الاثنين، 31 يوليو 2017

الريبيّة الملَطَّفة عند هيوم؛ موسى وهبه، تقديم الدكتور جمال نعيم.



الريبيّة الملطّفة.

الرّيْبِيّة المُلَطَّفة، عنوان المقطع الأساسيّ من تقديم موسى وهبه لترجمته كتاب هيوم، مبحث في الفاهمة البشريّة، حيث تضمَّن هذا التقديم أيضًا، معالم في سيرة هيوم وهذه الترجمة.
والنص الذي نقوم بنشره نصٌّ قصير، لكنّه يُوضح، بدقة، إسهام هيوم في الفلسفة، وتحديدًا في الفلسفة الأمبيرية، وفي الفلسفة الانجليزيّة بعامة، وهو إسهام فَعَلَ فِعْلَه في تاريخ الفلسفة، وما زال، بحيث قال عنه كنط:" لقد أيقظني هيوم من سباتي".
د. جمال نعيم


الريبيّة الملطّفة
بقلم موسى وهبه

-1-
يرتبط اسم هيوم، في تاريخ الأفكار، بنقد مبدأ السببية وتفكيك فكرة الاقتران الضروري. وذلك ما يشكل إسهامه الرئيس في تنامي الفلسفة الأمبيرية الإنكليزية وبلوغها أوجها.
والأمبيرية تسمية تطلق على مذهب في المعرفة ينطلق من تقرير أنَّ الخبرة الحسية هي المصدر الوحيد لما نعلم، وذلك في مواجهة المذهب العقلاني القائل باستناد ما نعلم عن العالم وعن أنفسنا الى " الأفكار الفطرية" و"مبادىء الذهن" القبلية.
ويستند المذهب " المعرفي" ذاك الى رذل أيّ دعوى بعلمان ما يتعدى الخبرة والتجربة، وأيّ كلام عقلاني عليه، أي الى رذل ما يسمّيه "الميتافيزيقا" مورثًا بذلك لبْسًا سوف يتناقله العصر اللاحق ولن يبدّده التنبيه الكنطي نفسُه.
فالأمبيرية، مع هيوم بخاصة، تخرج الكلام على "الكائن بما هو كائن" والبحث عن " العلل الأولى" من دائرة التفلسف، وتنهي نقد الأُفهوميْن " سبب وجوهر"، فتسم الفلسفة الحديثة، على ما يذكر مؤرخو الأفكار، بمَيْسم "نسيان" السؤال عن الكون والانهمام بالسؤال: ما المعرفة؟ وكيف نعرف؟ وتنهي النظر الى الذات بوصفه جوهرًا مفردًا وتستبدله بالنظر إليه بوصفه مجرّد صَبْدجيكْت (subject ) للمعرفة، أي ما عليه تحمل المعرفة وإليه تسند().
- 2 -
ويتوسل هيوم في عرض آرائه والدفاع عنها التحليل السيكولوجي النقدي لـ " الأفكار المجردة" المستند الى حصر إدراكات الذهن في صنفين: الانطباعات والأفكار. وهو يوضح ذلك بالقول: "أعني ... بلفظ انطباع كل ما هو أكثر حياة في إدراكاتنا حين نسمع ونرى ونلمس ونحب ونكره ونرغب ونريد. وتتميز الانطباعات من الأفكار التي هي ما هو أقل حياة في إدراكاتنا وما نعيه عندما نفكر بأي من الإحساسات " تلك.
​أما الأفكار فليست سوى نُسخ عن الانطباعات : سواء كانت ذكريات عن انطباعات سابقة أم استباقات للمخيلة عما سنحس به؛ فلا تبلغ البتة قوة الانطباعات وحيويتها. وهذا يعني أنه لا يمكن إثبات صواب الأفكار ومدلولها إلا بالصلة مع الانطباعات التي عنها صدرت.
​وهذا الكلام ينطبق بخاصة على الأفكار البسيطة. أما الافكار المركبة التي هي حصيلة عمل الذهن فيمكن أن تكون مركبة من أفكار بسيطة وفقًا لقوانين تداعٍ معروفة مثال "مكتب المدير"، أو تكون ناتجة لفعل التفكير والمخيلة والعادة مثال أفكار " الله" و"المكان والزمان" والضرورة السببية".
- 3 -
​ويتم عمل الذهن بدءًا، استنادًا الى مبادىء ثابتة في تداعي الأفكار هي: "التشابه، والتجاور في الزمان أو في المكان، والسبب أو الأثر... فاللوحة تذهب بأفكارنا، طبيعيًّا، الى الأصل؛ وذكر المنزل في المبنى يؤدي، طبيعيًّا، الى التحرّي عن المنازل الأخرى أو الكلام عليها. وإذا ما فكّرنا في الجرح نكاد لا نستطيع الامتناع عن التفكير في الألم الذي يليه".
وإذا كان التداعي يعني انتقال الذهن مما هو معطى في إدراكي الحاضر وما هو غير معطى وفقًا للمبادىء الثلاثة، فإنّ علاقة السبب بالأثر تستدعي انتباهًا خاصًّا؛ فهي تتضمن بدءًا علاقة تجاور في الزمان والمكان وعلاقة تتالٍ، إذ نفرض، حين يكون السبب والأثر متباعديْن، حلقات وسيطة تصل ما بينهما لتجعلهما متجاوريْن. لكنَّ التجاور ليس السببية؛ فهذه تتضمن، إضافةً، اقترانًا ضروريًّا بين السبب والأثر: إن وجد الأول فلا بد أن يحصل الثاني. فما هي طبيعة هذه الضرورة ومن أين أتت؟
​ترى العقلانية أن هذا الاقتران ضرورة منطقية وأنَّ السَّبب يتضمن العلَّة الكافية للأثر. لكنَّ هيوم يرد بالقول: إن الملاحظة لا تفيدنا قط بفكرة الاقتران الضروري. ويبيِّن هيوم موسِّعًا أنه لا يمكن أن نستدل، قبليًّا، من السبب على أيِّ أثر، وأنَّ التتالي تعلمنا به الخبرة والتكرار، وأنَّ الاعتقاد بضرورة حصول الأثر عن السبب هو شعور يرسخه في الذهن التكرار والتعوّد وحسب.
- 4 -
​إنّ عدّ الضرورة، وهي العلامة العقلانية الأوثق للحقيقة، مجرَّد شعور يرسخه التَّكرار والتعوُّد، كفيل بزعزعة وثوقية البنيان العقلاني بأسره. ولعلَّ ذلك ما قصده كنط عندما قال: "لقد أيقظني هيوم من سباتي الدغمائي".
​إلا أن رد الضرورة الى التعوُّد لا يفتح الباب نهائيًّا على المجهول عند هيوم؛ فصحيح أنه لم يعد ثمة من مطلق نستند اليه؛ فلا حقيقة مطلقة ولا أخلاق مطلقة ولا ضرورة مطلقة بل مجرد انطباعات وأحاسيس وأفكار واعتقادات، إلا أن ثمة قدرة أصلية للطبيعة بحيث لا تتضمن أي مصادفة على ما تعلمنا به التجربة، بل هي تظهر، على العكس، انتظامًا يجعلنا قادرين على التنبُّؤ بكثير من الأحداث باحتمال صدق يكبر ويصغر تبعًا لحالات التكرار.
إنّ القول: " الشمس ستشرق غدًا " هو مجرد فَرْض ولا يمكننا الإتيان بأي إثبات يقيني له. هذا صحيح، لكن من ذهاب العقل أن لا نصدقه وأن لا نتصرف بموجبه. وتصديقنا له هو لازم بما يكفي لممارسة الحياة اليوميَّة.
​ذاك ما يُسمَّى بالرَّيْبيَّة الملطّفة. فهيوم يجعلنا نرتاب بكل نظرية ورواية لا تثبتها التجربة، ويدعونا الى الإقرار بجهلنا طبيعة الأشياء والاقتران الكمن بين الأحداث، وبعجزنا عن اختراق أسرار إوالية هذه الماكينة الكبرى التي تسمّى العالمين.
​لكن هيوم يرى، في الوقت نفسه، أن هذه الشكوك الميتافيزيقية لا تطاول الحسَّ العام، وأن ضرورات الحياة العملية تكنس كل الشكوك المفرطة، وأنه ليس من الممكن الاستمرار في الشك المنهجي حيث يقتضي التصديق، بل المطلوب الأقصى هو عدم قبول التفسيرات التجريدية والخروج من الكسل الذهني الناجم عن الركون الى ما تعودّنا عليه.

(موسى وهبه)


