسوه في زمن البطالمة، أو قبل ذلك، وكانوا من اليونان، ولوجود خرائب عديدة على ساحل الحجاز "ترجع إلى ما قبل الإسلام، بها آثار يونانية ورومانية، لم تدرس دراسة علمية دقيقة، ولم تمسها أيدي المنقبين" لا يمكن القطع في موضع هذا الميناء وفي اسمه الحقيقي الذي كان يعرف به.
والميناء الآخر المهم الذي تاجر البطالمة معه، ونزل فيه رجالهم هو ميناء Muza / Mauza. وهو "مخا"، وهو ميناء قديم، وقد عثر على مقربة منه على كتابة وسمت بـ Ry 598 وقد قدر زمان كتابتها بحوالي سنة "300" أو "250 ق. م"1. وكان في أيام صاحب كتاب "الطواف حول البحر الأريتري" تابعًا لملك سماه Charibael ملك Sabbhar و charibael هو "كرب إيل" وكان ملكًا على "سبأ" ويستنتج من الكتاب المذكور أن حكم هذ الملك كان قد امتد على أرض Azania وعلى أرضين أخرى مجاورة لها في إفريقيا2. أي أن تلك الأرضين كانت خاضعة لحكام اليمن في ذلك العهد.
وتعامل البطالمة مع ميناء آخر يقع على السواحل العربية، هو ميناء  Arabeae Eubaemon، فكان تجارهم يأتون بسفنهم إليه، فيشترون من تجاره ما يحتاجون إليه، كما أنهم اتخذوه محطة للاستراحة وللتزود بالماء والزاد، وللقيام منه برحلات بعيدة إلى سواحل إفريقيا، أو الذهاب إلى الهند وهذا الميناء هو "عدن" الشهير، الذي لا يزل محافظًا على كيانه وعلى أهميته في العالم السياسي والحربي والاقتصادي، وذلك بفضل مكانه الحصين وإشرافه على المحيط في مكان مشرف على باب المندب مفتاح البحر الأحمر وعلى الساحل الإفريقي.
وقد كان هذا الميناء موجودًا ومعروفًا قبل البطالمة، بدليل اشتهاره عندهم

1 Araber, I, s. 133, J. Pirrenne In: Le Museon, 73, "1960", 6.
2 Araber, I, s. 133.
واتخاذه محطة لهم، ولكننا لا نعرف من تأريخه القديم شيئًا كثيرًا، وقد عثر فيه على كتابات بالمسند إلا أن العلماء لم يستطيعوا حتى الآن التحدث بشيء من التفصيل عن تأريخ عدن قبل هذا العهد1. وقد ازدادت عناية الغربيين به منذ حملة "أوليوس كالوس"، كما سأتحدث عنه فيما بعد.
ويرى بعض الباحثين أن ما ذكره بعض "الكلاسيكيين" من وجود مدن أو جاليات يونانية مثل Arethusa " أرتوسه" و "لاريسا" Larissa "وخلقس" Chalkis في بلاد العرب، وإنما يراد بها مواضع يونانية أقيمت في أيام "البطالمة" على الساحل الجنوبي لجزيرة العرب في مواضع لا تبعد كثيرًا عن "عدن" وقد بقيت حية عامرة إلى سقوط حكم "البطالمة" فضعف أمر تلك المستوطنات ولم يسعفها أحد من اليونان أو الرومان بالمساعدة فدمرت، دمرتها القبائل العربية الساكنة في جوارها2.
أما موضع "اتينه" Athene / Athenae attene الذي ذكره "بلينيوس" مع المواضع المذكورة فقد ذهب أكثر الباحثين إلى أنه "عدن" وهو موضع كان معروفًا، عند اليونان والرومان معرفة جيدة، وكانت سفن البطالمة تأتي إليه للاتجار.
وقد ذهب "تارن" W W Tarn إلى أن مستعمرة "أمبلونه" Ampelone وهي إحدى المستعمرات اليونانية التي أقيمت على ساحل البحر الأحمر، إنما هي مستعمرة أنشئت في أيام "بطلميوس الثاني"، وقد استوطنها قوم من أهل Miletos لغرض إبحار السفن منها إلى البحار الجنوبية واستقبال السفن القادمة منها3.
لقد أحدث دخول اليونان البحار الجنوبية من الخليج العربي، ومن البحر الأحمر احتكاكًا مباشرًا بين الثقافة اليونانية والثقافات الشرقية، وقد عثر على كتابات يونانية في مواضع متعددة من الخليج ومن السواحل الإفريقية تتحدث عن وجود اليونان في هذه الأماكن، فقد عثر على كتابات من أيام السلوقيين في جزيرة "فيلكا" وكتابات لـ"بطلميوس الثالث" "أورغاطس " Euergetes