«اللاشعور» ما قبل فرويد وما بعده ؛ محسن المحمدي – باحث مغربي






«اللاشعور» ما قبل فرويد وما بعده


محسن المحمدي – باحث مغربي


حينما ينفجر مفهوم في لحظة تاريخية محددة وفي حقل معين، فإنه لا ينبثق فجأة وبشكل مباغت، بل يكون قد تم الإعداد له على نار هادئة. بمعنى آخر نقول إن المفهوم ليس شيئاً يسقط كوحي على عقل عبقري نحته وأطلقه للوجود، بل هو يتشكل في مرجل التاريخ، بحيث نجد له جذوراً وأصولاً مهدت له وأسهمت في إخراجه إلى حيز الوجود، أو لنقل بكلمة أوضح، إن كل مفهوم هو بالضرورة كائن تاريخي. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن انطلاق المفهوم وتشكل دلالته واحتلاله موقعاً وحيزاً في عقول المفكرين، لا يعني أن الأمر انتهى وتم إغلاقه. بل العكس هو الذي يحدث، إذ يأخذ الأمر مساراً آخر. فيتشتت المفهوم كشظايا تصيب ميادين وحقولاً معرفية أخرى، ليكتسب، في النهاية، دلالات مختلفة عن المعنى الأصلي للحقل الذي انفجر فيه أول مرة. إن المفهوم إذن، له لحظة انطلاق تكون عبارة عن وعي كامل بدلالاته وصلاحياته للفهم والتفسير. لكن هذا المفهوم ليس مبتوراً، بل متجذر في الماضي، وله إرهاصات سابقة عليه سمحت بظهوره، وفي الوقت نفسه، له امتدادات في المستقبل، بحيث يجري توظيفه في مجالات متعددة، فندخل في ما يمكن أن نسميه: حقبة هيمنة المفهوم وسيطرته على العقول.
ولكي لا يبقى كلامنا فضفاضاً وعاماً، ولفهم أدق لحركية المفهوم وتجواله وانتقالاته، سنأخذ نموذجاً تمثيلياً هو مفهوم «اللاشعور» الذي شغل بال الفكر المعاصر في القرن العشرين. وسنعتمد بالأساس، على دراسة قام بها الدكتور عبد الرزاق الدواي بعنوان «مفهوم اللاشعور… نماذج من انتقالاته في الفكر المعاصر»، التي جاءت ضمن كتابه «حوار الفلسفة والعلم والأخلاق» شركة المدارس الدار البيضاء، 2004. هنا تفاصيل ذلك:
* ما قبل فرويد
إن كل من يسمع كلمة «اللاشعور»، يستحضر في ذهنه مباشرة، الطبيب والمحلل النفسي الشهير سيغموند فرويد (1856 – 1939). وحقاً، هذا الرجل هو من أعلن بوضوح، تأسيس فرع جديد في علم النفس، جاعلاً اللاشعور النفسي مركزَه. كما طور منهجاً متميزاً للكشف عن تجلياته، وكذلك بعض التقنيات لعلاج الاضطرابات النفسية التي تسببها رواسب اللاشعور. لكن على الرغم من كل ذلك، ففي حقيقة الأمر، نجد أن مفهوم اللاشعور لم يظهر بهذه الفجائية في حقل محدد هو التحليل النفسي. بل نجد له تمهيدات في الفلسفة الأوروبية خلال القرن التاسع عشر. ففكرة أن هناك مضمرات وقوى خفية نفسية غائرة وغائبة متحكمة في وعي الإنسان، كانت رائجة، خصوصاً عند الفلاسفة الألمان الذين نبهوا إلى وجود قوى مجهولة وعارمة لها السيادة على السلوكيات الإنسانية، وغالباً ما نسبوها إلى الجانب العضوي الفسيولوجي لدى الإنسان.
وإذا ما أخذنا الفيلسوف والتربوي وعالم النفس الألماني فريدريك هربارت (1776 – 1841)، سنجد أن ظاهرة «اللاشعور»، بل حتى فكرة «الكبت»، كانت متداولة في كتاباته، وإن لم ترقَ إلى مستوى الاستخدام الفرويدي، لكنها كانت مقدمة أولية شكلت اللمسات الممهدة للتحليل النفسي. لقد كان هربارت يرى أن وحدات النفس البشرية وظواهرها، هي «تمثلات» بينها تعارض وصراع يؤدي إلى إقصاء واحدة على حساب الأخرى. بعبارة أخرى، خلال سيرورة الصراع النفسي بين التمثلات، تطغى أفكار وتظهر على سطح «الشعور»، وفي الوقت نفسه، تكبح أخرى، أي تكبت وتقذف في أعماق «اللاشعور». أو لنقل إن هربارت، يرى للتمثلات اتجاهين؛ اتجاه صاعد إلى مستوى الشعور واتجاه نازل إلى مستوى اللاشعور. فيمكن الحديث عن تمثل مستقر في الشعور إذا كان واضحاً ومتميزاً. وبالعكس، يمكن الحديث عن تمثل مستقر في اللاشعور، إذا كان مكبوحاً أو مكبوتاً أي غامضاً. ولعل العارف البسيط ببعض أفكار فرويد، يتبين له كم أن هربارت له السبق بل الفضل في نشأة أهم مفاهيم المشروع الفرويدي، ونقصد «اللاشعور» و«الكبت».
وفي الحقيقة ليس هربارت وحده من تشكلت عنده النواة الأولى لفكرة اللاشعور، بل نجدها عند كثير من الفلاسفة الذين آمنوا بوجود قوة لا شعورية محركة للعالم، نذكر منهم فريدريك هيغل (1770 – 1831)، بفكرته عن «المطلق» كروح محركة للتاريخ، وكذلك شوبنهاور (1788 – 1860)، بفكرته عن «الإرادة» كقوة مجهولة وعارمة وغير معقولة هي مبدأ الوجود. وأيضاً هارتمان (1842 – 1906)، بكتابه «فلسفة اللاشعور»، حيث يجعل من اللاشعور روحاً كونية تسري في كل شيء. ولنقف عند شوبنهاور تحديداً، نظراً لاعتراف فرويد بتأثيره.
تقول أطروحة شوبنهاور إن «العالم المرئي يخفي تحته عالماً أكثر حيوية وأكثر دفقاً. فالحفر تحت السطح سيكشف لنا عن حقل من القوى والغرائز العمياء، وهي دوافع بمثابة سراديب لا واعية. تظهر في الطبيعة الخام كقوة الجاذبية مثلاً، وتظهر كقوة حيوية لدى النباتات والحيوانات، وتظهر عند الإنسان في إرادة بقائه التي ليست بقراره أبداً». هذه الأفكار الداعمة لوجود أعماق لا شعورية، جعلت فرويد نفسه يعترف بسبق الرجل (الفلسفي طبعاً) إذ نجده يقول: «لقد بقيت أعتبر هذه الفكرة (يقصد فكرة الكبت)، جديدة وأصيلة إلى اليوم الذي أطلعني فيه أوتو رانك (تلميذ وزميل لفرويد)، على صفحات من كتاب شوبنهاور (العالم كإرادة وتمثل)، يعرض فيها الفيلسوف تفسيراً لظاهرة الجنون».
وفعلاً، عندما نقرأ بعض نصوص شوبنهاور، نكتشف لمسات واضحة لآلية الكبت التي تتوافق وما قدمه فرويد في نظريته، ومن أمثلة ذلك، نذكر قول شوبنهاور: «عندما تستيقظ فينا بكيفية فجائية إحدى الذكريات الماضية القاسية والمؤلمة، فإننا غالباً ما نعمل على استبعادها في الحين، بطريقة تكاد تكون آلية: إما عن طريق التلفظ بكلام مبهم، وإما بإتيان بعض الإشارات. ونحن نتوهم أننا بهذه الطريقة تمكنا من التخلص منها وإقصائها تماماً».
إننا نعلم أن فرويد يعطي أولوية هائلة للجنس لفهم بعض سلوكيات الإنسان. ولهذا نجده يشير مرة أخرى إلى شوبنهاور باعتباره من الأوائل الذين نبهوا إلى ذلك. فهو بيّن أهمية الغريزة الجنسية، باعتبارها إرادة للبقاء، في شرح كثير من الأشكال السامية من العواطف والعفة والطهارة.
وقبل مغادرة شوبنهاور، لا ينبغي نسيان أن هناك نقطة التقاء أخرى له مع فرويد، تتجلى في إعطاء الأولوية للجسد على حساب العقل، وله قول مأثور في ذلك: «إن الإرادة (يقصد بها الجسد كموطن للغريزة) هي السيد، أما العقل فهو مجرد عبد». فنحن بحسب شوبنهاور، لا نريد شيئاً لأننا وجدنا له أسباباً، بل نحن نجد أسباباً له لأننا نريده. فالعقل مجرد مخطط ومبرمج وباحث عن الاستراتيجيات لبلوغ الرغبة. فهو خادم طيع في يد إرادة البقاء. وهذه كما نعلم، هي خلاصة فرويد الذي أكد أكثر من مرة، أننا مجرد كائنات غريزية مفعول بها، وما يبدو من فاعلية لدى الإنسان، هي، في الحقيقة، مجرد أوهام.
* اللاشعور بعد فرويد
بدأ مفهوم «اللاشعور»، كما رأينا، كحدس وكتأمل فلسفي، في القرن التاسع عشر، ليستقر كتصور واضح في التحليل النفسي، مع مؤسسه فرويد، بل سيصبح اللاشعور وفرويد، وجهين لعملة واحدة. إلا أن هذا المفهوم سيتعرض لتغير دلالي، وسيسافر من عالم النفس ليستغل ويستثمر بطرق متعددة. وهذا ما حدث مثلاً، مع المدرسة البنيوية التي خرجت من اللاشعور النفسي، الذي يحيل إلى الرغبة والكبت والدوافع الغريزية، نحو اللاشعور البنيوي، أي البحث عن البنية العقلية المشتركة المتحكمة في التفكير. فكل طفل يحمل منذ ولادته الرصيد الكلي للإمكانيات أي البنيات الذهنية الأولية. وهذا ما حاول كلود ليفي ستروس (1908 – 2009) تأكيده، معلناً أن أشكال الثقافات البشرية تصدر عن الأصل نفسه، أي عن إمكانيات لا شعورية لعقل بشري له هوية ثابتة دوماً. فالطبيعة البشرية الخام، هي رقعة الشطرنج، لكن هناك صيغاً من اللعب لا تنقطع هي الثقافة. باختصار، يريد ستروس بإنتروبولوجيته البنيوية، أن يثبت أن الفكر قد بدأ بالطبيعة قبل الإنسان، ومن ثمة نحن نشتغل وفق برمجة سابقة علينا. وهذا ما سمح له بأن يعلن أن الحرية محال، وسقف إمكاناتنا محدد ومؤطر سلفاً. ولنقل إن هناك لا شعوراً بنيوياً متحكماً في الاجتماع البشري.
وبالطريقة أعلاه، سيوجه الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو (1929 – 1984)، مفهوم «اللاشعور» وجهة معرفية، بنحته مفهوم «الإبستمي»، ويقصد به ذلك النظام الخفي المستثمر بصمت أثناء الممارسة العلمية، الذي يحدد شروط المعرفة في حقبة تاريخية معينة، التي بمقتضاها يعترف لخطاب عن الأشياء بأنه الحقيقة، فهو نظام لا أحد يفكر فيه ولكن يخلق شروط التفكير. ولقد استخدمه فوكو بمرادفات متعددة، كالنسق، والبنية، وفضاء للتنظيم والأرضية الإبستمولوجية، وشروط الإمكان وأوليات تاريخية. وكلها تجمع على معنى واحد، هو أن هناك «لا شعوراً معرفياً»، أي ذلك المستوى المتخفي والعميق، وتلك الطبقة التحتية التي تشكل شروطاً قبلية لإنتاج المعرفة في زمن ما. وهو ما عبر عنه أيضاً، الفيلسوف توماس كون (1922 – 1996) بـ«الباراديم»، وهو مفهوم يدل على النموذج الموجه أو الإطار النظري والأساس المضمر الذي يسمح بطرح المشكلات وطرق حلها عند متحد علمي ما. بعبارة أخرى فـ«الباراديم» يعني مجموع القواعد والمسلمات والمفاهيم والأدوات التي يتحرك من داخلها العلماء. فالعلماء ينظرون إلى الواقع بعين هذا «الباراديم». فهو بمثابة الخلفية التي تسمح برؤية دون أخرى. ولنقل ببساطة، إن العلماء يشتغلون وفق لا شعور معرفي.
نخلص إلى أن المفاهيم ليست ملقاة أو جاهزة أو نتاج عبقرية معينة، بل هي لها تاريخ وجذور. تبدأ حدسياً وتأملياً، ثم تتضح وتنجلي مع مرور الوقت في حقل محدد. لتنتقل بعد ذلك، إلى بقية الحقول وإن بدلالات مختلفة، إذ تكسو المفاهيم طبقات جديدة من المعاني، تجعلها أكثر إجرائية. لهذا نقول لمن يجمد المفاهيم، إنه يسير عكس المنحى الطبيعي للأشياء. فليتدبر.


الأحد، 30 يوليو 2017

الأفكار الأساسية لفلسفة القرن العشرين؛ جان ميشيل بيسنييه. (مترجمة عن مجلة "علوم إنسانية" الفرنسية)





الأفكار الأساسية لفلسفة القرن العشرين
جان ميشيل بيسنييه



تميزت الخمس والعشرون سنة الأخيرة بأزمة لحقت بفلسفات التاريخ، وبإعادة نظر [جذرية] في العقل الحديث. وهكذا أصبح البحث عن حكمة وعن فلسفة إنسانية مندمجة في الطبيعة تيمات مركزية في الفكر المعاصر. ولئن ظهر أن هذه القضايا ذات أهمية، فإنها ليست بالضرورة متوافقة: فليست كل حكمة تنتهي إلى النزعة الإنسانية، كما قد تكون الطبيعة حاملة لفكر ميتافيزيقي. ساد الاعتقاد، ولفترة طويلة في كون الأفكار الفلسفية تمثل تاريخا منسجما.
وقد نظمت الفلسفة الهيجيلية هذا الاعتقاد الذي ما يزال يشكل إلى اليوم القاعدة الأساسية للثقافة الجامعية. فحسب هيجل، تندرج الأفكار في مسلسل واحد يسير نحو كشف المنطق نفسه الذي يحرك هذه الأفكار ويجمعها. وهكذا، يظهر وكأن الإنسانية لم تفكر قط في شيء ولم يكن [إلا وكان] ذلك التفكير سببا في تحررها، بما أن [لأن] التفكير يعني، قبل كل شيء، التحرر من حتميات الطبيعة والوصول إلى تحقيق الوعي بالذات.
سترفض النظرية الماركسية خاصية الاستقلال هاته المضفاة على تاريخ الأفكار، وذلك بردّها النشاط الفكري إلى مجرد انعكاس لشروط وجود الناس المادية. لكن رغم هذا الرفض، ظل الاعتقاد في حركة الروح وتقدمها سائدا. لم تعد، ربما، الأفكار بعد ماركس محركا للعالم. لكنها ظلت مع ذلك نورا تستدل به على طريقها نحو الفعل. إذ أن النظرية الماركسية ظلت مدينة لتلك الأفكار بكشفها للبروليتاريا جوهر مهمتها التاريخية. لكن الإحباط الذي نتج عن الكوارث التاريخية للقرن العشرين أصاب في مقتل ثقة الفلاسفة في قوة الأفكار. وهو الأمر الذي وجدت الفلسفة نفسها معه مجبرة على تبرير ماضيها المثالي وبالتالي إعادة النظر في أسسها. وهكذا توجهت أهم الاعتراضات والمساءلات في السنوات التي تلت الحرب العالمية، صوب هيجل.
فمن ألكسندر كوجيف* مرورا ببول ريكور* إلى ميشيل فوكو*، كانت مسألة الانفصال عنه(1) هي مركز الاهتمام. وتظل أزمة المعنى  (La crise du sens)، التي يسعى الفلاسفة اليوم جاهدين لتدبيرها، مرتبطة بالتعليق على أعماله، وهو التعليق الذي يتخذ أشكالا مختلفة:
فهذا ألكسندر كوجيف يدعو إلى العودة إلى هيجل،
 وميشيل فوكو يدعو، كنيتشه*، إلى رفضه،
 أما بول ريكور فيدعو بكل بساطة إلى نسيانه.
 وهؤلاء أتباع كانط* وهوسرل* ينادون بضرورة العودة إلى الوعي المشترك وبيان طاقته في معرفة الأشياء.
 وهؤلاء أتباع هيدجر* يجتهدون في الكشف عن شكل جديد لإدراك الوجود والعيش في العالم. وآخرون غيرهم ملتفون حول موريس بلانشو* أو فيليب سولير* يطمحون إلى تجاوز الفلسفة بالكتابة الأدبية أو بالالتزام الثوري.
 وأخيرا جاك دريدا* والتجريبية المنطقية يعلنون عن حلول الموعد “لتفكيك” الخطاب الميتافيزيقي أو إخضاعه للتحليل المنطقي ولمستلزمات العلم. وقد مثلت هذه التوجهات أهم تيارات الفلسفة المعاصرة. نقد العقل:  تحددت الفلسفة المذكورة (2) أولا في موقع نقد العقل.
فقد انتهت فلسفة هيجل التي سعت إلى أن تكون تأليها للعقل (Apothéose de la raison) إلى تحمل التبعات الشاذة للعقلانية. ووجد عدد من المفكرين المتشبعين بنسق المعرفة المطلقة عند هيجل أنفسهم في مواجهة هذه الحقيقة المفارقة: إن شمول العقل هو في نفس الآن انتصار للاعقل. ولم نكن نحن لنعدم خلال هذا القرن(3) بعض المتخصصين لتبيان ذلك. فمثلا أوضح بعض علماء الاجتماع، كميشيل كروزييه* الآثار السيئة للتنظيمات الإدارية المتشددة، وبين آخرون كريمون بودون* الأضرار التي تسبب فيها بعض علماء النفس المنادين بنظام تربوي مبالغ في الضبط. وخلاصة القول هنا، هي أن الأطروحة التي عارضت الهيجيلية وادّعت بأن أرقى درجات العقلانية يمكن أن تؤدي إلى أكبر الآفات، قد تم إثباتها فعليا وبأشكال مختلفة.
وبهذا، يجد العديد من الفلاسفة أنفسهم اليوم في حاجة إلى تبرير أسباب استمرار إيمانهم بالعقل، فما مبرر الاستمرار في اعتماد العقل وقيمه معيارا لتقويم الأفعال؟ وما مبرر الاستمرار في اعتماد العقل بوصفه اختيارا؟ بالموازاة مع ذلك، ظهر نهج سلكه عدد ليس بالقليل من المفكرين المعاصرين دعوا إلى مناهضة الكليانية [الكونويّة] (L’universalisme). ونذكر هنا قولة تيودور أدورنو*، أحد ألمع مفكري مدرسة فرانكفوت: “الكل هو اللاحقيقة Le tout est le non-vrai” التي ظلت حاضرة بقوة عند المعاصرين. إن ما تعنيه هذه الفكرة هو أنه من المتعذر تحقيق تمثل كلياني لا يسحق الفرد. فما تثبته المثالية الهيجيلية التي تزعم القدرة على احتواء الواقع بأتمه في نسق واحد، هو في الحقيقة نوع من “الرغبة الجامحة” Rage في تدمير “الآخر”، وذلك باحتوائه في الذات من خلال طيّه في نطاق مفهوم؛ رغبة جامحة في تذويب كل اختلاف وذلك بإعطاء الأولوية، وبكل الوسائل المتاحة، للمطلق.
ويبدو اليوم من اليسير علينا، بعد الحرب العالمية الثانية وفظاعات مراكز الإبادة النازية وما اقترفته الأنظمة الكليانية، قبول النقد القوي الذي يتعرض له عقل الفلاسفة، ولعل هذا النقد يكون السمة الأبرز التي وسمت الفترة التي نودعها. ونورد هنا قولا لأحد المفكرين، الذين لم يحصل للفلاسفة الفرنسيين أن قبلوه ضمنهم، نقصد جورج باطاي* الذي قال تعبيرا عن ما سبق بأن المعرفة المطلقة التي تطلعت إليها أعمال هيجل تصب في نهاية المطاف في الجهل المطلق  (Le non savoir absolu)، فادعاء الكشف عن كلية المعنى وادعاء التكلم في كل شيء هو في الواقع، وحسب باطاي دائما غرق في الصمت وفي ليل لا يُتبين فيه الخيط الأبيض من الأسود، أي الغرق في مكان يرتفع فيه الاختلاف بما أن الكل يذوب في الوحدة. ويبدو واضحا، من خلال ما سبق، السبب الذي دفع ببعض المفكرين مع مطلع الستينيات من أمثال ريمون آرون* وأندري كلوكسمان* وألكسي فيلوننكو* إلى نعت هيجل بكونه (penseur de la vialence) ووصف نسقه بكونه التعبير الفكري السابق عن الأنظمة الكليانية اللاحقة. ورغم ما يبدو في هذا الربط من تبسيط مبالغ فيه، فإن من الأمور المثيرة هنا تلك الكيفية التي أصبح فلاسفة هذا القرن ينظرون بها إلى مسؤوليتهم في تاريخ العالم. ففي نظرهم يمثل النسق الفلسفي (Le système philosophique) تكريسا لهيمنة الواحد (l’un) تماما كما يكرس النظام الكلياني بالقوة اختزال الفوارق لصالح نظام متشدد إلى حد التسلط، وأحيانا إلى حد الإرهاب. وهذا ما دفع بعض من سُمّوا خلال أواسط السبعينيات “بالفلاسفة الجدد” إلى تقديم النزعة الكليانية (سواء كانت حمراء أو سمراء أو سوداء) بوصفها “مستقبل العالم” اللاحقة [الناجم] عن الأنظمة الفلسفية التي كانت الهمّ الأوحد لهيجل وللمثالية الألمانية. [؟]
غير أنه قد حصل في الفترة الأخيرة نوع من إعادة الاعتبار لهيجل من خلال الاعتراف له بكونه لم يكن يقصد أبدا محو الفرد في إطار دولة عقلية مفترضة وأنه كان يدافع، وعلى العكس من ذلك، [بل إنه كان على العكس من ذلك يدافع] عن ضرورة إنشاء مجتمع مدني متحرر. ويمكن قول الشيء نفسه بالنسبة لماركس الذي يُقرأ من جديد، وظهر نزوع إلى رفض ربطه مباشرة بستالين أو بماو تسي تونغ، ونتيجة لذلك خفّت حدة عدد من السجالات الفلسفية التي أثثت [أسست] الحياة الثقافية إبان الحرب الباردة، من مثل التي جمعت ريمون آرون وموريس مرلوبونتي* وجون بول سارتر* بخصوص مفهوم جدل التاريخ وما يحتويه من تحريض على العنف؛ أو ذلك النقاش الذي قام بين كلود لوفور* وكورنيليوس كاستوريادس* في إطار حركة ومجلة إشتراكية أو بربرية، socialisme ou barbarisme  والتي كان مشروعها يرفض تهمة الشر التي ألحقت بالعقل الهيجلي.
 ورغم كون هيجل وماركس لم يبرءا كليا في هذه القراءة الجديدة لتاريخ القرن العشرين، فإن جزءا من الحيف وعدم الفهم الذي تعرضا له في خضم الصراع الإيديولوجي قد أعيد النظر فيه. من أجل حكمة لا حدود لها: أصبحت مناهضة المركزية العرقية الغربية، التي ابتدأت مع انتهاء فترة الاستعمار تتخذ أشكالا قوية تبين بجلاء الإقصاء الذي تعرضت له القيم العالمية. وفي هذا السياق خضعت قيمة الفلسفة نفسها للنقد ولنوع من التنسيب وذلك بإشراطها بحدودها التاريخية والثقافية. والدليل على ذلك هو ما لقيته أعمال فرانسو جوليان* عن الفكر الصيني أو أعمال لويس غاردي* عن الفكر الإسلامي من تشجيع وترحيب. وينبغي هنا تذكر الكيفية التي حدد بها هيجل أصل الفلسفة حيث اعتبرها ذات أصول غربية خالصة:
فالفلسفة، حسب هيجل دائما، وُلدت في أرض اليونان خلال القرن الخامس قبل ميلاد المسيح مع سقراط، حيث تم اكتشاف مبدأي الذاتية والحرية اللذين لم يكن بمقدور الصينيين أو الهنود أو الفرس أو المصريين إدراكهما، لماذا؟ لأنه يعتقد بأنهم كانوا مفتونين بالوحدة إلى حد يجعلهم جاهلين تماما بمفهوم عن الفرد يكون فيه حرا ومالكا لحقوق، أو لأنهم كانوا، وعلى العكس من ذلك، غارقين في عبادة تامة للاختلافات، منغمسين في تأليه الطبيعة، وهو ما جعلهم عاجزين عن ممارسة النشاط المفاهيمي الذي يستدعي فصلا بين الكلي والجزئي. كل ذلك من دون الحديث عن الأفارقة الذين كان هيجل يشك حتى في كونهم أناسا. لقد اختصت النقاشات الفلسفية المعاصرة بإعادة النظر في هذه البداهة. فصحيح أن الفلسفة التي نعرفها قد ولدت مع الديمقراطية الأثينية، وقد يكون من الصحيح أيضا بأن اكتمالها قد حصل في ألمانيا خلال القرن التاسع عشر، لكن ما لا يمكن التسليم به هو ادعاء اختصاص الفلسفة المطلقة بحياة العقل (La vie de l’esprit): فالحكمة التي نهل منها أسلاف سقراط لا يمكن اعتبارها ملكية خاصة بالغرب.
ولعل هذا هو ما يفسر الكيفية غير المعهودة التي تنفذ بها البودية إلينا(4) اليوم، في الوقت نفسه الذي يزداد فيه الاهتمام بالفكر الصيني أكثر فأكثر، ليكون بذلك البحث عن حكمة لا حدود لها إحدى الصفات الخاصة بعصرنا الراهن.