1 Stuhlmann s 121.
2 Araber l s 121.
3 Araber s 70.
"247- 221 ق. م" في "أدولس" Adulis عند "مصوع"1، وعثر على نقود في مواضع متعددة من السواحل الجنوبية لجزيرة العرب والسواحل الإفريقية ومنذ هذا العهد دخلت المؤثرات الثقافية اليونانية إلى الحبشة وإلى مواضع أخرى من إفريقيا2.
وقد عثر في خرائب مدينة "تمنع" على كثير من الأشياء "الهيلينية" الأصل أو المتأثرة بالهيلينية: من تماثيل، وتحف فنية وفخار، وما شابه ذلك3. هي من نتائج التبادل التجاري، والاتصال الذي كان بين حوض البحر المتوسط والعربية الجنوبية, وقد ترينا الحفريات في المستقبل آثارًا أخرى تتحدث عن أثر الثقافة اليونانية في جزيرة العرب في نواح أخرى عديدة لم نتعرفها بعد.
وكان من نتائج دخول اليونان إلى الخليج العربي والبحر الأحمر، دخول النقود اليونانية إلى جزيرة العرب، وظهور دور ضرب السكة فيها. وقد عثر في مواضع من الجزيرة على نقود ضرب بعضها على طراز نقود "الإسكندر الأكبر" وضرب بعض آخر في أيام خلفائه، كما عثر على نقود محلية ضربت في العربية الجنوبية، وقد تبين من دراستها وفحصها أنها ضربت على الطريقة اليونانية، ويظهر الأثر اليوناني واضحًا فيها. وسأتحدث عن ذلك في الموضع الحاضر بالنقود.
هذا وقد كشفت جزيرة صغيرة من جزر الخليج العربي، هي جزيرة "فيلكا" من جزر الكويت عن بعض أسرارها التأريخية القديمة، فقدمت بعض الهدايا والعطايا لبعثة أثرية "دانماركية" نبشت الأرض في مواضع منها، وإذا بها تتحدث إليها بتحفظ وبحرص عن أيامها الأولى، في "العصور البرنزية" ثم في "العصور الحديدية: "ثم عن صلاتها بالعراق حيث نزل بها الأكاديون والآشوريون، وعن صلاتها بالجزر الأخرى مثل البحرين، وعن صلاتها بالفرس ثم باليونان في أيام "الإسكندر الكبير" وخلفائه، حيث نزل بها جنوده وقوم من أتباعه وأتباع من جاءوا بعده من حكام.

1 Stuhlmann S., 10.
2 Stuhlmann S., 10.
3 Boasoor 119 "1950" p., 6.
ويعود عهد النقود التي عثر عليها في هذه الجزيرة إلى هذا الزمن أيضًا فقد، وجد نقد ضرب في أيام "سلوقس الأول" باسم الإسكندر الأكبر حوالي "310- 300 ق. م" فهو لا يبعد كثيرًا عن أيام الإسكندر المتوفى سنة "323 ق. م" ووجد نقد ضرب في أيام "أنطيوخس الثالث" الذي حكم المملكة "السلوقية" ما بين "223" و "187 ق. م"1.
ولاكتشاف هذه النقود شأن تاريخي كبير؛ لأنها تشير إلى تدخل اليونان في أمور الخليج في هذا العهد، وحكمهم لسواحله العربية من "جرها" إلى جنوب العراق، كما أنها ستعين في التوصل إلى تثبيت تواريخ حكم السلوقيين لهذه المنطقة وسيكون لما سيكتشف من نقود في الكويت، أو في مواضع أخرى من الخليج، فائدة كبيرة في توسيع معارفنا بالسلطان الاقتصادي والسياسي للسلوقيين في هذه الجهات وفي تعيين صلاتهم بالشعوب العربية الساكنة على بقية ساحل الخليج وفي الأرضين البعيدة عن منطقة سلطان السلوقيين.
وبعد اكتشاف آثار الـ "اكروبولس" Akropolis وكذلك المعبد في جزيرة "فيلكا" التي هي جزيرة "ايكاروس" lkaros عند اليونان ذا أهمية كبيرة من ناحية دراسة الأثر الذي تركه اليونان في الخليج2.
أما في الساحل المقابل للجزيرة وفي الأماكن الأخرى من الخليج، فلم يعثر حتى الآن على مثل هذا المعبد اليوناني، أو البيوت اليونانية فيها، ولهذا لا نستطيع أن نتحدث عن أثر اليونان فيها، وقد يكون وجود المعبد والبيوت اليونانية في هذه الجزيرة بسبب إبقاء حامية الإسكندر فيها وسكناهم في الجزيرة وبقائهم بها بعد زوال حكم اليونان عن العراق، وقد اختار الإسكندر أو قواده هذه الجزيرة، لأهميتها من الوجهة العسكرية من حيث رسو سفن الجيش اليوناني بها وإمكان تأديب سكان السواحل منها وإخماد معارضتهم لليونان وتعقب "القراصنة" والهيمنة على مصب دجلة والفرات في الخليج والدفاع عن جنوب العراق. لم يتمكن السلوقيون من الهيمنة على الخليج والاتجار به؛ لأن حكومتهم في

1 تقرير "ص 16، 17 "، نقود يونانية من جزيرة "فيلكا" مطبعة حكومة الكويت.
2 Kuml 1959 236 238 Grohmann Arabien S 259.
العراق لم تكن حكومة قوية، ثم سرعان ما قضى عليها الفرس، فزال حكم اليونان عن العراق، أما في مصر، فقد قضى الرومان على حكم البطالمة، وانتزعوا الحكم منهم وورث الرومان اليونان في البحر الأحمر، وولوا أنظارهم نحو سواحله ونحو المحيط الهندي، على حين انتزع الخليج من الروم ومن الرومان، وصار بحرًا شرقيًّا، السلطان الأول فيه للعرب والفرس.
لقد كافح البطالمة أعمال اللصوصية "القرصنة" في البحر الأحمر، وأمنوا بذلك لسفنهم السير في هذا البحر، إلا أنهم لم يتمكنوا من السيطرة على العربية الغربية، ولم يتمكنوا من المساهمة مع العرب في الإتجار برًّا مع اليمن وبقية العربية الجنوبية، لقد كانت التجارة في أيدي العرب، وكان المهيمن على النهاية القصوى لهذه الطرق البرية "النبط" الذين تكتلوا في أعالي الحجاز، وكونوا لهم مملكة النبط، وأخذ نجمهم في الصعود منذ أيام "الإسكندر الأكبر" وقد ساعد في صعوده الحروب التي نشبت بين البطالمة والسلوقيين، فوجد النبط لهم فرصة مؤاتية فأخذوا يوسعون أرضهم، ويتقدمون نحو الشمال متوغلين حتى بلغوا أرضين تقع شمال "دمشق"1.
وأدت الحروب التي نشبت بين السلوقيين والبطالمة إلى تقدم القبائل العربية، وزحفها من الجنوب نحو الشمال، وزاد من توسعها تفتت مملكة السلوقيين وتقلص سلطانها، مما أفسح في المجال للقبائل بالنزوح بكل حرية إلى أرضين جديدة في العراق، وتكوين إمارات من قبائل متحالفة، كذلك أدى ضعف حكومة البطالمة إلى توسع القبائل العربية وتوغلها في طور سيناء وفي المناطق الشرقية من مصر الواقعة على الضفاف الشرقية لنهر النيل، مما حمل بعض الكتبة "الكلاسيكيين" على إطلاق لفظة "العربية" عليها دلالة على توغل القبائل العربية فيها بالطبع2.
وإلى عهد البطالمة ترجع الكتابات العربية المدونة بالمسند التي عثر عليها في الجزيرة بمصر. وقد كتبت في السنة الثانية والعشرين من حكم بطلميوس بن بطلميوس، ويصعب تعيين زمان هذه الكتابة وزمان بطلميوس بن بطلميوس

1 Araber l S 5 F.
2 Araber l s 6 f.
الذي في أيامه كتبت؛ لأن هنالك عددًا من البطالمة حكموا أكثر من اثنين وعشرين عامًا، فأيهم المقصود؟ ويرى "وينت" F V Winnet أنها لم تكتب على أي حال بعد سنة "261 ق. م"1، وعثر على كتابات أخرى في موضع "قصر البنات" على طريق "قنا" وفي منطقة "أدفو"2.
ووجود كتابات المسند في مصر يدل على الصلات الوثيقة التى كانت بين العربية ومصر.
وقد دوّن إحدى هذه الكتابات رجل اسمه "زد ال بن زد" "زيد ال بن زيد" "زيد ايل بن زيد" من "آل ظرن" "آل ظيران" وقد كان كاهنًا في معبد مصري، وقد اعترف بوجود دين عليه وواجب هو تزويد "بيوت آلهة مصر" معابد آلهة مصر" ابيتت الالت مصر" بـ "المر والقليمة" "امرن وقلمتن"، ويقصد بـ"قلمتن" ما يقال له: Calamus في الإنكيلزية وKalmus  في الألمانية، ويراد به ما يقال له قصب الذريرة أو قصب الطيب وقد عبر عن لفظة "ورد" واستورد بلفظة "ذ سعرب".
وذكر أن ذلك كان في عهد "بطلميوس بن بطلميوس"، "بيومهر ثلميث بن تلميث" أي "بيوم أو بأيام بطلميوس بن بطلميوس"، وقد عبرت عن لفظة "بطلميوس" بـ "تلميث".
وقد استحق عليه تسديد الدين، وصار نافذًا في شهر "حتحر" وعبر عن ذلك بهذه الجملة: "ويفقر زبدال بورخ حتحر" و"فقر" بمعنى أصبح مستحقًّا نافذًا، ومعنى الجملة: "واستحق تسديده على زيد ايل بشهر حتحر" وقد وفى بذلك دينه، لكل معابد آلهة مصر. وقدمت إليه في مقابل ذلك، وربما على سبيل المقايضة، أنسجة وأقمشة أو أكسية بز "كسوبوص"