 وبتخلص الفلسفة من فكرة التقدم(5)، تبدو اليوم معاصرة لأصولها، أي موصولة بسؤالها الأول: كيف ينبغي لنا أن نحيا؟ ففي الوقت الذي كان الاعتقاد بقدرة التاريخ على تحقيق المثل الإنسانية سائدا، كانت للفيلسوف دوافع تجعله يمد العلوم والتقنيات المعاصرة له باجتهاداته الفكرية. فكوندورسي* مثلا كان يعتقد بأن الإنسانية تتحرر تدريجيا من الظلام بفضل العقل، لكن مع نهاية هذا القرن بدأ يتراجع عن تلك الأوهام في مقابل دعوته للتصالح مع العالم الآن وهنا. ليس، طبعا، بالتخلي الكلي عن التقدم وطاقاته، ولكن بالعودة مجددا إلى أسئلة وانفتاحات المعلمين القدماء  (Maîtres de la tradition)، وهي الأسئلة التي تعجز العلوم عن الإجابة عنها. وقد مس التغير أيضا طبيعة النظر إلى الأعمال الكلاسيكية: فالنزعة الإنسانية المنحدرة عن ديكارت* وجاليلي* تظهر اليوم ساذجة بالمقارنة مع تلك التي رسخها مونتينيي* وماكيافيل* اللذان لم يكونا يدعوان إلى الهيمنة على الطبيعة. فضدا على الاستعلاء البروميتي* [نسبة إلى بروميثيوس] المؤسس على تصور آلي للعالم، تترسخ اليوم بشكل متزايد دعوة إلى تأسيس ميثاق مع الطبيعة أو على الأقل إلى إعادة الاعتبار لها. دعوة من المؤكد أنه هناك اختيارات عدة في كيفية الاستجابة لها، نجد بعضها معلناً من طرف عدد من المفكرين المعاصرين. فمثلا يكون رفض التعارض بين الإنسان والطبيعة، وبالتالي الدعوة إلى إنسية ملؤها التواضع والخضوع لنظام الأشياء، صورة الإنسية التي دافع عنها كلود ليفي ستروس* الذي كان يعتبر نفسه، وعن طيب خاطر، مريداَ للبوذية التبيتية (Bouddhisme tibetain). وتكون مواجهة مأساوية الموقف الإنسان ومرافقة الوضع الذي يحكم فيه على الإنسان في وجوده الطبيعي، وإلى الأبد، بأن يصارع الطبيعة ويواجه حتمياتها هي الدعوة التي يتبناها جون بول سارتر، وألبير كامو*. [؟]
وأخيرا، يكون الاجتهاد لتوضيح طابع الصراع العميق الذي يسم العلاقات الإنسانية وكذا الاجتهاد لكشف لغز تكوّن التاريخ الذي يشكل الفضاء المشترك لحصول تلك العلاقات هو الطموح الذي حمل مرلوبونتي على عاتقه مهمة تحقيقه، مرلوبونتي الذي قدم ماكيافيل بوصفه ذلك المفكر الذي تظهر عنده خصائص هذه الإنسية المتحررة من الأوهام. إن ما تحاول الإنسية القيام به هو الدعوة إلى شكل “إعادة الإدماج للإنسان في الطبيعة” حسب تعبير نيتشه. وبحسب ذلك، يكون الفيلسوف ملزما بحقيقة الشر الأصلي (le mal radicale)، الحاجة [الضرورة] (Nécessité) والتناهي (La finitude) [بوصفها شرطا في الوجود الإنساني]، ويصير الفيلسوف، بعد بيان تعذر توصله إلى الوضوح التام والحقيقة ونصرة الخير، منتصرا بالحرية في معارضة الحتميات إلى حد يظهر فيه وكأنه يراهن على مشاريع تقارب معارك الشرف*. وباختصار، فإننا أصبحنا ملزمين بالاختيار بين أمرين: إما أن نقبل بكون النزعة الإنسية (الديكارتية) قد مزقت أو أنها لا توجد أصلا I. ويمكن “لإعادة إدماج الإنسان في الطبيعة” التي ترتضيها هذه النزعة الإنسانية أن تُلخص الوجهة التي اختارتها أقوى البحوث الفلسفية في عصرنا هذا. وعلى هذا الأساس، ناهضت (فكرة الإدماج) هاته كل نظر يميز الإنسان ووعيه، وبالتالي ناهضت كلا من التأويلية والشخصانية في الوقت الذي مثلت الأساس الذي قام عليه البرنامج البنيوي. والغاية المتوخاة هنا هي مساندة مسعى العلوم الإنسانية والاجتماعية ضدا على الفلسفة المنشغلة، تقليديا، بمعارضة التفسيرات السببية المستوحاة من علوم الطبيعة. [وفي هذا السياق] ظهر في الفترة الأخيرة مجموعة من الفلاسفة أعادوا التأكيد على الرغبة في إقامة مشروع يفسر الظواهر الإنسانية بأدوات مشتقة من تلك العلوم(6). ورغم كون غالبيتهم من ذوي التكوين الأنجلوساكسوني التقليدي، فإن من الممكن أن نجد رابطا يصلهم بحكمة سبينوزا * (Sagesse)، مادمنا نعثر عندهم على معارضة للمركزية الإنسية. ولنأخذ هنا، كمثال على ذلك بعض الأعمال التي بدأت تشتهر شيئا فشيئا في فرنسا خصوصا منها أعمال دانييل دينيت* ودونالد دافيدسون* وكذا توماس ناجيل* والتي تدخل في إطار “فلسفة الروح”.
ويظهر، بدءا، أن فلسفة الروح هاته تهدف إلى تفكيك موضوعها. فما يحرك تحليلاتها للعمليات الذهنية هو الرغبة في القطع مع الطرح الثنائي (dualiste) الديكارتي القائل بوجود جوهر خالص يتكفل بقيادة جسم الإنسان، ويبدو أن هناك قرابة بين هذا المشروع ومشروع ماديي القرن الثامن عشر الذين سعوا إلى البرهنة على عدم وجود الروح. [ولأجل تحقيق ذلك]، تسخر هاته الجماعة مجموعة من المعارف العلمية والتقنية في أبحاثها عن الأصول والوسائل الملموسة في المعرفة. وهي الأبحاث التي كانت في السابق حكرا على الفلسفة. غير أنه يمكننا القول بأن الحذر النقدي يخونها أحيانا، وذلك ما سنتبينه في ما سيتقدم. شراك النزعة الاختزالية: يبدو، في الواقع، أن هناك غموضا يظل ملازما لهذا المسلك الساعي إلى تحديد الإواليات المسؤولة عن القدرات المعرفية المختلفة، بدءا بالمدركات الحسية الأولى، إلى العمليات الرياضية الأكثر تعقيدا. ومن المؤكد أن هذه العلوم المعرفية قوية، وتأتي قوتها هاته من قدرتها على استثمار المكتشفات العلمية الثابتة في مجالات البيولوجيا الجزئية (moléculaire) والفيزيولوجيا العصبية (neurophysiologie) وكذا علم النفس الحيواني (psychologie animale) وعلم الإناسة [الإثنولوجيا] المقارنة (ethnologie comparée).  غير أنها، مع ذلك، ظلت تحتوي عنصر ضعف أساسي: إنها لا تضع لطموحاتها [العلمية المذكورة] حدودا: ففي سعيها إلى تحقيق كلية المعرفة الممكنة، تعرض نفسها إلى أن تصير مجرد إستيهامات وأوهام من جنس تلك التي شخصها كانط عندما حدد تناقضات العقل. والمثال المعبر أكثر من غيره عن ذلك، هو نموذج أولئك الباحثين اللذين حددوا، الإواليات العصبية، باعتبارها المبدأ المسؤول عن كل نشاط معرفي. ويقيمون على هذا نظريات تفسيرية لكيفيات عمل العقل، قبل أن ينتقلوا مباشرة إلى ربط النشاطات الأخلاقية والفنية بالقدرات المعرفية [المشخصة]، زاعمين بذلك التوصل إلى كشف الأسباب البيولوجية لتلك النشاطات. في نفس الوقت، تعمل مجموعة أخرى، من خلال العمل على القريب بين مظاهر الذكاء الفردي والجمعي إلى إضفاء صفة الطبيعية (naturalisation) على النشاطات الاجتماعية والأعمال الفردية. وفي هذا الإطار اكتسبت أبحاث بعض المهتمين بعلم اجتماع الحياة (Sociobiologistes) مثل إدوارد أو* وويلسون داوكين* وريتشارد داوكين* شهرة واسعة؛ بل وقد كانت الأساس الذي اعتمده عالم إناسة مثل دان سبربر* للتوصل إلى بعض العناصر القاعدية لـ”علم أوبئة خاص بالتمثلات” (epidemoiologie des représentations).
إن ما تسعى إليه هذه النظريات، بردها النشاط الفكري إلى المشيجات العصبية، هو تفكيك الثنائية التقليدية المزعجة، التي تربط الجسم بالروح. وباختصار: تتعاون البيولوجيا العصبية والنظريات التطورية والسيكولوجيا واللسانيات والمنطق في إطار مشترك من أجل تقديم تصور عام عن العالم، شبيه بذلك التصور الذي طالما راود الميتافيزيقيين في أحلامهم، وشبيه بتلك التعاليم التي ما يزال الزعماء الروحيون في الشرق يلقنونها [لأتباعهم] إلى أيامنا هذه. وهكذا انقادت فلسفة العقل من دون شعور منها، إلى نفس ما انتهت إليه الوضعية المنطقية، في تحديدها للنشاط العلمي، أي [انتهت] إلى ما يتعذر التحقق منه، وفي انعدام الدقة والدوغمائية. وفي نظرنا، فإن علينا العودة إلى عقلانية كانط النقدية، لتقوم بدورها هنا، والمتمثل في تقويم حمولة هذا المنهج الاختزالي الموظف في علوم الإدراك، ليس فقط للحد من آثارها، ولكن أيضا لتجنب التعميمات الإديولوجية غير المبررة التي تنتج عنها. ويظهر من المجال الذي تعمل هذه العلوم، التي هي في طور الاكتمال، على استكشافه، أن مفهومها للمعرفة بعيد كل البعد عن ذلك المفهوم الذي عمل فلاسفة الأنوار للدفاع عنه. فلم تعد المعرفة نتاجا لذات ديكارتية واعية بنفسها وسائدة على محيطها، بل إنها، وعلى العكس من ذلك، أصبحت مسالمة وملغزة، دينية ومتصوفة، متشبعة لعناصر اللاعقلانية. بشكل يشابه تلك المعرفة التي عمل رجالات النهضة على مناهضتها.
إنها تعد بالمصالحة مع الطبيعة وبالاندماج في الكلية الكبرى (grand tout) ويمكن أن نقدم كمثال يجسد ذلك، إعادة الاهتمام بأعمال عالم الأحياء فرانسيسكو فريلا حول (autopoeise) أو أعمال إدغار موران* حول التعقد (II) (Complexité). ولعل ذلك بين الكيفية التي تلتقي بها أهداف الحكمة مع عمل الفلاسفة الذين يبدو بأن أبحاثهم متحررة، مبدئيا، من الهم الأخلاقي. ولن يبدو وهذا الاتفاق الذي حصل، من دون تخطيط مسبق، بين أسئلة مختلفة هي: كيف ينبغي لنا أن نحيا؟ إلى أي حد يمكننا أن نثق في العقل؟ ما معنى أن نعرف؟ وأي نموذج للإنسان ينبغي إقامته؟ مفارقة ضئيلة الشأن.
هوامش:
* Alexandre Kojève * Paul Ricoeur * Michel Faucault (1) بوصف هيجل ممثلا للماضي المثالي للفلسفة (المترجم). Nietzsche, Kant, Husserl, Heidegger, Maurice Blanchot, Philippe Sollers, Jaques Derrida. (2) المقصود الفلسفة المعاصرة. (المترجم)
(3) المقصود القرن العشرين. (المترجم) * Michel Grosier. * Raymond Boudon. * Théodore Adorno. * George Bataille. * Raymond Aron. * André Glucksmann. * Alexis Philonenko. * Maurice Merleau-Ponty. * Jean-Paul Sartre. * Claude Le fort. * Cornélius Castoriadis. * François Jullien. * Louis Gardet. (4) يتحدث الكاتب عن الوسط الثقافي العربي تحديدا (المترجم).
(5) التقدم الذي قصده هيجل (المترجم). * Condorcet. * Descartes, Gallilée, Monteigne, Macchiavel, Prométhée, Claude Levy-Strauss, Albert Camus * Barreau d’honneur. I- voir J-M. Besnier, L’humanisme déchiré, Descartes est cie, 1993. (6
العلوم الطبيعية.
* Daniel Demmentt, Donald Davidson, Thomas Najel. * Edwand o. * Wilson Dawkin. * Richard Dawkin. * Dan Sperber. * Francisco Varela. * Edgar Morin. II- voir J-M. Besnier, les theories de lq connqissqn
المصدر:
ترجمة: عادل خدجامي (المقالة صدرت بمجلة Sciences Humaines، العدد 1998-21 عدد ممتاز،الكلمات الموضوعة بين معقوفتين إضافات للتفسير (المترجم).


السبت، 29 يوليو 2017

مقابلة مع عبد السلام بنعبد العالي. شظايا ميثولوجيات. ترجمة عادل حدجامي.




عبد السلام بنعبد العالي([1]): شظايا ميثولوجيات([2])
حاوراه: إدريس كسيكس
فاضمة ايت موس
ترجمةعادل حدجامي

رابط المقالة على "مؤمنون بلا حدود"


يتمتّع عبد السلام بنعبد العالي بمهارة الحديث وكأنه يكتب شذرات، هذا الفن الذي يحظى عنده بمكانة خاصة. عندما اتصلنا به لإنجاز هذا الحوار، أظهر ابتداء نوعاً من التردد، فهذا الرجل المتواضع والحييّ، الذي ولد سنة 1945 بمدينة سلا، المدينة التي ما يزال يقطن فيها إلى اليوم، قاوم دائماً فكرة إجراء حوارات، وكان أول ما قال لنا، بعدما قبل مبدئياً بفكرة محاورتنا: "أشعر كأنني تلميذ رجع لتوّه من عطلة مدرسية طويلة نسي فيها كلّ ما كان يعرفه". فهذا الفيلسوف يحب أن يحتفي بنسيان اختياري، عملاً بتلك العبارة الشهيرة التي مفادها أنّ الثقافة هي ما يتبقى بعد نسيان كل شيء.
عند قراءة كتابات عبد السلام بنعبد العالي، التي هي جماع شذرات وكتابات على طريقة رولان بارث، يمكن أن يشعر المرء للوهلة الأولى بأنّ الكاتب لا يكفّ عن التنقل بين قضايا تبدو جدية من قبيل أسئلة الإبستمولوجيا وقضايا الترجمة وفكر الآخر، وبين قضايا تبدو أقل أهمية من مثل الحديث عن مباراة كرة قدم، أو عن قضايا المحاكم، أو المواقع الاجتماعية.
والحقيقة أنّ عبد السلام بنعبد العالي ينتمي إلى تلك الطينة النادرة من الفلاسفة التي تمردت على "الأعراف" التقليدية، وتحرّرت من كل دوكسا أو إيديولوجيا، فتوجهت بكثير من الأناة، اعتماداً على تفاصيل الحياة اليومية وما تقدمه النصوص الأدبية، نحو تفكيك مسلمات مجتمع الفرجة، إذ هو يعترف، من حيث هو نيتشوي لا ينكر ذلك، بأنّ الغاية من كل عمله هي لذة تعرية النماذج الجاهزة، وهي المهمة التي ترتقي عنده لتصير متعة. ففي كل كتاباته التي ظهرت منذ سنوات عديدة في مجلات انخرط فيها ("فكر ونقد" و"أقلام")، أو في جريدة (الحياة)، سعى هذا الكاتب باللغة العربية، والمزدوج الثقافة، سعى دائماً، عن طريق ما يكتب، إلى عقد حوار مع غيره من الكتّاب والمفكرين.
يتنقّل عبد السلام بنعبد العالي دائماً في منطقة وسطى بين الفيلسوف والقارئ والمترجم، والحقيقة أنّ هذه الرشاقة في الحركة لم تكن لتتأتى له إلا بفضل تكوينه المزدوج كرياضي (الرياضيات) وكمؤرخ فلسفة، هذا دون أن ننسى استحضار صحبته الطويلة للمصنفات التراثية، وقد أظهر فعلاً في كل هذه المجالات التي يتنقل بينها براعة حقيقية في التوظيف وقدرة فائقة على استنطاق المضامين. بيد أنّ كل ذلك لم يُنس الرجل مسؤوليته في التوصيل والتواصل، وهو الأمر الذي كانت نتيجته نشر ثمانية عشر كتاباً، ولم يكن لهذه الكتب التي تمتاز كلها بغنى خاص، من أن تجد طريقها إلى النشر كاملة دون مساهمة صديقه الشاعر محمد بنيس، الأمر الذي سمح بتحرير أفكار الرجل والخروج بها من دائرة "الخاصة" نحو أفق أكثر رحابة.
لماذا الفلسفة؟
·         تحدّدون الفلسفة باعتبارها "علماً مرحاً" يُقَوِّي مناعتنا ضد الأفكار الجاهزة، ويجسّد لنا نموذجا في الحياة. هل معنى هذا أنكم تسعون إلى إبداع صيغة جديدة لمعنى الحكمة؟
يتحدث جيل دولوز عن ضرب من تاريخ الفكر و"اللافكر" يلخصه في ثلاث مراحل أساسية: في المرحلة الأولى كان الهم معرفياً، كان هاجس الفلسفة إبستيمولوجياً يتلخص في مناهضة الخطأ الذي كان يشكل حينها الخصم الأكبر. حينها أيضاً كان يكفي الفلسفة أن تتسلح بمنهج سليم كي تواجه هذا الخصم. غير أنه وبداية من القرن التاسع عشر خصوصاً سيظهر مفهوم "اللاوعي"، وسيتبين آنذاك أننا عاجزون عن وعي وإدراك كل شيء، حينها سيبدو أنّ التسلح بالمنهج غيرُ كافٍ، إذ إنّ الخصم لم يعد هو الخطأ، بل الوهم. هكذا تحول الفكر إلى الاضطلاع بمواجهة ما سُمّي حينها بالأوهام وبنقد الإيديولوجيا. أمّا المرحلة الثالثة فيمكن أن نحدد بدايتها مع نيتشه في دعوته إلى التفكير ضداً على البلاهة، أي إلى "معاندة الغباء". وشخصياً لا أنكر أني أشعر بأني أقرب ما يكون إلى هذا التحديد الثالث، فإن كان عليّ أن ألخص كل ما قمت به حتى الآن، فسأقول إنني حاولت أن أحدد ماهية "مجتمع الفرجة"، هذا هو شاغلي الأهم، وهذا الهم في اعتقادي لم يكن متيسراً تحقيقه إلا باعتماد زوايا نظر متنوعة تعمل على تبين الأشكال المختلفة التي يتخذها إنتاج اللامعنى في مجتمعاتنا. على أنه لا ينبغي أن يُفهم من كلامي أنني أدعو لاستعادة حكمة قديمة ما، اللهم إلا إن كان القصد من عبارة حكمة هنا هو تلك المناهضة الدائمة للبلاهة.
تقيمون مقارنة بين الفلسفة والإيديولوجيا، معتبرين أنّ الإيديولوجيا وسيلة توحيد وتسوية، في وقت ترون أنّ الفلسفة أداة توليد للفوارق والمفارقات، هل هذه فعلاً هي الكيفية التي بحسبها تحددون دور الفلسفة؟
تحددت الفلسفة دائماً، من الناحية التاريخية، قياساً إلى ما يقابلها، البراكسيس أو الإيديولوجيا أو غيرها تبعاً لكل فترة. فقد تميز الاشتغال الفلسفي، في فترة من الفترات خصوصاً باعتباره نقداً، حينها لم يكن هناك بعد حديث عن التفكيك. وهذا الأمر ملأ القرن التاسع عشر بكامله إلى درجة أنّ كل الأعمال الفلسفية لتلك الفترة حملت كلمة "نقد" حتى في العناوين (نقد كانط فيما قبل، ثم نقد ماركس...). فالمهيمن حينها كان هو تيمة النقد، أما اليوم فالمهيمن هو مفهوم "التفكيك".وشخصياً تبنّيت هذا المفهوم لأني لاحظت أنّ زملائي، بمن فيهم الأساتذة الذين انشغلوا بسؤال التراث والعلاقة بالآخر، يتوقفون عند حدود البناء الإيديولوجي، أي عند حدود تكوين أنساق تسعى لتحديد معنى التراث والعلاقة مع الآخر. وهذا الأمر لم أر فيه أنا إلا آلية إيديولوجية، أي آلية تدّعي البناء. في حين أنّ الخصم الأكبر للفلسفة، وهذا ما بيّنه نيتشه عن حق، هو ادعاء بناء الوحدات وإقامتها. إذن، إذا كانت الإيديولوجيا هي فن إنتاج الوحدات – وفي هذا المعنى يعتبرها ألتوسير إسمنت المجتمعات الذي يوحد ويحجب التناقضات- فإنّ العمل الفلسفي سيصير حينها هو الحفر من أجل الكشف عن الفجوات في هذه الوحدات الموهومة، وهكذا إذا كانت الإيديولوجيا تشتغل في إطار التناهي، فإنّ واحدة من أهم ميزات الفكر المعاصر هي اعتقاده في لا تناهي فعل التفكير. فالعمل الفلسفي، كما يؤكد هايدغر، هو السير في طريق لا تنتهي عند حد بعينه. وهذا الانفتاح على اللاتناهي هو السمة الأساسية المميزة للفكر المعاصر.
·         يتحدد الحوار الفلسفي، بالنسبة لكم، في كونه بحثاً عن توافق حول الأسئلة وليس تواطؤاً حول الأجوبة. بناء على ذلك كيف يكون الحوار عنصراً حاسماً في الممارسة الفلسفية؟
أستعمل الحوار في معنى خاص. ما يهمني أساساً هو الحوار مع الذات، اعتدنا ألا نرى إلا الحوار مع الآخر. بالنسبة لي كل حوار هو انفصال، انفصال عن الذات أولاً. في نهاية الأمر التفكيك عملية انعكاسية أساساً، ففي الواقع إننا لا نكف عن تفكيك ذواتنا. ما يهم هو إحداث نوع من "الخلل" في العلاقة مع الذات. إذن الحوار مع الآخر، نعم، ولكن أساساً مع الذات.
·         كيف يكون الحوار، بالنسبة لكم، عنصراً حاسماً في الممارسة الفلسفية؟
لأنّ الفلسفة هي الخصم الأكبر للبداهات، عندما أراد ديكارت أن يعرّف البداهة استند على مفهوم الوحدة التي اتخذت عنده اسم البساطة. ومقصوده من ذلك هو الحالة التي يكون فيها الفكر غير مفصول عن الفكرة. بيد أنّ هذه البداهات في الفكر المعاصر، الذي هو في جوهره فكر لاديكارتي، ستتحول لتصير نتائج لا مقدمات كما قال باشلار، فالوصول إليها يتطلب مساراً وطريقاً ملتوياً، يتطلب انقطاعات وانفصالات. عمل الفكر سيكون إذن (في التصور المعاصر) خلقاً للمسافة وللتباعد وللقطيعة التي لا تنتهي عند حد أخير كما ذكرت سابقاً.
أنت تنتمي إلى "الفرقة الناجية" التي بقيت بعد عملية الإبادة التي تعرضت لها الفلسفة بالتعليم العالي المغربي. هل تشعر بنوع من الوحدة والعزلة؟
الجواب على هذه المسألة قد يكون محرجاً، لهذا سأقدم لك رؤية للمسألة، ولك أنت أن تستنتج ما تراه مناسباً. أكثر قرائي هم من أهل الأدب، هذا إن قبلنا، جدلاً، أنه من الممكن اليوم إقامة فواصل بين الأدباء والفلاسفة. لهذا فإنّ سؤال الكتابة والمعنى يشغلاني أكثر من غيرهما. إنني على الحقيقة لا أمتلك تكويناً فلسفياً كلاسيكياً بالمعنى المتعارف عليه، فأنا مثلاً لم يسبق لي أن تبنيت أو أشرفت على أطروحة، ما عدا استثناء واحداً، والعلة في ذلك أنني لا ألمس في نفسي الأهلية لتأطير عمل "منظم"، والأمر ليس الدافع إليه نزوع فوضوي من جهتي، بل كوني أشتغل وفق إيقاع مختلف. وما أخشاه اليوم شخصياً هو العودة إلى "التقاليد"، أي إلى ذلك التوجه التنميطي الذي يجر كل شيء نحو التحنيط الأكاديمي، الذي يقتل في نظري كلّ إمكانية لحياة الفكر.
ما ألاحظه شخصياً هو أنّ الفلسفة تحتل موقعاً هامشياً في العالم العربي، فهي في الغالب لا تدرس بالمعاهد الثانوية، وتدريسها لا يكاد يبرح بعض الشعب الجامعية، وحتى إن حضرت فإنّ ذلك يحصل تحت مسميات أخرى مثل علم الاجتماع أو تاريخ الأفكار. وهذا ما أسميه "فزّاعة" الفلسفة في العالم العربي. ولكي تخرج الفلسفة من هذه العزلة ينبغي في اعتقادي أن تجد منافذ أخرى، أن تدرّس في أقسام الأدب والتاريخ والعلوم السياسية وما إليه. وهذا عينه وضع الفلسفة في العالم المعاصر اليوم، فهي تأخذ طرقاً ملتوية حتى تحضر. في السابق كان ما يبنيه أستاذ الفلسفة يهدمه زملاؤه الآخرون. اليوم، الطريق الأمثل الذي يمكن للفلسفة أن تسلكه قد يكون هو أن تدخل عبر هذه المنافذ والمسالك الأخرى، فأسئلة الأدب والكتابة والترجمة هي أسئلة فلسفية، ليس لأنّ الفيلسوف هو الأقدر على إعطاء أجوبة عنها، بل بمعنى أنها طرق ومسالك يتوسل بها الفيلسوف.
اللغة، الكتابة وصناعة الفكر
·         تبدو كأنك تفكر بـ"اليد" تماماً كما أنّ موراكامي Murakami الكاتب وعداء الماراطون يفكر بـ"القدم"، لأي سبب يتقدم عندك فعل التفكير باعتباره يتكون في لحظة كتابته؟