1 BOASOOR, Number, 73, 1939, P., 7.
2 BOASOOR, Number 7S, 1939, P. 7, Le MusSon, LVH; 1-2; (1949) ; P. 56; A. E. P. Welgall, Travels in the Upper Egyptian Deserts, London, 1909, P. 1 IV, Fig., 13; 14; H. Winkier, Rocfcdrawings of Southern - Upper Egypt, I, London, 1938, P. 1, 4, Rhodokanakls, in Zeitschrift fur Semitlstik, Bd. 11; 1924, S. 113, Schwartz, Die Inschriften des Wilstentempels von Redesiye, in: Jahrbuch fur Klasslsche Philologie, Bd., CLITT, 1896, S. 157.
أخذها إلى سفينة تجارية، ربما كانت سفينته، وقد أخذ عليه عهد واعترف مقابل ذلك بالدين الذي عليه وبوجوب تسديده عند استحقاقه لمعبد الإله "أثر هب" "أثر هف" ويقصد بذلك الإله  Osarapis، وذلك في شهر "كيحك" من السنة "خرف" الثانية والعشرين من حكم الملك "بطلميوس بن بطلميوس".
وقد ذهب "رودو كناكس" ناشر النص إلى احتمال كون "زيد ايل" كاهنًا في معابد مصر، ولو كان من أصل غير مصري، فقد كان المصريون تساهلوا في هذا العهد -كما يرى- فسمحوا للغرباء بالانخراط في سلك الكهان وخدمة المعابد، وتساهلوا مع "زيد ايل" هذا فأدخلوه في طبقة "أويب" Ueeb وانتخبوه كاهنًا، ليضمن لهم الحصول على المرور والقليمة بأسعار رخيصة، لاستيراده إياها باسمه ومن موطنه مباشرة من غير وساطة وسيط1.
وقد ذهب "رود كناكس" أيضًا، إلى أن "زيد ايل" كان يستورد المر والقليمة لا لحسابه الخاص ومن ماله، بل لحساب المعابد المصرية، ومن أموالها، فلم يكن هو إلا وسيطًا وشخصًا ثالثًا يتوسط بين البائع والمشتري، يشتري تلك المادة ويستوردها باسمه، ولكنه يستوردها للمعابد ولفائدتها، وهو لا يستبعد مع ذلك احتمال اشتغاله لنفسه وعلى حسابه في التجارة، يستوردها ويبيعها في الأسواق ويتصرف بالأرباح التي تدرها كما يريد، وهو لا يستبعد أيضًا احتمال مساعدة المعابد له بتجهيزه بالمال لتقوية رأس ماله، أو انتشاله من خسارة قد تصيبه.
وقد أصيب هذا التاجر، كما يظهر من هذا النص، بخسارة كبيرة في شهر "حتحر" ربما أتت على كل ما كان يملكه، فهبت المعابد المصرية لإنقاذه، وإعادة الثقة به، بإسناده بتقديم أكسية البز "بوص" إليه، وقد أخذها وصدرها في سفينته التي يستورد بها المر والقليمة إلى الأسواق، فربح منها، واستورد المر والقليمة وأعاد إلى المعابد ما أخذه منها من تلك السلعة، وأدى

1 Zeitschrift fur Semitistik und verwandte Gebiete, Band, 2, 1924, s. 116
ديونه في شهر "كيحك"، وقد أعادت إليه الثقة به، وأنقذ من تلك الضائقة المالية التي حلت به، بمدة قصيرة لا تتجاوز شهرًا كما يرى ذلك "رودو كناكس"1.

1 N Rhodokanakis, "Dte Sarkophaginschrift von Glzeh", Zeischrltt tax Seml-tlstik, 11, (1923) , S. 113, Zeitschrift ftir Semltlstik und Verwandte Geblete, 11, 1924, S. 113, Tarn, In: Journal of Egypt. Archeol., 15, (1929) ; 20 Beeston; in: Journal Roy. Asiat. Soc, Gesch. der Hellenist. Welt, 1955, 1, 300, 3, 1172; Araber, 1, S., 70