يُؤثر عن نيتشه أنه كان يقول ما معناه "كلما رمت الاستراحة فتحت كتاباً". ما ينبغي أن نفهمه حقيقة هو أنّ العمل الفكري أولاً هو عمل باليد، أو على الأقل هو عمل يجمع بين اليد والدماغ. إنه استجابة مباشرة لنبضات الحياة المعاصرة. فهناك ذبذبات واهتزازات صوتية ينبغي أن ينفعل بها عملنا ويستجيب لها، لهذا أعمد إلى النشر بالجرائد، فكل كتاباتي ومنذ 92ـ1993 نشرت أولاً في جريدة "الحياة". وحتى أنشر في شكل كتب كان ينبغي أن أجد ناشراً قادراً على "الجنون" مثل محمد بنيس (دار توبقال للنشر). فالأمر مغامرة غير محسوبة العواقب. فأن أجمع في كتاب واحد نصوصاً ظهرت سابقاً في الصحافة، نصوصاً أتنقّل فيها بين ألتوسير وهايدغر مروراً بالفارابي، فهذا أمر غير معتاد أو متداول بالنسبة للقارئ. لقد وجدت نفسي، في العمق، منغمساً في هذا الشتات لدرجة صار فيها من الصعب جداّ عليّ أن أنجز عملاً أكاديمياً. أنا أجد نفسي أكثر في الكتابة المكثّفة. فالمقالات القصيرة والكثيفة هي بالنسبة لي أكثر أهمية من النصوص الطويلة التي تحتوي مثلاً إحالات على كتاب كلاسيكيين أو ما شابه. يخيل إليّ أنّ كل ما هو أكاديمي خالص هو ميت بالتعريف.
 الكتابة بالنسبة إليك هي مساءلة مستمرة للتّراث ولفعل الكتابة نفسه، مساءلة لهذا الموروث حتى ينبعث في أشكال أخرى.
هذا أمر مؤكد، كان جاك ديريدا يقول إنّ الأهم في الفكر الحديث هو أنه فكر يعتقد أنّ كل ما يمكن أن نقوله قيل سابقاً، وهذا هو الإحساس الشائع لدى كتّاب زمننا المعاصر، بيد أنّ موريس بلانشو يطمئننا حين يقول إننا يمكن أن نقول ما قيل مرة أخرى "أول مرّة". في هذا السياق يتحدث ديريدا عن itérabilitéالمشتقة من itara التي تفيد الآخرItérabilité هي الإمكانية التي تتاح لشيء ما كي يتكرر بأن يضيف إلى ذاته شيئاً آخر، إنه الانفتاح على الآخر، بما فيه آخر تفكيري الخاص، وفي هذه العبارة يتحدد المعنى المعاصر للتكرار، إنه تكرار منتج. يستعمل دولوز من جهته عبارة "أن نجعل النص يمتد"، وكلمة "مدّ" هنا تعجبني كثيراً لأنها تعني الوفاء للنص بخيانته. بحسب هذا الأمر تصير كل قطيعة امتداداً، امتداداً للشيء بتفكيكه وليس بالإضافة إليه.
·         تستعمل عبارتين أولاهما هي "سوق اللغات" واللغات كقيم اجتماعية، أين تضع تدريس اللغات في هذا التحديد (العربية والفرنسية والأمازيغية)؟
على مستوى التعليم أعتقد أنّ حل إشكالية اللغات في العالم العربي لن يكون إلا باعتماد نظام مزدوج، شريطة أن نحقق تعددية حقيقية. هذا ما تحدث عنه دولوز حين تعرّض لمسألة ازدواجية اللغة، حيث ذكر أنّ التعدد لا يعني كثرة للأحاديات اللغوية، أي جمع وحدات لغوية منغلقة، بل حل وتفكيك أحادية اللغة من حيث هي كل منغلق. والحقيقة أنّ هذه الفكرة (التعدد من حيث هو تفكيك للوحدات وليس الجمع بين وحدات مكتملة) هي أمر نظّر له الإنجليز ابتداء، وهو الأمر الذي اكتشفه دولوز عند هيوم أول الأمر عن طريق أستاذه جان فال الذي كان من بين كل الأساتذة الفرنسيين الأكثر اهتماماً بما يحصل في الفكر الإنجليزي. نحن نتحدث في إطار الفكر العربي عن التعدد والاختلاف من خلال ربطهما ببعضهما، في حين أنّ هذين المفهومين هما في الفكر الحديث صدرا من أصلين مختلفين تماماً، فإذا كان مفهوم التعدد قد صدر عن الإنجليز (هيوم) فإنّ الأصل في مفهوم الاختلاف، على الأقل في معناه الحالي، هم الألمان.
يمرّ بناء نص ما بالنسبة لك بتداخل بين اللغات، فيمَ يكون المزج بين المرجعيات والمجالات بالنسبة لك أيضاً ضامناً لحداثة في الكتابة؟
في الحقيقة إنّ ازدواجية اللغة هي قدرنا اليوم، فعندما ننفتح على لغة أخرى، أي على ثقافة أخرى، فإنّ هذا الفعل يعطينا إمكانية الوعي بحدود لغتنا (المفهومية والخطابية) وبالتالي الوعي بحدودنا نحن. هذا يجعل من كل ازدواجية في اللغة اغتناء بالتعريف، ففي التصور التقليدي كنا نقول إنّ المترجم إذا ترجم لنفسه فإنّ النص سيكون أفضل، والأمر ليس كذلك، إذ أنّ المترجم في مواجهته للغتين يعرّي الواحدة منهما بالأخرى، والتعرية هنا، أو الفضح، لا نقصد به المعنى الأخلاقي، بل معنى الكشف، إنه يكتشف. لهذا يحدث لي أحياناً أن أعنون نصوصاً بالفرنسية في حين أنّ المتن الأصلي مكتوب بالعربية، وهكذا فإنّ لي نصاً بالعربية عنوانه « ça dialogue »، وقد تكون هذه طريقة ممكنة للسعي وراء "كتابة أخرى".
الترجمة وتجاوز الأصل
·         تحددون التلقي الذي يحصل لنص ما أو فكرة ما باعتباره "إنتاجاً جديداً" وليس مجرد إعادة إنتاج للشيء نفسه، ما مصدر هذه القناعة عندكم؟
كان فوكو، بحسب ما يبدو لي، قد لخّص هذه القضية في نص كان قد قدّمه حول نيتشه في ملتقى روايومون. حينها قال إنّ ما يميز التأويل في معناه المعاصر هو كونه لامتناهياً، وكونه يؤمن بأنّ "العلامة ليست طيّبة" (الطيبة بالمعنى المسيحي)، وهكذا فإنه في الوقت الذي يتحدث فيه هيغل عن مكر التاريخ يتحدث فوكو عن "خبث العلامة". وهذا تقريباً هو التعريف الحديث لمعنى العلامة، وهو ما يعني أنّ العلامة منفلتة بذاتها ولا تتقدم كاملة. في هذا الوضع تصير كل قراءة لنص ما تأويلاً له. فلا يبقى بمكنتنا إلا أن نؤول ونعيد التأويل والقراءة. هكذا فإنّ إعادة قراءة نص بالنسبة لفوكو ليست مجرد إعادة اكتشاف لسابق، فقدر كل قراءة هي أن تكون قراءة أخرى.
·         الترجمة كما تنهجونها ليست مجرد نسخة باهتة عن أصل، إنها شحنة حياة جديدة تضخّ في النص كما في ثقافته (التي أنتجته)، هل يمكن لهذا التصور الذي يقدّم الترجمة باعتبارها تجاوزاً للأصل أن يستمر إلى ما لانهاية؟
أعتقد أنه ينبغي عليّ أن أوضح بأي معنى أنشغل بالترجمة، ولأي سبب أعطتها الفلسفة الحديثة كل هذه الأهمية، وهذا منذ الرومانسيين الألمان إلى ديريدا، مروراً بهايدغر وبلانشو وبنيامين. لم يكن الباعث على انشغالي بالترجمة هو الرغبة في تقديم "نظرية" عن الترجمة ولا تقديم تصور فلسفي عنها، بل كون الترجمة بالنسبة لي فرصة سانحة لتفكيك جملة من المفاهيم المركزية للفكر الحديث، من مثل النموذج والأصل، ولنقل لتفكيك ميتافيزيقا التمثل في جملتها. فإذا كنا نعتقد مع نيتشه أنّ الأفلاطونية هي "بنية" الميتافيزيقا، فإنّ الترجمة ستكون مجالاً خصباً لممارسة مثل هذا التفكيك. ما لا يريد أن يفهمه بعض الزملاء هو أنه يمكننا أن نتناول المفاهيم الكبرى للفكر الحديث عبر أسئلة شعرية ولسانية، فالفلسفة لا علاقة لها بالجدال والسجال. هكذا كتبت أنّ الترجمة قضية فلسفية، تماماً كما أنّ السينما قضية تشبُّه، إذا نظرنا للأمور من هذه الزاوية سيصير سؤال الترجمة سؤالاً جوهرياً في الفكر الحديث وواحداً من "منافذه" الأساسية.
·         ما يهمك في الترجمة ليس الأصل بل النسخة، أي التلقي الذي يكون للنص عند مترجمه وما يؤسسه عليه، وليس ما هو عليه النص في الأصل.
لدولوز عبارة جميلة بهذا الصدد، ما يأتي في الأخير يكشف ويضيء البدايات، والحقيقة إنّ هذه فكرة أساسية في الفكر المعاصر، وهي عينها ما نسميه بالجينيالوجيا التي هي شكل من التاريخ ممكن، وهذا أيضاً هو المعنى الذي قصده باشلار عندما تحدث عن الحاضر الذي يضيء الماضي، بحسب هذا الفهم سيكون بمقدورنا، نحن اليوم، أن نتحدث عن غاليلي بأفضل مما كان سيتحدث به هو عن نفسه، لأننا نمتلك رصيداً في تاريخ العلوم تكوّن وتراكم بمقدوره أن يجعلنا ندرك حدود غاليلي أكثر من اكتشافاته، وهذا عينه ما فعله عبد الله العروي مع ابن خلدون في كتابه المدهش "مفهوم العقل". بهذا المعنى يمكن للفكر المعاصر أن يضيء الماضي، وبحسب هذا الفهم للجينيالوجيا فإنّ الامتدادات تمنح للأصل قيمته، وبهذا المعنى فإنّ النص المترجم يمكّن من تعرية النص الأصلي و"فضحه". إنه ينزع عنه قدسيته وهالته الأخلاقية، إذ النص المترجم ينبغي له، كما نقول، حتى يفي بالمراد، أن يخون شيئاً ما النص الأصلي، وإذا ما أردنا أن نبتعد عن هذا المعجم الأخلاقي، سنقول إنّ علينا، حتى نقترب من الأصل، أن نبتعد عنه.
تنوّه بأثر الفلسفة الألمانية على نظيرتها الصغرى الفرنسية، وهو الأثر الذي تحقق بالترجمة، باعتبارك أنت نفسك مترجماً، هل تعتقد أنّ الترجمات التي حصلت في الثقافة العربية للفكر الحديث كان لها أثر على الفكر "العربي-الإسلامي"؟
طبعاً هذا أمر مؤكد، كنت قد أنجزت نوعاً من الجرد لشعرائنا الكبار منذ السياب إلى أدونيس، ولنوع الدين - الفضل الذي كان لهم تجاه الشعر الحديث وترجمات هذا الشعر. أكيد أنّ الترجمة تتيح إمكانية خلخلة مفهوم الكتابة وتصورنا عن الشعر، هذا الأمر يصحّ على الفكر أيضاً. لكن ضآلة ما تمّت ترجمته أمر يثير الانتباه، ففي الترجمات التي قدمتُ للفكر الحديث ستلاحظون أنني اتجهتُ نحو نصوص قصيرة تبدو غير ذات أهمية للوهلة الأولى. ولآخذ مثال بارث، هناك زملاء لي حاولوا ترجمة بعض أعماله دون اهتمام بمدى قابلية تداولها في السوق الثقافية العربية، بيد أنّ هذه النصوص تحيل على نصوص كلاسيكية في الأدب الفرنسي مثل بالزاك وفلوبير، الشيء نفسه حصل مع نص "الكلمات والأشياء" لفوكو، وهو النص الذي يمسح الفكر الغربي في كل قطاعاته. القضية هنا لا علاقة لها بمستوى صعوبة النص، بل هي متعلقة بأنّ هذا النص في ذاته، حين يقدم إلى السوق الثقافية في العالم العربي يصير غير قابل للتداول، وحتى إن ترجم فلا أحد سيقرؤه، وإذا ما قرأه أحدهم فلن يستوعبه كليّة. وهذا الأمر كان قد طُرح عليّ عندما كنت منهمكاً في البحث عن كيفية ترجمة بارث، فقد عمدت إلى ترجمة نصوصه النظرية التي لا تحيل على المتن الأدبي الغربي أولاً. وعمدت كذلك إلى "ذبيب اللغة" و"درس" الكوليج دو فرانس، لأنّ ذلك هو ما بدا لي قابلاً لأن يجد طريقه إلى القارئ العربي. فالترجمة ليست هي تقديم نص والرمي به في السوق، بل هي مسألة استسناح فرص وإمكانات. فديريدا على سبيل المثال، غير قابل لأن يترجم إلى اللغة العربية اليوم، فهذه اللغة بحالتها الراهنة لا يمكن أن تفي بهذا الأمر. والحل بالنسبة لي ينبغي أن يكون في التوجه نحو النص الغربي كما نتوجه إلى وجبة ساخنة جداً فنبادر إليها بحذر شديد ولا نباشرها إلا من الجوانب. بعبارة أخرى المطلوب هو الإنصات لما يمكن أن يتم تقبله وأن يقرأ ويفهم. واختيار النصوص هنا مسألة أساسية. ها أنت ذا ترى أنّ الصعوبة في الترجمة هنا، كما يبدو، ليست لغوية بل ثقافية، وهذا ما يجعل بعض النصوص غير قابلة للترجمة.
فكر الآخرين، فكر آخر
فتحتم حواراً فلسفياً مع عدد من المثقفين المغاربة: مع الفكر الآخر كما يراه الخطيبي، العلاقة بالأدب كما يتصورها كيليطو، المجلات مع بوعلو، العلاقة مع التراث الإسلامي عند الجابري، التاريخانية عند العروي. ما الذي أنتجه هذا التفاعل قياساً إلى رؤيتكم وأفكاركم أنتم الخاصة؟
سأبتدئ بكيليطو لأنّ التفاعل معه فتح نظري على أشكال أخرى من التفكير. حوارنا كان قد ابتدأ مع ترجمتي لبارث، وهي الترجمة التي صدرت بمقدمة له. كذلك حدث أنه عندما صدر نص "الأدب والغرابة" كنت، في اعتقادي، أوّل من كتب عنه. في هذه الفترة لم نكن نعرف بعضنا جيداً. بعد ذلك ستأتي ترجمتي لـ"الكتابة والتناسخ" التي اعتمدت فيها المخطوط الأصلي، تماماً كما هو الحال مع ترجمة "أتكلم جميع اللغات، لكن بالعربية". وبهذا الخصوص لا شك عندي في أنّ أثره كان أساسياً، لأنه ساعدني في الانفتاح على أشكال أخرى للكتابة.
بخصوص علاقتي بالخطيبي ينبغي أن أقول إنّها كانت من طبيعة خاصة، فلا بد لي أن أعترف أني قرأت الأدب الحديث في مكتبته، وأنّ النصوص الأولى التي قرأت في الفلسفة المعاصرة أخذتها من مكتبته أيضاً: نصوص ديريدا، ونيتشه، وبلانشو. في البداية لم أكن أعرف الرجل، إذ حدث أن جاء لزيارتي في كلية الآداب ودعاني إلى قهوة. وكان حينها يحيا فترة مجده، إذ كان عائداً لتوه من فرنسا مصحوباً بالأثر القوي الذي خلّفه كتابه "الذاكرة الموشومة". يومها جاء ليسألني عن مدى رغبتي في ترجمة "فوميتو بلانكو"، وكذلك حصل، فكنت لأجل هذا الغرض أركب دراجتي النارية وأذهب إليه في حي "الهرهورة" حتى أقرأ معه الكتاب وأطرح عليه بعض الأسئلة المتعلقة بالترجمة. وانتهى الأمر بأن أتممنا الترجمة وتوطدت علاقتنا. بعد ذلك طلب مني أن أجري معه حواراً لأجل العدد الأول من مجلة "الكرمل"، وكذلك حصل أيضاً، وصدر الحوار في العدد الثاني.
فيما يخص بوعلو، ففضلاً عن علاقة القرابة والصداقة القوية التي تجمعنا، ينبغي أن أقول إنني بدأت أنشر بفضله، فهو الذي مكنني مع عدد من أبناء جيلي، من أن أنشر مقالاتي الأولى في مجلة "أقلام" (التي صدر العدد الأول منها سنة 1964). وعندما أسّس مجلة "فكر ونقد"، مع محمد عابد الجابري سنة 1997 صرت عضواً في هيئة التحرير. والحقيقة أننا كثيراً ما نغفل الدور المهم الذي لعبته هاتان المجلتان، وخصوصاً "أقلام" التي لم تكن بالنسبة لنا منبراً للنشر فقط، بل هي مختبر للكتابة ومدرسة للتكوين أيضاً. لا ينبغي أن ننسى أنّ عدداً كبيراً من كتّاب اللغة العربية قد بدؤوا نشر مقالاتهم في هذا المنبر الثقافي.
بالنسبة لأستاذيَّ الجابري والعروي فالأمر في الحقيقة يتعلق بتفاعل خصب يأخذ فيه التلميذ المسافة مع أستاذه. تعلمون أننا نستشهد كثيراً في الفلسفة بقول أرسطو "إنني أحب أفلاطون لكني أحب الحقيقة أكثر"، بالمعنى نفسه يمكن أن أقول إنّ الأمر يتعلق بشكل من عدم الاتفاق مع فكر أشخاص أكن لهم تقديراً عميقاً. فيما يتعلق بالعروي الأمر يمسّ اختلافاً مع تصوره للفكر الحديث (التصور الهيغلي عن التاريخ) وعن الأهمية القليلة التي يعطيها لمساهمة الفلسفة. لكن من جهة أخرى أعتقد أنّ العروي ساهم، في الفترة الأخيرة، في تجاوز تقليد خطير في العالم العربي وهو المتعلق بالنظرة الدونية إلى الترجمة، أي النظر إليها باعتبارها عملاً خاصاً بالتلاميذ والأتباع، وهو الأمر الذي تجسّد في عمله، وهو في هذه السن، على ترجمة مونتيسكيو وروسو.
أمّا الجابري فهو رجل أقدره كشخص، إنه رجل رفيع الأخلاق، لكن حدثت بيننا اختلافات فكرية. فعندما أنجزت رسالتي حول الفارابي تحت إشرافه، وكان حينها قد نشر للتو "نحن والتراث"، تنبهت إلى أنّ هناك اختلافاً جوهرياً بيننا، إذ كان يرى أنّ الفارابي هو جان جاك روسو العالم الإسلامي، في حين كنت أرى فيه القديس أوغسطين، وفي هذا السياق كنت قد عنونت الفصل الأساس من البحث بـ"مدينة الله". في العمق قيمة الجابري تأتي من كونه "جرّأنا على التراث" أو لنقلها باللغة الدارجة: "إنه دسّرنا على التراث". فنحن أصحاب التكوين العربي عشنا علاقة خاصة مع التراث، علاقة الفقير بصاحب الثروة. إذ أنّ الاتصال بالنصوص (التي كانت موجودة بفرنسا وتركيا ...) كان يعوزنا، لكن الجابري حرّرنا من كل ذلك. لهذا تحدثت في الكتاب الصغير الذي كنت قد خصصته له، والذي صدر بعنوان دال هو "سياسة التراث"، تحدثت عما أسميته "مفعول" الجابري. ومع ذلك تبقى حدود الجابري قائمة في كونه، وإن استطاع نزع القدسية عن النصوص التراثية، فإنه أبقى عليها في المعاني. ولكن أن يستطيع الاضطلاع بالأمر الأول فذلك في حد ذاته شيء مهم.
·         تتأرجحون في نصكم عن "الحوارات مع الفكر الفرنسي" بين المفكرين الذين استكملوا نقدياً الدوكسا الماركسية (بورديو، غولدمان، ألتوسير) وبين المفكرين الذين متحوا من الروح النيتشوية (دولوز، ديريدا، فوكو). فهل هذا التأرجح بينهما هو الكيفية التي تحددون بها تموقعكم؟
عندما رغبت في تسجيل رسالتي في الدكتوراه في "أسس الفكر المعاصر" كان الجابري قد حثني على الاشتغال على مفكر واحد كما حصل في رسالتي لدبلوم الدراسات العليا مع الفارابي. لكن كان عليّ أن أنتظر إحدى عشرة سنة بعد اشتغالي على هذا الفيلسوف المسلم حتى أحقق مشروعي، والعلة في ذلك كانت هي خلافي مع الجابري، والذي كان السبب فيه كونه أرادني أن أظل مشتغلاً في إطار الفكر الإسلامي.
في البداية كانت الفكرة عندي أن آخذ كتاباً لأحد المفكرين المعاصرين بالفرنسية وأن أترجمه للعربية، ففي كل الأحوال الأوربيون تفوقوا في كل ما قاموا به في هذا المضمار، لأنهم كانوا على اتصال بالنصوص الأصلية. لكن طموحي كان حينها هو أن أقوم بنوع من التركيب، إذ لم يكن الهدف عندي هو أن أعمّق تاريخ الفلسفة الفرنسية بأن أنظر في أثر ألتوسير على فوكو أو تأثّر أحدهما بالآخر مثلاً. بل ما كان يهمني هو أن أنظر إليهم باعتبارهم شبكة فكرية واحدة. شبكة مثلت هذه "الروح" التي سادت في الفضاء الغربي الذي اغتنى بمساهمة عدد من المفكرين الذين عملوا جميعهم، كما عبر عن ذلك هايدغر، على "قول الشيء نفسه". وتبيّن هذا "الشيء نفسه"، هنا الذي كان يهمني أنا، وهو ما عملت على بسطه في أطروحتي "أسس الفكر الفلسفي المعاصر". طبعاً لا نقصد هنا شيئاً مشتركاً يوحدهم، وإنما "المدار" الذي استقطب الفكر المعاصر، أي "الرهان الفكري" الذي كان يشغلهم.
الرهان، ليس بمعنى أنّ هؤلاء المفكرين كانوا متطابقين في أقوالهم، بل أنّ اختلافهم كان لخدمة "الشيء نفسه" الذي كان عليّ أنا أن أبيّنه. وبحسب هذا الأمر فإنّ ما كان يشغلني أكثر هو التحويلات التي كان يجريها هؤلاء جميعاً، والكيفية التي كانوا يطرحون بها الأسئلة المهمة التي كانت تنتج عن هذه التحويلات: الكتابة، والترجمة، والمفاهيم الفلسفية الكبرى، والعلاقة بين الفلسفة والتاريخ، وعلاقة الرياضيات بالفكر وسؤال الزمان...هذه الإشكاليات جسّدت تطورات، وظهرت هناك مساهمات متنوعة لطرقها: إبستيمولوجية وشعرية ولسانية وسوسيولوجية وأنثروبولوجية.
·         هناك مفهوم يستعمله دولوز وأعدتم استعماله أنتم بدوركم وهو "الجذمور" « rhizome »، هل هذا المفهوم يفيد شيئاً أقوى مما يفيده مفهوم "الشبكة" مثلاً؟
طبعاً أكيد، فمفهوم الشبكة، خصوصاً في تداوله المعلوماتي الحالي، تمّ تمييعه. في المعجم النباتي، الجذمور هو تفرّع يمتد لينحلّ إلى غصينات متداخلة، الأمر معه شبيه بنبات الزنجبيل حيث التفرعات تمتد وتنتشب دون أن تمتلك خطة أو معنى قبلياً أو اتجاهاً محدداً نحو الأعلى أو الأسفل. وفي هذه الصورة النباتية تقابل بين الجذمور من جهة والشجرة التي تكون جذورها وفروعها واتجاهها من الأرض نحو الأعالي متضمناً لصورة الصعود المستقيم من جهة أخرى، وهو ما يحيل على معنى النظام والاستقامة اللذين أشرنا إليهما سابقاً.
التشذّر، والتفكيك، والحداثة
اخترتم الكتابة بالشكل القصير المكثف، ما الذي دفعكم لعدم اختيار الأسلوب الشذري كما هو الحال مع واحد من فلاسفتكم المفضلين وهو نيتشه، إن كان من اللازم أن نذكر اسمه هنا؟
لأنّ الأسلوب الشذري صعب، وشخصياً لم أدّع يوماً أني أكتب الشذرة بمعناها الكلاسيكي الذي تجسّد مع سيوران ونيتشه، فالشذرة ليست أسلوب كتابة بل هي تصور للوجود. المسألة غاية في الخطورة في الحقيقة، لهذا يمكن أن نقول إنني أميل إلى التكثيف في كتابتي، لكن الشذرة هي ممارسة على أعتاب الجنون. فلا يستطيع الكتابة بالشذرة إلا نيتشه أو آخرون من الكتّاب ممن لا يستندون على أي أساس أخير، إذ بالنسبة لهم كل شيء متشظ في أصله. فلأن الوجود متشظ تصير المسألة معقدة، فليست كل كتابة متقطعة هي كتابة شذرية. هناك مثلاً من يقول إنّ كتابة باسكال أو هيراقليط شذرية، بيد أنّ الأمر ليس صحيحاً. فالشذرة بمعناها الحقيقي لن تتحقق إلا مع القرن التاسع عشر، الفارابي وابن سينا نفسهما يمتلكان نصوصاً تبدو شذرية، لكنها شذرية خادعة وافتراضية، إذ أنّ فكرهما في العمق يستند إلى تصور متناسق وصلب عن العالم، في حين أنّ الأمر عند الشذريين الحقيقيين مختلف إذ لا وجود عندهم "لتراصّ كوني"، فلا يبقى من معنى للفكر كنظام نظري، الأمر يجد أصله في الأساس الأنطولوجي الذي لا تكون فيه الكتابة إلا شكلاً ممكناً من أشكال أخرى كثيرة.وأهم الشذريين في اعتقادي هو بارث خصوصاً في نصه "بارث بقلم بارث". هناك أمر صار رائجاً كثيراً هو أننا تعودنا على استحضار الشذرات باعتبارها "حكماً". لكن في الحقيقة هذا غير سليم، فالشذرة ليست حكمة، الشذرة تجريب للفكر تكون الكتابة مختبره، وفي هذا السياق يأتي حديثنا عن الكتابة كعمل باليد الذي ذكرناه سابقاً. الأمر ليس "بلورة" إذن، كما ورد في مقدمة "الاسم العربي الجريح" الذي أعتبره أفضل كتب الخطيبي، حيث يتحدث الكاتب عن "النص البلوري"، وهو ما يحيل على "بلور" الوجود.
·         تميزون بين النقد والتفكيك بتركيزكم على أنه مع التفكيك لا وجود لادعاء في امتلاك الحقيقة، فإذا لم تكن الحقيقة هي الغاية فما عساه يكون الدافع والغاية من التفكيك؟ هل هو المتعة الخالصة؟
ينبغي أن نبتدئ أولاً بالقول إننا نحيا وسط فائض من الحقائق، فالفكر الكلاسيكي يعتبر أنّ الحقيقة غاية الفكر وسيرورته، إنها نقطة اكتمال مساره، ومرمى خطابه. أمّا في الفكر المعاصر فالحقيقة هي نقطة الانطلاق فقط. ففي الواقع نحن لا نمتلك إلا الحقائق، الوجود يحيا بالحقائق، أو بعبارة نيتشه إنه "يتغذى على الحقائق". حينها سيكون التفكيك هو السعي لإفراغنا من هذه الحقائق بمعنى من المعاني. فيصير العمل الفكري سعياً للاستفراغ وليس للمراكمة. يقول بلانشو ما معناه: أن تفكر، هو أن تتعلم كيف تفكر أقل مما تفكر. هنا يصير الفكر كبحاً وفرملة، فمع ديريدا مثلاً ينسى كثير ممن يسمه بالعدمية أنّ الحقيقة بالنسبة إليه هي الشيء الحاضر عندنا بأشكال مختلفة، والذي يثقل كاهلنا، إنها الشيء الذي لا نكف عن استهلاكه عبر مختلف القنوات والأشكال (المدرسة، الإعلام، الصورة). هناك عبارة جميلة لنيتشه بخصوص أصحاب النزعات الشكيّة، حين يقول إنّ الجميع يؤمن بالحقيقة بمن فيهم الشكاك. والوعي بهذا الأمر هو ما جعل الموقف المعاصر يتجاوز موقف الشك، رفضاً منه التموقع داخل ثنائية الحقيقة- الخطأ.
إذا ما وعينا هذا الأمر، فإنّ الغاية من الفكر ستصير حينها هي التحرر من البلاهة كما يقول دولوز. فإذا كنا فيما قبل نتحدث عن تحرير الفكر، مع أنّ هذه العبارة تبقى غامضة، فإنّ التحرر من البلاهة سيعني حينها الخروج من المحافظة والتواطؤ العام  conformisme وهي الكلمة الفرنسية التي كثيراً ما أكتبها منفصلة في شقيها بعارضة، con-formisme  حتى أظهر التداخل الموجود بين الأشكال الموروثة والمعطاة. وإذا كانت من متعة ممكنة اليوم في الفكر فلعلها هي هذه.
·         الحداثة بالنسبة لكم تشترط القبول بحدود العقلانية والعلم. هل الأمر يتعلق بخيبة أمل أم بقناعة من جهتكم؟
الحديث عن حدود العقلانية والعلم هنا ليس المقصود به حدود ما يمكن أن نعرفه، إذ أنّ كلّ شيء ممكن في العلم الذي هو بطبيعته مفتوح دائماً، ما أقصده هنا بـ"حدود العلم" هو أنّ "العلم لا يفكر". عندما التحقت بكلية الآداب سنة 1976 كنت قد نشرت مع زميلي المرحوم سالم يفوت "درس الإبستيمولوجيا". وقد كانت الموجة السائدة حينها هي ألتوسير وفكرة الانفتاح على تاريخ العلم. وكان الاعتقاد الغالب هو أنّ الوعي بكيفية تطور العلوم هو مفتاح فهم الفكر المعاصر. بيد أنّ العكس هو الذي ثبتت صحته فيما بعد. فالتعريف الواسع بفكر غاستون باشلار والذي اضطلع به ألتوسير، لم يعط النتائج التي كانت مرجوة منه. غير أنّ ذلك ساعد على مراجعة مسلمات الدوغما الماركسية، وعلى رفع الطابع القدسي عن نص ماركس، وأوجد إمكانية لتأويله وإعادة قراءته خارج مقررات الحزب الشيوعي. لقد كان لمساهمة آلتوسير أثر مزدوج، إذ بيّن أنه من الممكن أن نمارس ماركسية بدون إيديولوجيا، وأنّ من الممكن أيضاً أن نتصور تحديداً آخر لماهية التاريخ.
لكن رغم كل ذلك ومع مرور الزمن اتضح أنّ وضع العلم في العالم العربي، وبالنظر إلى أننا لا نمتلك حقاً عقلانية تطبيقية في السلوك، بل عقلانية مجردة فقط، اتضح أنّ هذا الوضع لا يمكن أن ينتج ثقافة متخصصة، فنقد العلم لن يمكننا من أن نتمثل "روح العصر" ولا طبيعة حركته. ومجمل القول، إنّ تاريخ العلوم لن يمكننا من مفاتيح الفكر المعاصر، هذه على الأقل هي قناعتي الراسخة.
بين العابر والظرفي والجوهري
بالنسبة لكم كل شيء يمكن أن يكون موضوعاً فلسفياً، سواء تعلق الأمر بمقابلة كرة قدم أو وصفة طبخ أو بتراث هيغل. فأي ترتيب تقيمونه بين ما هو مجرد وما هو عيني؟
لو أننا كنا سنتحدث عن هيغل فحسب، لاقتصرت على ثنائية المجرد والعيني هذه. ربما الأفضل أن نتكلم هنا بالأولى عن التقابل بين ما هو يومي وما هو تاريخي. يفضل بودريار التقابل بين "الحدث" و"الواقعة" (événement – avènement).  بهذا المعنى فأهمية اليومي المعيش تبدو لي كبيرة لاعتبارات عديدة. فمن جهة هناك قراء لا يمكن أن يلجوا إلى الفكر المعاصر إلا عبر الانشغالات الصغرى اليومية، الأمر الثاني هو أنه من الممكن أن نعالج أسئلة مهمة ابتداء من تفاصيل يومية اعتيادية، فنتحدث عن مسألة الهجرة ليس باعتماد خطاب إيديولوجي ولكن انطلاقاً من ملعب كرة قدم. إنها كيفية في تلقف وكشف ما هو أساسي في الأشياء التي تبدو لأول وهلة مبتذلة وغير ذات قيمة. وأنا أتصور أيضاً هذا الاختيار باعتباره كيفية في تحوير الكتابة الفلسفية، وأنا على وعي تام بهذا الأمر. كان هناك طالب قديم، وهو الآن زميل، قد قال لي يوماً "عليك أن تتوقف عن الكتابة عن الرجاء والوداد". في الحقيقة لم يسبق لي أن كتبت عن هذين الفريقين، لكنه اختار هذه العبارة ليبلغني أنّ عليّ أن أكتب عن قضايا أكثر جدية. والحقيقة أنّ هذا الاختيار في الكتابة هو كيفية في الجواب عن ردود فعل من مثل هذا النوع، كما أنه موقف تجاه الفلسفة عينها.
 بالنسبة لكم لا يمكن للعقل أن يتمثل ما يبدو عابراً إلا إذا أعطى مكانة للفكاهة والسخرية، هل هو الفيلسوف أم عاشق الأدب فيكم الذي يتصور الأمور على هذا الشكل؟
سيكون ادعاء من جهتي أن أصف نفسي بكوني عاشقاً للأدب. لهذا سأقول إنّ ميلي إلى السخرية، الباعث الأساس عليه هو النفور من كل ما هو مؤسسي (الجامعة وبرامج التدريس، والنزعة الأكاديمية، والجدية الرسمية لسلوك الزملاء) والتبرم من كل ما هو ضاغط، من كل ما هو خاضع لقواعد وأعراف موجبة للامتثال، ومجمل القول، النفور من كل أخلاقيات البيداغوجيا المملة التي ترسخ السلط المعرفية، النفور من ثقافة الأب (التربوية والفلسفية).
● تحاولون في نصوصكم أن تقبضوا على ما يحصل في عالم الإعلام (التنقل بين القنوات، البث المباشر، الدفق غير المنقطع للصور، ما تعرضه وتفرضه ثقافة الترفيه كما تقدمها قنوات الاستهلاك الجماهيرية). أي موقف ينبغي للفكر أن يتخذه تجاه كل هذا؟
قرأت مرات عديدة نص جي دوبور (مجتمع الفرجة) بالعربية والفرنسية معاً. ولكني لاحظت أننا لا نجد فيه تعريفاً لمعنى (مجتمع الفرجة)، وعليه فيمكن أن ألخص كل ما أقوم به باعتباره محاولة أو سعياً لوصف مجتمع الفرجة كما قلت لكم في بداية الحوار. وهذا "مفهوم- واقع" يصعب صياغته مفهومياً. فما أحاول أن أبينه في العمق هو الكيفية التي يتم بها إنتاج المعنى في العالم المعاصر، والذي تلعب فيه وسائل الاتصال دوراً كبيراً جداً، إلى درجة يمكنني معها القول: أنْ نفكر اليوم هو أنْ نقاوم الإعلام.
بالنظر إلى الامتداد الذي تقيمونه مع فكر دولوز، يعرف دولوز عمل الفيلسوف باعتباره إبداعاً للمفاهيم، في حين أنكم أنتم تعرفون دوركم باعتباره توصيفاً للوقائع-المفاهيم. كيف تحددون في هذا السياق دور المفهوم في إطار مسعى التوصيف هذا؟
إذا ما أردنا دفع فكرة "الفيلسوف مبدع المفاهيم" هذه إلى أقصاها، فإنه سيكون علينا أن نعترف بأنّ الفلاسفة هم قلة قليلة جداً. في هذه الحالة فإني لن أكون فيلسوفاً بكل بساطة، لأني لا أنتج مفاهيم، ولا أومن بها أصلاً. المفهوم بالنسبة لي هو أداة تفكير، دولوز نفسه يعتبره كذلك، في هذه الحالة، وعلى هذا المستوى، سيكون ما يعنيني أنا من الممارسة الفلسفية هو الوصف.
وماذا عن العلاقة مع العلوم الاجتماعية في وصف ما هو يومي؟
لم يكن الخطيبي يفضل الحديث عن علاقة مع العلوم الاجتماعية، لأننا عندما نتحدث عن العلوم الاجتماعية فإننا نتحدث عن القواعد والمناهج وعن تعاليم معينة. صحيح أنّ هناك نوعاً من التعلق الخاص عندي بالعلوم الاجتماعية، هذا أمر لا شك فيه، ولكن بالمعنى الذي تحضر به عند بورديو، أي من حيث هي ممارسة تفكيكية، وحتى النص المقدم الذي وضعته في الصفحة الأولى للكتاب الذي ترجمته لبورديو هو نص يقدم السوسيولوجيا باعتبارها اشتغالاً بغرض تفكيك الميتافيزيقا، إذ لا ينبغي أن ننسى أنّ بورديو هو في الأصل فيلسوف، لكن فيما عدا بورديو، فإنّ للسوسيولوجيين تعاليمهم وشعائرهم وطقوسهم.
المثقف والمسافة اللازمة تجاه المدينة
·         تتحدثون في مرات عديدة عن المكانة والتبجيل الاستثنائي الذي كان يحظى به جان بول سارتر عند المثقفين من أبناء جيلك، ما الذي تتبنونه وما الذي تنتقدونه في هذا الموقف من سارتر باعتباره وجهاً للالتزام الفكري؟
شخصياً أنتمي إلى جيل تربى على الفكرة التي مفادها أنه ليس هناك فرق كبير بين الأدب والفلسفة، وعلى فكرة أخرى، تبدو لي اليوم ساذجة، وهي التي مفادها أنّ سارتر وكامو كانا يتساجلان بكتابات متقابلة. هذا ما تعلّمناه في فترة تكويننا. والقطيعة الحقيقية مع هذا التصور، والفهم الجديد للعلاقة بين الأدب والفلسفة لن تأتي إلا فيما بعد، مع بارث وآخرين. لكن وعلى الرغم من كل أخطاء الفهم التي كانت تشوب هذا التصور، فإنّ هذا الوضع كان مفيداً لنا، إذ انتبهنا أولاً إلى أنّ الأدب يمكن أن يحمل فكراً، كما تنبهنا إلى كون العمل الثقافي هو التزام محكوم بغايات ومحددات، ففي فترة تكويننا بكليّة الآداب لم يكن سارتر يُعدّ فيلسوفاً، لم يكن أبداً حينها يحمل هذه الصفة، لكنه مع ذلك غيّر بالنسبة لنا دلالة المثقف ودوره، وبهذا المعنى أعتقد أنه لعب دوراً أساسياً في العالم العربي.
·         تجسّدون في عملكم صورة ممكنة عن المثقف المهموم بالمدينة، ولكن مع الاحتفاظ في الآن نفسه بمسافة قياساً إلى مجريات هذه المدينة نفسها، كيف تتمكنون من أن تحتفظوا بهذه المسافة دون أن تنقطع صلتكم بالواقع؟
في اعتقادي كل شيء رهين بالمعنى الذي نعطيه لكلمة "واقع". فإذا كان المنطلق هو الفكرة التي مفادها أنّ الواقع هو دائما تأويل، فإنّ العلاقة لن تكون حينها ممكنة إلا عن طريق تأويل للواقع. وبالتالي فإنّ تصور بارث سيغدو حينها متوفراً على حجية قوية، إذ هو الذي سيمكننا من أن ندرك أنّ الالتزام، بالمعنى السارتري، هو اختيار نحققه على مستوى الكتابة الفلسفية، على مستوى إنتاج المعنى وتحديد ماهية الفلسفة والممارسة الفلسفية. والحال أنّ كل هذا هو بعدُ سياسة، فعندما نقول إنّ الواقع دال فإننا نكون من حينها قد دخلنا في إبداع المعنى وممارسة التفكيك.
عندئذ يصير التوجه إلى السياسة وشؤون المدينة شيئاً آخر. إذ أنّ الفيلسوف منذ المنطلق، وعلى مستوى الكتابة، هو ابن المدينة بعدُ. من حيث إنّ الكتابة سرعان ما تحشر في تكوين الرأي العام وتداول الأفكار وتزكية الحقائق. لكن حدود أثر هذه الممارسة يأتي من كون الرأي العام في بيئتنا ما يزال قيد التشكل، والقراءة ما تزال في طورها الجنيني. وهذا هو الباعث على اهتمامي بما يبدو من القضايا غير ذي شأن كبير (مثل مباراة ملاكمة أو كرة قدم أو ما شابه)، فاختيار المواضيع إن كان لا يمكّن القارئ من الاهتمام مباشرة بالفلسفة، فإنه على الأقل يتيح له إمكانية النظر من زاوية فلسفية معينة. ذكرت لك سابقاً أنّ قرّائي ليسوا فلاسفة، إذ هم محامون وأطباء...، وهكذا فإن تمكنا من أن ندرج في سياق التداول والنقد اليومي مفاهيم معقدة مثل الجذمور، فإنني أعتقد أنّ التوجه بالنظر إلى ما هو يومي سيكون حينها شديد الفائدة.

([1]) المرجع:
Fadma Ait Mous, Driss Ksikes Le métier d'intellectuel, Dialogues avec quinze penseurs du Maroc, Editions en toutes lettres, Casablanca, 2014, pp 125-147.
([2]) نشرت هذه الترجمة في مجلة يتفكرون عدد 5